قرأ رسالة زوجته القصيرة على الهاتف المحمول، فلم يملك إلا أن يُلملمَ أغراضه في التوِّ، ويُنهي الدرس على عجل، ويتوجه من فوره عائدًا إلى المنزل لا يلوي على شيء، وهو يدعو الله ألا يكون في انتظاره ما يسوء.
قاد سيارته شاردًا، راحت الأفكار السوداء تعصف برأسه كريشة في مهب الريح، لفت انتباهَه مجموعةٌ من آكلات الجيف، قد انتبذت ركنًا قصيَّا على الطريق المقابل، تنتهب فيه بلا هوادة جثة منتفخة لكلب نافق.
تعجب من تفضيل بعض المخلوقات للحم المُنتن.
أحسّ بوخز الضمير حين لاحت له صورتها، وقد دنت منه في براءة تستفسر عن مسألة. كيف تدنى إلى مس يدها الصغيرة، وهو المربي الفاضل المؤتمَنُ على طالباته؟
هل هي خطوات الشيطان التي اقتفى أثرها مسلوب الإرادة، مسحورًا بالعينين النجلاوين، والخدود المتوردة، والضفائر المجدولة؟ خيل إليه أنها قطرة ندى، صادفت نبتًا أوشك على الجفاف. سحابة أمطرت روحه المتعطشة، التي شارفت على التصحر، فاهتزت وربت، وأنبتت بعد طول جدب من كل زوج بهيج، قمر منير أضاء ليل قلبه، فبدد حالك ظلماته، فعاد يشرق من جديد.
لكنْ أيُّ ريح ألقت بسفينتها الشابة إلى مينائه الهرم؟ كيف نسي أو تناسى أنه كهلٌ شارف الخمسين، قد وخط الشيب فودية، وطالبتُه النضرة في عمر الزهور؟ ألأنه لم يغضّ بصره، وأتبع النظرة النظرة؟ وأسلم قياده دون مقاومة؟ ولماذا هي بالذات من دون الأخريات؟
وما ذنب زوجته، شريكة حياته، أم أولاده، رفيقة كفاحه؟ كيف يطعنها في ظهرها، وينسى سنوات تضحيتها وإخلاصها؟ ألم يتغلب على هذه الوساوس من قبل، حين كان في الغُربة؟ فترة إعارته امتدت ثلاث سنوات، فكر خلالها في الزواج هناك، ليحوز الجنسية. زين له شيطانه أنه إنما يفعل ذلك، من أجل زوجته وولديه. لكن لحسن الحظ، ثاب إلى رشده سريعًا في الوقت المناسب، وعاد إلى حبيبة قلبه وقرة عينه.
في غمرة ذهوله لم ينتبه إلى معالم الطريق، فسلك منحنىً خاطئًا، كلفه نصف ساعة إضافية، ليعود إلى الاتجاه الصحيح، تفادى الاصطدام أكثر من مرة، بالسيارات والدراجات تارة، وبالناس والدّواب أخرى.
من صغره كان نابغة يعشق الرياضياتِ لدرجة الهوس، حتى في أحلامه يفك طلاسم المسائل، ويتوصل إلى طرق غير مسبوقة للحل، ويخترع من الأحاجي والألغاز، ما يستعصي على أذكى العقول التوصل إلى حلول سريعة لها، حين امتهن التعليم صار اسمه في عالم الدروس الخصوصية، أشهر من نار على علم، طلابه متفوقون، لا يرضى منهم بغير الدرجة النهائية. عجزت شقته عن استيعاب أعداد الطلاب المتزايدة، بعد أن طبقت شهرته الآفاق، فراح يستأجر المراكز التعليمية بالساعة، وشيئًا فشيئًا ضاق وقته، وصار لا يعود للبيت إلا للنوم .
لطالما كان يؤرقه نفادُ صبره عن تدريس ولديه، وهو الذي يُفهم الحجرَ الأصم، فاضطر إلى إحضار مدرس لهما بالمنزل، تردد كثيرًا في اتخاذ هذا القرار، عمله يستغرق جل وقته ويستنفدُ جهده، تعب من البحث حتى وجد القوي الأمين، الذي يجمع بين الدين والخلق والكفاءة العلمية، ويستطيع أن يأتمنه على بيته في غيبته.
دخل البيت متوجسًا، فارتمت في أحضانه باكية، ربت على كتفها بحنان، ونظر في عينيها بقلق، شكتْ له مدرس الولدين: رابتها نظراته مؤخرًا، واليوم تجرأ على لمس يدها.
أحمد عبد السلام
قاد سيارته شاردًا، راحت الأفكار السوداء تعصف برأسه كريشة في مهب الريح، لفت انتباهَه مجموعةٌ من آكلات الجيف، قد انتبذت ركنًا قصيَّا على الطريق المقابل، تنتهب فيه بلا هوادة جثة منتفخة لكلب نافق.
تعجب من تفضيل بعض المخلوقات للحم المُنتن.
أحسّ بوخز الضمير حين لاحت له صورتها، وقد دنت منه في براءة تستفسر عن مسألة. كيف تدنى إلى مس يدها الصغيرة، وهو المربي الفاضل المؤتمَنُ على طالباته؟
هل هي خطوات الشيطان التي اقتفى أثرها مسلوب الإرادة، مسحورًا بالعينين النجلاوين، والخدود المتوردة، والضفائر المجدولة؟ خيل إليه أنها قطرة ندى، صادفت نبتًا أوشك على الجفاف. سحابة أمطرت روحه المتعطشة، التي شارفت على التصحر، فاهتزت وربت، وأنبتت بعد طول جدب من كل زوج بهيج، قمر منير أضاء ليل قلبه، فبدد حالك ظلماته، فعاد يشرق من جديد.
لكنْ أيُّ ريح ألقت بسفينتها الشابة إلى مينائه الهرم؟ كيف نسي أو تناسى أنه كهلٌ شارف الخمسين، قد وخط الشيب فودية، وطالبتُه النضرة في عمر الزهور؟ ألأنه لم يغضّ بصره، وأتبع النظرة النظرة؟ وأسلم قياده دون مقاومة؟ ولماذا هي بالذات من دون الأخريات؟
وما ذنب زوجته، شريكة حياته، أم أولاده، رفيقة كفاحه؟ كيف يطعنها في ظهرها، وينسى سنوات تضحيتها وإخلاصها؟ ألم يتغلب على هذه الوساوس من قبل، حين كان في الغُربة؟ فترة إعارته امتدت ثلاث سنوات، فكر خلالها في الزواج هناك، ليحوز الجنسية. زين له شيطانه أنه إنما يفعل ذلك، من أجل زوجته وولديه. لكن لحسن الحظ، ثاب إلى رشده سريعًا في الوقت المناسب، وعاد إلى حبيبة قلبه وقرة عينه.
في غمرة ذهوله لم ينتبه إلى معالم الطريق، فسلك منحنىً خاطئًا، كلفه نصف ساعة إضافية، ليعود إلى الاتجاه الصحيح، تفادى الاصطدام أكثر من مرة، بالسيارات والدراجات تارة، وبالناس والدّواب أخرى.
من صغره كان نابغة يعشق الرياضياتِ لدرجة الهوس، حتى في أحلامه يفك طلاسم المسائل، ويتوصل إلى طرق غير مسبوقة للحل، ويخترع من الأحاجي والألغاز، ما يستعصي على أذكى العقول التوصل إلى حلول سريعة لها، حين امتهن التعليم صار اسمه في عالم الدروس الخصوصية، أشهر من نار على علم، طلابه متفوقون، لا يرضى منهم بغير الدرجة النهائية. عجزت شقته عن استيعاب أعداد الطلاب المتزايدة، بعد أن طبقت شهرته الآفاق، فراح يستأجر المراكز التعليمية بالساعة، وشيئًا فشيئًا ضاق وقته، وصار لا يعود للبيت إلا للنوم .
لطالما كان يؤرقه نفادُ صبره عن تدريس ولديه، وهو الذي يُفهم الحجرَ الأصم، فاضطر إلى إحضار مدرس لهما بالمنزل، تردد كثيرًا في اتخاذ هذا القرار، عمله يستغرق جل وقته ويستنفدُ جهده، تعب من البحث حتى وجد القوي الأمين، الذي يجمع بين الدين والخلق والكفاءة العلمية، ويستطيع أن يأتمنه على بيته في غيبته.
دخل البيت متوجسًا، فارتمت في أحضانه باكية، ربت على كتفها بحنان، ونظر في عينيها بقلق، شكتْ له مدرس الولدين: رابتها نظراته مؤخرًا، واليوم تجرأ على لمس يدها.
أحمد عبد السلام
مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق