اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

رواية حديثك يشبهني " الجزء الثاني والآخير " ...**للروائي الفلسطيني : يامي أحمد

آدم ... وجدت رسالة من صديقي أسامة، الذي درس معي في المرحلة الإعدادية، في مدرسة الرمال الثانوية في قطاع غزة. أسامة صديقي، الذي يتناقض معي في كل شيء.. لا يحب ما أحب، ولا يكره ما أكره، بل على العكس. هذا الشيء الذي جعله من أصدقائي المقربين. أنا على تواصل معه منذ ترك غزة وسافر إلى الإمارات هو وعائلته، قبل أن تتعمق حالة الانقسام الفلسطيني، وبدأ العمل هناك مع والده في إحدى شركات الدعاية والإعلان وتصميم مواقع الويب.

كان مضمون الرسالة أن لديه صديقا يريد تأسيس مجلة اجتماعية، وقد طرح عليه بعضا من كتاباتي القديمة على صفحتي على الفيس بوك، ونالت إعجاب صديقه، فاقترح عليه أن أكتب مقال أسبوعيًا في
مجلته، في سياق العلاقات العاطفية بين الجنسين. لم أتردد. وافقت على الفور، وطلبت أن تُوقع كتاباتي باسم مستعار، كي لا يرتبط اسمي بالكتابات العاطفية، لتحفظي وعدم قناعتي بحصر كتاباتي في هذا الجانب، بالإضافة لأن ذلك ربما لا يتناسب مع ثقافة أسرتي والبيئة التي خرجت منها.
مع هذه النقلة، تغيرت حياتي بشكل متسارع، وصار لي دخل ثابت، من خلاله أخمدت الفوضوية التي كانت تحتل حياتي. في الواقع، كنت أبحث في داخلي عن الاستقرار، دون أن ينشغل عقلي بالتفكير بقوت يومي، وأريد التفكير بحرِّية في الحب وللتخطيط بعقلانية للمستقبل، والانطلاق لعالم الحب والإبداع. حتى القلب نفسه سيتفرغ لاختيار ما يليق بعواطفه.
أنا أؤمن أن الوقوع في الحب اختيار. ربما يعارضني البعض في ذلك، ويظن أن الحب شعور يتعثر بنا على حين غرّة، ومن الممكن على إثر ذلك أن تضمحل حياتنا، ويجب علينا في هذه الحالة أن نكون عابسين ما استطعنا، ومزاجيين كأننا تحت تأثير الخمر. لكني علي إيمان ويقين بأن بإمكان أي شخص أن يختار بعقله شريك عمره، ويعشقه بمحض إرادته، حين يعيد بوعي ترتيب مشاعره العابرة والفوضوية تجاه الشخص الذي يريده. الحب في نظري قرار واختيار، فالله لم يخلق القلب والعقل ليعمل أحدهما بمفرده، وما دون ذلك صهريج عذاب!.
أفكاري الآن سوسنة تتبع الحب في موازين العشق الأربعين، من السفر الأول للأخير. لا بد من تجربة أخرى للخوض في علاقةِ حبٍ جديدةٍ؛ فالامتناع عن الحب لا يمثل أي حماية للقلب. يقول مولانا جلال الدين الرومي: " أولئكَ الخائفونَ من أين لهم أن يدركوا غُبارَ العشقْ!؟"
أقفلت جميع الصفحات الإلكترونية التي كنت أستعملها، فتحت مجلد الأغاني، الذي يحتوي على عدد كبير من المجلدات الغنائية، والتي كانت مصنفة بشكل منظم في جهازي الخاص. واخترت تشغيل الأغاني الصوفية بشكل عشوائي، دون اختيار أغنية معينة بحد ذاتها.
اخترت -لأقرأ- كتابًا صوفيًا عن الحب، كنت قد اقتنيته قبل أسبوع من سور الأزبكية؛ ذاك المكان الشهير لبيع الكتب المستعملة، الواقع في ميدان العتبة في القاهرة. أعتبر هذا المكان الأقرب لقلبي في مصر، أجد فيه معظم الكتب التي لا أجدها في المكتبات الكبرى. هو أشبه بمعرض كتاب صغير، لكنه مفتوح على مدار العام. كنت إذا ما زرته، أقضي اليوم كله أتجول بين ممراته ومكتباته.
ألقيت نظرةً على أسماء الكتب التي أقتنيها وأقرأها، فلاحظت أني مهموم بالحب فعلًا.. أقرأ عنه، أمضغ سيرته في حديثي، وكل شيء بأفكاري صار ينتهي إلى الحب. لا أدري إذا كنت أبحث عن الحب فعلًا، أم أني أعاني مثل المراهقين من الجفاف العاطفي؛ لكني كنت علي يقين بأني أبحث عن الاستقرار، من خلال قصة حب أؤسس بها حياتي، بعيدًا عن زغب الصورة الدارجة للحب.. وهذا ما جعلني أؤمن به أكثر.
وأنا منغمس بقراءة وتأمل أعذب المعاني الصوفية، رن هاتفي المحمول قبيل الساعة الحادية عشرة ليلاً.. كانت المتصلة سارة! استغربت اتصالها في مثل ذاك الوقت. هذه المرة الأولى التي تهاتفني على رقمي منذ قدومها لمصر. كان مزاجي مرهف جدًا حينها، والليل مع هذا المزاج يحترف تأجيج العواطف. أجبتها وأنا مبتسمٌ، كأني أؤسس قصة حبٍ معها. الرجل إذا ما بحث عن الحب، سيرى في كل امرأة تبادر بالحديث معه قصة واعدة.
كانت محادثتي مع سارة طويلة جدًا، تخللتها الكثير من الاعترافات والذكريات المدفونة في قلب كل منا. فتحت سارة قلبها على مصراعيه دون مقدمات. جعلني هذا أتساءل عن ثقتها بي بهذه السرعة! تذكرت زوجة أبي، كانت تقول لي باستمرار: كيف تجعل الناس يثقون بك بسرعة؟
كانت المكالمة في بدايتها رسمية، أثنت فيها على مدونتي. سألتها:
كيف استطعتِ الوصول لها؟
قالت: تصفحت حسابك على الفيس بوك، وكان هناك تطبيق أنت مشترك به، يربط ما بين المدونة والفيس بوك!
تنهدت متعجبًا، أحاول أستذكار ذلك التطبيق وقلت: لا بد أنك قضيتِ وقتًا طويلًا وأنت تتصفحين حسابي، فأنا على ما أذكر مشترك بهذا التطبيق منذ عام ونيف.
ضحكت وقالت: منذ عام وتسعة أشهر بالضبط!
اكتمل نصاب ذهني، واستيقظت فيه كل الخلايا النائمة والميتة، والتي تكمن وظيفتها الجينية في إدراك طبيعة العلاقة بين الجنسين.
قلت: لا بد أنك الآن تعرفين الكثير عني، فأنا منذ عام وتسعة أشهر بالضبط لم أعتد على المحافظة على أي خصوصية لحياتي على حسابي الافتراضي.
لم تكن خجولة أبدًا في صراحتها بالحديث.. كانت تجيب دائمًا بشكل غير متوقع، كمن يحرك أحجار الشطرنج بسرعة، دون أن يخطأ. يبدو أنها كانت تتعمد أن تكون مختلفة معي، حيث قالت:
نعم أصبحت أعرف الكثير عنك، وأكاد أجزم أنك برج الأسد، بالرغم من إخفائك لتاريخ ميلادك، وهذا كان واضحًا من خلال هذيانك العاطفي في كتاباتك، وانتقالاتك غير المتوقعة من العتاب إلى الأمل وتارة من العذاب إلى السكينة.
في الواقع، جذبتني جدًا طريقتها في الحديث. لولا بعض المزاح، لما استطعت أن أجاريها في الرد. لكني رغم ذلك قلت:
لا شك بأنك ضحية قصة حب موجعة مع رجلٍ من برج الأسد، فالمرأة التي تعشق رجلًا برجه الفلكي الأسد، تصل معه لذروة الحب والألم. وعلى سبيل هذا التحليل، سأفترض أنك برج الحمل، كون معظم ضحايا الأسد هم سيدات الحمل!
فاجأتني بجواب لم يكن راجحًا في حسباني:
أنت مثل ورمٌ خبيث في الذهن، تصيب الفرد بطيش، كما الرصاصة في هوجة الفلتان.
كلامها كان صادمًا بالنسبة لي، فنحن لا نعرف بعضنا سوى من أيامٍ قليلة. كيف تقول كلامًا بهذا العمق والجرف اللامتناهي من الرمزية؟! اجتهدت لكي أجعل الحديث يسير على نحو واضح بلا تلغيم في الكلام، وقلت لها ممازحًا:
فتاة خليجية تعيش في بريطانيا، بيئتها هادئة، علاقتها باللغة تترنح على حافةٍ لزجة، من أين سقطت في مفرداتك مصطلحات كالرصاصة والفلتان؟ يبدو جليًا أن دهاء وكيد المرأة الشرقية مرتبط جينيًا في تكوينهن، مثله مثل الملامح والصفات الجسدية. ويبدو أنك لست بحاجة لمعرفة شيء عني، فقد حصلت على الكم الأكبر من المعلومات قبل أن تحادثيني. لذا، اسمحي لي بالتمرد قليلًا، وأن أترك فضولي يسألك مباشرة من أنت، وكيف لي أن أعرف كل شيء عنك مثلما فعلتِ؟ هل هناك مشكلة أن تحدثيني عن نفسك؟
كنت أتقمص دور الطبيب النفسي في دعوتها للحديث عن نفسها. بدأت بالفعل ذلك، وقالت دون أن أقاطعها:
أنا عكسك تمامًا، لست مزاجية، أُحكم عقلي وأهمل عواطفي في بناء آرائي، ولا يستطيع أحد أن يؤثر على قرارتي مهما كانت صلة علاقته قريبة مني. الفكر هو معياري في التعامل مع الناس؛ من هذا المنطلق أقبل أو أرفض الآخرين. ذو الفكر الذي أمقته، تظل تتراكم بيننا الحواجز، إلى حد الانفصال الكلي. وقد اضطررت لأخسر الكثير من ذوي الفكرٍ الذي لا أحترمه.
أنا لست مثلك، لا أتعامل مع أنصاف الحلول، ولا أثق بأنصاف البشر، خصوصًا المتحولين، والمدعين، والمتكلفين، والمنافقين، والمتناقضين، والمتسخين، والمستنسخين، والمتطرفين، وذوي العقول الضيقة، والمسرفين بالتأثر بآلامهم، والمتاجرين بأحزانهم، والمستهزئين، والملفقين، والمصغرين، والمبالغين في المدح والذم، والمسرفين بلطفهم، والشاعريين جدًا، وبائعي الكلام والهوى، والمتقمصين، والضائعين، والمبذرين، وكل من يفتي بشيء دون علم أو وجه حق.
بدأت أشعر من خلال حديثها برغبتها في المعارضة وحسب. بعض الأشخاص يتقرب منك لدرجة كبيرة كي يحطمك بشكل كامل؛ لذا كان هذا الظن كفيلا بأن يضع حدًا ضد أي مبادرة حب قد أتفوه بها تجاه سارة. رغم ذلك أجبتها محتدًا باختصار:
كل ما تعرفينه عني لا يعطيك الحق بأن تصدري أحكامًا على شخصي، مثل قولك: "أنا عكسك" أو "أنا لست مثلك"، ثم تبدئين بسرد صفات لا حُسن فيها، تجزمين ضمنيًا بأني مصاب بها.
يبدو أنها شعرت بحدتي وغضبي من الجواب، وبدأت تتراجع عن هجومها غير المباشر، وأصبح حديثها أكثر نعومة وشاعرية، حتى وصل الشبق منتهاه!
مرت أول ساعتين ولم ينتهِ الحديث. المكالمة أخذت طابعًا مغايرا تمامًا لما كانت عليه من هجوم في البداية، صارت أكثر صراحة وحميمية، ولم تخل من التلميحات الإباحية. سألتها عن فترة حياتها بالخليج، وهل ستتزوج من رجلٍ عربي أو لا، وتطرقت لبعض الأمور الشخصية جدًا بالنسبة لها. أجابتني باختصار عن شكوكها بوجود رجل يحبها لنفسها، لا لجنسيتها البريطانية أو لكونها خليجية. قالت إنها تعاني فوبيا من الرجل الشرقي والعربي تحديدًا، الذي يطمع في المرأة التي يمكنه من خلال الزواج منها اكتساب جنسية أوروبية. وأشارت أيضا لهاجس انتهاك حر مالها، الذي يشجع أي شاب للتقدم إليها، كونها من أسرة ثرية جدًا، بالمقارنة مع المستوى المعيشي للشباب العربي.
تعاطفت بحذرٍ مع حديثها ورؤيتها للموضوع من هذه الزاوية، فقد كان يتبادر في ذهني استفسار وسؤال يعارض سياق عرضها للموضوع. قد كنت فظًا جدًا حين قلت لها:
هل تعتقدي بأنك مثال للكمال بمنطلق المميزات التي ذكرتِها، والتي تؤهلك لإصدار أحكام على الشباب العربي وتعمميها بغير وجه حق؟ ثم إذا كنت لا تثقين بهم وتعانين من فوبيا شديدة من التعامل معهم، لماذا اتصلت بي؟ أنا من هؤلاء الشباب، وما زلت بعيدًا عن التنصل من ثقافتي وأصلي!
ردت بتردد ونعومة: أنت مختلف!
فهممت بالإجابة سريعًا وأنا محافظٌ على حدتي:
أنا لست مختلفًا عن أحد. ليس ذلك وحسب، أكره هذا النمط من الحديث الذي تتبناه الطبقة التي تنتمين إليها. دائمًا تظنون أنكم عرضة للاستغلال، وعلى الدوام ترددون هذا الكلام. لا أدري إذا كان لديكم جناحين خلف ظهوركم، تميزكم عن البقية ونحن نجهل ذلك. إنه النقص الذي تعانون منه، والذي يتمثل برغبتكم بأن يكون الكل طوع أياديكم، أو تحتاجونه لتبرير فشل ما على أحد الأصعدة. تهاجمين أنصاف البشر، لكن أشعر أنك تتطبعين بمعظم طباعهم.
قاطعتني بجملة استفزتني بشكل عارم وقالت:
أنت لا تستطيع أن تنسى أني خليجية خلال حديثك، ولا يمكنك أن تشفع لي هذا!
قلت بغضب: لن تستطيعي أن تقحميني في أي حوارٍ شبه عنصري، خصوصًا بأي شيء يتعلق بعروبتي التي أعتز بها عن قناعة، وليس مجرد شعار أتغنى به؛ بغض النظر عن قدرتي على مناظرة أي مسألة تتعلق بهذا الموضوع. لقد عاشرت العديد من العرب من مختلف الجنسيات في مصر، وعشت معهم جنبًا إلى جنب في مدينة 6 أكتوبر، التي تحتضن العرب من كل البلاد. لم أشعر بأي شيء من الوهميات المقيتة، والتي لا أعلم حقيقةً من يصدرها لنا لبث التفرقة، وأعلم أن رماد هذه الأفكار ما زال يعمينا حتى الآن، ويتراكم يومًا بعد يوم. لا يجدر بك أن تتفوهي بما قلت الآن.. أظن أن عقليتك أكبر من هذه الصغائر.
قاطعتني قائلة: أنا أشعر بالخجل مما يحدث في العالم العربي، وأنكر أمام أصدقائي في بريطانيا حقيقة أصولي العربية.
لم أجعلها تستفرد بالحوار، وقاطعتها بفظاظة على فور، وقلت ساخرًا:
نعم، نعم، فهمت أنتِ من أولئك الذين ينظرون لأوروبا على أنها جنة أفلاطون الفاضلة، وتتناسين عن قصد أو عن جهل حقيقة التاريخ والصراعات العنصرية والدينية، التي كانت تنفجر كالبراكين في مختلف البلاد الأوروبية.. الجنون كان يقودهم.. لا أريد أن أتبلى على أحد، لكن الحضارة الأوربية قامت على بحور من الدماء، وقدر كبير لا يستهان به من استعباد المستضعفين في الهند وأفريقيا والبلاد العربية، ومع ذلك من النادر جدًا أن تجدي أوروبيًا ينكر على نفسه أصوله. نحن جميعًا مصابون بمرض تعظيم الغير وإهانة أنفسنا. ومع ذلك، فينا من النرجسية ما لا يطاق احتماله.
قالت بعصبية: أنت تتغنى بأمجاد الماضي. ما زلت تعيش بين الكتب والورق والأحلام. انظر مستوى الإنسانية التي تنعم به أوروبا، والحرية التي يتمتع بها حتى اللاجئون العرب هناك، لا تنظر للأسفل وتتجاهل القمة، لا أحد ينظر للسماد والتراب ويهمل الوردة.
احتدم النقاش بيننا جدًا، لم يسعني صبري.. أردت الرد على كل نقطة ذكرتها أولًا بأول، لكني احتفظت بقدر من التأني حتى انتهت، وقلت:
نعم أعترف بالمستوى الديمقراطي والإنساني الذي يعم بلادهم، لكن صورة الوردة لم تكتمل في نظري، ومعك حق، اللاجئون العرب هناك يتمتعون بحقوق كبيرة، لا يستطيعون الحصول على نصفها في بلادهم. لكن أي إنسانية في ذلك؟ أوروبا تفتح باب اللجوء أمام المنكوبين، بشرط أن يمروا عبر قوارب الموت. لا أدري هل الإنسانية تقتضي ذلك، أو أن عقلي ما زال مدفونًا بالأحلام! هل فعلًا أنا أفتش فقط في أخطاء الآخرين، كي أخفف من حقيقة وضعي؟ تلك الأشياء لم أصل لإجابة شافية لها.
ردت بهدوء، مناقضة للحدة التي وصلنا لها:
لا أستطيع أن أجاريك الآن، فأنا بالفعل ليست لدي المعلومات التاريخية الكافية، سواء لأوروبا أو للعالم العربي. لكن ستجمعنا نقاشات كثيرة أخرى. هل من الممكن أن ننهي الحوار في هذا الموضوع؟..
لم تنتظر ردي.. استطردت:
قرأت لك نص أحبك بسلوك مختلف، لديك إحساس مرهف جدًا.
استطاعت امتصاص غضبي بسهولة.. أعترف بقدرتها على ذلك، رددت وأنا أبتسم:
تقصدين نص "أحبك بسلوك غير مألوف"!
ضحكت وقالت: لا يجدر بك التركيز كثيرًا؛ حاول أن تكون حليمًا معي نوعًا ما، ففي النهاية أنا امرأة ويفترض عليك ككاتب أن تتعامل معي برقي غير مألوف.
أردفت قائلة: لماذا لا تفكر في تأليف كتاب؟ لك أسلوب جيد في الكتابة، ستحبه النساء.
وصار الحديث على نحو سريع بالاجابة والسؤال، قلت لها:
لست جاهزًا لهذه التجربة الآن؛ ربما في وقت لاحق.
قالت: لا، بل تستطيع.. سأدعمك حتى تبدأ بذلك.
صمتت للحظة بعد ذلك، وحاولت أن أتأكد أنها ما زالت على الخط، فردت وقالت لي: ثوانٍ؛ سأرد على صديقتي.
ذهبت لأضع هاتفي في الشاحن، إلى أن عادت للحديث وسألت:
أتعلم على من كنت أرد الآن؟
قلت: بالطبع لا؛ أنا لا أعرف من أصدقائك غير "لي ياني".
ثم كررت السؤال بطريقة أخرى وأشارت لموضوع قد تحدثت عنه معي من قبل:
أتذكر صديقتي ريم، التي حدثتك عن قصتها في أول لقاء؟
قلت: نعم؛ ما زالت تأثير قصتها يراودني حتى الآن.
صمتت ثم قالت بشيء من الاندهاش: تخيل أن ريم من المعجبين بكتابتك، وتقرأ مدونتك منذ أنشأتها على ما يبدو. كنت للتو أرد على رسالة تستفسر بها عن علاقتي بك!

ريم
بُعدٌ عميق يبعدني عن سؤال سارة عن طبيعية علاقتها مع المدون، لكن الفضول سبقني إليها. ما يحيط الموضوع من غرابة دفعني لمغالبة الحياء وسؤالها كيف عرفتِ بهذا الكاتب. شيء آخر -دام عزه- لقد انتبهت أنها غيرت منذ أيام محل إقامتها إلى مصر!
مصر، كانت بوابة الحوار التي دخلت منها. حدثتني عن رغبتها بدراسة اللغة العربية في مصر، إلى جانب مشاريعها في العمل التطوعي مع إحدى مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالتبادل الثقافي العربي الأوروبي.
لم أدقق في التفاصيل، وسألتها بطريقة يغلب عليها المزاح:
منذ متى تتابعين كاتبي المفضل، خصوصًا كون كتاباته في معظمها عاطفية، وهذه النوع من النصوص أبعد ما يكون عن اهتماماتك؟
ضحكت، وأخبرتني أنها بالفعل لا تهمها الكتابات الرومانسية مطلقًا، وقالت إنه مجرد صديق فلسطيني، تعرفت عليه في مصر، واسمه آدم.
انتهى الحديث عند هذه النقطة. لكن سرعان ما وجدت نفسي أبحث عنه في قائمة أصدقائها. ذهبت لقائمة الأصدقاء المضافين مؤخرًا لديها، ولم أغلب في البحث عنه، فلم يكن لديها غير صديق واحد يحمل اسم آدم. بلا تردد، فتحت ملفه الشخصي.
"يخلق من الشبه أربعين"!.. عثرت على واحد، ما زال هناك 39 شخصا آخر يشبه نبيل، لم أعثر عليهم!
إنها ليلة غريبة بكل أغانيها.. تأثير لقائي مع والدي لم ينتهِ بعد، فعقلي لم يستسغ فكرة هذا العرض المغري، وأنا التي طوال حياتي لا تخرج إلا بوجود شخص يراقبها. الآن -ومع حساسية وضعي المفترضة- يخيرني والدي ما بين العمل أو الدراسة في الخارج!
لم يكن في عقلي موضع أبدًا للوعي بتعبي وارهاقي تلك الليلة. صخب الأحداث وكثرتها، التي لا يطيق يومٌ تحملها، كان كفيل أن يتجاهل الإدراك ألمي ودمعة الدم التي سالت من شفتي وداويتها بقلمِ الحمرا. على نحو متسارع جدًا بدت حياتي تلك الليلة متغيرة بسرعةٍ غير مسبوقة.. المفاجآت والصدمات تتساقط على رأسي كمطر الطوفان، حتى اكتشفت فجأة أن الوقت تأخر جدًا والصباح شارف على الانبلاج، فرتبت أشيائي، وأطفأت نور الكهرباء، ودسست نفسي تحت اللحاف، وغرقت في النوم، بعدما احتدمت المعركة بين النعاس والتفكير.

آدم
"بالمناسبة، أنا لست برج الحمل، بل الحوت. تصبح على خير"
كانت هذه الكلمات آخر ما قالته سارة، في تلك المكالمة التي استمرت حتى ساعات الصباح الأولى،
في مساء اليوم الذي اعتذرت فيه عن لقاء "لي ياني" في القهوة، وبقيت في البيت أدرب عقلي على التركيز والتخمين.. فالأفكار التي ترجمتها أحلامي لمشاهد وسيناريوهات كثيرة لم تكن لتمر مرور الكرام. افترضت أن رحيل القمر -الفتاة التي تتابعني منذ افتتحت مدونتي- هي نفسها ريم صديقة سارة، هي نفسها المرأة التي تفوقت على وجعها، ورفضت بصرامة الرجل الذي مس شرفها باتهامٍ لا عدل فيه.. هي نفسها المرأة التي اختارت لعمرها العيش على بصيص أمل، بدلًا من أن يتعفن مع رجلٍ أرغمت على الزواج منه.
لم أعطِ مجالًا كبيرًا للتخيل ليقتحمني ويصيغ الوضع بدرامية أكبر مما هو عليه. كنت أخشى عليه من التكلف، حتى لا يفقد إنسانيته. توقفت عن التفكير بالقصة من هذا الجانب، وسارعت بالوصول إلى مدونتها، حتى أتأكد بأن رحيل هي نفسها ريم. لكنها لسوء الحظ، لم تكن تضع أية معلومات على المدونة، سوى صورة لباقة من زهور الأوركيد في المكان المخصص للصورة الشخصية، وأبيات شعرية لمحمود درويش يقول فيها:
" لا’ لستُ شمسًا ولا قمرًا
أَنا اُمرأةٌ، لا أَقلَّ ولا أكثرَ
أَنا مَن أَنا، مثلما
أَنت مَنْ أَنت: تسكُنُ فيَّ
وأَسكُنُ فيك إليك ولَكْ
أُحبّ الوضوح الضروريَّ في لغزنا المشترك."
أن تكتب بهذه المفردات البسيطة هذا العمق اللامتناهي للمعنى لهو إعجاز يحتكره محمود درويش له وحده.. وأن تصطاد مثل هذه الأبيات من مئات القصائد الدرويشية، لتختزل فيها وصف شخصيتك، فهذا يعكس تبحرك في القراءة، وانتماءك للمجتهدين في البحث عن صورة الإنسان الأعلى. هكذا أحلل الأمور دائمًا، بصورةِ زاهدٍ لا يخاف الغابة، ولا يهمه الإبحار في كل ما يبدو عاديًا. إنه أثر إدمان الكتب الفلسفية لفترة طويلة.. الكتب التي أعادتني لدهشة الطفولة!
أفقت من شرودي في مدونتها الكلاسيكية، المهملة إلا من الزهور والشعرِ، لأجازف بالبحث عنها في حساب صديقتها سارة. لم يكن الأمر سهلًا.. كان في قائمة أصدقاء سارة أكثر من امرأة تحمل اسم ريم. اضطررت لأفتش في كل تلك الحسابات، التي كانت معظمها بلا صورة شخصية حقيقة. لكني تعثرت بصورة الأوركيد والأبيات الشعرية الدرويشية في صورها القديمة بألبوم الصور الشخصية المفتوح للجميع.
هل كنت على عتبة جبل؟ أو ربما على حافية هاوية؟.. كنت أجلس كالظلِ على الكرسي، أتجاهل ماذا يعني ما أفعل، فأنا في ظلمة العالم الافتراضي، أغامر بقلبي!
في غمرة مزاجٍ استثنائي، أرسلت لها -دون تردد- طلب صداقة. إضافة صديق، لا أعرفه على المستوى الشخصي، لم تكن بتلك البساطة بالنسبة لي.. كان المبدأ مرفوضا من جذوره، وأراه ك "تورطٍ" في حياة بُناؤها الضوئي وصلات وأسلاك وكهرباء. سمعة هذا العالم ليست جيدة على ألسنة الناس، كنتاج بديهي لتقدمنا الكبير في استخدام الجانب السيء منه، وإهمالنا حقيقة تأثيره على الواقع، وعدم رؤيتنا إلا أشياءً ضبابية من الإيجابيات.
ساعتان مرتا على طلب الإضافة دون القبول.. استفاقت فيّ منطقة المشاعر السيئة، والتي يسميها البعض "الحساسية المفرطة"، وبدأت نفسي تطرح بخسَّةٍ أسئلتها على نفسي، وتصطاد تخمينات تقلل من ذاتي. أليس من الوقاحة أن أضيف صديقة صديقتي دون أن أستأذن؟.. ثم لماذا لم أصبر بعض الوقت، لعلها تتجرأ وتضيفني هي أولا؟
انتعل التأويل مزاجي من القمة للحضيض. في مثل هذه الحالة، لا يسعفني إلا فنجان شاي بالمرمية وثلاث ملاعق سكر، وبما أن المرمية غير متوفرة في مصر على غرار فلسطين، فالنعناع أقرب الحلول البديلة للنكهة المنشودة. النعناع.. مفيد جدًا هذا العشب للأعصاب، خصوصًا مع أغنية من السبعينات، وصوتٍ ينتمي لكوكبة الرحابنة. اخترت أغنية "بيني وبينك يا ها الليل"، غنتها جورجيت صايغ وهدى حداد، شقيقة فيروز، تقول في مطلع كلماتها:
"بيني وبينك يا ها الليل.. في حب وغنية.. على بابي بتقعد يا ليل.. وبنسهر ليلي.. بيني وبينك في أسرار.. وبتعرف أحزاني.. تبقى امرق لي ع هاك الدار.. وقله ما ينساني..".
أي شيء يتعلق بفن الرحابنة، سواء كان من كلمات أو ألحان أو غناء، له علاقة وطيدة بتسرب وتسربل السكينة إلى ثنايا نفسي. أتقرفص على الكرسي، وأتمايل مع الموسيقى كالمراكب الضعيفة فوق الموج، أطير وأحط.. إلى أن جاء الفرج.. ومض ضوء أحمر في خانة التنبيهات.
اعتدلت في جلستي بسرعة وهمية، وضغطت على شارة التنبيهات. كانت الشارة تنوِّه بقبول ريم لطلب صداقتي. ضغطت على الشارة، فظهر أمامي ملفها الشخصي كاملًا، بكافة المعلومات والصور والكتابات والمنشورات، منذ أول يوم قامت بإنشاء الحساب فيه.
بدأت على الفور بالتنقيب عن أي معلومات تعكس شخصيتها الحقيقة، أو عن هيئة تخيلية تعكس ماهيتها في الواقع؛ لكنني لم أوفق في ذلك، فحاولت البحث عن صورة لها، ولم أجد. كل ما وجدته يوحي بامرأة حالمة لكن هاربة.. جريئة في الحلم، مترددة في الواقع.. امرأة محاصرة، إلا من نافذة تطل على هواها، ترغب بالهروب والقفز منها، لكن تخاف السقوط والكسرة.
فجأة ومض ضوء باللون الأخضر فوق شريط المهام. كان بديهيًا أن يأخذني هذا الضوء إلى شعورٍ أكثر اتزانًا لأسيطر على سعادة غامرة انتابتني.. كنت سأعاني حقيقة في اتخاذ قرار البدء في المحادثة أولًا.
لم تكن هذه النقطة عادية مطلقًا بالنسبة لي، خصوصًا مع ريم. منذ اللحظة الأولى التي ذكر اسمها على مسامعي هزمت قلبي واختلطت بمشاعره. لم يذهب عني تأثير سكرتها الموجعة حتى الآن. هذا ما شجع قلبي أن يغدق بالمشاعر، في إطار موقفٍ يعتبر عاديًا بالنسبة للجميع، وبالنسبة لي أيضًا.
بدأت حديثها على توجس، بالترحيب الروتيني والسؤال عن الحال، ثم سألتني:
- هل أنت مشغول؟....
شعرتُ بأنها تريد الحديث بشغف، لكن لم يسعفها ذهنها بالعثور على موضوعٍ تتحدث فيه. في لغة الدردشة، النقاط بعد السؤال تعكس الرغبة الجامحة بالحديث؛ لكن على تمنع.. بمعني: أريد الحديث معك، لكن دعني أشعر برغبتك الجارفة في مبادلتي أطراف الحوار.
- نعم، مشغول بتصفح كل ما قمت بنشره على حسابك، يبدو أنك متيمة بالشاعر الفلسطيني محمود درويش، وهذا أول مفترق نتلاقى به.
تأخرت بالرد. إنها الآن تلتقط أنفاسها، بعدما اخترقت خصوصيتها بشكل عفوي.. وقبل أن أحاول محاورتها في أي شيء كي أشجعها على الحديث، قالت:
- أنا متيمة بكل ما هو فلسطيني.. بمحمود درويش، وغسان كنفاني، وسميح القاسم، ومريد البرغوثي، وتوفيق زياد، وإميل حبيب.
تفتحت ملامح وجهي، وعيناي زاد اتساعهما، وذهني أهمل السخافة كليا. جوابها أسعدني بشكل منقطع النظير.. فكرت في إجابة تبهرها، لكني عجزت عن ذلك، فتركت نفسي تقول ما جادت عفويتها:
- الحمد لله أني فلسطيني.. أخيرًا وجدت امرأة عربية تحفظ أكثر من خمس أسماء لأدباء فلسطينيين، بل وتقرأ لهم أيضًا.
بالعادة، الحديث مع النساء على الانترنت لا يأخذ هذا الطابع. يكون الدخول بأي موضوع مرتبط بالمزاح والتلميح، والابتذال في استهلاك الأنا.. لكن الحديث في الثقافة والأدب يفرض -بصورة أبدية- الاحترام المتبادل بين الطرفين، وكان هذا كفيلًا بأن يخلق أول خطوة مميزة في علاقتي مع ريم.
أعتقد أن إجابتي رسمت بسمة على وجهها، فقد كان ذلك جليًا من ردها، حيث أردفت قائلة:
- وناجي العلي، وإدوارد سعيد، وإبراهيم نصر الله.. كما أحب موسيقي الثلاثي جبران، وكل من غنى أو كتب لفلسطين. قلبي تربة فلسطينية، ينمو فيها الزعتر والزيتون، ويفوح منها عبق المرمية والنعناع.
ما أجمل الاختلاف! حقًا، حبيبة قارئة ومثقفة كريم لن يُمل منها، ولن تجلس بجانبك دون أن تجد شيئًا لتحدثك عنه. هي على عكس المرأة العادية التي تنفق في أول الحب كل الكلام المعسول والممشوق، عبر المكالمات الليلة الطويلة، والتي تمل منك وتمل منها في وسط الحب وقبل كدر الأيام. فالمرأة القارئة لا ينتهي ولا يمل معها الحديث، لديها الكثير لتقوله لك، والكثير من التركيز لتسمعك.. فتاة تقرأ -مثل ريم- يرغبها العقل قبل القلب.
ولَّدت لدي رغبة قوية بأن أثير إعجابها وأستحوذ على اهتمامها.. ثابرت بالحوار معها عن الأدب الفلسطيني، فصدمتني بثقافتها، حيث كانت تعرف عن فلسطين أكثر مما يعرفه الفلسطينيون أنفسهم، في مجال الأدب والفن والعلوم.. أخذنا وقتًا طويلا بالحديث عن ذلك.
على عكس المعتاد ببدايات التعارف، لم نتطرق إلى أي معلومات شخصية، ولم تسألني كيف وجدت حسابها، ولا ادعت أنها لا تعرفني. كان حديثنا مع بعضنا البعض أشبه بحديث اثنين يعرفان بعضهما منذ فترة طويلة.
سافرنا بالكلام إلى مدن وبلدان.. تجولنا كثيرًا بين مطرق الكتب وسنديان الكُتاب.. حلقت أجنحة أفكارنا من الخليج للأردن، ثم لبنان، حتى وصلت بنا إلى مصر.
شيئا فشيئا، بدأنا نتغلغل في خصوصيات بعضنا البعض. قالت لي بارتياح، شعرت به من حماستها في قوله:
- أنت تشبه شخصا عزيزا جدًا بالنسبة لي.. هو فلسطيني مثلك.
لم ترُقني هذه الجملة أبدًا. أنا ما زلت أعاني من أنانية الشرقي المفرطة؛ أريد أن أكون أنا الشخص العزيز الوحيد في حياتها. لكن بحكم الوضع الحالي، روضت هذا الشعور، وقلت ممازحًا:
- وأنت أيضًا ربما تشبهين شخصًا عزيزًا عليّ. هذا يعتمد على صورتك، التي سترسلينها لي، في الوقت الذي تشعرين فيه بالثقة بي.
أعترف كم كنت خبيثًا فيما قلت. أن ألغِّم جملة عادية بطلب، بشكل غير مباشر، لهو شيء مزعج، لا تتقبله أكثر النساء، خصوصًا وأنا أعرف حساسية هذا الموضوع بالنسبة لها، كونها مطلقة، وأعرف الأفكار السلبية التي قد تراودها، ومتأكد بأنها لن ترسلها.. لا أدري لماذا فعلت ذلك!
قابلت ريم كلامي بصمت طويل نوعًا ما. حاولت التفكير بمخرج من قفص الإحراج الذي وضعت نفسي فيه، فأصابتني عدوى الصمت مقابل صمتها. زادت خفقات خافقي، حين ظهر أسفل صندوق المحادثة رسم دقيق يعني أنها تكتب ردًا على رسالتي..


ريم
رفعت يديَّ للسماء، وفتحت هناك أصابعي وأعدتهم لضمتهم عدة مرات، تعبيرًا عن فرحتي بإرسال آدم طلب إضافة لي. تمنعت عن قبول اضافته في البداية.. لكن في النهاية، صار ضمن قائمة أصدقائي.
في ذلك الوقت، وقبل أن أبدًا بالحديث مع آدم، كنت أشعر بدوار حولي، وقصم في جسدي، وهشم في ذهني.. أمضغ ترددي والأحداث المتلاحقة التي اعترضتني، وأحاول أن أهضمها بالقدر الذي أستطيع. اقتحمت أمي خلوتي، وحذرتني من اصفرار وجهي وبهتان ملامحي مع التعب، فمنذ الصباح لم أتناول إلا قهوتي وقطعة شوكولاتة. وبالإضافة لحدة التفكير التي لازمتني منذ البارحة، كان هذا كفيلا بأن يقضى على جسمي الهزيل، والذي يواجه العديد من المشاكل، مثله مثل مركب صغير في عرض البحر، آيل للغرق.. لا الرياح ترحمه، ولا الموج يحن عليه، ولا حتى القمر يرنو إلى عظمه.
الغريب، أني كنت أفكر بأشياء لا علاقة لها بالأمور التي جدت على حياتي. فكرت في زميلاتي اللاتي تخرجن، واللاتي تزوجن، واللاتي أنجبن، واللاتي أوشكن على الحصول على درجة الماجستير العليا في تخصصاتهن، واللاتي يربين ويعلمن أبناءهن.. وأنا التي لا أربي سوى الطيور والحيوانات في المزرعة السعيدة.
فكرت بدولاب ملابسي، الذي يطفح بالملابس الجميلة والمثيرة، التي لا أجد مناسبة لكي أرتديها.. فكرت بصور صديقتي، التي أرسلتها وهي في رحلتها التي قضتها في باريس مع زوجها وابنها الصغير.. لم تكن ترتدي الحجاب في فرنسا، رغم أنها هنا لا تخرج من دونه. زوجها لا يمانع في ذلك؛ لا أدري ما هذه الازدواجية، لكني سرعان ما أجد نفسي أقول هذا ليس من شأني، فلماذا أفكر بذلك..
وكأنني امرأة محبوسة في ثلاجة الموتى، أرى في عيون الجميع نظرة لا يريدون بها أن يروني على قيد الحياة. فكرت في أخي، الذي تتزايد إهاناته، إلى الحد الذي أخجل معه من استذكارها والكتابة عنها.. لا أدري كيف لهذا العقل أن يحتضن عاصفة!
أحدث نفسي وأقول: لا يهم، المهم أني حصلت على صك الغفران من والدي، وسأرتاح قليلًا من هذا القالب القصديري الذي أعيش فيه. سأفكر في العمل لاحقًا، الدراسة ذكريات وأحلام، راحة وحرية.
لا، ليس هذا المهم وحده.. المهم هذا الـ "آدم"، الذي ظهر فجأة في حياتي، وشابهَ أغلى ما تمنته حياتي. لا ليس هذا المهم أيضًا.. المهم أن سارة في مصر.. فكرة وجودها في مصر مشجعة للدراسة هناك.. نعم، أحتاج فقط لدفعة معنوية لاتخاذ هذا القرار.
كان حديثي مع آدم جميلا من البداية. لقد بادرت بالتحية، لأختصر الوقت على نفسي وعليه. ناقشته في الكثير من الأشياء التي أحبها، والتي كنت أشتهي جدًا أن أجد أحدًا يبادلني الاهتمام بها. كنت مندفعة بالحديث معه عن الأدب والموسيقى وفلسطين.. لكن، عند نقطة معينة، وتحديدًا عندما تغير مجرى الحديث إلى النهر الشخصي، سقطت نقطة سوداء في صفوة المياه التي شدتني إليه كثيرًا.
رغم الألفة الغريبة التي أحسستها، إلا أن شعور أشبه بالخوف حام حول نفسي. ليس الخوف منه تحديدًا، بل الخوف من الظهور بشخصيتي الحقيقة على الانترنت. القصص التي أسمعها عن الانترنت تجعلني أرتعد رعبًا قبل أن أفكر أن أكشف شخصيتي لأحد، خصوصًا وأنا لا ينقصني أي مثقالٍ فوق وزن الوجع الذي يحط على كاهلي.
حين طلب آدم صورتي، سرحت في اللاشيء، أفكر باللاشيء، وغضبت من لاشيء!
لماذا شعرت وكأني استيقظت من حلم جميل على واقع مخيف؟ هذا طلب متوقع جدًا؛ لكن يحول بيني وبين إجابته تربية أكثر من عشرين عاما. يدفعني شيء من التمرد لإرسالها.. ناقمة أنا جدًا على هذه التربية، التي تفرض على الأنثى الأخلاق، والرجال لهم ما شاء أن يفعلوا.. إن أرادت المرأة أن تفعل شيئا، يجب أن يكون بتصريح من ولي أمر.. تمردت.. ولم يكن التمرد الأول في حياتي.
ما زلت حتى اليوم يصرعني التفكير بأسباب تمردي.. هل هو الحب، أو الجفاف، أو الكبت، أو القراءة؟ يقهرني هذا السؤال العنيد، يأخذني لفوهة الجبل، ويقذفني بقوة إلى قاع الأرض. قفزت فوق كل هذا، وقلت لآدم بمزاحٍ أخبئ داخله قلقي:
وماذا ستفعل بصورتي؟ هل تضمن لي أن تضعها في قلبك، وهل أثق بها هناك؟
أحيانًا، تتفوه بكلمات -رغم جمالها- تدفعك بالندم.. ربما باعتبارها طبق من الكرامة قدمته بالمجان لكي ينحره من يشاء، كيفما يشاء. في مثل هذه المواقف، لا يُحسن حُسن الظن زيارة عقلي. فبعدما قلت ما قلت ظهر التنبيه أسفل المحادثة بأنه شاهد رسالتي، لكنه لم يعد متصلًا بالإنترنت!
إحساس بالشفقة على نفسي يأكلني كلما تذكرت ذلك الموقف. لقد هممت مباشرة بإرسال صورتي له، لعلي أسعف هذا التجاهل، وأجد منه ردًا.. وأنا أرسل علامات الاستفهام أستنجد رده، كنت أصغر من أصغر طفلة في الأرض.. كيف لهذه التفاصيل الصغيرة أن توجعني مثلما توجعني المصائب الكبيرة بالضبط؟ لا أدري كيف تستطيع التكنولوجيا أن تتلاعب بمشاعري بهذا التكامل الموجع!.. لو أن شيئا ينشق من الأرض ويبتلعني.. لو أن أختفي هباءً منثورا.. نعم، الأشياء التي تمنيتها ليست لأن آدم تأخر بالرد عليّ أبدًا.. إطلاقًا.. بل لقدرة هذه التفاهة أن تحرقني بهذه الحرفية!
على قلق مضت الدقائق، وأنا أقلب صوره، أرى به صورة الرجل الذي أحببته، أو أدركت أني أحبه فعلًا عندما وجدت رجلاً يشبهه. مر الوقت مسافة إطعام طائرٍ في بحيرة الوجع.. مر الوقت، وجاء الرد متأخرًا، لكنه الأجمل، الأجمل.. قال آدم عن صورتي:
أنت أجمل من أمي في صباها!
أي رجل في الدنيا ذا الذي يقبل أن يرى امرأة أجمل من أمه؟! أي رجل يقبل بهذا التنازل الكبير؟! لا شك بأنه يجيد الدخول إلى القلب بسرعة، بنفسية المنتصر الواثق. الغريب، أني كنت أحس برغبةِ أن أنتزع اعترافًا منه بحبي، رغما عن العلاقة الطفيفة التي تجمعنا!
أنا لا أجيد تفسير كل شيء في حياتي. وهذا الموقف من ضمن تلك المواقف التي لا أستطيع أبدًا شرحها لنفسي، حتى بعد مرور الكثير عليه. قمت بالرد وأنا أسير بدرب الأدب والاحترام لصورة والدته، فلقد تخيلت كم قوية علاقة الأم الفلسطينية بابنها.. ذلك من خلال قصيدة محمود درويش "أحن إلى خبز أمي"، والتي غناها مارسيل خليفة.
قلت له: "الله يطول لك بعمرها، ما في أحلى من الأم، إنت بس عيونك حلوة".
لم أنتبه يومها بأني أتحدث باللهجة الفلسطينية معه. لم أنتبه حقيقة إلى ذلك إلا اليوم. كانت طريقتي بالحديث معه باللهجة الفلسطينية، بكامل عنفوانها، عفوية.. لكنه لم يتركني طويلًا سعيدة بهذا الإطراء الجميل؛ باغتني على حين فرحة بجواب أحزنني، وأصابني بحرقة وكأن الأمر يعني أعز صديقاتي؛ فقد أجابني بحزن:
"العمر إلك، إمي توفيت بالسرطان.."
كان تأثير هذا الرد قاسيًا على قلبي، حارقًا لحلقي.. أخذت من على الطاولة حبة اسبرين وتناولتها.. الأخبار المحزنة تذكرنا بأوجاع الجسد، الجسد الذي نتغاضى عن ألمه حين نجدف بسعادة في الحياة. أجبت باختصار ينم على عجزي عن التعبير في مثل هذه المواقف:
"البقية في حياتك"
رد مسرعًا، ومحاولًا أن يخرجني من جو الحزن الذي شعر بأني اقتحمته:
"حياتك الباقية.. أنا تجاوزت مرحلة الحزن، المهم آسف تأخرت بالرد، كان معي أحد على التلفون. نرجع لموضوع صورتك، أمسموح أن أتغزل فيها، أو تعتبرينني أتجاوز حدودي؟"
لو صدر الكلام عن شخص آخر غير آدم، لكان كفيلاً بأن أنهي الحديث معه في ذلك الوقت. لكن أنا لا أدري كيف أوافق وأقبل كل ما يقوله:
"إنت بحِق لك يلي ما بحِق لغيرك.."
شعرت حين أرسل لي رمز الابتسامة اللعين أنه حقق انتصارًا كبيرًا على ضعفي. لكن العبرة كانت بأني لا أمانع بقبول الهزيمة، إذا ما كان آدم غريمي. من هذا الثغرة، التي شعر بها آدم بدهاء شرقي خبيث، طالت الأحاديث معه، حتى وصلت لبرنامج المحادثات عبر الفيديو "السكايب"، ثم إلى الهاتف.
على مدار أربعة أيام متواصلة، كان يسمعني كل ما طاب لأذني من كلام.. كنت إذا ما شكوت له من أبي وأمي ينصحني ويذكرني ببر الوالدين.. لم يكن يسايرني بالغضب أو يتهمهم بالتخلف لكي يرضيني.. كان اختلافه معي بحد ذاته هو مصدر الثقة المتبادل الذي منحني إياه. حتى حين أطرح أسئلة وجودية، لا أستطيع ذكرها أمام أحد، لم يكن يتهمني بالزندقة ولا الكفر. كنت أصل من كلامه لقناعة تعزز إيماني أكثر؛ ولم أشعر أبدًا بأي نظرة سوء منه تجاه أخلاقي وتربيتي، كوني أقضي ساعات طويلة معه، وأسهر معه حتى الصباح.
أيام بوزن سنين، وجد فيها عقلي كل ما يحتاج لكي يبوح ما في تلافيفه. ومع أني كنت أتعذب جدًا في حياكة الخطط، للهروب من ملاحظة ليلي من انشغالي بالكامل عنها؛ إلا أنني كنت أشعر بالارتياح.. ارتياح كبير.. صرت أشتاق إليه في الدقائق التي يغيبها، أشتاق إليه، وأحن لسماع صوته..
أنا مجنونة فعلًا.. تخطيت بعلاقتي معه كل الحدود، حتى أني صرت لا أمانع أن يراني بلا حجاب. لا أرتدي أمامه ملابس مختلفة عن التي أظهر بها أمام أهلي. كان يمدح دائمًا انتقائي للألوان.. كان يقول إن ذوقي في الملابس أنيق جدًا جدًا، رغم بساطته.
فاتحته بموضوع الدراسة، وحدثت بما طرحه والدي لمستقبلي.. استغربت ردة فعله.. لم أفهم لماذا غضب، كنت أريد نصيحته، لم أرغب بشيء أكثر من ذلك!

آدم
من هذه المرأة التي تستفز إخلاصي تجاه كل ما تبوح به لي؟ من هذه المرأة التي أشعر بالعار إذا ما لمعت فكرة سيئة تجاهها في ذهني؟ من هذه المرأة التي تنتشل الكلام من جوف قلبي؟
أنا أجزم تمامًا بأن ريم من أولئك الناس الذين لا يعرفون الشر، ولا يعرفون كيف شكله.. لا يستطيعون التفكير به.. إن طيبتها وصراحتها جنونية؛ لم أضطر أبدًا لأن أكون خبيثًا في الحديث معها، لم أتصيد لها الزلات في الكلام، فعقلها مثل خزان مضغوط جدًا بالأفكار والأحاديث العذبة، وأنا الوحيد في حياتها الذي استطعت أن أمنحه حرية البوح والتعبير عما يكتنز من أحاسيس ومشاعر.
لم نغامر بالوقت في التعارف على بعضنا الآخر، كلانا نقب عن الآخر بحساباتنا الشخصية على العالم الافتراضي، وأنا اكتفيت بالقليل وبعض الاستنتاجات، لكي أقرأ شخصيتها وحياتها. لكني يجب أن أعترف أني كنت مثل شمس طائشة وقت الظهيرة.. كنت صبيًا طائشًا، يعيش بلامبالاة على قارعة الطريق.. غضبت بغير حق عندما علمت موضوع دراستها. لم يكن سبب غضبي مقنعها لأبرره؛ بل كان انتهازيًا بالكامل. كنت أريد أن أتأكد أن غضبي يعنيها.. كنت وسخًا جدًا بغضبي. في الحقيقة، غضبت لأتأكد من وجودها بحياتي، وتمسكها بوجودي بحياتها.
قلت لها بغضب مصطنع، مع خوف طفيف من الفشل فيما أطرحه من تساؤل بطريقة وصولية:
"يعني إنت بامكانك تسافري ومعك فرصة تدرسي بأي بلد وما خبرتيني من الأول؟ يعني في ايدك فرصة تخليني أشوفك وأحكي معك وأتاملك بالحقيقة وما بتحكيلي؟"
ردت بفزع، شعرت منه بأن الدموع على أطراف عينها:
"آدم، احنا ما بنحكي إلا من أربع أيام.. وهيني بحكيلك"
كان ذلك كفيلًا بأن يخرسني، لكني تماديت في غضبي بدون وجه حق وقلت:
ياااااه، يبدو أنوا سعري عندك مجرد أربع أيام!.. ما تخيلت انه معزة الناس عندك وزنها بالوقت. عمومًا أنا ما راح أرجع كلمك، ما راح أرجع أبدًا إلا لتبطلي تحطي لوجودي معك سعر، لا بالوقت ولا بالمادة ولا باشي..
سلام!
قلت هذا الكلام حرفيًا، وحظرتها من حسابي. نعم حظرتها؛ لكني في تلك اللحظة التي فعلت ما فعلت، صرت أشعر برائحة نتنة تفوح مني. أنا لم أفعل هذا إلا لأني واثق بأن طيبة قلبها ستعيدها لي راجية، وستقاتل الجميع لتأتي لمصر. كنت أريد قدومها بأي ثمن.. كنت أؤمن بأن هذه الوسيلة الوحيدة التي تحقق غايتي، وسيلة حقيرة وغاية نبيلة!
شعرت برعبٍ من فشل خطتي هذه. أردت العودة بالزمن إلى الوراء، لأصلح هذا الجرم الذي ارتكبته.. أي شيء سأفعله كي لا يكون ما كان، فأنا لا أريد خسارتها أبدًا. أنا أريدها فعلًا، فهي الوحيدة التي تفهمني، الوحيدة التي تحدثني بالمواضيع التي أحبها، الوحيدة التي تشبه عيناها عيني شهد..
كنت أظن أن وجعي مع شهد صقلني جيدًا، لكي أكون مخلصًا ورحيمًا بكل النساء. لكني -بعدما فعلت ما فعلت- تأكدت بأن الرجل لا يمكن أن يكون رحيمًا، ولا مخلصًا أبدًا، إلا بنسب متفاوتة، لا تصل بالمطلق إلى حدود الكمال.
ما زاد الطين بله، أني أقفلت هاتفي كي لا أعذب نفسي بالنظر إليه عساه يشفق على سذاجتي وترن ريم عليه.. أغلقت الهاتف، كي لا تعذبني الاحتمالات، وخرجت من البيت لأتناول الطعام. أنا مصاب بداء النوم بعد الأكل، فكانت غايتي بالأكل النوم وليس سد الجوع. فكرت بأكثر الأكلات التي تصيبني بالنعاس والخمول، فلم أجد أنسب من تناول الكشري، فهو الأسرع مفعولًا بالنسبة لي، وفي متناول يدي أن أضع الشطة على الطبق كيفما أشاء، فأنا من عشاق الأكل الحار جدًا، وهذا معروف عن أهل غزة، حيث هم معتادون على وجود الفلفل الأحمر والزيتون وزيت الزيتون والزعتر على كل وجبة طعام يتناولونها أيًا كانت..
طلبت طبق كشري من الحجم الكبير، أكبر من الطبق الذي اعتدت على تناوله، وأكلت أكثر من طاقتي. وما إن خرجت من المطعم وسلكت طريقي إلي البيت، حتى بدأ مفعول النعاس والخمول يملأني، حيث أني بمجرد وصولي لسريري لم أحتج أكثر من خمس دقائق لأنام في سبات عميق...
لا أدري ما الذي دفعني أن أكون نذلًا بهذا الشكل! كيف سمحت لنفسي التسكع في مشاعر امرأة؟ لماذا أجرح امرأة نقية كالتوبة؟ لماذا أحبسها في زنزانة ضيقة، وأحرمنا من نافذة الوصول؟ لماذا لم أمنحها فرصة لتبرير ذنب لم تقترفه؟ لماذا أوجعتُها، وتركت عينيها الساحرتين شاحبتين غريقتين بالدموع؟ كيف أركل امرأة آمنتني على وجعها وسرها ونفسها بهذه السهولة؟..
كنت أعلم أن ريم منحتني بتلك الأيام القليلة ما لم تمنحه لأحد طوال عمرها. كنت أعرف كم أرهقها كل حرف متمرد صدر منها. وكنت أعرف جيدًا جدًا كم ستعذبها الظنون.. أعرف أنها ستحترق وهي تفكر بأني قد أستغل أسرارها.. قد أبتزها.. قد أحرق آخر نبتة حب في قلبها..
لم أكتف بذلك.. حين استيقظت، هاتفت حسام صديقي، الذي تعرفت عليه من خلال "لي ياني"، من هاتف البيت، وسألته إذا كان هناك مشروع للخروج في ليل القاهرة. أخبرني بأنه سيذهب مساء إلى جاردن سيتي، حيث سيقوم من هناك هو وأصدقائه باستئجار مركبة "فلوكة" للاحتفال بعيد ميلاد صديقهم مينا، فسألته إذا ما كان حضوري سيزعج أصدقاءه، فنفى ذلك كليًا وقال إن "لي ياني" هي أيضًا صديقة لمينا، وقد دعاها مينا للحفل، وأردف قائلًا بأنني سنمكث في المركبة لساعتين في النيل، ثم سنتوجه لقهوة البورصة في وسط البلد.
اتصلت بـ "لي ياني"، وقبل أن أسألها عن شيء، أفادت بأنها تحاول الاتصال بي منذ أكثر من ساعة، كي أذهب معها ومع سارة لعيد ميلاد صديقها مينا.
من الأشياء الجميلة في مصر، أن أي شخص مقرب من صاحب مناسبة معينة، يستطيع ببساطة أن يدعوك لهذه المناسبة، وكأنه بموقع صاحبها بالضبط. طبعًا أجبتها بالقبول، فلقد كنت أريد أن أهرب من الوقت وحسب، وهكذا أستطيع تعذيب ريم، دون أن أشغل عقلي بالتخمينات والتفكير.
كانت "لي ياني" و "سارة" جاهزتين للخروج، فقد كان متبقٍ على موعد حفل عيد الميلاد ساعتان، والطريق من أكتوبر حتى جاردن سيتي يحتاج لأكثر من ذلك. لذا، جهزت نفسي بسرعة، وخرجت لاصطحابهما من ميدان الحصري، حيث كانتا ينتظراني.
الطريف أن سارة كانت تتصرف كأن شيئا لم يكن. شخصيتها مغايرة تمامًا لصديقتها ريم.. سارة امرأة قوية جدًا تحترف اللامبالاة، لا يهمها شيء، لديها أشياء أخرى تؤثر بها على العقل غير عقلها، مغرورة جدًا رغم تصنعها التواضع على الدوام، لكن ريم..
ريم مختلفة كليًا.. طيبتها مصدر آلامها. هي الانسانة الوحيدة التي تعرفت عليها في حياتي، ولم تكن طيبتها نتيجة سذاجة أو ضعف شخصية، بل على العكس طيبتها نقية جدًا، تحاول دائمًا الابتعاد عن المشاكل بحثًا عن السعادة. لقد فهمت شخصيتها جيدًا منذ صارحتني بأوجاعها، التي أعرف أكبرها مسبقًا.
أخفيت عن سارة ما حدث بيني وبين ريم، في نفس الوقت الذي كنت أبحث في عينيها عن سؤال ريم عني. لكن لسوء الحظ، سارة ليست بالمرأة السهلة، وهي ذات عيون غامضة، لا أجيد قراءتها.
كانت في البداية شخصيتها الماكرة سببًا لأن تتأرجح ثقتي بريم ما بين الصعود والهبوط، وكنت أقسو على ريم بذنب سارة، حتى أني لم أكتف بما فعلت يومها بريم، بل زدت بكأس النذالة جرعة خسة أخرى، وأخذت عن عمد في الحفل العديد من الصور مع "سارة" و "لي ياني" وصديقاتهن بكاميرا سارة، كي تقوم برفع الصور لحسابها على الفيس بوك، وتراهن ريم، فيحترق قلبها بالظن أكثر أني أفشيت أسرارها لصديقتها سارة!

ريم
في ركضها أعصابي تسابق الزمن، وكل عَصَب ينافس الآخر على التلف. موحش جدًا أن ترى الأمل في عين أحدهم، ثم سرعان ما تجده يتلاشى هباءً في الهواء.. ما أسوأ أن تعطي اليائس أملًا، ثم تسلبه بغير مبررٍ نافع. استقامت نفسي بآدم لأيام، ثم ارتدت أكثر انحناءً بهروبه، فصرت أشبه بشجرة حدباء، مثل النخيل في آخر عمره.
أعاني من شذوذ الفكرة.. يستحيل الحب بهذه الطريقة.. آدم وهم؛ وهم وأبعد ما يكون عن الحقيقة.. هذه شُرذمة مشاعر سقطت من كبت، من جفاف، من أسى، من جزع.. كان يملأ يومي، يحدثني بما أحب، يناقشني بما أهوى، ثم يعذبني لكي أهواه!
لا أريده.. لا.. لا يهم، وليكن له ما يريد.. سأتصل به وأعتذر له.. أنا واثقة به.. أنا ضائعة به.. أنا أريده.. أنا أهذى بالمساحة التي احتلها بي.
يا الله! إني مكسورة يا الله.. لا يمكن أن أكون قد وقعت في حبه! لا يمكن أن أحب بهذه الطريقة النكراء! لا يمكن أن تولد المشاعر دون لقاءٍ وجها لوجه!.. أتضرع إليك يا الله أن أفهم نفسي.. ماذا تريد نفسي؟ وما هذا الهراء الذي احتلني؟!..
تضخمت الصبابة في قلبي، فإذا بي أحاول الاتصال بهاتفه. أحاول الاستسلام له كما يجب، أحاول أن أعيده لحياتي، أريد صوته، كلامه، ردة فعله.. أريد عودته وحسب، والتفاصيل لاحقًا.
"الهاتف الذي تحاول الاتصال به ربما يكون مغلقا"
أريد من الأسطوانة أن تقول بوضوح أكثر، هذا الشخص الذي تحاولين الاتصال به سينحر كرامتك، فابتعدي قبل أن تتورطي أكثر.. هذا الشخص عرضة لأن تحبيه، فداوي قلبك قبل المرض.
وجدت نفسي أرسل له رسائل اعتذار بلا توقف. أسرفت بالأسف، ولم يصل أي رد منه. وكلما أرسلت رسالة له، كنت أشعر بالقرف.. أشعر بالقهر وأنا أُقحم نفسي عن عمد في الضياع والمراهقة.. مزاجي تبدل لدرجة لا تُسفعها القهوة. طوال اليوم أحاول الاتصال به بلا جدوى الوصول إليه. أشرفت جفوني على ضمِّ البكاء، لكن بقايا عقلي رحمتني من مثل هذه الحماقة.
ورغم القرف والقهر وتبدل المزاج، دفعتني رغبة غريبة بالحديث إلى سارة، أستفسر منها عن غيابه بسياق عفوي. فتحت حسابها عند منتصف الليل، وقبل أن أقوم بفتح محادثة معها، وجدت عددًا من الصور لها، وآدم، وبعض النساء.. لقد أضافتها سارة قبل دقائق!
ضحكت من قلبي، وسخرت من كلي، أنا التي أمزق نفسي من أجله..
علقت على بعض الصور، ووضعت على جمعيها إعجابًا، ثم قمت بتناول هاتفي المحمول، وحذفت رقمه.
تخلصت منه، كأي كابوس ينتهي بيقظة!

آدم
عدت للبيت بعد سهرة جميلة وسط النيل؟ كانت جميلة بالفعل، المركب الذي يحملنا كان يحمل على ظهره من الضحك والمزاح والرقص والفرح ما يكفي مدينة بكاملها. نحن في وسط النهر، وعلى الجانبين تطل الأشجار، في منتصف عرض الماء، النقطة الأنسب للابتعاد عن الضجيج والزحام.. في المنتصف، نرى كل الأشياء صغيرة حولنا، وحدها السعادة هي التي نراها كبيرة.
دائمًا ما أتخيل نهر النيل رجلًا قوي البينة، يحمل على ظهره عناء البلاد، ويرتكز على عناد أهلها وروحهم الندية.. لا شك بأنه هو كذلك بالفعل، فهو الشريان الأعظم لأم الدنيا.
كان من المفروض أن نذهب إلى قهوة البورصة بعد ذلك؛ لكن لوجود الكثير من الأجانب من أصدقاء مينا يزرون مصر لأول مرة، فضلنا الذهاب إلى نزلة السمان لركوب الخيل، حيث ستكون التجربة أجمل، بما أن الليل قد عسس في جذعِ اليوم. لقد كانت المرة الأولى التي أرى فيها الأهرامات مضاءة في الليل. النظر إليها من بعيد، من على سفح تل يلخص قليلًا من عظمتها، بلقطة واحدة فريدة وجديرة بالتجربة من على ظهر الخيل. وفي طريق عودتنا من منطقة الأهرامات إلى أكتوبر، كانت "لي ياني" تغني لعبد حليم بشكل مضحك. طريقة نطقها للكلمات باللغة العربية كانت طفولية جدًا.
كانت ريم غائبة تمامًا عن ذهني. كان تناسيها ناجحًا جدًا. لذلك، حين عدت للبيت، عزمت على تصليح تلك الحماقة التي ارتكبتها في حقها، لخوف طفيف من خسارتها للأبد، ولشيء من تأنيب الضمير اختلجني.
جلست لأرتاح على الأريكة وأصلح ما أفسدته مع ريم. وضعت اللاب توب أمامي، وبجانبي الأرجيلة التي كنت قد جهزتها للتو. كنت متوقعًا أن ريم قد أرسلت العديد من الرسائل على هاتفي المحمول، لذا فتحت الهاتف، بعدما كان مغلقًا طوال الوقت.
بمجرد ما إن فتحت الهاتف، حتى توالت نغمة الرسائل على تكرار رنتها. كان عدد الرسائل كبير جدًا، معظم محتواه رسائل اعتذار، باستثناء آخر رسالة.. كانت: "حقير".
وكانت كفيلة بتنبيهي أنه لم يعد لدي متسع من الوقت لأن أكون مزعجًا وخبيثًا أكثر من ذلك. كانت كفيلة أيضًا بأن تذكرني أني ما زلت وضيعًا، كما كنت في الكثير من المواقف مع شهد. يبدو أن الذي يبتلى بداء مثل هذا من الصعب جدًا أن يشفى منه. إن معظم الأمراض يمكن شفاؤها أو التقليل من نسبة دائها، باستثناء الطباع السيئة.. تولد معنا، ونموت وهي فينا.
كتب لها رسالة نصيًا فحواه: أنا آسف، فعلت ذلك لرغبتي الشديدة في لقياكِ. أعتذر مرة أخرى، أعرف أني تماديت في غضبي بغير صفة واضحة لوجودي في حياتك.
كنت أعلم مسبقًا تأثير هذه الرسالة عليها جيدًا، وكنت على يقين بأنها ستصلح كل شيء، خصوصًا مع قلبٍ طيب ونقي مثل قلب ريم. أزعجتني حالتي وأنا أرسل هكذا كلمات، بالنسبة لي مستهلكة، وبالنسبة لغيري مؤثرة؛ فقد كنت أسحب أنفاس الأرجيلة بهدوء وبرود لا يليق بإنسان سوي.
تخيلت نفسي كقاضٍ فاسد، يصدر ببساطة أحكام الموت على المعتقلين وهو يدخن السيجار. شعرت أني حقيرٌ، بالضبط كضابطٍ معقدٍ، في معتقل يختطف المعارضين والسياسيين، في بلادٍ لا عدل فيها. منفرٌ ومزعجٌ جدًا أن تتذكر بشفافية طباعك السادية والسيئة بحق الآخرين.. أن تحاسب نفسك أسوأ من أن يترأف بك الآخرون.
مرت دقائق قليلة جدًا على ارسال اعتذاري المتملق لريم.. لم تتأخر بالرد، بل على العكس، جاء ردها بريئًا وعفويًا وخجولًا، فيه حروف العتاب بالكاد تظهر.
" أنا أيضًا آسفة. لا يحق أن أنعتك بأي صفة سيئة، قدرك كبير في داخلي. سأخبرك بكل شيء، وأفعل ما تنصحني به بالضبط".
لم أكن أدري كيف أتعامل مع هذه الرسالة. هل هي ساذجة لهذا الحد، أم هي طيبة بالشكل الذي لم يعد يصدقه أحد، في عالم يضج بالمنافقين والمرائين؟ كيف لهذه الطفلة البريئة أن تكون صديقة سارة اللعوبة؟!
من هذه الأسئلة انبثقت ثقتي بها، وزاد إعجابي بوقار قلبها، بعد أن عادت العلاقة لطبيعتها. كان ضميري يؤذيني بشكل كبير، فأحببت أن أبرر وجهة نظري أمامها، وطلبت منها أن تتواجد على الإنترنت، وسأضيفها مجددًا.
ثقتها العفوية، وقبولها الساحر أجبرني على التخلص من أي خبث في التعامل. شهد، لذكائها ومكرها الجذاب، الذي كنت أقع في شباكه دائمًا، أثر بشكل كبير في تعاملي مع الأنثى. ريم كانت مختلفة كليًا عن كل من عرفتهن من نساء.. كتومة لحزنها، وطيبة جدًا بشكل يعجز عقلي عن وصفه. كانت أطيب من كل النساء المظلومات اللاتي ذكرهن الأدباء في رواياتهم، وأرق من كل النساء اللاتي ظلمن أنفسهن بالحب..
لذلك، أخذت عهدًا على نفسي ألا أتلاعب بمشاعرها إطلاقًا، حتى ولو كانت غايتي نبيلة.
قمت بإبداء احترامي وأسفي لها بشكل صادق لا لؤم فيه.. ولدت في ذاك اليوم من جديد. معظم البشر الذين تحجرت قلوبهم، كانت بسبب مواجهتهم لتجارب سيئة، وأُناس ساقطين. نادرًا ما يحصل العكس، ويلين قلب أحد أمام الطيبين.
بررت بصدقٍ لريم سبب تصرفاتي، وشرحت لها بحق غايتي في ذلك، وناقشتها في حقيقة مقتي للعلاقات الافتراضية، وتخوفي الشديد من سرعة ذبول إشراقتها، فهي في غالبيتها تمر بثلاث مراحل في وقت قصير؛ بداية من الشغف، ثم الملل، ثم النهاية. أوضحت سبب ذلك، ونجحت في إقناعها بأن محاولة تطبيق المشاعر والعواطف من خلال كتابات ورموز نصية هو أمرٌ في غاية السخافة، وأننا لو تغللنا في حوادث الفراق العصرية، لوجدنا أن معظم النهايات انتهت عبر مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي. أنا بالفعل لا أدري كيف يقبل العشاق التخلي عن لغة الجسد ولغة العين! كيف يصدق الطرف الثاني أنك بالفعل خجول، إذا ما أرسلت له رمز للخجل، بينما قد تكون في محادثة أخرى أرسلت للتو رمزًا يعكس حالة عصبية! كيف نقبل أن نصاب بهذا الداء القاتل؟ ثم سرعان ما ينتهي العشاق بالاستنتاج الساذج "الحب كذبة"! ليس الحب كذبة، بل أسلوب الحب هذه الأيام ساذج!
"آسف لم أر رسالتك"، "جوالي كان بعيدًا عني"، "هل أرسلت لي، لم أتلق أي رسالة منك"! هذا النوع من الكذب المتداول في العالم الافتراضي لا يمكنك تكذيبه. مجرد تكذيبه هو بداية فقدان ثقة، ومجرد البدء في استخدامه هو بداية النهاية الساذجة لأي علاقة، سواء حب أو صداقة.
سألتها بشكل واضح: ما متعة المحادثات المطولة التي لا تنتهي حتى ساعات الصباح؟ هل تستطيعين أن تكوني ذكرى حية من ألف محادثة؟
أجابتني باختصار ينم عن قناعتها بكلامي: لا
سألتها أيضًا بدون مقدمات: هل ستأتين إلى مصر؟
تأخرت بالرد كثيرًا، فخمنت أنها تفكر بالموضوع، لذا لم أعد السؤال عليها. عادت تتحدث بعد قليل، بلهجة يغلب عليها جدية كبيرة:
لقد خيرني والدي بين العمل أو الدراسة في الخارج، وأنا فضلت الدراسة، لأني أريد تنفس الحياة بعيدًا عن هذا السجن الذي عشت فيه طويلًا. وقد أعطاني مهلة أسبوع لأقرر أيهما سأختار، وأنا إذا ما أخبرت والدي عن رغبتي في الدراسة سيفضل أن أسافر إلى أوروبا. لكن -لحسن الحظ- سارة متواجدة في مصر، ووالدي صديق لوالدها، تجمعهما بعض المشاريع الاستثمارية. سيكون وجودها في مصر حجتي لإقناعه بسفري ودراستي هناك.
صمتت لبرهة، ثم أكملت:
لن أكون مجرد كائن افتراضي في حياتك، ولن تكون أنت كذلك في حياتي. هذه ستكون آخر محادثة تجمعنا، إلى أن أفاتح والدي بموضوع السفر. فإن قبل سفري، سأحدثك عن موعد وجودي في مصر.. وإن رفض، لن تستطيع الوصول أو الاتصال بي مطلقًا.

ريم
كنت أتسحب بالنزول من على سياج السلم، فقد ارتوى قلبي راحة وثقة أشبعته لحدود الهذيان. وجهي كان يرسم ابتسامة تلقائية لا مجال لإخفائها. لم تكن لدي أسباب قوية للفرح في حياتي.. أبسط الأشياء تُسعدني، ربما ذلك لأني أخمر أوجاعي لنفسي، ولا أُعرضها ولا أَعرضها لهواء الآخرين، وهذا ما يجعل أتفه الأمور ترهقني، وأقل أسباب السعادة تُفرِج في قلبي حرية الفرح.
أختي كانت تجلس على الأريكة تقلب محطات التلفاز. لفت انتباهها شرودي، حيث صاغت ملامحها نظرة استفهام تسألني ماذا جد؟
أجبتها بشيء من الدلع "لا شيء". كانت غايتي من السؤال استفزاز فضولها لا أكثر، الأمر الذي سيجعل الحديث في الموضوع أكثر جدية.
أغلقت التلفاز، ثم ركضت باتجاهي وأمسكتني من يدي وقالت: "شكلك مسوية مصيبة، تعالي نطلع فوق وقولي لي".
سردت لها ما حصل بيني وبين آدم بالضبط. كان لوجود سارة في الموضوع فائدة تحميه من سخريةٍ ورادة. لم أقل لها كل شيء مباشرة؛ كنت أسبر أرضها بأسئلة، ومن جوابها إما أن أستكمل كلامي، أو أعدل عن الحديث عنه. ليلى كانت مبهوتة ومصعوقة من حديثي.. لم تكن تستوعب أن أختها المطلقة قادرة أن تخوض تجربة كهذه، وسط هذا الانقباض التربوي الذي يحط على صدورنا، ولم تكن تتخيل أن والدي من الممكن يومًا أن يمنحني فرصة الدراسة في الخارج. أنا شخصيًا لم يكن لدي تفسير واضح لذلك، ولم أشغل عقلي بهذه النقطة كثيرًا؛ ذلك أني أردت السفر بشدة.
وعندما حدثتها عن كل شيء وعن رغبتي بالسفر، اتهمتني بالجنون، وجادلتني في كل نقطة، وسألتني عن كل التفاصيل، وجلست لأكثر من ساعة تستعرض كل التخمينات السلبية والصعوبات التي قد تواجهني. شعرت من أسئلتها أنها لا تريد لي السفر. تقول ذلك عن طيب قلب، حيث كانت ما بين كل سؤال والآخر تعاتبني وتقول "ستتركينني للمرة الثانية"، "ماذا أفعل لوحدي مع غانم؟"، "أليس من الأفضل العمل عن الدراسة، بما أن هذا الخيار متاح لك؟".كان لسانها لا ينفك بالتعبير عن رغبتها في بقائي إلى جانبها، لكن الموضوع لم يقف عند هذا الحد، بل تجاوز وتغير مساره كليًا، عندما قلت لها بأنها سوف تتزوج في أي وقت، وسأكون أنا في هذه الحالة مجبرة على البقاء وحدي.
بعواطف بائسة، وبشكل مباشر فهمت منها سبب بعدها عني خلال الفترة الماضية، وسبب نظراتها الاستنكارية التي كانت تحاول إخفاءها عني. ردت قائلة بأنها قد لا تتزوج أبدًا بسبب طلاقي، فمن ذا يتزوج من امرأة أختها الكبرى طلقت بعد أقل من شهر على زواجها؟
كان كلامها صادمًا وموجعًا، هتك أملي. ماذا عساي أقول لها؟ ما أفعل كي أداوي غيظها مني؟ عندما يأتيك العتاب من أقرب الناس إليك، على شيء لم تقترفه أو لم تكن مسؤولًا عنه، تشعر بالخوف والرعب، فيكون عقلك في كامل وعيه، لكن لا تستطيع التفكير، ولسانك في كامل بلاغته، لكن لا تستطيع الحديث.
شعرت بغثيان شديد، ولم أتمالك نفسي الخانقة، وبغير قصد ولا إرادة وجدت نفسي أنجرف في البكاء بشكل هستيري، من شدة العذاب الذي حل فجأة على كبدي.. كنت أرى ما حولي، لكن لا أسمع إلا صوت نحيبي..

آدم
مر أكثر من أسبوع، وأنا لا أعرف عن ريم شيئًا. في هذه الفترة، كنت أخرج كثيرًا، كي لا أفكر بها ولا بفكرة قدومها. وكانت علاقتي بسارة تتحول شيئًا لشيء لمفهوم ثابت؛ مجرد صداقة، لا تزيد في سقفها عن ذلك أبدًا. صارت بالنسبة لي امرأة متحررة، أحب جدًا معارضتها، وهي تحب أن (تجاكرني) بالحديث وتعارضني على أي شيء، وهذا بحد ذاته كان يخلق متعة بالنسبة لي.
"لي ياني" كانت دائمًا تفصل بيننا كلما زادت حدتنا في الحوار، إما بمزحة أو بطرح رأيها بعقلانية. كان تحجيم علاقتي بسارة بشكل معين يدفعني لأن أفكر بريم بشكل أكثر، وبصورة في قلبي أكبر.
أنا مقتنع بشخصية ريم، وكلامها الأخاذ الممزوج بالخجل يسحرني. أحب المواضيع التي تتحدث بها، ويسعدني تشابه الاهتمامات بيننا.. أحب جمالها البدوي، ونضارة ملامحها التي لم تستطع هالة الحزن -على شدتها- أن تخفيها.. أحب عينيها اللوزيتين اللتين يرتكز عليهما محور جمالها. أريد أن أراها على طبيعتها، وأرى كيف تغمض عينيها، وكيف يحط الرمش على الرمش.. هل سيكون -مثلا- مثلما يحط الحمام بجناحين على غصن شجرة؟
أصبت هذه الفترة بمتلازمة تصفح الرسائل. كان أكثر ما يعذبني الرسائل الدعائية، التي تصل من شركات الاتصالات. في كل مرة أسمع رنة الرسائل، أركض وقلبي يركض قبلي، وأصطدم حين تكون الرسالة دعائية، فأشعر بخيبة كالخيبات الكبرى. ولسوء حظي، كانت عدد الرسائل التي تصل يوميًا مذهلًا، مقارنة بالأيام العادية، حتى كادت تسبب لي حالة من العذاب النفسي، الذي دفعني حقًا لأن أدمن التفكير بهذه المرأة.
خارت عزائمي عندما تذكرت أنها مطلقة. هل يعقل أن أغامر بالدخول في علاقة مع مطلقة؟ كيف سينظر لي أصدقائي وأهلي؟ هل سيعايرني بذلك أحد؟..
أوجعتني كثرة الأسئلة على هذه الشاكلة. ولسوء أفكاري -كرجل شرقي لم يتخلص من نزعة السيد والتملك- فكرت بفجاجة بأن أصاحبها وأتسكع معها، دون أن آخذ أي علاقة معها على محمل الجد؟
ما أقذرني! كيف أفكر بذلك وأنا أدعي أني شخص متحرر؟! كيف أفكر هكذا، وأتبني في فكري الدفاع عن حرية المرأة؟! كيف أفصّل وأقسّم وأوزّع مشاعر هذه المرأة، كمن اكتنز لقطة مالية من على الرصيف؟! كيف أكون استغلاليا، انتهازيا، حقيرًا بهذا الشكل؟!
أذكر، في اليوم الذي راودتني هذه الفكرة، أني تعثرت بصورة منشورة على الفيس بوك، كان مخطوطا بها كلمات للدكتورة نوال السعداوي تقول فيها:
"يتشدقون بالدفاع عن النساء المقهورات، يكتبون عن حق المرأة، يتنافسون على إقامة علاقات مع المرأة المستقلة الحرة.. شرط ألا تكون زوجة لأحدهم"
جلست مرتعدًا أنظر حولي حين قرأتها.. شعرت ببعض التشنجات الفكرية في عقلي. ومن شدة احتقاري لنفسي، كنت أشعر بأني أرتجف بردًا في فصل الصيف، في مدينة صحراوية مشهود لها بشدة حرارة طقسها.
عرتني هذه الكلمات عن شخصيتي المنافقة. سألت نفسي: لو كانت هذه المرأة المطلقة أوربية، هل سيشكل ماضيها فرقًا بالنسبة لي؟.. الجواب كان واضحًا!
لماذا يشكل ماضي المرأة العربية خصمًا ضد أي علاقة قد تنشأ، ولماذا ماضي الرجل لا يشكل أي فرق؟! كم إن حالتي الثقافية والفكرية مزرية! قصم هذا الموقف ظهري، ووضعني على المحك.. إما أن أكون رجلًا كما يرى عقلي مفهوم الرجولة، وإما أن أكون رجلًا على طريقة المجتمع الذي شوه مفهوم الرجولة.
أردت رتق هذا الفتق الفكري، الذي يفضح ازدواجيتي، بمداوة سقمه. وضعت نفسي أمام الورقة والقلم، وبدأت أجلد نفسي وأناظر زيفها بأقسى الأفكار. ظللت طوال الليل وحتى ساعات الصباح أهجو نفسي وأعاقبها، حتى قومتها. لم أكن لأستطيع تقويمها، لولا اعترافي بتخلفها وتفاهتها وحمقها..
لا أدري كيف تكاثرت الصدف كعنقود العنب. في اللحظة التي عدلت فيها اعوجاج فكري، وصلتني رسالة من ريم تقول فيها:
"آدم، آدم، آدم،
أنا حجزت تيكيت الطيارة لمصر،
رحلتي بعد بكرة. ما راح أكلمك إلا وجهًا لوجه، لما أن أصل مصر"
كانت رسالتها ذات نكهة مشمشية، محفورة على أورقٍ ذات شكل قلبِي، تحيط الصدف بأطرافه المدببة. كنت حينذاك أستمع لمقطوعة من موسيقي الجاز تسمى " Jordu"، لعازف البوق الشهير "كليفورد براون" وعازف الإيقاع والملحن الأمريكي "ماكسيول روتش". أنا من عشاق الموسيقى التي تستخدم فيها آلات النفخ كالبوق والساكس فون، فهذا النوع من الموسيقي يبعث في قلبي الفرح؛ لذلك، بمجرد ما قرأت الرسالة، وقفت أرقص كالمجانين، وأضع الخنصر فوق البنصر وأنفخ بهما، كأني عازف متمرس على الترومبون.
لأول مرة أتصرف بجنون هكذا، على عكس طبيعتي وشخصيتي التي يغلب عليها طابع الكياسة والهدوء، لكن إشارات القدر، التي كانت تصب كلها في صالح علاقتي مع ريم، تجعلني أشعر بالبشاشة والتفاؤل، وتصفي أفكاري وأخلاقي، لتصير أكثر وقارًا واحتراما.
بدأت أشباح خيالاتي ترسم توقعات للقاء الأول.. كيف ستكون شخصيتها في الواقع؟ أهي خفيفة الظل؟ أو غليظة الحضور؟ هل ضحكتها جميلة، أم قليلة الحظ؟ ثم هل هي أنيقة حقًا، أو فقط خلال الصور؟ هل لديها عطر مميز؟ هل هي أطول مني أم أقصر؟ كل هذه الأشياء لا تنجح عملية تبادل الصور في فضحها. لو أني في قبضتي آلة الزمن، لسرَّعت أداءها قليلًا.. لو أن في يدي مطارًا، لعدلت جدول رحلتها كي تخرج الآن..
تمالكت ملامحي بضراوة، لأتجنب أي سؤال قد يعرضه أصدقائي الذين يقيمون معي في الشقة، فأنا حقًا لا أحب الخوض في مثل هذا الأمور بشكل مباشر. قد أكتب عنها نعم، لكن لا أقولها لأحد؛ وذلك أني أجعل الحقيقة في الكتابة تحتمل التأويل، ولا أكشفها بالمطلق، وكأني أخلط سكر الواقع بشاي الخيال. أريد لحياتي بداية نقية، تمر من كفة الحابل، وتترك الماضي بأوجاعه فوق المصفاة.. أريد حياة كالحياة وحسب.. أساسها مستقر، وجمالها صافٍ كعيون الريم.. أريد أن أعيش حياتي التي لم أعشها بعد.. أريد أن أتوه في خمائل الحب وأبني بيتًا صغيرة في خميلة!

ريم
تأنقت، ولم أتعد حدود بساطتي؛ لكني أسرفت في نثر عطري الخاص على ملابسي وباطن كفي.. لا لشيء، ولكن لأربط هذا اليوم بكل الحواس الذاكرة. لم أكن مضطرة لأن أبوح لسارة بشيء، فذكاؤها كفاها لتفهم كل شيء. ومن الطبائع الأوربية التي أثرت بها بشكل واضح، عدم تدخلها في حياتي الشخصية، بل بعفوية تشجعني على التجربة، ولا تكف عن تذكيري أني خلقت حرة.
إن وجودي مع سارة لهو شيء مشجع لأي تمرد قد أخطو به. فالتمرد لا يحدث إلا نتيجة دلال كبير، وكبرياء يصل لمستوى الغرور، وهذا ما كانت ينطبق كليًا على سارة.. أو نتيجة كبت وظلم وقهر شديد، وهذا ما هو حالي بالضبط.
كنت متعبة جدًا من السفر. وصلت رحلتي الساعة 11 صباحًا، والطريق من المطار إلى مدينة 6 أكتوبر في هذا الوقت كان مزدحمًا جدًا، كما أن اليوم الذي سبق سفري، بذلت فيه جهدٍ مضن لترتيب حاجتي وشراء مستلزمات رحلتي.
افترضت أن اللون الأزرق هو المفضل لدى آدم، من لون مدونته التركوازية، ومن خلال إدمانه للأغاني والموسيقي الرحبانية، التي كتب عنها يومًا في مدونته. أخذت العادة أن معظم عشاق فيروز هم عشاق اللون الأزرق.. ذلك واضحٌ من عشق الرحابنة للأزرق، الذي انعكس على كلمات أغانيهم، "وطني يا جبل الغيم الأزرق"، " سهرنا يا ليل الأزرق"، "عالمقعد الأزرق على قمر السكران"، "من حقلة الزنبق نقت قمر أزرق"، والكثير من الأغاني التي كتبها الأخوان الرحباني ذُكر فيها اللون الأزرق، حتى أن الاسم الفني للسيدة فيروز يحمل في كينونته إحدى درجات اللون الأزرق. هذا بالإضافة لتعليق مدح للون الأزرق لآدم، عن رواية الضوء الأزرق للكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي، فالأزرق مرتبط بالمبدعين كارتباط الظلم بقضية فلسطين.
في الفترة التي انقطع الكلام بها مع آدم، كنت أحاول تكوين صورة عن اهتماماته وصفاته، والأشياء التي يحبها. من هذا المنطلق أردت أن يكون لقائي الأول معه.. فكان أن قررت أن يصبح محفوفًا بالأزرق الذي يحبه، فأنا أعشق الاعتناء بالتفاصيل عناية النحات بتمثال أمه.
ارتديت بلوزة جينز مخططة بالأزرق والأبيض، مع بنطلون جينز.. كانت المرة الأولى في حياتي التي أخرج فيها بغير عباءة سوداء. كنت مع سارة وصديقتها "لي ياني" اللاتفية، توجهنا للقاء آدم في المقهى الذي اعتادوا الذهاب إليه، وأنا أرتب اليوم في ذهني كما لو أني أنسق باقة زهور، أحاول ألا تعارض روح آدم اللا ملموسة حقيقته على الواقع، حتى إنني قد تعبت من تخيل شخصيته، ومن استنتاج عمقه، كي أشعر بأني أعرفه منذ أعوام.
بدا أنهم يأتون باستمرار لهذا المقهى. فبمجرد دخولي مع سارة و"لي ياني"، هلت الترحيبات، وكأنهما في زيارة لبيت إحدى صديقاتهما. لم أدر ماذا أفعل، فصمتُّ يعتريني الخجل. كنت مبهورة بسارة جدًا، فخلال خمس دقائق طالت، من باب المقهى للطاولة التي يجلس عليها آدم، سلمت سارة تقريبًا على كل الرجال في المطعم. كانت تصحبني من يدي، وتعرفني عليهم واحدًا تلو الآخر، وكنت غاية في الارتباك، فلم يسبق لي الالتحام بموقفٍ كهذا.
قال أحد العاملين في المقهى موجهًا كلامه لي: "إنتي حبيبة آدم، إللي جايبلك الورد معاه، صح كدا؟"
يا الله! ماذا فعل هذا المجنون؟ كيف يقول ذلك؟ لقد وضعني بين غمار السحاب، وتركني أواجه عيون سارة.. أضرم النار وهرب!
كان هذا الموقف كثيرًا جدًا بالنسبة لي، أفقدني توازني وتركيزي.. لاحظت سارة أن خجلي اعتلى لمرحلة الرعب، فحاولت أن تنجدني موجهةً كلامها إليه: "مايبقاش اللي في قلبك على لسانك دايمًا، إنت ممكن تودي الناس في داهية من ورا كلامك ده".
كان واضحا جدًا أن سارة اندمجت مع الحياة في مصر بسرعة. أضحكتني حين تكلمت باللهجة المصرية، فأنا معتاد على لهجتها المركبة من الإنجليزية والعربية. حتى لو تكلمت بلهجتنا، لكان ذلك مضحكًا أيضًا.
جُملة ذاك العامل كانت المفتاح، الذي وضعني بصورة إجبارية في علاقة مع آدم أمام الناس، على رغم أني لم أنبس -لا أنا ولا هو- بأي كلمة تضع سوارًا لحدود علاقتنا.
ركضت "لي ياني" لتسلم على آدم وتقبله. كانت تهامسه بشيء ما، وهو يعلق نظره تجاهي، فأردت الهروب من عينيها ونظرت للأسفل.
شهقت لا إراديًا، بطريقة أثارت انتباه الجميع.. ولو كنت بوعيي في ذلك الوقت، لجعلت حتى أنفاسي في وضعٍ صامت.. لقد أدهشني ما رأيت.. أدهشني حقًا..
أدهشتني يا آدم..!


آدم
التفاصيل الصغيرة.. التفاصيل الصغيرة..
تحب النساء الرجل الذي يعتني بالتفاصيل الصغيرة. لا بد من لفت انتباه ريم باهتمامي بالتفاصيل، بل بأدق التفاصيل. هكذا ظللت أردد لنفسي بصوت نفسي الساكنة هذه الملاحظة. ولأن اللقاء الأول هو الأكثر خلودًا على معارض الذاكرة، كان لا بد من إتقان الاهتمام بتفاصيله على أعلى مستوى.
أول ما خطر على بالي، كانت زهرة الأوركيد، التي عرفت من خلالها الوصول لريم. لم أتردد في الذهاب لمحل الورود في مول العرب، والذي لا يبعد كثيرًا عن بيتي. كنت متخوفًا جدًا ألا أجد هذا النوع من الزهور ، لكني حمدت الله حين وجدته متوفرًا لدى المحل الذي يقع في منتصف أحد ممرات المول الكبير.
لم أقتنع بجمال الورد وحده، كنت أريد شيئًا أكثر عبقرية واختلافًا. تذكرت أني أحضرت معي من غزة مرطبان، وضعت فيه قليلا من رمال البحر وبعضا من أصدافه وصخوره.
هذه الأشياء البسيطة التي أقتنيها تعني لي الكثير، ولا أدري كيف خطرت على بالي حين اشتريت أزهار الأوركيد. رجعت إلى البيت وأخذته، مع بعض الأدوات التي سأحتاجها، وغايتي في ذلك تنسيق الزهور باستخدامهما على طريقة "إيكيبانا" اليابانية، التي تهتم بالبنية الشكلية لنسق الزهور أكثر من كمية الزهور وألوانها. هي طريقة تنسيق تعتبر أحد الفنون اليابانية التراثية، التي ترجع للقرن السادس للميلاد.
أخذت أكبر الصدفات البحرية التي عندي، والتي كانت بحجم كف اليد، وثبتها على قاعدة خشبية، ثم ألصقت أغصان الزيتون فيها وحولها، على الطريقة الحرة (موري-بانا)، ثم وضعت بعض الصخور الصدفية الصغيرة حول الأغصان، كي تبدو وكأن الصخور تربتها. ذكرني ذلك بمطلع قصيدة "أجمل حب" لمحمود درويش : "كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة... وجدنا غريبين يوما". وضعت الأوركيد عليها وهي تدير وجهها للسماء، وعندما انتهيت شعرت بالفخر وأنا أنظر إليها. لماذا لم يخطر على بالي فعل ذلك من قبل؟ الصخور عندي، وأغصان الزيتون كذلك، والأزهار متوفرة حولي، وكل شيء في متناول يدي. لكن وراء الفكرة الجميلة امرأة رقيقة غزت حياة رجل بقلب أنثى!
نظرت صوب عينيها لخمس ثوان، قبل أن تحول بصرها عني. كانت تلك إشارة واضحة للتجاذب والقبول الذي حل من اللحظة الأولى. وعندما أخالت بصرها على الطاولة، شهقت بشكل اقشعر به بدني، وأصابني بالجمود.
لم أكن أتخيل أن الورد يعني لها كل هذا.. لقد أعجبتها الباقة جدًا. ولولا ابتسامتها التي تبعت دهشتها، لأصابت جهازي العصبي في مقتله.
كانت الابتسامة بمثابة الضوء الأخضر، الذي دفعني للكلام، كي لا يخرج شيئًا عن السيطرة. قلت، وأنا أحرك يديَّ بشكل كبير لأخفي خجلي وأحكمه بقبضة من حديد:
"بعيدًا عن الترحيب والحمد لله على السلامة، ها الهدية خلاصة دراستي لشخصيتك الأيام التي راحت!"
لو كنت بكامل وعيي في ذلك اليوم، لقلت شيئًا أكثر عمقًا، وأكثر قدرة على إثارة انتباهها. إنني -لهذا اليوم- ما زلت أصنع سيناريوهات أخرى لذاك الحدث في أحلامي.. أنا صانع أحلام محترف.
لا أدري الحكمة في سخافة أول مرة يتحدث بها المرء مع الشخص الذي يتودد إليه، فلم أستطع منع نفسي من أن أقول ما كان استهلاكيًا جدًا:
"انت أحلى من الصورةِ بكتير.."
لا أفهم لماذا اعترتني البساطة والعفوية بالحديث ذاك اليوم؛ خصوصًا وأنا أعشق التحدث بالتلميح لا بما يصل لدرجة التصريح. وكانت ريم تبتسم ببلاهة مضحكة أيضا.
بعدما أشرت لموضوع الصورة، أطلقت سارة ملاحظتها:
"الظاهر أنه علاقتكم متطورة أكتر مما تخيل ذكائي"
أثارت حدتي بتعليقها، فرددت عليها بطريقة زياد الرحباني:
" أنا بعاشرك مية سنة يا بنتي.. باخدك وبجيبك وبوديك ولا بخليك تعرفي شي عني..لأنه ما بيخصك.."
رغم أننا اعتدنا تبادل الردود القاسية، أنا وسارة، إلا أني شعرت أني أزعجتها بردي جدًا، لذا تابعت حديثي موجهًا كلامي لريم : "ما تنصدمي من طريقة كلامنا، احنا دايمًا هيك زي ناقر ونقير".
استلمت "لي ياني" زمام الحوار، وصارت تحاور ريم وريم تجيبها بنهم تداري به إرهاقها وخجلها، بينما أنا أدرس كل إيماءة تتحرك بها، وكل نظرة تسترقها كنت أقبض عليها.
نعم، وقعت ضريحًا في حبِ هذه الريم.. غدا قلبي مختلفًا منذ لحظتي الأولى معها، فاحتلت عقلي وانتشر حضورها في خمائله، كانتشار وباء في سرعته، وتأثير النسيم في خفته. لا أذكر شيئا من حديثها مع البنات.. لا أذكر سوى قسمات وجهها وهي تتحدث.. ضحكة خدها وهي تمتعض حين تخجل.. غمضة عينيها وهي تهرب.
فجأة، قاطعت حديثهن، واستفسرت من سارة عما إذا كانت قد اشترت لريم شريحة محمول مصرية، فأجابت بالإيجاب. فطلبت من ريم الرقم. ارتبكت حينها، حيث لم تكن تحفظه، فطلبت منها هاتفها المحمول، وأنا أجاهد لإخفاء نشوتي بحيائها، واتصلت برقمي وسجلت رقمها، الذي ظهر لدي -ببرنامج إظهار المتصل- باسم "عمري القادم".
أخذنا الحديث بموضوع آخر بعد ذلك. كان يبدو واضحًا جدًا التعب على ريم؛ أردت أن أطلب من سارة أن تأخذها لترتاح، لكن لم أستطع خوفًا من أن يساء فهمي، فقد يتبادر لذهنها أني أريد الهروب.
بتلقائية، وجدت نفسي أكتب على الهاتف المحمول رسالة نصية لريم، التي تجلس معي على الطاولة، كتبت فيها "الأزرق يليق بك". أنا معتاد على استخدام الجمل الشعرية والأدبية التي تعجبني في سياق حديثي، فأنا لا أستمتع فقط بقراءتها بل أيضًا بممارستها في حياتي. دائمًا ما أقتبس شيئًا من شاعرٍ أو أديب، وأعدل عليه كلمة أو أكثر بما يناسب الموقف، مع أني لا أجد الكثير من الناس حولي من يفهم اسقاطاتي.. إلا أن ريم لم تخيب ظني أبدًا.
حين رن هاتف ريم بوصول الرسالة، قالت لها سارة: "إنتي لحقتي تعطين رقمك لحد؟"، فسارعت بالإجابة بدلًا من ريم : "ممكن تكون رسالة دعائية من شركة الهاتف المحمول، راح تلاقيهم بفتقدوكي أكتر من أهلك".
يبدو أن ريم فهمت من تدخلي من الحوار أني مرسل هذه الرسالة، فحين فتحت الرسالة قالت: "رسالة دعائية".
ثم حولت رأسها إلى أسفل ونظرها إلى أعلى.. كانت تخفي ابتسامتها، التي أطبقت بها شفتيها، كأنها تخفي سرًا ما.. كانت تلك أجمل ابتسامة رسمتها ريم على شفتيها، أسرت قلبي وعقلي وكلي.. تلك الابتسامة جعلتني على يقين بأني وقعت في حبها. لم أتمالك نفسي، وأمسكت الهاتف مرة ثانية، وكتبت رسالة أخرى: "أعلنت الحب عليك"..

ريم
لم أتمالك نفسي أبدًا من جرف المشاعر التي راودتني من رسائل آدم. أردت أن أجاري طريقته في الغزل.. كيف يفعل ذلك؟ كيف يختار بعناية الكلام الذي أحبه، للأدباء الذين أحبهم؟ كنت مستسلمة بالكامل لما يريد؛ لو طلب مني آدم في ذلك الوقت أن أطير، لاخترعت جناحين وزرعتهما في كتفي وحلقت كالحمام فوق رأسه.
كنت مرهقة، بالكاد أحرك رأسي بالموافقة على ما تقوله سارة وصديقتها. ذهني يعمل بنصف طاقته، وهذا النصف كله بين يدي آدم. لم أستطع أن أتذكر كثيرًا مما أحفظ، لأجيبه بنفس الطريقة التي يصوغ بها رسائله، لكني -بجهد مضنٍ- تذكرت أبيات شعر لغادة السمان، أردت كتابتها لأوافق بها حبه. استأذنت من سارة دقيقة، بأني سأرسل رقمي لأهلي، وكتبت:
"مفتوحة العينين حتى أقصى مداهما
إني (واقفة) في الحب
لا (واقعة) في الحب
أريدك
بكامل وعيي
(أو بما تبقى منه بعد أن عرفتك!)"
كان مذاق تفكيري بنكهة الفراولة.. أكتب، وأسرح، وفي كل لحظة احساسي يترقق. كيف لكف قلبي أن يحمل حُبا بهذا الشكل؟ كلانا يريد أن يختار من الحب أجمله، ومن السعادة أقصاها، فكيف لقلبي أن يحتمل هذا؟
اشتد أزيز التعب، وجسمي لم يعد يحتمل القدرة على البقاء أكثر. لقد بذلت مجهودًا كبيرًا قبل السفر بيوم، بالإضافة لإرهاق السفر الذي لم يمنعني من لقاء آدم.
كنت على مشارف دوار لا مفر من خوض غماره، فاستأذنت من الجميع للذهاب إلى الحمام، كي أنقذ وعيي برشقة ماء.. لكني تصرفت بشيء من السذاجة، فقد حملت الأوركيد معي!
الكل نظر إلى وجهى بقوة، وعلامات الاستفهام والغرابة تتفجر من عيونهم. حين أتذكر ذلك الموقف أقول في نفسي: ما أغربني؟ كيف فعلت ذلك!
بينما أنا متجمدة من نظراتهم، قال آدم: الورد في يديك لا يموت، بل يتآلف على الحياة من جديد!
كنت في الهزيع الأخير من الصمود واقفة.. وضعت الورد على الطاولة، وهربت فورًا على الحمام. وقفت أمام المرآة أنظر لنفسي، أحاول أن أرسم فرحة على وجهي تعكس فرحة قلبي، لكن التعب كان ديكتاتوريًا جدًا، وأحكم قبضته على سلطتي. بدت لي المرآة وكأنها تتحرك.. تذكرت ليلي أختي وكلامها، الذي شق لأول حاجز في الحياة بيننا. لقد تركتها وأنا غاضبة منها، لأحب وأنعم بالحياة، وأتركها فريسة الوحدة وسوء الظن. شعرت كم أنانية أنا. أريد أن أصالحها، لكن كيف؟ ما قالته كسر في نفسي الكثير.
لا أدري لماذا كلما وصلت لقمة الفرح، يهاجمني بغتة سوء الفكر! هل لتوازن الكون علاقة بذلك؟!
يا عمري، يا أختي، كان يجب ألا أسافر. أنا هنا ألهو بالحب، وأنت تتوجعين في حياة أشبه بالسجن. أنا أحمل المستقبل، وأنت تحملين المجهول.. على من ألوم في ذلك، على نفسي؟ أخي؟ أمي؟ نبيل؟.. على من ألوم؟
أريد أن أعرف الجاني لأجلده، فعقابه تضخم في نفسي.. ثم أعود لأسأل نفسي، هل أنا قوية لدرجة أن أعاقب أحدًا؟!
لا أطيق احتمال ما أفكر به.. أشعر بأن عقلي يتفكك، وقلبي يتفتت.. ماذا أفعل؟ هل أعود وأخسر نفسي وآدم وأكسب أختي؟ هل هناك حل وسطي؟..
الكثير من الأسئلة كانت تجلدني، فلم تقو قدماي على حملي.. بدأت أشعر بالغثيان و الدوار، فقد فقدت كليًا طاقتي. حاولت أن أدير وجهي، أبحث عن كرسي أجلس عليه، لكن الوقت لم يسعفني. آخر ما أذكره أني رأيت وجه أختي يبتسم، ثم سقطت على الأرض فاقدةً الوعي.


آدم
خرجت سارة تصرخ من الحمام، حين ذهبت لتفقد ريم التي تأخرت كثيرًا هناك لحدٍ القلق. كانت تفترش الأرض، ويسيل الدم من رأسها إثر سقوطها وارتطام رأسها بأرضية الحمام. تشنج عقلي، ولم أعرف كيف أتصرف. لأول مرة في حياتي أتعرض لموقف كهذا.. كنت أقرب لمومياء محنطة، لا يمكنني الحراك. أفقت على صراخ "لي ياني" تطلب مني أن أحضر سيارة بسرعة لنقل ريم للمستشفى.
هرولت بسرعة إلى الخارج، وأحضرت السيارة إلى الباب، ودخلت لأبلغ "لي ياني" بذلك. كانت مع سارة تحاولا بصعوبة حمل ريم على أكتافهما، ومن في المقهى ينظرون إليهم، ولا أحد في المكان يعلم كيف يمكن التصرف في مثل هذه الحالات، كأن التخلف مصيبةٌ أصابت كل من في المقهى. هل خفت من القيام بحملها عنهن، فيعترض أحد على ذلك كونها بنت وأنا رجل، لا تربطني بها صلة دم؟ هذا التفكير السخيف هو أول ما راودني؛ لكن قوة كبيرة دفعتني لأن أحملها حتى غرفة الطوارئ في مستشفى الجامعة، والتي كان صديقي يداوم فيها ذلك اليوم هناك.
أعصابي تلفت كليًا، فكدت أحتضر وأنا أحمل ريم بين يدي. أرجف بشدة.. ضربات قلبي أسرع من الخيل في سباق الفروسية، كنت أشعر بريم وهي بين يدي كطفلة أصيبت إثر قصف إسرائيلي لأرجوحة أطفال بينما تنتظر دورها للعب. لا أدري إذا كان الحظ سيعرف طريقي أم أنه ثملٌ طوال العمر. كنت مرتعبًا، وعلى وجهي تضخمت ملامح الخيبة وقلة الحيلة.. أ كلما أحببت امرأة تسببت لها بمصيبة؟! كنت موقن في هذه اللحظة أن الحياة تكرهني إلى الحد الذي يتجاوز الخطوط الحمراء.. كيف يطلب الأمل منيّ الصمود وأنا أترنح آيلًا للسقوط؟
وقفت مع سارة وزميلي في السكن -الدكتور محمد- الذي يدرس طب بشري في نفس جامعتي، لنعطي معلومات عن ريم لموظفة الاستقبال. أشعر بجوفي ساخنًا، جدرانه ملتهبة حارة أقرب للانفجار. كانت الممرضات في غرفة الطوارئ يركِّبن المحاليل لريم، ثم جاءت إلينا ممرضة وسألتنا إذا ما كان هناك أحد من أهلها موجودًا، فأجبنا بالنفي. وجهت لنا بعض الأسئلة، عما إذ كانت قد تعرضت لحالة إغماء مشابهة، أو كان لديها أي أعراض مرضية مسبقة، لكن لم يكن لدينا الكثير من المعلومات، سوى كونها مطلقة، وأنها مرهقة جدًا بسبب رحلة سفرها والمجهود الكبير الذي بذلته خلال اليومين الماضيين. مرت ساعات، ولم تستيقظ ريم من غيبوبتها. لم نقم بتبليغ أسرتها بما حدث، فقد ظننا أنه مجرد إرهاق بدني بسبب المجهود الكبير الذي بذلته.
كان قلبي قبل ذلك اليوم بالونًا مفرغًا من الهواء، بقدوم ريم بدأ يمتلئ شيئًا فشيئا، إلى أن أصبح ممتلئًا بها، يطير فرحًا بنظرة عينها.. نعم أحببتها بعمق، ولم يكن هذا الشعور ليخضع للشك.
زادت فحمة الليل، ومر الهزيع الأول والثاني منه، حتى شارف الصباح على الانبلاج، وريم لم تستفق بعد. كل شيء حولي كان فاترًا قاتمًا.. يملؤني كرهي لسوء حظي، وأشفق على المرأة التي أقحمتها في حياتي المشؤومة وجلبت لها الشؤم.
كنت أجلس في المستشفى صامتًا مع سارة، بعدما استأذنت "لي ياني" وعادت للبيت، بسبب عملها الذي تستيقظ له مبكرًا. لم أتكلم مع سارة أبدًا، حتى لا يتبادر في ذهنها إبلاغ أهل ريم بما حدث، الأمر الذي سيجعلهم في غالب الظن يعيدونها للعلاج لديهم، إذا ما كان أمر غيبوبتها جللًا.
كل دقيقة كانت تمر، كان توتري يزيد فيها مثقال جبل.. لم أعد أتمالك أعصابي أكثر، فاتصلت بصديقي وأخبرته أنها لم تستعد الوعي حتى الآن، فرد ببرود قاتل استفزني جدًا، ودفعني إلى نعته بأفظع الشتائم والمسبات، ومن ثم أقفلت خط الهاتف في وجهه.
عدت أجلس في قاعة الانتظار، وقد أصابني وجوم شديد. كانت الممرضة تطلب منا الذهاب الآن والعودة في الصباح، لكننا أصررنا على البقاء.
كل الأشياء حولي كانت رمادية.. بخفة الرماد وبؤسه أمام رياح القحط. رؤيتي تشح أكثر فأكثر مع شدة النعاس والتعب. كم تورطت في حب هذه المرأة.. من أول مرة طرقت سيرتها طبلتَي أذني. ريم، يا نطفة القلب، يا حلم العمر، استيقظي من اللاوعي واعطني انتباهك.. أريد أن أقول أحبك، حتى تهترئ الألف وتشيخ الكاف.. أحبك يا عقيدة الإنسانية وحمامة السلام.. إنني أسمع نبضي يهرول مني إليك، يريد على جدران قلبك أن ينام. يا دربي الحائِر، هل أنا أنت أو أنت أنا؟.. أو أنا وأنت لا شيء لنا؟.. يا حظي العاثر، ألا يكفيك إجرامًا؟
كانت مناجاة النفس في هذه اللحظات الحرجة أشبه بالخضوع لعملية جراحية دون تخدير، تتحدى وجعي والوجع يقسو على نفسي أكثر. وأخيرًا دخل صديقي محمد صالة الانتظار حيث أجلس. كان يتنفس لاهثا، بدا أنه جاء ركضًا من البيت إلى المستشفى، بعدما أغلقت الهاتف في وجهه. أخبرني بأنه كلم أستذته من الأطباء الذين يحاضرونه في كليته، وقد أخبروه أنهم طلبوا من الممرضين أن يتم نقلها لغرفة العناية المركزة، وهو الآن متوجه إلى هناك.
لحقت به أنا وسارة، التي كانت هي الأخرى متعبة جدًا وعلى مشارف إغماءة. ظللنا ننتظر أمام الباب، إلى أن خرج صديقي محمد، وأخبرني بأنهم يحاولون جادين لإعادتها للوعي، بعدما لاحظت الممرضات أنها تعاني من تعرق ليلي غير طبيعي. قال إنها الآن بخير، وستستعيد وعيها تدريجيًا، ولكن ستظل تحت المراقبة حتى تتحسن صحتها.
كان من الجيد أن قال ذلك أمام سارة، فساعدني على إقناعها بالعودة للبيت لكي تستريح قليلًا. أكدت عليها أن لا تخبر أحدًا من أهلها، فربما يمر الأمر بسلام، ولا تكون هناك حاجة لإثارة قلقهم وربما...
لم أكمل؛ لكنها كانت ترمقني بعينين يختلط فيهما الفهم بالإرهاق. انصرفت، وأنا لا أدري كيف ستصل للبيت بحالتها هذه، لكن لم يكن بمقدرتي أن أرافقها وأترك ريم هنا. طلبت منها أن تطمئنني بوصولها، وإن توقعت أنها ستنهار بالنعاس بمجرد وصولها لحافة الفراش، وتنسى أن تفعل أي شيء عدا النوم.
بعد ساعة أخرى، خرج الطبيب المسؤول وطمأنني على ريم؛ لكنه أبدى شكه أن تكون المسألة أكبر من مجرد حالة إغماء من التعب، وأخبرني بأنه طلب من الممرضات إجراء فحص دم كامل، خلاياه وأملاحه وإنزيماته، ليساعده في تشخيص الأمر أكثر، على أن نحصل على النتيجة بعد حوالي نصف الساعة.
أخذني محمد إلى المعمل لنعرف نتيجة التحليل. دخلنا لمكتب الدكتور، ذي الملامح الباردة أو ربما المتشائمة أو أنها غير مفهومة؛ لا أدري كيف يجدر وصف تلك الملامح الساكنة التي لا تبوح ولا تطمئن. وأخيرا، مرت الثواني تجلدني، ليخبرنا الطبيب الذي كرهته أن لدى ريم ارتفاعًا حادًا في كريات الدم البيضاء وانخفاضًا حادًا في الصفائح الدموية وفي نسبة الهيموجلوبين وفي كريات الدم الحمراء. أردف قائلًا إنه قد طلب من المختبر صورة شريحة ميكروسكوبية لعينة دمها، لفحصها مجهريا، وبناء على ذلك إما ستتلاشى شكوكه أو يتأكد منها. قال إن الأمر سيستغرق من 5 إلى 6 ساعات، قبل أن نعرف النتيجة.
عدنا إلى قسم العناية المركزة، فألححت بسؤال الطبيب أن يمكننا من الدخول لنطمئن عليها، فكان رفيقا بي، واتصل بإحدى الممرضات آذِنًا لنا بالدخول للاطمئنان عن ريم لدقائق، فاستأذن محمد للذهاب قائلا بأن لديه محاضرة تدريب لرسم مخططات القلب "ECG Training" سيحضرها ويعود، في الوقت الذي تصدر فيه صورة عينة الدم من المختبر، فشكرت له في نفسي أن منحني متلطفًا زيارة ريم وحدي دون رقيب يعرفني ويأخذ عليّ ما قد لا أتمالك نفسي لأخفيه.
ذهبت إليها، فأخبرتني الممرضة أنها ما زالت غائبة عن وعيها، وقد تستفيق في أي لحظة، فاستأذنتها معلنا بنبرتي وبنظرتي وبكل ما اتوتيت من تعبير ما أحمله من عشق وقلق لتلك الراقدة بلا حول ولا قوة، فابتسمت وتركتني أجلس في هدوء على الكرسي المجاور لسريريها، إلى أن..

ريم
استيقظت لأجد نفسي في المستشفى، ذهني يعمل وجسدي فارغ الشحن، بالكاد أستطيع أن أرفع ستار جفني عن بؤبؤ عيني، لأبصر آدم يجلس وحده على كرسي بجانب السرير الذي أنام عليه. كان يقاوم النعاس، مرهقا ووجهه ملئ بالإرهاق. الغريب، أني منذ سنتين يتكرر هذا المشهد في أحلامي، دون ظهور وجه من يجلس على الكرسي.
حاولت أن أحرك جسدي، لكن لم يمكنني ذلك؛ الشيء الذي بعث في نفسي الرعب. بدا لي أن المسألة هذه المرة مختلفة.. لقد فقدت الوعي أكثر من مرة هذا العام. آلام كثيرة حطمت رأسي وأهبطتها بالمسكنات التي ما عادت تنفع، حتى بدأت أدرك أن هناك شيئا حقيقيا أصابني منذ فترة، ولم يعد الأسبرين يطفئه، تجاهلي المستمر لما تقوله أمي عن اصفرار وجهي، عظامي التي أصابها الصدأ.. كل تلك الأعراض تذكرتها وتجمعت أمامي لتقول لي إن القادم أشد ألما؛ لكن.. لماذا الآن؟!
بجهد كبير تمكنت من الكلام. كان أول ما سألت آدم عنه، إن كان قد أخبر أحدًا أهلي. لم يسمعني أول مرة، فاضطررت أن أحرك ساقي لكي ينتبه أني قد أفقت. فز من مكانه بسرعة كمن ينقض على فريسة، وهتف والخوف في كلامه أعلى صخبًا من الكلام:
"الحمد لله إنك بخير، ما تتحركي لازمك راحة، الحمد لله انك بخير.. الحمد لله"
كررت السؤال الذي يشغلني، هل أخبر أحدًا أهلي.. أجابني بالنفي، فشكرت الله وطلبت منه ألا يخبر أحدًا.
كان خائفًا جدًا عليّ، هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أرى أحدًا يخاف عليّ لهذه الدرجة، التي تغتال أي مفردات على لسانه، في الوقت الذي تغدق عيناه عليّ الكلام. أردت ضمه لحضني بشدة.. أردت أن يعانقني ويداعب شعري.. أردت الأمان من التصاق أكتافه بأكتافي.
لم أتمكن إلا من كلمات قاتلت لتخرج، وقلت على طريقته:
آدم، يبدو "أني أحببتك أكثر مما ينبغي!"
رد مبتسمًا: يبدو أنك تجيدين تقمص شخصيتي، "وأنا سأحبك حتى التعب!"
ما أجمل وجوده إلى جانبي.. ما أجمل أن تجد من يشاطرك طريقتك، وأفكارك، ويحدثك بلغة الشغف التي تهواها...
كان يرسم على وجهه ابتسامة معدية، تجعلني أبتسم معه بشكل لا إرادي. طلب مني التوقف عن الكلام كي أرتاح، فوجدت نفسي أفرض شروطًا عليه مقابل صمتي. قلت له:
"آدم، احكيلي عن حياتك بغزة.."
لم تفارق الابتسامة شفتيه. رد بشكل يداري به خجله الذكوري:
"أنا أسوأ واحد يحكي عن حاله. وبعدين لوقت تاني، هلأ اعطيني فرصة أتغزل فيك.. بس بوعدك ابتداء من اليوم وطالع لحد ما تطلعي من المستشفى، لأكتب لك كل يوم فصل من حياتي وأبعته لك على البريد، على طريقة رسائل غسان كنفاني لغادة السمان. وإذا رجعت يومًا ما على غزة، وأجاني صاروخ طايش، انشريها على النت وحركات يعني. ها الحين راح أغنيلك.."
لم يعطني فرصة لأعترض على سيرة الموت التي أشار إليها، وبدأ مباشرة يغني لزياد الرحباني:
" بحبك بلا ولا شي، ولا فيه هالحب مصاري، ولا ممكن فيه ليرات، ولا ممكن فيه أراضي، ولا في مجوهرات، تعي نقعد بالفي.. مش لحدا هالفي...، حبيبني وفكري شوي"
كان صوته شجيًا.. نقيًا.. رقيقًا، متجانسًا بشكل جميل.. الوجع فيه مشهود، شحنات الحب فيه جارفة، قنديل في عتمة اليأس سقط في قلبي كقنبلة موقوتة، مضغوطة بالحنين والحنان..
بينما كان آدم يغني، تنحنح صديقه محمد واقترب، وبادر بالاطمئنان على صحتي بالسؤال والابتسامة المصطنعة، التي تخفي خلفها سرًا ما. كانت عيناه ثابتة حين ابتسم، فأدركت تمامًا أن الأمر جلل، خاصة عندما استأذن وأخذ مني آدم...

آدم
ذهبت مع محمد إلى كافتيريا المستشفى، لكي أتناول شيئًا من الطعام أسند به عافيتي. كان محمد قد بدأ يفهم ماذا تعني ريم لي، لكن ليس إلى حد تخيل أن الأمر حقيقي لهذه الدرجة. لذا، بادر ببساطة بالحديث عن نتائج صورة الدم التي أخذها من الطبيب وبينت ارتفاعا كبيرا في خلايا الدم البيضاء غير الفاعلة، والتي زادت من مخاوف الطبيب من إصابة ريم بالسرطان.
كان يتكلم ببساطة مستفزة.. استكمل حديثه قائلا إنها قد لا تكون مصابة بالسرطان، فكل التحاليل التي أجرتها لا تجزم بإصابتها بالمرض، لذلك طلب الطبيب إجراء فحص لعينة من النخاع العظمي للكشف عن وجود خلايا سرطانية في جسدها، وعلى إثر ذلك سيتأكد من إصابتها بالسرطان من عدمه.
بطبيعة الحال لم أكن أفهم كثيرا مما قاله د. محمد. لكن لم تكن لدي مشكلة من سماعه إلى آخر المطاف، فقد اعتدت علي طريقته المتعبة في الكلام، فمنذ شاهدت معه المسلسل الطبي الأمريكي " House M.D" وأذناي مستعدتان لسماع حديثه التشريحي، الذي يتخلله شرح طبي لكل شيء، مهما كان بسيطًا أو معقدًا، حتى ولو كان عن أعراض تناول طبق فول من الشارع!
قلت له بحدة شديدة: " محمد، ممكن تشرحلي بالعربي اللي حكيته؟"
عدل جلسته، وأخذ في الكلام موضحًا لي أن هذه الإجراء قد يستغرق من أسبوع لأسبوعين، وخلال هذه الفترة ستظل متواجدة في المستشفى بحكم عدم وجود أحد من عائلتها يرعاها. قال: في الحقيقة نسبة أن تكون مصابة بالسرطان كبيرة جدًا.
ثم أنهى كلامه مستظرفًا: "الغسيل تبعك صار له يومين في الغسالة وريحة الحمام بتخنق، يا ريت حضرتك تروح تشيله من الغسالة"
في هذا الوقت، اتصلت سارة لتطمئن على وضع ريم، فأخبرتها بإيجاز ما حدث، وأكدت عليها ألا تخبر أحدًا من أهل ريم عن وجودها في المستشفى، وأن تتصل بهم تطمئنهم عليها. لكن صوتها بدا يترقرق عاجزًا عن توضيح شيء ما. سألتها عن ذلك، فصمتت قليلًا وقالت إن ليلى اتصلت بها وأنبأتها خبرًا سيئًا، فقد تزوج والد ريم وطلق أمها، وطلبت منها ليلى ألا تخبر ريم عن ذلك، وأن تحاول قدر المستطاع منعها من الحديث مع أمها، التي هي في الواقع في حالة يرثى لها!
شعرت بهذا الخبر أني أجلس وحيدًا تحت المطر على كرسي من حديد، يداي عاريتان تستندان إليه، في الوقت الذي أصاب البرق حديد الكرسي وصعق جسمي المبلل. هناك شخص في هذا العالم يعاني أكثر مني، ورغم ذلك ضحى لأجل أن يكون معي.. هناك شخص لن أتخلى عنه، حتى لو كلفني ذلك حياتي، بعيدًا عن أي مجاز.

ريم
شعرت بيده تداعب يدي، كمن يداعب فراء القطط. شعرت باهتزاز، وكأنني اتصلت بجهاز ينقل لجسدي مشاعر جديدة. قال بصوت يسبق الحزن: لدي خبران، الأول محزن والثاني ربما لا.
طلبت منه البدء بالأسوأ، فأخبرني أني سأضطر لأن أمكث أسبوعا أو أكثر في المستشفى، فسألته: وهل تظن أن لديك خبرًا مفرحًا بعد هذا الخبر؟
ابتسم، وامسك يديَّ بيديه الاثنتين وقبلهما. ثم قال: المفرح أن مكوثك في المستشفى سيمنحني وقتًا أطول لقضائه بجانبك.
كلامه أشبه بتعويذات سحرية، تأخذني وتحلق بي فوق السحاب.. ترفعني للأعلى، حيث في الأعلى كل شيء جميل.
حاول الاستفسار بطريقة غير مباشرة حول إذا ما كان لدي مرض مزمن أو خطير من قبل، فنفيت له ذلك، وأخبرته عن شعوري وعن أني لن أتفاجأ إذا ما اتضح أني أعاني من مرض خطير.
في الواقع، لازمتني هذه الشكوك، لكني على المستوى النفسي كنت جاهزة لأن يقولوا لي "لن يتبقى في عمرك الكثير". لن أحزن إذا ما قالوا ذلك.. سأقضي ما تبقى من عمري أطالع ملامح آدم، وأسمع صوته، وأجاريه في حديثه إلى حد التوحد فيه.
في غمرة هذا التفكير، قاطعني وقال:
سارة في طريقها إليك، سأتركك معها وأعود للبيت لأستحم وأخرج ملابسي التي قد تكون تعفنت في الغسالة، ثم سأنام قليلًا وأعود..
صمت برهة، ثم ابتسم كمن تذكر شيئا، وقال:
ولن أنسى كتابة فصل عن حياتي، وأرسله لك على طريقة غسان وغادة، مثلما اتفقنا.
ظل يقص علي بعض النكات، التي أشعلت قلبي ضحكًا وأملًا، رغم أني كنت في غرفة مليئة بالأسلاك، جدرانها كئيبة جدًا. إلا أنه إذا ما تكلم غدت الجدران قوس قزح.. أشعر معه كأني أجلس في حديقة مرصعة بأزهار الأوركيد والياسمين..
سألته: أين هديتي؟ أين زهرتي؟..
قال: من المفترض أنها الآن مع "لي ياني". سأتصل بسارة لكي تجلبها معها.
ابتسم وقال لي: حاضر يا سمو الأميرة..
يا ملكي ومليكي يا آدم.. يا عمري.. يا قدري.. يا حبيبي.. لا توجعني بغيابك يومًا، لا تختبر حبي، ولا تجهم جحافل صبري..
جاءت سارة وهي تحمل زهرة الأوركيد، فطلبت منها أن تضعها بجانبي. سارة، على الرغم من الغربة التي أهلكت شخصيتها، إلا أنها تمتلك قلبًا مرهفًا. كانت عيناها تشبه عيني ليلي، مغرورقة بالحب والعاطفة.. أكدت عليها ألا تخبر أحدًا من أهلي، وأن تتواصل معهم تطمئنهم على حالي، وتتحجج لهم بأي طريقة كي لا أكلمهم، إلى أن يسترد صوتي عافيته.
حددوا موعدًا، وأخذوني لغرفة العمليات، ليأخذوا خزعة من نخاعي العظمي، لإجراء فحص يثبتوا به لي صحة إحساسي. لم أكن لأمانع أي شيء.. فقط كنت سعيدة بوجود آدم بجانبي يومًا بعد يومًا، أرى وجودي في المستشفى من بوادر الحظ الجميل، فأنا مع آدم تقريبًا طوال اليوم، ولو لم أدخل المستشفى لما كان بمقدوري إلا أن أراه ساعة أو ساعتين على أقصى تقدير بين كل يوم والآخر..
ولأنه لا فرح يدوم، فبعد مرور أسبوع ونصف على أجمل القبلات المسروقة، التي كان يطبعها آدم على خدي وعلى شفتي دون أن يرانا أحد، جاء الطبيب يطلعني على موافقة القدر على إعدامي بالسرطان. كنت مصابة باللوكيميا، والمرض أكل مناعتي له تماما، ويجب أن أخضع للعلاج الذي قد يؤجل موتي قليلًا. لقد دمر إدماني للأسبرين فرصتي أمام السرطان، وأخرني كثيرًا، والآن وقد أطلعني الطبيب على ضرورة امتثالي للعلاج الكيماوي، أسأل نفسي ما الفرق بين أن يخبرك الطبيب بإصابتك بالسرطان، وبين أن يحكم عليك القاضي بالإعدام؟ الفرق أن المحكوم بالإعدام يستطيع الصراخ معترضًا على حكم القاضي، أما قدر السرطان فلا اعتراض فيه على مشيئة الله.
كنت بحاجة للكثير لأستطيع التعايش مع فكرة إصابتي بالمرض. عشت توليفة من الأحاسيس والأماني المدمرة، أترنح ما بين الضيق والاكتئاب، أتقوقع في الغم والهم، وأحس برعشةٍ وآلام في مختلف أنحاء جسمي.. كنت أسمع ضربات قلبي كأجراس الكنائس، ومع ذاك اليوم، بدأت حفلات الكوابيس الثقيلة تزور نومي المضطرب يوميًا.
أذكر سؤال الطبيب حين قال:
يبدو أنك مصابة بالسرطان منذ فترة طويلة، وملفك مذكور فيه أنك مطلقة، وهذا ما جعل لدي شكوك في شأن إصابتك بالمرض، هل لي بسؤالك عن تاريخ زواجك؟
أجبته بأني كنت متزوجة منذ شهور قليلة، وتطلقت بعد فترة قصيرة. كنت أتحدث إليه بنهم، لا أدري لماذا، لكني توقعت شيئًا سيئًا خلف السؤال. رسم جوابي على وجهه علامات تعجب قوية جدًا، فلم أتمكن من كبت فضولي وسألته لماذا، فقال:
من المفترض بنتائج فحص الزواج التي أجريتها أن تشير بشكل ما إلى إصابتك بالسرطان، أو على الأقل أن تثير بعض الشكوك عند الطبيب..
يا الله !..
أخي غانم،.. أخي غانم.. غانم.. غانم..
ظلت أردد اسمه بوجعٍ شديد. فقد فهمت أخيرًا لماذا أصر على عودتي دونه مع "الشوفير" إلى البيت. أخيرًا فهمت لماذا ظل مع صديقه الدكتور، الذي زوَّر نتائج التحاليل، والآن أدركت لماذا كان يريدني تقبيل رأس طليقي بعدما أهان شرفي.
تشرذمت أفكاري، واختلط حابل الوجع بنابل العجز والحيرة. صار المجهول أمامي أكثر وضوحًا بسواده. حتى وإن كان هناك أمل في الحد من قسوة المرض، كيف لي إقحام آدم في حياتي بعد الآن؟ استسلامي يعني إنقاذ آدم من الغرق في حياتي السخيفة.. امرأة بلا معنى أنا، وبلا سند.. امرأة لا تقوى على جر جسدها أنا.. لن يعود بمقدوري تسريح شعري.. لن يكون وقوفي أمام المرآة إلا ضربًا من ضروب الألم.. لن أفرق بين ثقل رأسي والنعاس. لا يجب على أنفي المتعطشة للحب أن تدس نفسها في حياة رجل بريء؛ يكفي ما سببته من ألم لرجل كان يشبهه. سأرفض العلاج الكيماوي، وأعود أستجعل الموت في بلادي. الرحيل الآن هو الخلاص بأقل الخسائر الروحية.
لماذا دائمًا أقفز عن كل مصيبة يرتكبها غانم بحقي؟ واهم من يظن أن الدم لا يغدو ماء! لا شيء في يدي أفعله حياله، ولو كان أيضًا في يدي فعل شيء، ما فعلته.
رفهت عن صمتي تجاه كل ما يخالجني عن غانم. حدثت سارة في الأمر، والتي هي بالأصل لا تتقبل شخصيته وتمقته لأبعد حد. أغضبتها بشدة تصرفاته، وخصوصًا إخفاؤه حقيقة مرضي باللوكيميا، فأضاع فرص استشفائي بقلبٍ بارد. طلبت منها إخبار أهلي بما جد عن حالتي الصحية، وبرغبتي بالعودة إلى بلادي. تبدل وجهها وحاولت إخفاء توترها -المفضوح رغما عنها- خلف تمنيات الشفاء والكلام الخارج عن سياق الحدث.
قسم قلبي نصل مصيبة جديدة.. أنا أعرفهم كلهم.. أعرف وجوه أولئك الذين يحاولون إخفاء خبر سيء.. ملامحهم مفضوحة لي، فلا أدري لماذا التسويف في إطلاق نار الحقيقة من أول مرة، ما دامت موجعة بشكل لا يخف مع الوقت.
رفضت سارة البوح بشيء، فأصررت حتى البكاء. قلبت وجهها، بمحاولة خائبة لتغير الموضوع، لكنها أمام إلحاحي لم تصمد، وتقيأت الكلام دفعة واحد:
"ريم، أبوكي طلق إمك، وأختك قاعدة في البيت مع أخوك لحالها"
اتسعت حدقة عيني لأقصى مداها، وشعرت بهزةٍ نفسية قوية غلبت كل معاناتي الماضية.. اضطربت أنفاسي، وقدماي ويدي.. أنا لا أملك أي إمكانيات نفسية لأواجه كل هذا. لقد شوه هذا الخبر فهمي لنفسي وللحياة. هذه الصدمة بمثابة ميلاد عجزي واستسلامي المعلن.. بدأت أستعجل الموت ليخلصني.
مع حالة اليأس المطلق، لم أنطق حرفًا على مدار أسبوع. حتى آدم، كان يفعل المستحيل ليخرجني من ذلك الحال، يطلب مني ألا أيأس أبدًا.. يقول:
يجب أن تكوني بخير، لتقومي بقراءة رسائلي التي بدأت أكتبها إليك.
ثم يردف قائلًا:
كتبت لك عن مأساة حبي الأول، وعن مذكراتي، كما لو أني أكتب لنفسي لا ليقرأها أحد.. أريدك أن تستعيدي عافيتك، وأريدك أن تعرفي كل شيء عن حياتي في السابق.
آه يا آدم.. حتى في هذا شابهتني! في مأساة الحب الأول.. كم تشبهني وأشبهك..
كنت في وعيي تماما، أحفظ كل ما يدور حولي، وأذكر كل شيء بالتفصيل. لكني لم أكن أتكلم سوى بكلمات بسيطة، كي لا يعتقد أحد أني فقدت النطق. علم آدم أني طلبت من سارة أن تخبر أهلي بكل شيء، وعن نيتي في العودة. حاول أن ينقعني بالخضوع للعلاج الكيماوي في مصر، حتى أنه فاجأني مرة بحلاقة شعره بالكامل، كي يشجعني على قبول العلاج. حزنت جدًا لما فعل، فقد كان شعري آخر همي في تلك الأيام.. لقد أردت الموت بشدة.
أيام أخرى مرت على هذه الحالة الساكنة التي أعيشها، كدرت فيها حياة آدم، الذي لم يتأخر لحظة عن التواجد معي. في أحد تلك الأيام الحزينة، وبعدما أزاح الصباح حجاب الليل عن وجهه، اتصل والدي ليخبرني بأنه سيرسل طبيبا ليطلع على حالتي. كانت سارة قد أخبرت والدها بحالتي، ولم تكتفِ بذلك، بل أشارت أيضًا لحقيقة معرفة غانم بمرضي. وبدوره، قام أبوها بشرح كل شيء لأبي. علمت بعدها أن أبي طرد غانم على إثر ذلك، وعادت ليلى لتعيش في منزل أبي، فأثقل كاهلي كل ذلك، فها أنا الآن أتسبب بالمشاكل لغيري.. كل كارثة تنطلق مني، ولا قوة لي في ذلك.
عند ظهر أحد الأيام، جاء الطبيب الذي أخبرني عنه والدي، ليختبر حقيقة وضعي، وإلى أي مرحلة وصل انتشار المرض في جسدي. كان أن فحص حالتي مع الطبيب القائم على علاجي، وأطلعه الطبيب على كل ما يخص مرضي. بعد ذلك قام ذاك الطبيب المرسل من والدي بالاتصال به وإخباره بوضعي الصحي، وطلب منه شيئًا اضطرني للمكوث في مصر لأسبوعين آخرين..
اتضح لي بعد ذلك أنه قد طلب من والدي أن يقوم أحد أفراد عائلتي بإجراء فحص دم بسيط للتأكد من ملائمة تطابق الأنسجة، وبعض الفحوصات والاختبارات الأخرى، والتي عادة ما تطلب من الأهل في مثل الحالة التي واجهتني مع اللوكيميا. حسبما فهمت، هناك أمل في علاجي من خلال عملية زرع النخاع العظمي، والتي تعتمد على زراعة خلايا جذعية سليمة في النخاع العظمي بدلًا من المصابة، وفي العادة تؤخذ تلك الخلايا من أحد الأقارب، الذي يتوافق أن لديه ملائمة لأنسجته مع المريض، وبعض الشروط الأخرى التي لم أفهمها. أجبرني أبي على الخضوع لعلاج كيماوي بإشراف الطبيب الذي أرسله، في إطار التحضير للعملية. وعرفت أن ليلى أختي هي الوحيدة التي توافقت معها تلك الشروط.
لم يكن باستطاعتي رؤية آدم كما كان في البداية، فقد أرسل والدي جنوده ليراقبوني من جديد. مرت الأيام على هذا الحال، الذي اكتست فيه حياتي الكآبة من كل صوب، إلى أن أخبرني والدي بأنه قد حجز لي و لليلي رحلة إلى ألمانيا، لإجراء عملية زرع النخاع العظمي هناك. ليس ذلك وحسب، بل لقد اشترى لنا بيتًا، وحصَّل لنا قبولا جامعي أيضًا للدراسة هناك. بشكل آخر، لقد أسس لنا حياة هناك بعيدًا عن حياته، كي يتجلى مع زوجته الجديدة.
لم يكن طرده لغانم بسبب إخفاء غانم إصابتي بالسرطان وحسب، بل كان السبب الأساسي في ذلك رغبته من التخلص من مسؤولياته تجاهه. غانم يشبه والدي كثيرًا، وهما كالمغناطيس، كل قطبين متشابهين متنافران.
لقد خسرت آدم قبل أن أربحه. فمنذ اليوم الذي زارني فيه الطبيب المرسل وأنا لا أتواصل معه إلا عبر الرسائل، وأحيانًا ألقاه خلسة، بعد تخطيط مضني بالتواطؤ مع سارة، للتحايل على جنود أبي الذي يتخفون في زي خدمة راحتي!
آدم كان يتعذب.. كنت أشعر أن رسائله تقطر دموعًا، وأنا كنت أذوب شوقًا لقبلته المسروقة على شفتي. لقد كانت تلك الطريقة الوحيدة التي يشعر بها جسدي أنه على قيد الحياة. حين علم عن موعد سفري لألمانيا، أرسل أكثر من مئة رسالة يرجوني بها أن أجد حلًا آخر غير السفر. لم أجب على أي رسالة منها، في الوقت الذي كنت أتقطع لأفعل ذلك، لكني لم أرغب أن أوجعه أكثر. لم يكف عن تذكيري بالرسائل التي يرسلها لي بشكل يومي، والتي يقص بها سيرة حياته. كان ذلك يحرقني ويؤلمني أشد الألم، فآدم وهو ليس معي يفكر بي ويفعل ذلك لأجلي!
كنت متألمة جدًا، لأجله ولأجلي ولأجل أختي وأمي.. كنت أشعر بالهزيمة والفشل والانهيار.. صرت أقرب للتصحر الوجداني، أبكي بلا سبب، وأحيانا تنهمر دموعي وحدها دون تدخل مني، أشعر شيئًا فشيئا بضرورة انسحابي من الحياة.. كنت أقرأ رسائل الهاتف التي يرجوني بها وأبكي.. لم أحاول أن أتفقد رسائل البريد التي يرسلها، لأني كنت بحاجة لأهرب منه، لا أن أقترب.
قام والدي بتغيير موعد رحلة الطيران إلى ألمانيا، صارت أقرب بيومين عما كانت. لم أخبر آدم كي لا أوجعه، أعلم كم كنت حقيرة في ذلك، فأنا لم أسمح له حتى بأن يودعني. لم أعطه حق الأمنية الأخيرة للمحكوم عليه بإعدام قلبه. وحين كنت في صالة الانتظار في مطار القاهرة الدولي، كتبت رسالة لآدم، اعتذرت فيها منه عن كل ما بدر مني، وتمنيت له التوفيق. كانت رسالة رسمية، تعكس مدي تخثر قلبي أو ربما تصحره. لا يحق لي أبدًا أني أنهي علاقتي معه بهذه الطريقة الفجة، لا يحق لي أن أفعل ذلك مع الرجل الذي كان مستعدًا لأن يسبح في المستحيل ليظل قربي. لكني لم أقل له في أي محيط أعيش...
رد برسالة قبل أن أغلق هاتفي وأحذف الشريحة:
"راح ألحقك على ألمانيا، راح ألحقك على آخر الدنيا، استنيني وكوني قوية، أنا بحبك"


أدم
كفيفٌ لا أبصر الأيام أمامي.. أصمٌ لحدود الهذيانِ.. همزة وقعت من سطحِ الألفِ، وحاء انحنت ضريحة على أرضِ الغيابِ، باء سقطت نقطتها في الوحل، كاف نامت على كفها..
" أمس انتهينا فلا كنا و لا كان، يا صاحب الوعد خلِّ الوعد نسيان"
صوت فيروز ملجأ السُعداء والحزانى.. صوت فيروز صديقٌ، لا يعرف التخلي مهما انحلت الأزمان.. صوت العتاب الذي يهذب القلوب. هذا اليوم، بحة فيروز تشعر بشيء من الوجع مثلي.
كنت أظن أن حياتي بدأت في النجاح، حين وجدت لي طريقًا في درب الكتابة، وعثرت على حب يملأ قلبي، لكن لا تفرحي يا أمي اليتيمة إلا من دعاء قلبي.. أنا ما إن نجحت في شيء في حياتي، فما هو إلا من قبيل المحاولة والمصادفة، لا شيء مما أحب تحقق، وكل ما حولي شبق الوهم.
إن الضياع هو أن تفكر بكل ما مر في حياتك بطريقة فوضوية تنحدر من أزمنة مختلفة، تكتشف من خلالها حجم المأساة التي عايشتها، وقد تكتشف أنك كنت سعيدًا لأشياء لا تستحق الفرح.. أشياء لا تعني لك شيئًا.. وعلى إثر ذلك، تفقد حقيقة وجود السعادة من جذورها..
حظي له فمٌ مثل باقي المخلوقات، يمضغ العلكة حين يمارس ساديته ضدي، ويشرب السيجار بعد تعذيبي، وإذا هربت يلحقُني ويبصق في وجهي. ثمة خلل في حياتي.. أرى قمة السعادة في أيام معدودة، وأفقدها فيما تبقى من العمر. الكآبة التي أعيشها لا أفهمها، تأخذني لأبعد حزن، وتطرقني في سابع أرض. تذكرت دموع أمي التي رضعتها مصادفة بدلا من الحليب، حين لم تفرق بين نهدها وعينها. أمي توفت بالسرطان، ذلك الوحش الأسطوري الذي يخطف منا كل مُحب..
الأيام مرت، واستفحلت الأوجاع أكثر. قرأت رسالة ريم الأخيرة عشرات المرات. كان قدري أن تعذبني حروفها الأخيرة.. لقد حاولت تعذيبها عن عمد بهذا الأسلوب من قبل، وها هي توجعني بنفس الطريقة، لكن بغير قصد. لم أحب يومًا الكتابة المازوشية، ولا أريد التورط في البكاء على الأطلال، لذا قضيت أيامي بعد رحيل ريم أقاتل اليأس، حتى وصلت للغثيان من أي أغنية حزينة.
في بعض الأحيان، نختبر محبة الأحبة في بعدنا عنهم.. ننتظر شوقهم بفارغ الصبر، لتتأكد لنا محبتهم، والتي لا يجوز الشك بها. لذا، أقنعت نفسي بأن غيابها اختبار من القدر، ولا مجال إلا أن أثابر في ذلك، فأنا على كلتا الحاتين هالك..
مرت الأيام، ورسائلي إليها لم تتوقف. كنت أتلصص على أخبارها من سارة.. علمت أنها ستجري عملية زراعة النخاع العظمي في مستشفى "شتوتجارت" في ألمانيا، وأن نسبة نجاح العملية عالية جدًا، وقد يكون لها آثار جانبية طفيفة، لكن يمكن علاجها بسهولة بعد ذلك. ذلك كان مطمئنًا كثيرًا بالنسبة لي.
ريم لم تجب على أي من رسائلي، إلا قبل العملية بأيام. قالت في رسالتها الأخيرة:
"باتمنى تسامحني ما في شي بايدي، أنا راح أعمل العملية وحياتي آخر همي، ادعيلي إن فشلت أموت بسرعة، ما بدي أتعذب وأنا عايشة.. بحبك"
أشعلت حروف تلك الرسالة الحزينة النار في قلبي، قلبت مشاعري رأسًا على عقب.. أردت أن أكون بجانبها جدًا. ماذا عساي أن أفعل، وجواز سفري بالكاد يستطيع أن يسمح لي بالتنقل من فلسطين إلى مصر؟.. إن استخراج فيزا للسفر إلى أيٍ من الدول الأوربية يقع في نطاق المستحيل؛ شروط الفيزا بالنسبة للفلسطيني، وخصوصًا إن كان من مواليد غزة، قد لا أبالغ إن وصفتها بالانتحار.
لكن أنا عزمت على السفر، ولا شيء ليمنعني عن ذلك. كان لدي بعض من المال ادخرته من عملي مؤخرًا، وبما أن السفر قانونيًا إلى أوروبا ضربًا من المستحيل، فقد فكرت بطريقة أخرى.
كنت أعرف بعض الأصدقاء السوريين، الذين جاؤوا من سوريا للعيش في مصر بعد الأزمة السورية، التي بدأت في مطلع عام 2011، و كان أغلبهم يفكر بالهجرة غير الشرعية لأوروبا. الطرق المطروحة إما السفر بجواز سفر لشخص يشبهني، أو من خلال أوراق مزورة تصدر في اليونان، أو عن طريق البحر من الإسكندرية أو من ليبيا..
لم أكن محظوظًا لأختار بينهم، فلم يكن بمقدوري الهروب إلا عن طريق مركب يخرج من الإسكندرية، وقد كان ذلك القرار من أغبى القرارات التي اتخذتها في حياتي على الإطلاق. لقد وضعت حياتي رهن أناس يتاجرون بأرواح البشر. كنت أعلم جيدًا أني مقبل على طريق أشد رعبًا من الموت نفسًا..
خالجتني كوابيس كثيرة، أهبطت عزيمتي وجعلتني أتردد كثيرًا في استكمال ما انتويته، لكن أصدقائي الذين أعرفهم شجعوني على تمامه. كنا نتعامل مع الحياة كأضحوكة، ونرى الموت أهون من التفكير بمستقبلنا المظلم، الذي شوهت السياسة معالمه كليًا. لم يكن بمقدورنا التعامل مع المهرب مباشرة، كي لا يبلغ أحد منا عنه، لذا كان كل تعاملنا من خلال سمسار سوري وسيط بيننا وبين المهرب.
كنت أقضى كل وقتي مع أصدقائي، الذين سيخوضون معي غمار الهروب إلى أوروبا، كي لا أفكر في التراجع أبدًا، ومنذ سلمت السمسار نصف المبلغ، أتحاشى أن أكون وحدي، لأني كنت سأتراجع نهائيا لو نصحني أحد بذلك، فكنت أهرب من أولئك الناصحين..
قبل يومين من ذهابي للإسكندرية، كتبت لريم رسالة عادية. لم أرغب في أثير فزعها، أو أجعلها تشعر بالذنب إذا ما حصل مكروه لي. قلت لها إنني أنتظر صدور الفيزا لأكون بقربك، سأكمل دراستي في ألمانيا، وهكذا أستطيع أن أكون معك للأبد، انتظريني..
ثم كتبت في ذيل الرسالة: قصتي معك تستحق أن تكون رواية.. لذا، إذا لم أتمكن من كتابتها يومًا، اكتبيها أنتِ كأنك أنا، فحديثك يشبهني..
كانت هذه الكلمات آخر ما أرسلتُه لريم، بعدما أرهقت صندوق بريدها بالرسائل، وقصصت عليها ذكرياتي والأحداث التي عايشتها بجميع تفاصيلها، حتى أنني لم أخجل من ذكر قصتي مع شهد.. أقصد قصة حبي الأول لشهد..
أثناء سهرتنا في أحد المقاهي، حيث كنا نلعب "طرنيب"، اتصل السمسار ليخبرنا بموعد انطلاق الرحلة (غدًا) وعلينا أن نغادر مدينة أكتوبر ونتوجه إلى الإسكندرية بعد ثلاث (ساعات)!.. جميعًا كنا قد جهزنا مسبقًا أغراضنا، وفي انتظار تلك اللحظة. لم نكن نعلم موعد الرحلة مسبقًا لاعتبارات تتعلق بجهة التهريب. إحساس عجيب يحتوي قلبك مع موعد كهذا يحين!
وصلنا الساعة الرابعة صباحًا، وكل منا يحمل شنطة صغيرة بها بعض الأوراق، وتمر، وبعض الأدوية خاصة بدوار البحر، وحبوب مغذية. استقبلنا أحد المنسقين لموضوع الرحلة في الإسكندرية، وأقمنا جميعًا في شقة ممتلئة بالناس من مختلف الجنسيات. وهناك، تعرفت على فلسطيني كان يعمل في الخليج، ولكن تم ترحيله لأسباب رفض أن يطلعني عليها.. بقينا في تلك الشقة لمدة يومين، إلى أن جاء اتصال آخر من المهرب، وطلب منا أن ننزل في أحد منتزهات الإسكندرية، وأكد على كل منا ألا يحمل شيئًا معه. ذهبنا كل أربع أشخاص معا حتى لا نثير الشكوك، وهناك استقبلنا البعض بكلمة سر، وأجلسونا في أماكن معينة، وأجبروا كل شخص على ترك أي شيء كان يحمله. كان منظرنا ملفتا جدًا، لدرجة أشعلت المنطقة حولنا توترًا، خصوصا بعدما وصلت ثلاثة مراكب علنا على شاطئ البحر. أنا والشاب الفلسطيني واثنان من أصدقائي السوريين ركضنا نحو الماء، وسبحنا إلى أن وصلنا لأحد المراكب. لم يكن أحد منا يجرؤ على النظر خلفه، وانطلق بنا المركب بسرعة بعدما داهمت الشرطة الشاطئ.
لم أنظر خلفي أبدًا. كانت تلك اللحظات الأكثر رعبًا في حياتي. سمعت بعد ذلك إطلاق النار، فأغمضت عيني وقرأت الفاتحة، وبدأت في التشهد! كان الموج عاليا جدًا، والمركب يسير بأقصى سرعة. لم أفتح عيني لأكثر من ساعتين، متشبثا بصديقي الفلسطيني. لقد كنت أكثر الموجودين على المركب جبنًا ورعبًا.
لم تكن حياتي سيئة لهذا الحد الذي يجبرني لسلوك تصرف مثل هذا. كنت أخبئ في ملابسي الداخلية بعض الأدوية ومبلغ 500 دولار، ودفتر بقلم صغير. بعد أن دخلنا في عمق البحر، وغرق واحد من الذين كانوا معنا، جاء مركب خشبي آخر، يبلغ طوله تقريبا خمسة عشر مترا، وعرضه أربعة أمتار. وكان أي شخص يمتلك هاتفا يصادر منه، كي لا يكتشف خفر السواحل مكان المركب، وخصوصًا بعدما أبلغنا قائده بأن هناك جندي قد أصيب أثنتء مطاردة باقي المراكب الصغيرة، التي تجمِّع الناس في هذا المركب، الذي كان ينتظرنا في منتصف البحر.
كان هناك كثير من الأشخاص في ذلك المركب الخشبي، قد وصلوا قبلنا، ولا أعلم صراحة من أي نقطة تم تجميعهم، فقد وصل عددنا لما يقارب 80 شخصا!.. الموج عالٍ، والبرد قارس جدًا، وقدماي لا أشعر بهما، وقد جلسنا بجانب بعضنا البعض، وتماسكنا جيدًا لمجابهة تقلب المركب مع الأمواج. لم يسمح طاقم المركب لأحد أن ينام في تلك اللحظات، حتى لا يتشكل خطرًا على حياته. علمنا بعد ذلك أن من تبقى في الشقة ومن لم يلحق بنا تم القبض عليهم. مر يومان على وجودنا على المركب الخشبي كانا أسوأ أيام حياتي، قبل أن يجئ مركب معدني آخر، أضخم من الأول، طوله تقريبا 25 متر وعرضه 6 أمتار، بدأ الناس يقفزون من المركب الخشبي إليه في وسط البحر، والأمواج تتسبب في اصطدام المركبين، حتى ماتت على إثر ذلك امرأة، وأصيب الكثير بالكسور، خلال القفز من مركب لآخر، فلم يكن هناك أكثر من عشر ثوان ليقفز أجدنا إلى المركب الحديدي ويسحبه أحد عليه. هكذا، حتى صرت على المركب الذي سيتوجه للمياه الإيطالية. بدأت المعاناة الصحية، الكل يتقيأ ويتبول، وكان المركب مقرفًا جدًا، والناس تنام فوق بعضها البعض بملابسهم المبللة بمياه البحر والبول!
بقينا في هذا المركب الحديدي لا نتحرك لأكثر من ثلاثة أيام، حتى انطلق بعدما امتلأ بالناس، الذين جاؤوا من أكثر من مركب خشبي كالذي كنا فيه. كنا نتناول طعامًا مقرفًا، يوزعه علينا بالتساوي طاقم المركب. خرجنا من المياه المصرية ودخلنا المياه الإقليمية الأوروبية في عتمة البحر ورهبة الظروف، حيث لم أر اليابسة لأيام. كنت أشعر أني انتهيت بالفعل. لم أثق بأني قادر على أن أعيش أكثر. كنت أتقيا الطعام الذي يطعمونه لنا، وأعتمد كليًا على الحبوب التي كنت أخبئها داخل ملابسي الداخلية.
تعطل المركب معنا ونحن في المياه الدولية، وأخبرنا القبطان أن مركب سيأتي من ليبيا لإجراءات التصليح. تصاحبت جيدًا مع الشاب الفلسطين،ي الذي أنقذني بحبات التمر الذي كان يخبئها داخل ملابسه.
ظللنا ننتظر المركب لثلاثة أيام، كتبت فيها ما حصل معي في رحلة الموت هذه. لاحظ صديقي الفلسطيني أني منغمس بالكتابة، وأحس بكآبتي وبؤسي وقرفي، ورويت له قصتي، وتمنيت عليه إن أصابني مكروه ولم أصل، أن يأخذ كتاباتي ويعطيها لريم، وأعطيت له اسم المستشفى التي تجري بها العملية، ومعلومات الاتصال بها من خلال الإنترنت.
يا قلبي يا ريم، ما الذي فعلته بحياتي.. أدرك أنك ابتعدت لتحميني، وأنا اقتربت لأحترق. أنا آسف جدًا على كل شيء، أعتذر لك ولحياتي التي رخصتها لهذا الحد..
كنت أكتب لريم بنهم، وأُعلِّم بعض كتاباتي بالملاحظات.. أضع خطًا تحت بعض الأشياء، وأكتب شذرة بجانبها، هذه خاصة لا تنشريها في كتابنا!
بدأت أشعر بتهالك صحتي. كان الإرهاق يشتد بشكل كبير، لكنه لم يمنعني عن الكتابة. كنت أحس بالدوار والغثيان، وبين كل فترة وفترة أتقيأ. لم أستطع أن أعبر جيدًا عما في خاطري على الورق.
أشعر بتضارب ما بين وعيي وقلبي مع مخيلتي. بدأت أدرك أن قدري يتخلى عني كلما ابتعدت عن وطني، حتى أني أتمنى لم أجازف بهذا القرار.
وصل مركب صغير من ليبيا إلى مركبنا، ونزل شخصان من على متنه، وقاموا بإصلاح المحرك. من ثم تحركنا من جديد، وفي كل موجة عالية تضربنا قصة معاناة وصراع للبقاء. فقدنا الكثير منا، لا أعلم إذا ما كان العالم يعرف شيئًا عن أولئك الذي بلعهم البحر.
ونحن على الأرض، نتصفح حسابات أصدقائنا اللاجئين في أوروبا، نقرأ فقط أخبار العشرات الذين استطاعوا الوصول لهناك، ولا نعرف شيئًا عن الآلاف الذين يموتون غرقًا، أو على إثر صراع ينشب على المركب، أو ربما تسمم أو جرب.. أسباب الموت في مثل هذه الحالات عديدة.
في أحد تلك الأيام المشؤومة، بعدما غادر المركب الصغير الذي جاء لإصلاح محرك مركبنا، هاجمنا مركب أسود جاء من حيث لا أدري. كان يحمل أشخاصا مسلحين، وقد أطلقوا علينا النار، وقُتل في ذلك ثلاثة أشخاص وأصيب العديد. وقد كنت أنا من أولئك المصابين، فقد استقرت رصاص في فخدي..
اتضح لنا لاحقًا أن هؤلاء الأشخاص عصابة، هاجمتنا كي تضارب على السمسار الذي نظم هذه الرحلة لنا، فبعد أن أطلقوا النار علينا هربوا بسرعة البرق. أنا لم أكن أشعر بوجع الرصاصة حين اخترقت جسدي، لكن في اليوم الثاني بدأت أتوجع كما لم أتوجع من قبل. وقد أصابني الفزع المطلق، حين قام طاقم المركب بقذف جثث الأشخاص الذين ماتوا في البحر!
لا أدري يا ريم إذا كان بإمكاني الكتابة أكثر من ذلك، لكن الورق بين يدي امتلأ، وصحتي فرغت، وها أنا أحفظ هذه الأوراق مع صديقي، الذي آمل أن يوصلها لك. وفي حالة وصل الورق إليك قبلي، فترحمي على روحي، وادعي الله أن يغفر لي.
محبتي
آدم
!
إنتهت
*يامي أحمد
روائي فلسطيني يعيش في مصر

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...