اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

مسافر في الليل | قصة قصيرة ...*على السيد محمد حزين

⏪⏬
ارتدى آخر قطار متجه إلي القاهرة , حشر نفسه وسط الكتل البشرية المعتركة الأجسام , المتدافعة بقوة وبعد معاناة ومشقة لم يجد مكاناً ليجلس فيه سوى خلف الباب كالعادة وحتى يتحاشى الكتل البشرية المتدافعة من شدة الزحام .. وقف خلف الباب في صمت وترقب ,
بضع دقائق معدودة ريثما يلتقط فيها أنفاسه ويعدل فيها من وضعه , وتهدأ وتعود إليه نفسه , والركاب في حالة تدافع بين نازل وراكب , والقطار يصفر فتتعالى الأصوات , وكان الجو حار جداً , والعرق يُلجم الناس إلجاماً , وهو واقف يجفف عرقة بمنديله الورقي المعطر ,
يتحرك القطار فتدخل نسمة هواء طرية تلف المكان وتلطف الجو , والوجوه , ينظر من نافذة القطار الي ميدان المحطة الذي خلا الا من بعض المارة , والعربات المنتظرة خلف المزنوقان والترعة التي بجوار شريط القطار , والكُبري العلوى الذي اُنشأ حديثاً لفك الزحام , والبيوت والمدارس التي راح يتجاوزها القطار في بطء ,
نظر إلي الخضار المترامي الأطراف, والنخيل والشجر النائم في سكون وسط الحقول , والي النوافذ المضاءة في جوف الليل , تمتم في نفسه بكلماته المشهورة "حدوته وراء كل باب "
شعر بالتعب يمسك قدميه فجلس القرفصاء , سرح بعقله قليلاً , تصور المكان الذي هو ذاهب إليه , وتوقع ماذا سيحدث عندما يصل , وتخيل الكُل في انتظاره , وتخيل نفسه وقد أحتشد من حوله الناس يريدون أن يتعرفوا عليه ويتصوروا معه ويحظوا بتوقيعه الثمين , فقد أصبح رجلٌ مهماً للغالية, ومعترف به في المحافل والمنتديات الدولية , وعلي كل الأصعدة والمستويات بعد أن كان كماً مهملاً , ونسياً منسياً , أو هكذا سولت له نفسه
تحسس حقيبته السمراء التي ترقد فيها أوراقه المهمة ,والتي اشتراها خصيصا لذلك , وبعض الكتب التي يحرص دائماً بأن يصطحبها معه في السفر ....
تقع عينه على كرسي تركه صاحبه لتوه , بعدما أن حزم حقائبه , وامتعته , وأنزل أغراضه من على الرف , وهو يتهيَّأ للنزول في المحطة القادمة , وهو يشير اليه بيده بأن يأتي ليجلس مكانه , هب مسرعاً وفي غضون ثواني معدودة كان قد غرس نفسه في الكرسي , جلس مُمَنِيَاً نفسه بسفرية سعيدة , وبرحلة ممتعة ليلية عبر قطار نصف الليل , جلس في مكانه الجديد , وقد وضع قدم على قدم , وحقيبته السمراء فوق رأسه ,
" كثيراً ما يحدث ذلك معه وهو في سفره الي القاهرة , يقف خلف الباب منتظراً أحد الركاب ينزل في إحدى المحطات فيجلس مكانه , وربما اختلف الأمر وانعكست الآية معه وانقلبت الصورة فيقوم هو من مكانه ويُجلس غيره ليستريح , فالسفر قطعة من العذاب كما يقال , لكن فيه سبع فوائد "
نظر في الوجوه التي تملأ العربة , تأملها لثواني معدودة , فرأى فيها الصمت يصارع الحزن ويتحالف مع البأس والشقاء , لاحظ امرأة شابة تحمل صبي علي صدرها مريض, أشفق علي الصغير وأمه فقام من مقامه وأجلسها مكانه , يبتسم في وجه الصبي وهو يفارقهما الي مكانه الأول خلف الباب , لاحظ بعض الركاب من رأوا المشهد يتهامسون وهم يبتسمون في خباسة ولؤم , لم يبالي بأحد ,
" كان يجب عليه أن يترفع عن تلك الأمور الصغيرة , فمتعة اللقاء وجمال المكان الذي حرص أن يكون متواجداً فيه والذي طالما كان يحلم أن يذهب إليه جعله يتحمل كل هذا العناء "
انزوى خلف الباب مرة أخرى ومن جديد راح ينظر من النافذة الزجاجية المكسوة إلى بعيد , وسرح بخياله من جديد , وراح يتذكر, أول مرة ركب فيها القطار بعدما انصدم في حبه الأول
" سافر إلي القاهرة في تلك الليلة التي تزوجت فيها حبيبته برجل آخر, وكانت ليلة عصيبة وصيفيه مثل هذه الليلة , وكان صغيراً يومئذٍ لم يتعدى عمره السابعة عشر ربيعاً , أراد أن يترك لها البلد بما فيها , وأقسم ألا يعود الي بلده مرة أخرى إلا إذا حقق ذاته ونجح في حياته ويجعلها تندم على أنها باعته واشترت غيره "
صوت الكمسري الأجش يخرجه من تداعياته
ــ تذاكر يا حضرت ..؟
مد له التذكرة , علَّم عليها بعدما نظر فيها , ثم ردها إليه ثانية , وضعها في جيبه , نظر في ساعة معصمه كانت تشير إلي الواحدة بعد منتصف اليل , لاحظ ضوء العربة ملائماً للقراءة , فأخرج كتاباً ليقرأه , ويقتل به الملل , والوقت , قلبه بين يديه " مسافر ليل " للمبدع الرائع " صلاح عبد الصبور " انغمس في القراءة بشغف ونهم , فهو يحب القراءة لدرجة الهوس , ولدرجة أنها أفقدته الكثير من نظره مما اضطره إلي الكشف علي عينيه , وصنع نظارة قارئه له , ..
نهض قام على قدميه , عدَّل من هندامه الأنيقة التي حرص بأن يكن مرتديها في هذا المكان وتلك المناسبة المهمة الذي هو ذاهب إليها , ابتسم في نفسه , لمَّا تذكر الأمس البعيد , وتلك الليلة الحزينة التي مرت به في القديم , وقارن بينها وبين تلك الليلة الجميلة ,
" اليوم هو متزوج من أمرةٍ جميلة يحبها جداً, وأنجب منها الأولاد , وأصبح ناجحاً في حياته العملية , والعلمية , وأصبح رجلٌ مهماً ومشهوراً وأصبح شخصيةً عامة يدعى للمؤتمرات والمحافل العلمية الهامة, ويدعى من قبل المسؤولين ليحضر المؤتمر السنوي الذي سوف ينعقد غداً , وسوف يتكلم فيه ويلقي كلمته ويسمعه الجميع , ويصفق له , وقد سجل التاريخ اسمه بحروف من نور , أما هي فقد ابتلعتها الحياة , واختفت , وذابت بل غرقت في دوامات الدنيا , وأصبحت نسياً منسيا , مرة واحدة يتيمة تقابلت فيها الوجوه , وامتدت فيها الأيادي بينهما بالسلام , لكن لم يشعر حيالها بنفس المشاعر ولا بنفس الأحاسيس التي كانت تملأه في الماضي نحوها " ..
أخرجهُ من تداعياته مرة أخرى صوت الكُمسري وهو يهزه من كتفه ,
ـــ تذاكر يا حضرت ....؟!
ــ ...............
القطار ينساب بين المدن البعيدة .. والليل المترامي الأطراف يحمل في جوفه فجراً جميلاً , وهو من حين لأخر ينظر إلي ساعة يده , ويحسب كم مضى من الوقت , والنوم يسرق بعض العيون, والباعة الجائلون في القطار في حركة دائبة رتيبة لا تنقطع وهو من حين لآخر يرسل عينيه نحو حقيبته التي ترقد علي إحدى الرفوف بسلام , لاحظ أم الصبي وقد سرق النوم عينيها الكليلة , والصبي لم ينم , ينظر إليه من حين لأخر ويبتسم , فيبتسم له الصبي ابتسامة عريضة وصادقة , تذكر أبنائه الذين يحبهم كثيراً , ويسعى جاهداً في اسعادهم , وتعليمهم , وتوفير المعيشة الكريمة لهم ,"
يقترب القطار من إحدى المحطات , يخرج رأسه من القطار يقرأ اللافتة التي على الرصيف , وينظر في وجوه الناس التي تتهيأ للركوب في القطار , ينزل اُناس ويركب أخرون , يتأمل المشهد الذي يشبه الحياة كلها ,
" القطار والحياة والناس زائد الرصيف والمحطات , فالدنيا كالقطار , والناس بين راكب فيه ونازل منه , كل من تأتي محطته ينزل من القطار ليركب غيره في قطار الحياة من جديد , الناس تنزل من القطار بصعوبة بالغة من شدة الزحام والأجسام المعتركة وهم يحملون حقائبهم وامتعتهم علي اكتافهم , من جديد سرح بخياله بعيداً , تمتم في نفسه وهو مبتسماً : ــ لم يزل في الوقت متسع وبقية "
أقلع القطار من جديد , بعدما أعلن له ناظر المحطة بالإقلاع , وانطلق القطار يطوي المسافات البعيدة, ويتخطى المدن النائمة ويعلن صولجانه وسطوته ويجوب بهدير عجلاته وسط الحقول المترامية الأطراف , وراح النوم يتسلل ليسرق العيون من جديد , وهو قد شعر بالملل أخرج آخر سيجارة كانت في جيبه ليشعلها, وراح يتجول ببصره في المكان , في محاولة لاستكشاف امرا ما , وبدأ الملل يشتد ويتسرب الي نفسه .. ففكر في قطع حبل الملل الذي راح يطوقه , وقتل الانتظار , ففكر يخرج كتاب " مسافر ليل " مرة أخرى من حقيبته السمراء , لكن تراجع عن فكرته تلك وخصوصاً النور في العربة قد خفت , ولا يشجع على ذلك , فاكتفى بالاسترخاء على الكرسي , وقد علق عينيه في السقف , وسرح بعيداً بعيداً بخياله , وفي هذا اللقاء الهام المرتقب , المنتظر , لم يسبق له أن رأى هذا المكان من قبل , ولم يسبق له أيضاً أن رأى تلك الوجوه الغريبة , ولا خطر بباله في يوم من الأيام بأن يكون في هذا المكان الغريب , كما لم يسبق له من قبل أن رأى هذه الكائنات الغريبة العجيبة وهذا المكان المخيف حقاً ,
تجاهل تام من الجميع , فكل واحد منشغل بنفسه, والمكان غريب , والوجوه التي فيها أغرب, كائنات غريبة وعجيبة من حوله يراها لأول مرة, وهو يحاول أن يتذكر من الذي جاء به إلي هنا , حيث هذا المكان الغريب العجيب , والناس فيه متشابهين ومتقاربين , وتقريباً في أطوال واحدة متقاربة , وكأنهم عالم أقزام .. يقترب من أحدهم , يريد أن يسأله ,
ــ لو سمحت إحنا فين .. ؟!.
ــ .........
يتركه الرجل وينصرف عنه دون أن ينظر إليه .. أو ينبذ إليه ببنت شفة , يلتفت لأخر رمقه بعينه يقترب منه وهو يرتجف , ويسأله
ــ ممكن لو سمحت أسأل سؤال ..؟
ــ ...........
يشيح بوجهه عنه , ومثل الأول يتركه وينصرف , ينظر إلي وجهه الذي تبدوا ملامحه غير مقروءة , وباهتة ويملأها الرعب والفزع منه , يدور حول نفسه , يروح ويجيء في المكان على غير هدى محاولاً أن يكتشف معالم هذا العالم الغريب العجيب الذي وجد نفسه فيه فجأة ,
ــ المكان غريب جداً وعجيب ..
دوائر الضوء تملأ المكان وتحيط بكل شيء من كل جانب, حتى هو لم يسلم من تلك البقعة الضوئية التي راحت تحيط به كلما غدى أو عاد , وكل البيوت المتواجدة والمحيطة بالمكان من زجاج , لاحظ أن كل شيء يتحرك فوق الماء وكأن الماء قد تجمد فجأة وصار الواحاً من الزجاج الأبيض الشفاف , ولكن الجو معتدل وغير باردٍ , والناس الذين من حوله يرتدون سترات غريبة تشبه بدلة رواد الفضاء , ويحملون جهازاً صغيراً في أيديهم بألوانٍ مختلفةٍ , ويرتدون ما يشبه الساعة الكبيرة أو البوصلة في أيديهم , ولا وجود للعربات نهائياً, ولا لدخان وعادم العربات , ولا وجود للزحام , ولاحظ أيضاً أشياءً تطير في الهواء هنا وهناك بطريقة تشبه العشوائية , ولا وجود للضجيج إطلاقاً , والجو نقي تماماً, والوقت يبدو في الظهيرة , ولاحظ أن كل واحدٍ منهم يرتدي كمامة غريبة وجميلة وربما تكون ذكية أيضاً لتتعامل مع الفيروسات التي تطير في الجو , والفيروسات الغير مرئية , أحد الواقفين ضغط على شيء بيده في وسط ما يشبه العمود بجواره فطار في الفضاء البعيد ثم اختفي ,
حُب الفضول دفعه أكثر وأخذ من نفسْه فراح يراقب كل شيء يدور من حوله عن اهتمام وكثب الناس تبدو وكأنها منهمكة ومنشغلة بهمومها , والأشياء من حوله تصدر إشاراتٍ ضوئيةٍ غريبةٍ بألوانٍ مختلفة , حتى السترات التي يرتديها الناس تصدر اشارات ضوئية هي الاخرى,
فَرَك عينيه بيديه وهو غير مصدق ما يرى , أقنع نفسه بأنه ربما يكون في حلم , أو ربما هذا الذي يراه هو في عقله الباطن وفقط .. لكن هو يتذكر جيداً بأنه كان جالساً في القطار وفي طريقه إلى المؤتمر السنوي الكبير للآداب والفنون والذي تقيمه وزارة الثقافة , ويتذكر أنه كان في طريقه إلى القاهرة حيث المؤتمر, وبدأ يحدث نفسه بصوت منخفض وخاصة بعدما أقنع نفسه أنه في حلم وبأنه سيستيقظ منه لا محالة , لكن الحلم قد استهواه , فالمكان مختلف والناس مختلفين أيضاً , وراح يسأل نفسه :
" أين أنا .. وما هذا المكان .. وما هذا الذي أراه .. وكيف أتيتُ إلى هنا , وكيف انتقل المكان من قطار متجه إلى القاهرة إلى مكان فوق الماء , وكيف تحول الزمان والمكان بقدرة قادر , والبيوت من حولي كلها صارت من زجاج , والناس لماذا يرتدون هذه البدلة الغريبة العجيبة التي تشبه بدلة رواد الفضاء , أو تشبه بذات النجاة التي يرتدونها ركاب السفن العملاقة عندما تكون السفن في خطر, وتقترب من الغرق , وما كل هذه الأنوار التي أرها والتي تصدر منهم , وكأنها رسائل ترسل بعض الإشارات اللاسلكية والإشارات الكهرومغناطيسية , وكيف يطير الناس في الهواء ويمشون على الماء ونحن لسنا في زمن المعجزات , هذا أمر غريب وعجيب حقاً ــ سبحان الله العظيم ــ ماذا حدث , ليس هناك أصوات , وما هذه الأشياء التي يحملونها في أيديهم , ثم إني أنا أشعر بالجوع والعطش ولا أرى أمامي مطعم أو محل كشري أين آكل إذاً , أريد أن آكل وأشرب , حتى سجائري ليست معي , نفذت كلها في القطار, ماذا أصنع , يا الله ..؟!! "
اقترب من أحدهم مرة أخرى , وقبل أن ينصرف عنه هذا الرجل الغريب , وقبل أن يمد يده ليضغط على شيء ببدلته ليطير في الهواء مثل غيره لم يتركه ينصرف وقف في وجهه , وامسك به وصرخ في وجهه ,
ــ من أنتم , وما هذا المكان الغريب , ولماذا أنا هنا , إني جائع أريد طعاماً لآكل , وأريد الماء لأشرب , هل تسمعني , لماذا لا ترد علي , لماذا لا تجيبني .. ؟!!,
فجأة الرجل الغريب أشار بيده فخرجت قائمة مكتوب فيها عبارة معلقة في الهواء رآها أمامه مكتوبة بلغات شتي
ــ من أنت , ومن أين أتيت , وماذا تريد , هل أنت من سكان الأرض أم من سكان الفضاء .؟!
فرد عليه بصوت ضعيف منهك متعب لا يكاد يُبين ,
ــ أنا الذي أسألك , من أنت , وما هذا الذي أره , وأنا لا أدري من أين جئتُ , غير أني أنا إنسان , وأقطن في الكرة الأرضية , أذكر .. كنت راكباً القطار , وفجأة وجدت نفسي هاهنا ,
فأشار إليه مرة اُخرى على نفس القائمة , فما كان منه إلا أن قال له وبنفس الصوت الضعيف المنهك المتعب
ــ أنا إنسان مثلك , أنا إنسان جائع وعطشان ,
قالها له وأشار إلى فمه وبطنه في حركة منه لتفهمه مقصده وبأنه يعاني من الجوع والعطش ثم سقط من طوله على الأرض من شدة التعب والجوع والعطش , فما كان من هذا الإنسان الذي يشبه الكائن الفضائي إلا وقد رق لحاله , فقام على الفور بإخراج جهازٍ صغير من سترته وضعه على وجهه وبطنه ثوانٍ معدودة أخرج بعدها بعض الأشياء الصغيرة العجيبة من سترته أيضاً وراح يصنع شيئاً ما, وفي غضون نصف دقيقة أو أقل كان قد أعد شيئاً ما يشبه مسحوقاً في كبسولة صغيرة ووضعها في فمه وناوله قطرات ماء كانت في زجاجة معه , وبعد محاولة منه ليطمئن بابتسامة على وجهه ظهرت منه فجأة تناول الكبسولة وقام ببلعها , ثواني معدودة شعر بعدها وكأنه كائن آخر , وذهب عنه الجوع والعطش فقام وهو يشعر بأنه قد أمتلك قوة خارقة , وقبل أن يشكر الرجل , أو يسأله ماذا صنع معه , وجده قد تركه وانطلق في الفضاء , وتركه في حيص بيص , مما زاد في حيرته , وتعجبه واندهاشه , فقال في نفسه
" معقوله اللي بيحصل ده , طاب أنا فين , أين أنا , وما هذا الذي اره , مستحيل أكون ركبت قطار الزمن هههه , معقوله, هذا كلام فاضي , خيال علمي طبعاً , أنا قرأت في هذا الموضوع قصص كثيرة , وشاهدت أفلاماً كثيرة أيضاً تكلمتْ عن هذا الأمر لكن مش ممكن , مستحيل يكون ده حصل معي , ولما لا يكون قد حدث معي أنا أيضاً , فربما يكون الأمر حقيقة , فكل شيء حدث في هذه الحياة من تقدم علمي كان منشأه وبدايته فكرة وخيال في رأس أحدهم , بدءً من فكرة الطيران والتي قام بها " عباس ابن فرناس " مروراً بعالم الفضاء والتكنولوجية الحديثة والله أعلم إلى أي شيء سينتهي هذا العالم , لكن وما أدراني بأني في مكان ما على الكرة الأرض غير المكان الذي كنت فيه , وفي زمانٍ غير الزمان ومكانٍ غير المكان , ولما لا أكون قد انتقلتُ إلى كوكبٍ آخر, وإلى عالمٍ آخر, ربما , ولما لا , وكل شيء من حولي مختلف ويطير في الهواء, وبقع ضوءٍ متناثرة هنا وهناك , والعربات تسير من فوق رؤوس الناس , والأصوات شبه منعدمة من حولي , وكل شيء من حولي يسبح في الجو , ولا يسقط على الأرض وكأن الفضاء البعيد انعدمتْ فيه الجاذبية , لكن لا , لا , فأنا لم أطر مثلهم , وهل فكرت في الطيران .. ؟! .. فلأحاول مثلهم ".. قال ذلك لنفسه , وأخذ يقفز لأعلى لعله يطير في الفضاء مثلهم ولكنه لم يستطع , ....
فراح يَصُرُّ وجهه بيديه ويهزُّ رأسه هزاتٍ متتاليه وقد أغمض عينيه ثم فتحها من جديد ليستكشف المكان أكثر , وأكثر .. فكل شيء من حوله مختلف البيوت والناس والشوارع حتى المحلات لا شيء فيها إلا الأجهزة الكهربائية الغريبة العجيبة ,...
وراح يمشي في الشوارع على غير هدي لا يدري من أين أتي ولا إلى أين سيذهب , كل ما يتذكره هو أنه كان جالساً في قطار نصف الليل المتجه إلى القاهرة وفي طريقه الي إحدى المؤتمرات التي سيكرَّمُ فيها , وفجأة وجد نفسه هنا , وفي مكانٍ آخر وزمانٍ آخر , وكل شيءٍ من حوله مختلف , والوقت ظهيرة , والجو جميل , ليس به ما يعكر صفوه وأخذ يتذكر , ويفكر مع نفسه بصوت مسموع , ويتساءل مع نفسه بصوت مسموع
" مستحيل أنا بَحْلَمْ أكيد, أريد أن أستيقظ من هذا الحلم , أكيد حلم , لكنه حلم جميل ما المانع أن يطول هذا الحلم , ربما كتبت فيه قصة , نعم قصة ولما لا فأنا منذ فترة ليست بالقليلة وأنا لم أكتب أي شيء , ولا حتى قصة واحدة , كما أني لا أذكر متي بالضبط وبالتحديد كتبت آخر قصة , أو حتى متى نشرت آخر قصة لي "
أعجبته الفكرة , جلس في مكانٍ ما يشبه الحديقة ينبعث منها روائح جميلة , ومشهد الزهور المختلفة الأشكال والألوان مع الأشجار والخَضَار مبهجة جداً , ويشرح الصدر ويسعد العين , جلس في زاوية ما , أخرج ورقة وقلم , وراح يكتب من أول السطر ,
" المكان مدينة مقامة فوق الماء مصنوعة من زجاج , وسكانها يطيرون في الهواء كالعصافير أو كالجراد , والزمان لا أذكر, ربما كان في الألفية الثالثة بعد الميلاد ,
تخيل معي قارئي العزيز وأنت البطل في هذه القصة , وحيث يجد البطل يجد نفسه فجأة , وبقدرة قادر يجد نفسه في إحدى ضواحي هذه المدينة الزجاجية العجيبة في كل شيء , ذات الأنوار المبهجة , والناس والعربات تطير كالفراش في السماء , هل جربت أن تعيش هذا الإحساس الغريب العجيب .. أكيد كلنا أو معظمنا على الأقل يحب أن يجرب هذا الإحساس وهذا الشعور الغريب الجميل في نفس الوقت , هل جربت بأن تعيش بخيالك , أو تمنيت أن تنتقل وتسافر عبر آلة الزمن , أو أن تنعزل عن هذا العالم الذي تعيش فيه, تخيل نفسك مثلي , فجأة , وبدون مقدمات وجدت نفسكَ في جزيرة ما في وسط البحار, الحياة فيها مختلفة كل الاختلاف عن حياتك التي كنت تعيشها من قبل ترى ماذا ستفعل ..؟!.. كثيراً ما جاءتني هذه الفكرة المجنونة , وكثيراً ما فكرت في هذا الأمر العجيب .. وكثيراً أيضاً ما تمنيت أن أعيش هذا الإحساس وذلك الشعور , وكثيراً ما عولجت هذه الفكرة في قصص وروايات كثيرة , لكن أن يحدث هذا معي فهذا الأمر غريب جداً وعجيب حقاً , وأن أكون في قلب حدث القصة فهذا شيء غير معقول إطلاقاً , أنا أحب هذه النوعية من القصص وخصوصاً حينما تكون تلك الفكرة معالجة سينمائياً ..
" يآ آه شعور لذيذ , وخيال خصب , وإحساس بالمتعة والجمال حينما تشعر وتعيش لوحدك هذا الاحساس ,
" في مكان ما من العالم معزول عن البشر , كل البشر , يوجد هناك عالم آخر مختلف , عالمٌ له قوانينه المختلفة , وله ثقافاته المختلفة , وله عاداته , وتقاليده المختلفة أيضاً , حتى الزي مختلف تماماً , "
ستقولون تلك فكرة متطرفة ومجنونة , نعم هي كذلك , وستقولون عني بأني مجنون نعم وهو كذلك لكن شيئاً واحداً سأقوله لكم , أنا رجل أحب الخيال والجنون في الأفكار , ...
تخيل نفسك للحظة وأنت تعيش في واحة في قلب الصحراء , أو وأنت تعيش في جزيرة في وسط البحار , وأنت في هذا الجو الساحر وخصوصاً إذا كانت معك البطلة الجميلة ذات الملامح الأسطورية والجمال الخرافي .. وأنتما تبحثان عن مخرج .. وحينما تيأسا تحاولان أن تتأقلما على هذا الوضع الذي أنتما فيه .. وأنت تعيش الأحداث وكأنك في داخل القصة .. ,
لا فرق كثيراً بين هذه القصة وهذا الخيال المجنون المتطرف المريض ربما وبين ما نعيشه اليوم , ويعيشه العالم بأسره في تلك الأيام فالعالم كله منعزل عن نفسه , أصبحت الدول شبه منعزلة عن بعضها , فلا طياران ولا سياحة ولا تبادل تجاري أصبح عبارة عن مجموعة جزر منعزلة بل كل بيت في كل دولة أصبح عبارة عن مركب صغير يعيش فيه مجموعة من الناس وظهر مصطلح جديد " العالقين " من كل الدول , بسبب الوباء المنتشر في هذا العالم اليوم ,
قد يبدو الأمر غريباً بعض الشيء عند بعض الناس , وقد يبدو الأمر عند كثيراً من الناس سهلاً وبسيطاً , فقد يتصورون بأن كتابة قصة من الشيء السهل اليسير وبالتالي كتابة أي قصة قصيرة أمر سهل جداً وهيِّن وبسيط جداً , لكن أأكد لكم يا حضرات بأن هذا مفهوم خاطئ تماماً .. فالكتابة من أصعب الأشياء , وصعبة جداً جداً , بل أصعب مما تتخيل , وتشبه وجع الولادة , وقد تزيد عليها , لا نها عصارة الذهن , وخبرات السنين الطويلة وعصارة تجارب عديدة , كما أن الكاتب ليس آلة أو جهاز تحكمه قوانين فيزيائية متى أراد أن يكتب ضغط على زر فيخرج منه الكلام كما تُخرج الماكنة منتجها , فالكتابة يا سادة حالة وجدانية تتلبث الكاتب وتأتيه , ولها صورتان لا ثالث لهما إما أن يستدعيها وإما هي التي تستدعيه ليدخل في محرابها ويستظل بظلالها ويتشح بقدسيتها ويتصل بعالم التيار اللاوعي فينفصل عن هذا العالم المحيط به أو ينفصل عنه هذا العالم المحسوس لينسلك وينخرط في سلك الخيال ويلج إلى هذا العالم الخاص , ليدخل في عالمه الغريب العجيب , ويعيش فيه .."
-
*على السيد محمد حزين
طهطا ــ سوهاج ــ مصر

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...