اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

رواية حديثك يشبهني " الجزء الأول " ...للروائي الفلسطيني : يامي أحمد

رواية حديثك يشبهني " الجزء الأول " ...للروائي الفلسطيني : يامي أحمد
ريم .. وصلتُ وشيء من وميض قلبي يتناثر مع كل خطوة أطرق بها بساط الأرض, عند أول طورٍ في نطفةِ الغروب.. ومع انسحاب الخيط الأخير من الإشراق، أنفاسي تسابقني، وصوت لهاثها يعلو ويعلو، حتّى صم عني ضجيج المدينة. صوب المكتبة اتجهت.. لم أكن أعرف أن مجرى حياتي سينحدر إلى جرف لا أعلم كيف أقاوم تياره. كنت جميلة، كنت أشعر بذلك!
وما إن يمر من خلالي الحب، حتى أشعر أني اكتملت كالبدر في صورة الشاعر الجاهلي، كأني يراعة أشابه القمر في وميضه، أقامر الليل في حنينه، وأغدو المضيئة الوحيدة في العتمة، كالماسةِ في جنح الظلام.
في السيارة، تنتظرني أمي عند باب المكتبة. في العادة، لا أستطيع الخروج بمفردي لأي مكان. في صغري، كانت جليسة الأطفال ترافقني دائما، وعندما كبرت، تولت أمي مهمة المراقبة. لا أدرى لماذا يمقتني أهلي بهذا الأسلوب، ويحاصرونني وكأنهم سياجات متنقلة تأسرني على الدوام!
أتساءل أحيانًا: هل أنا أعيش مع أهلي في زمن الإغريق؟ وهل أقدارنا تتلاعب بها نبوءات العرافين؟ هل شاهدني أبي في أحد أحلامه أوديب، الذي ينقض على والده ويقتله، ثم يستولي على الحكم؟ هل نصح أحدُ العرافين أبي بأن يضعني تحت المراقبة الدائمة، كي لا أنقلب على عرشه؟ في بلادي، الحياة متلازمة انقلابات.
رغم ذلك، كان كل شيء متوفرًا لدي، كل شيء من وجاهة ومال، أسبح في رغد الحياة، وأقفز من متعة لأخرى، وكل متعة أرتكبها تسير تحت ضوء أبي، الذي يقتل حتى ظلي!
صرت أمام الباب الزجاجي للمكتبة، يُحاورني خوفيْ على المرآة بوجه ساخر، ويتركني خجليْ أركض بعيدًا كمتسكع هارب من يدْ القدر..
تسمرت حين لمحته،.. مر من أمامي، توقف.. عاد خطوة للخلف، وابتسم.. لم تكن ابتسامته لي مجرد ابتسامة عابرة، بل كانت اللحظة الأكثر صخبًا في حياتي، شعرت من خلاها أني أمسكت كل القيود التي أطبقت على أنفاسي، وفجرتها.. فناثرت حولي في الهواء نورًا وحرية.. كأني أصفد شياطين الخوف التّي اعترضتني، وألقي بلعنتها بعيدا بعيدا..
أنا مأخوذةٌ بكل ما هو فلسطيني.. أنا وأختي ليلى ارتباطُنا بفلسطين فطريّ. دَرستُ تاريخ القضية الفلسطينية، برموزها وأوجاعها وانتصاراتها، كما لو أني ابنة حيفا.. أَصبحتُ أعرف عن فلسطين أكثر من صديقاتي الفلسطينيات المغتربات.. فأنا، إذا ما قرأت قصيدةً أو شيئًا من الأدب الفلسطيني، أشعر بنشوةٍ كأنّي أتناول الشكولاتة.. حين أنتهى من قراءة كتابٍ لدرويش، لا إراديًا أحتضنه، ثم آخذ نفسًا طويلًا وأطلقه زفيرا، كأنّي أنثرُ بذورًا في ساحةٍ باريسيةٍ تعجُ بالعصافير والحمام، فيطيرٌ الحمام ويحط قربي ويقول لي "أنتِ مني"..
أنا اعتدت ارتياد المكتبة بشكل دائم. أصابتني صديقاتي الفلسطينيات بعدوى القراءة، وشغف الأوراق، وتكدس الأقلام. لم يكن أحد من عائلتي يشاركني هذه الاهتمامات، غير أختي ليلى. لم يكن لأحد غيرها أدنى فضول لكي يقرأ كتابًا خارج المنهج الدراسي المقرر عليه. كانت الكتب هي النوافذ الوحيدة التي أستنشق منها هواءً نقيًا، بعيدًا عن حالة الحصار التربوية التي فرضت عليَّ، منذ لا أذكر..
ليلى –أختي- هي الفكرة التي لا أستطيع بالمطلق تخيل حياتي بدونها. في اليوم الذي تغيب فيه عن البيت، يضرب الملل والضغط كفيه على بعضهما، لينفض عن نفسه غبار كبته، ويهاجمني كرجلٍ يأخذ ثأر أبيه بعد أربعين عامًا من ضمره.. لا أحد في دنياي غيرها تغدو شتائمه لي ثلجًا على جمر قلبي.
أختي هي أمي وصديقتي، ولا أحد يساوي ودها في قلبي.. أجدها في مفرداتي، تستحضرها قوى عقلي كرامة لنجواه عندي.
أذكر تفاصيل إحساسي، كما لو أنه الآن.. وقتما كنا نغني معًا شارة المسلسل الكرتوني "أنا وأخي"، أذكر صوتها حين يأتِي دورها في غناء مقطع: " لو سرقت منا الأيام، قلبًا معطاءً بسام، لن نستسلم للآلام.. لن نستسلم للآلام ".. صوتها كان يستفزني، لنصرخ سويًا بفرحٍ "لن نستسلم للآلام". منذ ذك الحين وحتى الآن، وأمي لا تكف عن زجري بتلك النصيحة التي كانت أول سجني: أخفضي صوتك.
إذا كان هناك أحد يعرفني أكثر من نفسي فهي أختي!
كانت تعرف –ليلي- غايتي من الذهاب للمكتبة، فقد أخبرتها صديقتها المقربة أن الشاب الفلسطيني نبيل، الذي يعمل بالمكتبة، معجبٌ بي إلى حدٍ كبير.. وأنا في الأصل يهفت قلبي للذهاب للمكتبة كي ألقاه، ولو مصادفة من بعيد.
أنا وليلى تناقشنا عنه كثيرًا. حديثي معها عن الرجال متسقٌ جدًا، يبدأ بدراسة أولية لثقافته ودرجته العلمية، ثم بتحليل شامل للبيئة التي عاش فيها، ثم جنسيته، ووضعه الاجتماعي والمادي، ثم أناقته؛ وتحديدًا إذا ما كان حذاؤه الذي يرتديه موائم مع باقي ملابسه أو لا.. كنا نكره جدًا الرجال الذين يرتدون نفس الحذاء على كل ملابسهم !
نحن مولعات بالموضة، ولدينا نظرياتنا الخاصة.. إذا كان الرجل يهتم بأن يكون حذاؤه نظيفًا ومناسبًا لنمط لبسه، إذن هو بالضرورة مهتم بكافة التفاصيل الأخرى التي تسبق ارتداء حذائه، بدءً بتناسق ألوان ثيابه، إلى العطر، إلى ترتيب الشعر وتهذيب اللحية و نظافة الأسنان.. ونضارة الابتسامة!
نظرية غريبة، لكنها ناجحة، وأنا أتبناها كليًا. أنا وليلى قد قمنا بدراسة تطبيقية لمعظم نظرياتنا على شخصية نبيل.. وقد كان ينجح في معظم الدراسات، باستثناء حديثه العذب مع زبائن المكتبة من النساء بلا استثناء! كان يغيظني حقًا هذا الشيء، لكن كان يسعدني أنه لم يكن خجولًا إلا معي!.

************************************
آدم
على تردد، أستقبل هذا الصباح. أخطو بخوف على أطراف الروتين، لأتحاشى الملل. الشمس تزمجر غضبًا، زجاجة الماء بجانب السرير فارغة، دبٌ يجلس فوق صدري. أسرف أكثر من غمضة في التفكير بأول قطعة موسيقية أسمعها.. أتحاشي فيروز، كي أظفر بصباح مختلف.. بدلا من القهوة أعددت الزنجبيل. الهاتف المحمول! نعم، لا بد أن بطاريته فارغة الآن، نسيت أن أضعه في منفذ الكهرباء!
زجاجةُ عطر رخيصة من سوقٍ شعبية أخدع بها أنف الصباح.. أفتح الانترنت، أتأمل حساب حبيبتي التي تسكن في مكان لا أصِلُ إليه.. ألعن حظي، ثم أُعد قهوتي وأستمع لفيروز.. " في أمل..".
أتدارك ابتسامتي الساخرة دائمًا حين أنصت لهذه الأغنية، ويبدأ يومي على حين ملل، وينتقل من الأطراف إلى متن الروتين!
لقد تركت غزة منذ سنين.. كنت أبحث عن التغير، وعن معنى آخر لأبجدية الوجود، خارج منظومة الظلم السرمدية التي تعيشها مدينتي الصغيرة.. أريد أن أرى شوارعَ مختلفة، وأحظى بمساحة أكبر لحدود حريتي وتحركاتي.. أبحث عن مصادفة توقعني في شباكِ حبيبة -أو صديقة- أحدثها عن شغف الحياة الذي يعتريني ولا يمر بي. أريد المارة يبتسمون لي، إذا ما تقاطع نظرنا على الطريق.. لا أريد البحر ملاذي الوحيد لرذاذِ السهر.. أريد الشاطئ للتأمل، لا للعشاء ولا الغداء ولا للفطور، ولا لممارسة الرياضة، ولا لكل تلك الأنشطة التي يحتضنها البحر وكأنه نادٍ شعبي كبير، يشبه في زحامه القاهرة ساعة الظهيرة!
أجرب الحب على هيئةِ خطيئةٍ في خيمةٍ صغيرةٍ على ضفاف مخيلتي، كي أخفف من وقعها على ضميري الشفاف. هذه الدنيا ضاقت، وأعجبها ضيق حلقاتها، وأعجبتها إقامتنا في عقر الزجاجة.. يكفي أن يجلس أي أحد معي الآن، كي أقضي له على ما تبقى من أمل..
تركت في غزة أجمل حبيبة. رحيلها وضعني بين بنيان مخجل مرصوص حولي، أنا الرجل الذي لا يجوز له أن يبكي من أجل امرأة؛ بل صِرف سخرية أن تفكر بالحب وتنسى أوجاع المدينة. لا يفترض أن تحب وأنت في أي لحظة قد تتعرض للموت. الحياة في غزة على كفٍ لا يصفق لك؛ لكن شغفه الوحيد أن يلطمك.
لقد شهدتُ في غزة الحرب الأولى عام 2008، والتي راح فيها نحو 1500 شهيدا، من بينهم حبيبة عمري "شهد"، نعم بهذه البساطة تحولت حبيبتي من روح إلى رقم. ليس كل الشهداء يحملون السلاح.. أكثرهم يحملون الأحلام، ويحلمون بالسلام.
أذكر وقع الخبر جيدًا؛ كأن نحاتًا نسي آدميتي، وأخذ بالإزميل والسكين ينحت من شبابي كهلًا، ويقول عن دمي المتناثر كالغبار -إثر ضربات الإزميل في جسدي-: لا بأس، سأكنسه حين أنتهي من صنمي. من يومها، وأنا صرت أحس على الدوام بألمٍ في صدري. لم يبالِ أحدٌ بكسرتي.. الكل مشغول بما هو أهم: توفير الطعام، وشراء المحروقات، ومتابعة الأخبار.. إنها الحرب!
لم أستطع الخروج لأداء واجب العزاء. أأذهب لجنازة حبيبتي؟! القصف لم يتوقف، وسلك الطريق من شارع لشارع بمثابة التهلكة. ثم بماذا أقدم نفسي لوالدها؟ هل أقول أنا حبيب ابنتك، التي أنا على علاقة معها منذ أربع سنوات ونحن منذ ذلك الحين نفعل المستحيل كي لا تعرف؟!
لم أفهم معنى الدموع الساخنة إلا يومها. كان إيقاع صرير أسناني هو كل ما أسمعه. لم أشغل بالي بصوت خفافيش الاحتلال التي تدنس زرقة السماء، لم تُؤرقني رنّات الأخبار العاجلة، وأنا أحتطب دمعيْ من هنَا، وألملم حزني من هُناك!
خررت مفلوج الصدر إلى غرفتي، وأغلقت الباب على ظلمتي.. ذلك اليوم كان أول يوم أكتب فيه. ظللت طوال أيام الحرب أكتب. أنا أذكر حتى الآن أول سطر كتبته، فقد ظللت أكرر كتابته على مدار أيام.. وقتها لم أستطع أن أخطاب في شكواي تلك إلا الله؛ كتبت:
"يا الله.. إني مكسور يا الله.. مذبوح في أكبرِ شريانِ. أوعيتي تشهد آلامي.. أضلاعي تفتُك أضلاعي.. وطني يوجعني، وأوردتي تسكب في قلبي جمر الفقدِ وأحزان الناي".
كنت لا أفعل الكثير في الحرب. لا أصوات الصواريخ، ولا صراخ الناس، ولا العتمة التي استمرت لأكثر من شهر تشغل بالي، أربع أشياء أفعلها: أمتثل لرغبة زوجة أبي وأذهب لشراء الخبز -كنت أظل واقفًا لساعات طويلة أمام المخبز، حتى أحظى بربطة خبز- ثم أقرأ، أبكي، وأكتب.
لقد كنت منكبًا على نفسي بقراءة القرآن، مثلي مثل كل أولئك الذين يجدون فيه ملاذهم للسكينة. لكني لم أكن متدينًا أبدًا.. كانت قراءتي للقرآن بمثابة المفتاح الذي فتح خزان المفردات المطمور في ذاتي، والذي كان سببًا في أن أسلك الكتابة طريقًا، أمدد فيه سيرورة أحلامي. أنا الآن أكتب في العديد من المواقع الإلكترونية تحت اسم مستعار.
كل ذلك الفضل يعود لقراءتي القرآن، الذي كنت أقف مذهولًا أمام تعبيراته وجمله الرصينة. علمني القرآن الكتابة، والثقة بالنفس في إدارة الحوار. كنت في السابق أتلعثم بالكلام حين أتحدث، وطوال حياتي الدراسية خجلت أن أرفع يدي للإجابة على أي سؤال في الفصل. علمني القرآن الاطمئنان كيف يكون، والاستقرار الذهني والعاطفي كيف يسير، ودربني على الرجاحة والرزانة في الحديث والسكوت، وفي السكون. أذكر كم توقفت كثيرًا عند سورة الرحمن! كنت أشعر بعمق وجود الله قربي وحولي في الآن الذي أقرأ هذه السورة. كان تجويد حرف النون فيها مثل حليب الأم، يخلق بيني وبين الحروف ارتباطًا روحانيا معقمًا لا يمسس صفاءه لا الشيوخ ولا المراؤون!
صرت أكتب وأقرأ كل يوم، لأحمي ذهني من التلف؛ فالكتابة والقراءة أكثر الملاجئ نفعًا للهاربين من الأحزان. أجمع كتاباتي في ورق.. تكدست عندي نصوصي، وتنوعت، وصار عندي محصول كبير من المقالات. كانت القراءة -إلى جانب الكتابة- هي الأساس الذي يصنع لغتي. ما أجمل أن تكون لديك فكرة في الصغر، تجدها بعد سنوات مطروحة من قبل شاعر أو عالم أو فيلسوف. كانت هذه المصادفات بمثابة الماء الذي يروي بذرة الكتابة في داخلي. تزداد ثقتي بنفسي كلما تشابهت بفكرةٍ لفيلسوف أو عالم. هذا الشيء الذي جعلني أشعر أن لدي شيئا كثيرًا لأكتبه. لكني -حتى الآن- رغم كتاباتي، ما زلت على يقين بأن هناك شيئا ينقصني، ويمنعني أن أسمي نفسي بكاتب؛ ألا وهو مُلهم المبدعين: الحب!


*********************
ريم
كان فلسطيني مغترب، يعمل في مدينتي منذ –تقريبًا- عشرين عاما، حيث هاجر والده من فلسطين إلى هنا، ليستقر ويبدأ حياته وتعليمه، مع واقع بعيد عن أرضه.
لاحظت -من خلال زميلاتي الفلسطينيات، وصديقاتي اللواتي درسن معي في المدرسة- أن هناك شيئًا مشتركًا لدى معظم الفلسطينيين المغتربين في البلاد العربية، يكمن في أن معظم الشباب يعملون ويدرسون في آن واحد، يتحاشون المشاكل، كما يتحاشون الحديث عن السياسة.. عمليون جدًا وفي سماتهم، يشتركون جميعًا بهالة الحزن تحت عيونهم.. هناك لعنة تطاردهم في كل البلاد العربية؛ لعنة الإقامة.. في كل سنة تتجدد معاناتهم بشكل مضاعف. لم أكن أعلم أني سأكون سببًا في تضاعف مكيال اللعنة على نبيل.
غانم، أخي، ثقافته جيدة، متدين نوعا ما، طيب.. أو -لا أعلم- ربما لا؛ لأني أشك في طيبته. المهم، أن ما بدر منه قضى على آخر نفس للحرية كان يتأرجح في حياتي. لا أظن أني سأغفر له.. ربما لو كان ما حدث يخصني وحدي، لأسعف ذلك شيئًا من الموقف.. لكنه قضى على كثير من مفردات حياتي برصاص الظن.
منذ تلك اللحظة، وأخي مصدر قهري الأكبر.. يوجعني دائمًا، إن لم يكن بالكلام فبالنظرات التي لا تكف على أن تراني عارًا عليه. أعترف أن غانم ناجح في حياته، رعانا كثيرًا، وكان يقف دائمًا مظلة تحمينا من ضوء أبي الحارق. فانفصال أبي عن أمي كان صوريًا، وكان هو الوالد في الكثير من الظروف، وكان سندًا لأمي.
أمي تحبني جدًا، لكن لديها رعبًا من فكرة أن يقال لها "أنت لم تستطيعي أن تربي جيدًا". كان عارٌ في مجتمعنا أن يقال لأخوتي "تربوا على يد امرأة".
أمي ضحت كثيرًا رغم انفصالها عن أبي، منذ كان عندي ثلاثة عشرة عامًا، لم تشأ الذهاب إلى المحاكم للطلاق. قبلت على نفسها أن نعيش في بيت أبي، دون أن يعلنوا جهرًا أنهما مطلقان. لم ترغب بأن يطلقوا على أبنائها نعت "أبناء المطلقة"!
أمي جميلة.. جميلة جدًا. هي من أصل بدوي.. أخذنا منها الجمال والطيبة المطلقة، أنا وليلى على الأقل. ملامحها أصيلة، أنف دقيق مرفوع قليلًا، بشرة بيضاء نضرة جدًا، عينان واسعتان كحيلتان، وشفاه ممتلئة صغيرة -كنت دائمًا أمازحها القول بأن في شفتيها لوحدهما نصف جاذبيتها- والعنق صافٍ طويل، جسدها ممتلئ، لا أتعذب في وصفها لأني أكاد أن أكون نسخة طبق الأصل منها، أحفظ ملامحها جيدًا من مرآتي.
أبي كان ساديًا جدًا.. أذكر كل تلك العلامات التي كانت تظهر على عنق و وجه أمي بين حين وآخر.. كان يجد لذة شديدة بإلحاق الأذى الجسدي بأمي. لا أنسى ملامح وجهه، حين كان يتسبب في بكاء أمي.. ابتسامته.. سعادته.. الفرح يكاد يتطاير حوله ويدور فوق رأسه.. كان يتّمتّع في رسْم الوَجع على محياها..



آدم
عند الساعة السادسة مساءً، دفعت بصعوبة باب البلكونة الثقيل، المهمل في الركن المنسي لشقتي، والذي يواجه أشعة الشمس بشجاعة طوال العام. دخلت لكي أجري اختبارًا أوليًّا للطقس، حيث من النادر في الصيف أن تحظى عند مقتبل الغروب بنسمة هواء في مدينة 6 أكتوبر، حيث أعيش. كان الجو مقبولًا نوعًا ما، لذا أحضرت جهاز حاسوبي المحمول، وارتأيت الجلوس على كرسي من بقايا الأثاث التسعيني القديم.
أنا ما زلت أسيرًا للفكرة الهلامية المزروعة في مخيلات الناس، بأن الكاتب لا يمكنه أن يبدع بالكتابة إلا على الشرفة أو على شاطئ البحر، أو إذا شرب نهرًا من الكحول، أو إذا اعتكف بمعزل عن البشرية بأجمعها.
بدأت أكتب لنفسي، وكانت نصوصي خاصة مثل خصوصية العلاقة بين الرجل وامرأته. تبادلني الكتابة الحب، وأبادلها الاهتمام.
أنا أقطن في المجاورة الثانية في الحي الأول من المدينة 6 أكتوبر. معظم سكان هذا الحي من الطلاب العرب المغتربين. وربما لا أبالغ إذا قلت إنه من الممكن أن تجد من كل عشر أشخاص .. ثلاثة أو أربعة مصريين بينهم. الحياة في مدينة أكتوبر مختلفة كثيرًا عن باقي مدن القاهرة.
فتحت الحاسوب وأخذت أتصفح بقايا الذكريات المخزنة على الجهاز، بدا الحنين يكتب رغمًا عني وقال: قد جف حلق محبتي، لا شيء يروي تقشف قلبي.. هل يستطيع القلب قبول الحب مرتين؟ سؤال لا زلت أتمنى أن يجيب عليه حظى بإيجاب. شهد.. بثلاثة حروف تُختزل مناجاتي! إن صوت الحنين للشهداء الأحبة صارخٌ جدًا يدمي في البراري، طوبى للنسيان..
نعم تركت غزة، تركتها وتركت مدمني السلطة يتصارعون على فتات ما تبقى من الأرض، وما نجا من القضية. عزلت نفسي عن السياسة.. فأنت حين تفقد عزيزًا، تشعر بأنك صرت أكبر من أن تتابع مناكفة سماسرة الوطن.
لكني لا زلت أعاني كلما أردت أن أكتب عن نفسي، من تداخل أفكاري والمواضيع.. في الحب أجد السياسة تقحم ذاتها في مجازي.. في الأكل، في الشرب، في الخروج، في السفر.. في كل شيء تقحم نفسها كالبعوض، ولا تكف عن لدغ لذتي.
المهم، حياتي في مصر كانت بعيدة عنها.. حياة هادئة، تكتنفها البساطة في كل شيء. حتى الأكل، أكتفي فيه بثقافتي الضئيلة مع الطبخ، مقلاة بندورة، وبطاطا مقلية. أُدمن الجلوس على المقاهي المصرية، أتنفس البساطة وراحة البال هناك بعيدًا عن زحام القاهرة.
في مصر، روح الحياة أجمل ما فيها، لا أظن أن بإمكان أي سائح أن يستمتع بها دون أن يخالط حياة البسطاء. الحق أقول إن في حياتهم الكثير من ارتشافات السعادة. أنا منذ البداية جئت لمصر أبحث عن الهدوء، خارج ضجر السياسة والشعارات الوطنية التي ترهق أمعائي، تأخذ مني ولا تعطيني. فأنا على يقين أن السياسة لن تستطيع يومًا أن تعيد لليمامة بنت كليب أباها حيا.. ولا تستطيع أن تعيد لي شهدي!
مشكلتي مع الوطن أني لا أستطيع أن أراه بعيون ضيقة.. ومشكلتي في الهروب منه أني لا أستطيع الهروب من دمي. لكن هل يمكن للروح أن تخرج من المادة، وتبقى المادة محتفظة بسرها؟ السر في الروح، إن حواسي كلها متعلقة بشهد، وشهد متعلقة بفلسطين، وفلسطين متعلقة بأيدي حفنة غير مسؤولة، يتناثرون كالغبارًا في مختلف بقاع الأرض.
كنا أنا وشهد روحين مدهامتين متداخلتين؛ ما إن رحلت حتى اختل توازني وتشوه. حاليًا، أنا النصف المشوه، وشظايا نصفها المقتول يجرحني في كل مواضع جسدي. تعرفت على شهد منذ كانت في المرحلة الإعدادية، حيث كانت لدينا مكتبة قرطاسية أمام المدرسة التي تدرس بها.
شهد.. حبيبتي! كانت من أكثر الناس ارتيادًا لمكتبتنا على الاطلاق. أنا أكاد أحفظ ما تحتويه مقلمتها دون أن أفتحها.. قلمين رصاص، واحدًا منهما بأسنان، وأقلام حبر جاف أزرق وأسود و أحمر وبنفسجي، مرآة صغيرة على ظهرها صورة لزهرة الأوركيد، ممحاة زهرية، ومسطرة -التي ما إن حركتها حتى تتغير الصورة المطبوعة عليها- قلمًا فسفوريا، وقلم حبر.
نعم فكل هذه الأشياء أنا الذي أبيعها لها منذ أصبحت طالبة في المدرسة الابتدائية، كنت نذلًا معا في البداية، وهذه عادتي في البدايات، لم أهدِها شيئا من المكتبة. كانت تحاسب على ثمن أي غرض تشتريه دائمًا، وبذلك كنت مصدر إفلاس لها! هذا الشي من ضمن الأشياء التي لا أسامح بها أناي.
كانت تستخدم دفاتر المحاضرات في المدرسة، وكانت تنزعج من مُدرسة العلوم التي تجبرها على الدفاتر المدرسية ذات 100 ورقة. ما أجمل أن تعيش طفولة جنبًا لجنب مع المحبوب، فأرض المحبة فيها خصبة تحصنها عِشرة الأيام. من ضمن الأشياء التي لا أدري أي حب جديد يستطيع محوها من ذاكرتي، هي ذكرى عيد ميلادها، خصوصا بعدما أعلنت صراحةً لها حبي.
خرجت تقريبًا عند منتصف الليل، بعدما حل الرعب على المدينة، وخلت شوارعها من أي نبسٍ بشري. كنت مرعوبًا ومترددًا جدًا؛ فوقتها كان الوضع الأمني لا يسمح بأي تهور من هذا القبيل، خصوصًا وأن ظلام الانقسام في أول حِلكهِ، فقد شهدت البلاد تلك الأيام نشوء سلطتين سياسيتين وتنفيذيتين، في صيف عام 2007م في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكل منطقة منهم تحت سيطرة تنظيم سياسي وعسكري مختلف. بالنسبة لغزة، فقد أبصرت بداية لظهور جهاز أمني جديد، منفصل أو متصل مع وزارة الداخلية؛ لا أذكر، أو لأكن دقيقًا لم تكن تهمني تلك المعلومة، فلا فرق عندي. لكن ما أعرفه من رؤيتي السطحية للأمور، أنها تسمى بالقوة التنفيذية.
المهم، كانت هناك عناصر من تلك القوات يجوبون الشوارع ليلًا كل يوم، وتقوم بالتحفظ على المشتبه بهم. لذلك، كانت فكرة القبض عليّ وأنا أكتب على الجدران تخفيني جدًا.
ستكون فضيحة كبرى على المستوى الشخصي والعائلي. مقابل بوابة مدرسة للبنات، شاب يكتب بالفحم على الجدران رسائل حب في عيد ميلاد حبيبته!
صراحة، حتى الآن الفكرة ترعبني، وقد مرت سنوات طويلة على ذلك اليوم. لا أتصور خجلي من نفسي لو تم التقاطي متلبسًا وقتها. لكن الحمد لله، أنهيت لوحتي بالكتابات الرمزية، التي لن يفهمها أحد سواها، وهرولت ركضًا للبيت.. كنت كالذئاب الخاطفة أركض.
دخلتُ البيت مثل اللصوص بالضبط.. تمددت على فراشي، كانت مفاصلي تتخبط في بعضها البعض، تلحفت بأكثر من لحاف، كنت أرجف من شدة الخوف والبرد، أحاول أن أمنع نفسي من مراسلتها على الجوال، كي لا أفضح مفاجأتي. والحمد لله، تفوقت ليلتها على نفسي، ومنعت نفسي من التهور بإخبارها.
لكني محاولاتي في النوم فشلت.. بقيت حتى ساعات الصباح مستيقظًا، أريد أن أشهد الحدث أولا بأول..
تَذكر تلك الأحداث يبعث قشعريرة في جسدي. استحضار مشاعرٍ قديمة أشبه بمعجزة خفيفة على العقل، وأنا أحب أن أجدد دهشتي بالمعجزاتِ.

ريم
دائما ما ينظر لي أبي بعيون لا أفهم لغتها. أنا متراخية الأعصاب، على عكس أمي المتوترة دائمًا. لا أختلق الأسئلة، ولا فضول حتى لأسئلة ضرورية أطرحها على والدي. أنا باردة جدًا، وقد ورثت من والدي هذا الطبع. إذا غضبتُ أبكي وحدي، وتبكي عزلتي معي، على سبيل التضامن لا أكثر. أتحاشى هيجان البراكين، أقف في الصف الآمن لكل الخيارات، حتى في ثيابي لا أغامر، أسير في حياتي بين بين.
ربيتُ مدللة أسيرة، لا أعرف كيف يلعب الأطفال في الشارع. حُرمت من الاختلاط بالبسطاء، أبعدني والدي عن أكثر من ثلثي العالم بذلك.
تعلمت سرًا إعداد الطعام من مربيتي أم خالد. أمي تمنعني من الذهاب إلى المطبخ. مربيتي من أقرب الناس لي. هي سيدة مصرية، تبلغ الآن من العمر أربعين عاما، أحس بألفة شديدة معها.. لا تختلف كثيرًا عن أمي بخوفها عليّ. أمي تضحي بالصمود أمام سطوة أبي، وأم خالد تضحي بتربيتي، فأنا وليلى نكاد نسيطر على نصف وقتها. أشعر بشيء من اللهفة للعيش في مصر..عالمي الجميل عشته مع مربيتي المصرية.
أخذت من أم خالد ذائقتها الفنية، التي تنتمي لجيل السبعينات والثمانينات. هي الوحيدة التي لا أبرر أمامها كل تصرف أتصرفه، والحقيقة التي تجعلني أدرك أن الحياة ليست وهما. الشيء الوحيد الذي أخفيه عنها هو الحب الذي يلين قلبي له. لم أشأ أن أضعها في موقف محرج مع والديَّ. الحب، الحقيقة الثانية التي أعيشها فوق الغياب والغشاوة المتشعبة في أزقة الأوهام.
الحب والبساطة دائرة نجاة من كل فخ متكلف بين جدران الذهب، وفوق صرخات العمال، وتحت ألسنة الشمس. أكره التكلف، وأتحاشى اللامبالاة. الناس حولي إما مسرفين فوق التشبع تسيطر عليهم المظاهر، أو مسرفين في لؤم اللامبالاة التي لا تنبع من أمل. الحياة في مدينتي من سماتها التنافس في الإسراف، سواء كان على صعيد الفرح أو الحزن. مجاراة الآخرين في الظهور بأحسن المظاهر في حكم الفرض. كم يؤلمني تبدل المعاني في بلادي.. الكرم انحرف عن فحواه، اللامبالاة صارت مأساة.
أذكر جدًا كم وبختني أمي لأني ارتديت يوما فستانا عاديًا في زفاف أحد أقاربنا. بل ليس ذلك وحسب، أبي أيضًا انضم لحزب أمي في توبيخي. كان الموضوع في أوج جديته.. نادرًا ما يتفق أبي بشيء مع أمي. عقلي يرفض أن يستوعب ما حصل ذلك اليوم من ترهيب وتوبيخ! أن تجرح وجاهة الأسرة وهيبتها، تلك أشياء لا تغتفر. أنا وأبي اثنان لا نتقاطع أبدًا. أبي يحب أن يتباهى بحبه لي أمام الناس. مثلًا، لو ذهبت لشركته ودخل أحد الزوار إليه أثناء تواجدي، يتحدث معي وكأننا "سمنة على العسل" وما إن يخرج الضيف، حتي يعود الصمت المريب بيننا!
علاقتي مع أخي غانم تحولت لمرحلة الصمت المريب، مثل علاقتي مع أبي تماما. ذلك بعد ما حدث في المكتبة. الحدث الذي شكل نقطة فارقة في حياتي.


آدم
اعترفت مباشرة بحبي لها، وطويت صفحة التلميح يوم الجمعة الموافق 3-8-2007م، حين أسدل المساء ليله على صيف المدينة. خجلي كان مليكي وأنا طوع أوامره.. لم أعترف لها بالحب وجهًا لوجه، بل خسرت معركتي مع الشجاعة. فضلت إرسال ذلك في رسالة SMS ، وندمت لاحقًا على تلك الخطوة. لم أكن بطلًا، وذلك كان أول ضباب ندم يغم على نفسي.
صحيح أني أهملت عقلي و ربحت قلبي وقلبها؛ لكني لم أربح نظرة عينها في أول مرة أعلن لها عن حبي.
أرسلت لها في نص الرسالة كلمة واحدة: أحبك!
يا إلهي من كمية التخمينات والتخيلات التي اخترعتها يومها! بالفعل كانت مهولة. ميزة الحب الأول أنه يأتِي للقلب قبل أن يُسمم بالتجارب والأغاني والروايات. يأتي لقلبٍ بريء، بمميزات طفلٍ رضيعٍ.
هذا الذي يجعلني أبتسم كلما تحدثت عن شهد، وجعلني متردد في اعلان حبي، ولساني بوزن دب يصبح إذا ما أردت البوح عن عواطفي.
كنت أفكر و أسأل نفسي: ماذا لو كان الجوال في يد والدها، أو أمها، أو أختها التي لا تكف عن كشف أسرارها لوالديها؟ ثم بأي وجه سأقابلها، لو أنكرت علي حبي؟
ماذا لو كانت الحكومة الجديدة تراقب الهواتف والجوالات؟ فقد كان هناك هوس من هذا القبيل زرعته عصافير الحكومة عند الشعب، ماذا لو قيل إنني ضُبطت متلبسًا بمحادثات غرامية مع طالبة في إحدى المدارس الثانوية؟
وفي تلك الأقاويل يتسع التأويل الغزي....
المهم، بعد 15 عشر دقيقة و 43 ثانية بالضبط، جاء رد شهد على رسالتي. ثوان قليلة عشتها قبل أن أفتح الرسالة.. عشت فصول الخريف والصيف والربيع والشتاء كلها في ثوان..
قالت: لا تتوقف!
أرسلت لها مجددًا: أحبك..
ردت: لا تتوقف ولا تهرب ولا تخذل !
مسني حبها والكلام.. سميتها من نسل لقمان. عدت للصفر من بعد هذا، واصطفيت لها من القلب أنقى المشاعر، رتبتها ووظفتها وصيفةً في خدمتها إلى نهاية الزمان.
يومها وبالضبط، اختفت معاناتي مع انقطاع التيار الكهربائي وخبائث الحصار على غزة من الداخل والخارج، وحتى معارك التوظيف والتنصيب.. نعم، علمني حبها أن أغرد خارج أسراب المعاناة. لم يعد يهمني تخزين البنزين، ولا الاختراعات الجهنمية للتكيف مع الألم والظلم وقسوة الحياة. كل ذلك لم يعد يعني لي شيئًا. كل شيء صار في حياتي هادئا، وإن توشحت المدينة بالانقسام..
فالحب يجعل من حياتك وسط النار بردًا، ويباركها بالسكينة والسلام، ويبعد عنك أفكار الهجرة والخروج من المدينة المحاطة بقصديرٍ ساخن.
منذ توفت أمي بسرطان الدم، وقلبي لا وزن له. جاءت حبيبتي لتمنحه ثقلًا ومعنى. صار أشد زحامًا من الصين والهند، مكتظًا بالأغاني والأحلام. في اليوم التالي، الذي كان مقررًا أن أرى شهد فيه، بعدما اعترفت بوضوح بحبي، كنت أضعف من قشة.. حتى أني استغربت نفسي، كأني أحب على مضض!



ريم
اقتحم أخي المكتبة والشر يتصبب من وجهه في الوقت الذي كنت فيه في أوج سعادتي. لا أعرف كيف علم بوجودي هناك، ولا يمكنني تخمين أنه جاء بناء على وشاية، فما من أحد يعلم بقدومي إلى المكتبة كي أهدي نبيل في عيد ميلاده، غير ليلي أختي.
لكنه في لحظة استطاع أن يفترس سروري وينتزع أعمق جذوره، لقد أجهض حياتي كلها، بآمالها وأحلامها وقصصها الوردية.. تقدم نحوي، وملامح وجهه تشبه وجه أبي حين يرغب أمي وترفضه.. ظل صامتا يحدق في نبيل وينظر بتقزز لي وله، ثم اقترب مني وقال لي:
"ارجعي يا كلبة على السيارة!"
أنا كلبة! ينعتني أخي بوقاحة بهذا الوصف أمام نبيل! كيف؟ كيف؟ بأي حق يقول ذلك؟ بحق الأخوة؟! ثم أنا، ماذا فعلت؟ أي جُرم؟ أي سواد هذا الذي يحاصرني؟
لم تسعفني الآهات كلها.. صب أخي على صدري جمرًا من جهنم. بالكاد أقدامي حملتني إلى السيارة. كم هزيل كان جسدي آنذاك! كل شيء أرتديه وقتها كان ثقيلًا، والأكسجين كما لو أنه نفد.
طعنت -في لحظة- عيوني بالدمع، اشتعلت حدائقي بالنيران، الدقائق لا تمر، أتلوك على الكرسي الخلفي، ولا أكاد أسمع حرفًا مما تقوله أمي. خرجت من المكتبة بجريمة فاحشة في عُرف عائلتي.
لم أستطع أن أعرف ماذا حدث داخل المكتبة بعدما خرجت. أصبت بحالة من الحنطة، لا أسمع ولا أرى سوى طشاش من نظرات أمي.
كرهت جلدي ودمي، كرهت كل شيء. شعرت بدوخة شديدة، حين خرج أخي من المكتبة مشتعلا بغضبه. قلت لأمي: "خبيني"، ثم لم أذكر شيئًا بعدها.. شعرت بهبوط شديد، وأغمى علي.

آدم
لست قويًا لكي أقوى على لقياكِ. كنت أحاول أن أتجنب عيونك. ركود في القلب، أو خجل حد الرفض؛ لم يكن بمقدوري أن أحدد هوية شعوري الذي أعيشه.
شهد، لقد كان لقائي الأول بعد الصفر معك فاشلًا، مثلما كان شكل الاعتراف محبطًا. نرتكب الكثير من الأخطاء في الحب، ولا نعيها إلا بعد مرور الوقت.
شهد لها عزة نفس لا تضاهى، لدرجة أنها تكره كونها تدرس في مدارس وكالة الغوث للاجئين. حدثتني من قبل عن مقتها من حياتها كلاجئة، وعن بغضها كطالبة ترتدي زي البأس المدرسي المخطط باللونين الأبيض والأزرق والمفروض على طالبات مدارس الوكالة. كانت تكره أيضًا أدوات القرطاسية التي يمنون على الطلاب بها.. ترى بشعار الأونرو على الكتب والدفاتر شيئًا مهينا، وكأنه جرس تذكير بالضياع.
كنت سألتها لماذا تشترين دفاترك وأقلامك من مصروفك الخاص، بينما لا تستخدمين المستلزمات التي تمنحها الوكالة للطلاب؛ قالت لي:
شعار وكالة الغوث يُشعرني بالوجع كأنهم يحتفون بتشردنا، ويُشعرني بأني ما زلت أعيش في مستنقع اليد السفلى، وأنا لا أكره شيئًا في حياتي قدر الذل والهوان. أتمنى لو كان هناك بديلًا عن مدارسهم.
حين جائتني في ذلك اللقاء، كنت أتعمد تجاهلها، بل وتماديت في ذلك لدرجة أني اقتربت منها وقلت:
انتظريني سأكون معك بعد قليل.
وابتعدت عنها خطوتين، ثم التففت لكي ترمقني أو أرمقها بنظرة على أضعف تقدير، فلم أجدها في المكتبة!
بالغتُ في تمنُعي غير المبرر، وخسرت مجددًا بسبب خجلي وتوتري. غفّلت عزة نفس غيري، فرحل بغفلة عني. على مدار اليومين بعدها أجريت أكثر من مئتين محاولة للاتصال بشهد، وشهد لا تجيب. الورطة هي محاولتك لإصلاح ما أفسدته في علاقتك مع فلسطينية، جبروتها في عزة نفسها!
ما أقساهن الفلسطينيات حين يغضبن، ما أعنفها من لعنة تحل عليك، ما أتعس حالك.. لله درك إن غرقت في هذا الحال. حاولت في مرة أن أمازح شهد في إحدى أغاني الفنان اللبناني وائل كفوري. قمت بقص الجزء الأول من أغنيته "عم بكذب عليكِ" وأرسلته.. كان بدايته:
" لا بحبك ولا بموت فيكِ،
ولا أنا متعلقة روحي بإيديكِ،
ولا وحدك بقلبي،
بصراحة في معك شي 15 عاشقة شريكة،
حلوين.. شو حلوين.. والبشعة حلاها متلك
لأ..وزايد عليكِ"
تحولت شهد في ثوان إلى تمثال أبو الهول، لا تستوعب ولا تستجيب. قلبها وعقلها تحولا لكتلة صخرية. ظللت أشرح لها على برنامج المحادثات "Messenger" مزحتي، لكن لا حياة لمن تنادي. كانت تلغي باستمرار قبول المقطع الثاني من الأغنية الذي يقول.
" ما بقصدك و حياة عينيكِ
شو صرلك زعلتي يا تسلميلي أنا
لا تصدقي
عم أكذب عليكِ"
ثم ما هي إلا دقائق، حتى قامت بحظري من قائمة الأصدقاء عندها. مرت بعدها على ما أذكر أربعة أيام حتى رفعت الحظر، وحين بدأت بمحادثاتها قالت:
لا تحاول أبدًا التلاعب بمشاعري، حتى ولو على سبيل المزاح!
نعم، مخاطرة كبيرة أن تجرح أنثى تسبح في فُلك الكبرياء. لا تفعل يا صديقي، كي لا تغرق في بحر الرجاء والتبرير. ولولا أنني ذهبت في ذلك اليوم إلى بيت صديقي، الذي يسكن في نفس البرج الذي تعيش فيه شهد، لما رأيتها بعد ذلك أبدًا.
فقد ظللت في شرفة بيت صديقي وفي يدي باقة ورد، أنتظر عودتها من المدرسة لكي أعتذر. وما إن لمحتها تدخل البرج، حتى سارعت بالخروج وضغطت على المصعد كي أستطيع أن أراها. كنت أدعو الله أن تكون في المصعد وحدها. ما إن فتح المصعد بابه، حتى ظهرت أمامي وحدها. ظللت صامتا قليلًا، ثم أهدتني ابتسامتها التي جعلت جسدي يرتجف من السعادة والفرح. أهديتها باقة الورد، وقلت لها:
أنا آسف؛ لن أستظرف مجددًا معكِ، سأكون عند حسن ظنك.
أخذت الباقة وقالت:
لن أسمح لك أصلًا بذلك.
ثم أزاحت قدمي عن المصعد، وأردفت قائلة:
والآن اذهب من هنا، حتى لا تتسبب لي بفضيحة!
عدت إلى بيت صديقي، وبدأت أنسج له من القصص والأكاذيب أساطيرا.... صديقي أيضًا يحب أخت شهد، والتي لا تعيره اهتمام أبدًا، لذلك كان عقله جاهزًا لكي يصدق أي كلام أقوله، حتى ولو كان منافٍ للعقل وخارجًا عن قوانين الطبيعة.

ريم
وجدت نفسي في غرفتي، لا أحد معي إلا أشيائي الثمينة على قلبي تؤازرني وتكاد على حالي تبكي.. الدباديب والجدران في حالة حداد، مرآتي توقفت عن مغازلتي كما لو أنها ساعة فرغت بطاريتها، هاتفي المحمول غادرني، كآبة تحوم حولي مثل الدبابير، لا هوية لي، ألم في أنفاسي، تعب.. إرهاق..، عظامي كما لو أنها ارتطمت بشيء، معدتي تؤلمي، وأشعر أني سأتقيأ أي شيء سأتناوله على الفور.
هذا الشعور أعرفه جيدًا؛ لقد اعتراني من قبل، لكنه لم يكن بهذا السوء على نفسيتي المهترئة. حاولت أن أحرك يدي، فلم أستطع. لم أنتبه أن هناك محلول في يدي!
بدأت بعدها أستوعب أني كنت في غيبوبة، ويبدو أنها استمرت لعدة أيام. حاولت تذكر ما حدث، لكن غشاوة الألم تطغى على الذاكرة.. لا قلب ولا جرأة بداخلي لكي أنادي أحدًا. كنت في أمس الحاجة لأن يقفل أحدهم صنبور الوجع الذي يضخ غضبه في وجهي.
دخلت أختي إلى غرفتي وهي تمشي على أطراف أصابعها، وفي عينيها الواسعتين نظرة أقرب لابتسامة ترمم شيئًا من الشحوب. لكن الثقل الذي تخفيه كان واضحًا خلف عذوبتها. كنت أرى الأوجاع خيلًا خلفها يتسابق للوصول إليَّ، وقبل أن تطبع قبلتها على جبيني، وتبدأ ببرمجة عقلي على الواقع الجديد الذى يتراءى أمامي بعد تلك الغيبوبة سألتها: ماذا حدث؟
قالت: أنت في غيبوبة منذ ثلاثة أيام؛ وأظن الأمر انتهى إلى الحكم عليك بالزواج في أسرع وقت!
شعرت بأن جسدي تبدل لونه. لم أنبس إلا بتنهيدة واحدة ثم سرعان ما دخل عقلي في صدمة وحالة من الشلل.
رمدت عيون ليلى، والتزمت الصمت. لكنها كانت تخفي ما هو أكثر من ذلك، فقد أردفت قائلة:
وغانم تسبب في ترحيل نبيل من البلد!
سألت نفسي، هل نحن النساء شياطين في أعراف مجتمعاتنا العربية؟ وهل لا تنصرف روح الشيطان عذا إلا بالزواج؟ لماذا لا يكف الرجال عن ذكرنا في مجالسهم بناقصات عقل ودين؟ ولماذا لو ذكرت أمهم بهذا الوصف يضجون غضبًا؟ لماذا يصرون على أننا مادة مجردة من الروح!
كل تلك الأسئلة طرحت حصادها، بعدما شعرت أني صرت على السلم الأخير الذي يفصلني عن محيط الظلمات!
حُكم عليك بالزواج!..
نعم حكم عليَّ، فأنا لم أكن أعيش في بيت أهلي إلا تحت الحجز الإداري، إلى أن عُرضت على نيابة البلوغ، ونضج جسدي ونهداي، الأمر الذي أهلني أن أكون وديعة قيمة في بنك "ما ملكت أيمانهم".
أريد أسبرين، أسبرين، أسبرين.. ما أعنف حاجتي للأسبرين الآن.
توقظني أختي من شرودي: ريم.. ريم، العريس صديق غانم، وأنا هنا بأمر من أخيك، لأحاول أن أقنعك، لكن من وجهة نظري، لو استطعت الرفض سيكون خيرًا لك.
وجدت نفسي بعد هذا الكلام أجهش بالبكاء في حضنها. كانت تربت على شعري وتبكي معي. إن العدالة الوحيد التي أعيشها تكمن في أن ليلي أختي.
مرت الأيام صامتة. عرفت من أختي أن أخي كان يعاير أمي بي، وبأن أمي لم تستطع تربيتي بشكل لائق، وأنها سبب دلعي، واتهمها بأنها تعرف أني على علاقة مع نبيل!
أنا على علاقة مع نبيل! ماذا يقصدون بعلاقة؟ أنا بالكاد أذهب للحمام وحدي. كل تحركاتي تحت شمس مراقبتهم الحارقة. كيف أقيم علاقة؟ أنا لا أجد تفسيرًا لهذا الهراء.
لقد دمرت حياة نبيل بخطوة مترددة على أعتاب حياته، كانت هذه الغصة معضلة بداية كراهيتي لنفسي.
بعد مرور أسبوعين، دخلت أمي غرفتي مغتصبة خلوتي، لتفاتحني بموضوع الزواج، كان ردي جاهزًا من قبل، فقد أعددت له مسبقًا.
"لن أتزوجه ولو كلفني أمر الرفض حياتي!"
توشحت أناي بسواد البخت.. أملك كل جميلٍ في ملكوتي الداخلي.. و أخسره مع مطلع الواقع.. أنا.. من أنا؟ ضمير مستتر تحت أغلفة الكتب وبين الألحان والحنين للأحلام. يا بحر.. أنا أنت، لكن يقتلني الظمأ!
هكذا حياتي..
ظللت أرفض الزواج، والبكاء سلاحي للحد من التعاطي مع الموضوع. لكن في غمرة يومٍ فاسد، جاءت أمي وقالت لي:
هل تظنين أني سأرميك لرجل لن يحترمك؟ لقد سأل عنه والدك وأخوك، وكل الناس شكرت به. هو رجل أعمال ناجح، سيصونك. إذا رفضت هذا الرجل، سيكون هناك آخر، ولن يكون هناك مفر. فكري جيدًا بكلامي قبل أن تجيبيني الآن.
طبعت قبلة على رأسي، ورحلت عن خلوتي.



آدم
اسودت الأيام بعد الحرب أكثر. وبدأ ويلات الحرب تلمع في العيون، وازدادت جذور الانقسام، وخرجت الخلافات العميقة والمتراكمة في النظام السياسي الفلسطيني إلى الواجهة، وانشق الوطن إلى نصفين انشقاقا فوق الانفصال الجغرافي الذي أوجده الاحتلال، وصار الحديث عن المشروع الوطني طي التخوين والمزايدة.
بعضهم يعتقد أن فرصة تسوية مشرفة ممكنة، وبعضهم يمتدح المقاومة، وكلهم يتناسون عن عمد أن فرصة إنجاز المشروع الوطني في ظل الانقسام تظل مستحيلة. ومع ذلك لا يكفون عن التلاسن، ولا صوت للمواطن بينهم. المواطن، الذي عاش ويلات الحرب، ها هي سكاكين الانقسام تشق شرايينه، ومُحرم عليه أن يتألم.
لا يستطيع أحد الخروج للمطالبة بصدق بإنهاء الانقسام. هذا ما كان يرهقني، وما دفعني للرحيل. في شطري الوطن، الكل يقمع وصار لدى فلسطين في كل شطر من الوطن معتقلون سياسيون!
كان يجب أن نكون أكثر وعيًا بالانقسام قبل ظهوره بالشكل المخزي الآن، فقد قطّعت سكين أوسلو الوطن إلى جناحين متباعدين، والحديث عن المشروع الفلسطيني فيه من الشك ما لا يصدق.
لم يكن لدي جواب على سؤالٍ يتراود على ذهني باستمرار: هل ينقص تاريخنا مصائب أكثر كي تناكفنا خلافات الانقسام؟ هل نسينا نكبة 1948، نكسة 1967، أحداث أيلول، صبرا وشاتيلا، خروجنا من بيروت، مسلسلات الانشقاق، معارك البداوي ونهر البارد، انحراف العمل الوطني خارج الأراضي الفلسطيني، ورطة أوسلو؟ لماذا لا نكف عن ظُلم أنفسنا؟ لا أتمالك نفسي كلما تأملت الحال الذي وصلنا إليه.. ما كل هذه المصائب العصرية، التي نستولدها وندعها تمر أمامنا دون أن نرفضها من البداية؟ انفلات أمني، فوضى سلاح، اغتيالات، اختطاف، وفصل كلي لغزة عن الضفة، اعتقالات، تصفيات، أنفاق، مفاوضات.. أجندة، تراشق لفظي بين حكومتين، وكل منهما تغرد في سرب برنامج سياسي لا علاقة له بالآخر، ثم أخيرًا نزعة الخوف.
حتى أنا، حين أتحدث عن هذه المسألة الشائكة التي تتداولها الفضائيات العربية بشكل فاضح، أظل أشعر بالخوف من عقاب. زرعوا فينا رعبًا من معتقلاتهم السياسية. أهلكوا ذواتنا، وما زالوا يتحدثون عن الوحدة والوطن والتحرير.
حالنا تماما أصبح كما وصفه محمود درويش في ديوانه "أثر الفراشة":
"هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضًا أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!
أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك!
أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا، تلك هي دُونيّة المـُتعالي وغطرسة الوضيع!"
"لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد!
ولولا أن محمدًا هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا!
أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين: إن لم نجد مَنْ يهزمنا ثانيةً، هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسى!
مهما نظرتَ في عينيّ.. فلن تجد نظرتي هناك. خَطَفَتْها فضيحة!"
لقد أساء هؤلاء لنا، ولم يخرج منهم أحدٌ يعتذر. تسببوا بتشكيك العالم بقدرتنا على حكم أنفسنا بأنفسنا، وتسببوا بالعبث الذي استغلته وسائل الإعلام ضدنا. وما زلنا حتى الآن نبحث عن النخبة لكي تنتشلنا من هذا الحضيض، لكننا في موقف معين يجب أن نكون نحن النخبة.
الحال يبكي الحال.. عليك أن تصمد.. عليك أن تقاوم.. عليك أن تفاوض.. عليك أن تتحمل.. عليك أن تتعايش.. عليك.. عليك.. عليك.. سيقودوننا للجنون فعلًا. أنا -ومثلي الكثير- لم نعد نعرف أين نحن. كيف أميز بين الحق والباطل؟ نراهم تارة مع بعضهم يضحكون، وتارة يتصارعون! لقد أعطوا فرصة لمن تاريخهم من زجاج، كي يرمونا بالحجارة.
لذا، كان لا مفر لي من هذا إلا الهروب. وكان هذا آخر اهتمام في السياسة لي. أقفلت تلك الصفحة من حياتي كليا.. هربت من غزة، كي لا أرى الوجع يكبر وينضج أكثر. إلا أني ما زلت أشعر بالحنين لهذه المدينة.. حاضنة أوجاعي، وإلى الأشجار التي وقفت بظلها أنتظر أحدهم، والجدران التي لا تكف عن تذكيرنا بالثوابت الفلسطينية، وصورة حنظلة.. مفتاح العودة.. عائد إلى حيفا.. والكثير الكثير، فما زال أمامنا الأكثر.
لقد تعبت جدراننا من بؤس الشعارات الحزبية، والتي تلاحقها وتتفشى فيها كالسرطان. أنا أسمع أنين الناي يحن منها إلى رسومات ناجي العلي، وعبارات غسان كنفاني، وصورة القدس والمسجد الأقصى. أشعر بالسكينة نوعًا ما بإيماني المقدس بأن قضيتنا أكبر من الجميع، وما الحاصل إلا إنفلونزا سياسية سنشفى منها في النهاية. أنا مؤمن بما قاله درويش عن فلسطين: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، فما زلنا نعرف الوقوف نعم، مثل أشجار الزيتون..
وما يوجعني الآن أني ما زلت هاربًا من هذه الآلام، تلاحقني آلام من نوع آخر، في مقابل راحة لحظية أعيشها في أحضان مصر. أمتهن الكتابة، وأنتهج الحب والإنسانية مسارًا لها.. أبتعد عن السياسة كل البعد، كما يبتعد مريض البورفيريا عن أشعة الشمس. لكني لا أنكر على نفسي أني حين أكتب شيئًا عاطفيًا وأقرأه ثانية، أجده لا يخلو من الأثر السياسي -بغير قصد- في أركان البيان بالكناية والاستعارة، وثنايا المجاز والتشبيه.
بنيت محطة تفريغ حنيني المتنامي إلى شهد داخل مستودعات التدوين على الانترنت، محاولةً مني للخلاص من اهتمامي السياسي وغسل قلبي من أوساخه. لذا افتتحت باسمي مدونة، وبدأت أكتب بشكل مزري..
كان أول نص كتبته بعنوان "ما بين الحنين والماضي!"..
ناقشت به نفسي كي أصل لنتائج إيجابية تغنيني عن فكرة النسيان وتعالج الوجع في ذاكرتي دون أن تستأصل شيئًا منها، فكتبت في ذلك المقال الذي ما زلت محتفظًا به حتى الآن هو والكثير من النصوص غيره.
"إن كل الذكريات السيئة في النهاية هي جزء من لعبة الألغاز، التي تضفي طعمًا لنشوة الانتصار العصرية، والتي تليق بإشراقة أعيننا في لحظة ما. إن المفرغين من الحنين إلى الماضي مفرغون أيضًا من الأحلام. تساءلت لماذا لا نكف عن الافتراء على الحنين ومدح آفة النسيان والتاريخ بأكمله جزء من صفحة الماضي. إن لذة الفخر متعلقة بالماضي أكثر، وإن الحنين لا يرتبط فقط بالعذاب وبالصبابة، فنحن نتذكر ابتسامتنا حين نتأمل صورنا في مرحلة الطفولة ونحتاج للحديث عن بعض الذكريات لنضيف لجلسة ما رونق خاص. وإننا لو لم نتجاهل الماضي، فسنبني ألف مركبة متينة، تطفو بنا بأمانٍ فوق أمواج الحاضر!"

ريم
بعدها بيوم عند الساعة الحادي عشر ليلًا تقريبا، ذهبت لغرفة والدتي وأنا أرتدي أناقة ضعفي. صوت حشرجة صدري يطالبني بالعودة؛ أهملته وأكملت خطواتي، أصهل بفروسية مصيري، وأتجه لأعطي قراري النهائي. كانت الأفكار تدوي في رأسي كالعواصف، لكن لا بأس. طرقت باب الغرفة ودخلت.. أسندت رأسي على كتف أمي، وقلت لها وأنا أمنع عينيَّ عن الهزيمة: افعلي ما ترينه مناسبًا، أنا موافقة..
"أنا موافقة"....
خرجت تلك الكلمة؟ لكن كيف؟ كيف مرت على لجان عقلي؟ هل تم التحقيق معها ومساءلتها؟ أنا يقين أنها هربت رغمًا عني من معقل ضعفي، وفازت بتغيير مصير حياتي بجدارة. مسحت عن طاولة الفؤاد كل الكتب وفناجين القهوة وباقات الورد، مسحت كل شيء، ودخلت لتكمل يأسي.
كانت رجفة ممزوجة بالخوف تلازمني قبل ظلي.. كانت مؤلمة.. مادة الألم، التي تختلط مع الروح، هي تلك النابعة من القرارات الخاطئة، والتي نعي تمامًا مدى خطورتها، ونُقبل عليها بفعل المؤثرات الخارجية. لكل فعل طاقة ألم منثورة في ضباب الاهمال. الألم.. حبر سائل في قلم جاف مصيره -بعد كل العطاء- أن يحط على جانب الطريق أو في سلة المهملات أو في مرفأ البلادة؛ المهم أنه أينما يحط سيان عنده.
لأول مرة، دموعي تسخر مني.. تتمرد من عيني على استحياء.. والليل يكشر عن أنيابه، ويحرمني لذة السهر.
اقتربت حالة التقزز.. رجل ما ستغدو يداه ثعابين تلتف حول جسدي دون مقاومة تذكر. راية الاستسلام هي الخلاص لشعبٍ ملّ خفافيش الظلمات، وعاش مقهورًا باسم السلام، بفعل حصار الأم والأخوين، وربما أيضًا سيجني عليه أبناؤه لصالح الخال أو يُظلم لصالح العم.. لا فرق في مسميات الظلم، فالظلم واحد طالما هناك علاقة الدم.
يا نهدي لما تكورت؟ يا جسدي لما اكتملت؟ يا عمري لما تسرعت؟.. ها هم يقتسمون على طاولة القمة أحشائي، ولا مجال للمجال، ولا عين تبصر في وجه العين.
جلست بكُحلِ باهتٍ أمام زوجي.. زوجي الذي لا يفهم الفرق ما بين الخوف والخجلِ..
نعم، اكتملت الصفقة وخرجتُ بعدها مع أخي ساعة الظهر، التي أدت مهمتها بحرارة، إلى أحد الأطباء أصدقائه، لكي نستكمل إجراءات فحوص الزواج، ولكي تسير الدنيا على عكس طبيعتها بتألق. عدت بعد ذلك مع السائق للبيت، وتركت أخي يستخرج الأوراق اللازمة، ويتسامر مع صديقه على نحو التهاني والمباركة. في الطريق، صوت التكييف في السيارة -الذي طالما أحببته- صار يزعجني، لدي حساسية من أي نسمة هواء تكسر اختناقي. في تلك اللحظة، أدركت أني أغير تاريخ كياني وفيسيولوجية حواسي.
حفل زفاف يزينه البذخ. أرى الراقصين فيه أروحًا معذبة. كنت فيه مثل فقاعة يحركها النسيم، لتحتضن الشوك والصبار. يا طير السنونو، احمل ما تبقى مني من وحلٍ، واهجرني، وابْنِ بيتًا في الأعالِي، ولا تنسَ ترك نافذة صغيرة تطل على فلسطين.. حيث يمكن لرفاتي أن تبصر من بعيد "نبيل".
الآن أيقنت كم أمي تعذبت وتحملت وحدها وزر الألم والمكابرة على نفسها. كان كل ذلك حتى لا نتشابه في مصيرينا بفكرة الظلم التي تعرضت لها.
ما أحوجني لبديل الدمع، ما أحوجني للغضب! ذاك الشعور الذي يتفوق على الحب في صفوف المشاعر، والذي يفجر فيك كل أقباس التجاهل، و يحطم كل جدران الضغط النفسي. يأتِي ليجردك من إنسانيك المرهقة، لكي يبصق الحقائق الموجعة في وجه الجميع. يقسو عليك أولا، ثم على غيرك.. يذهب بك إلى الحضيض، ترى الحضيض لهوله جنة، وسرعان ما يتضح أنه جهنم مغلفة بالفردوس. الغضب ليس سلاحا ذا حدين، بل جريمة و براءة، عفو وعقاب. لا يمكنني سرده، لكن الغضب حال انفصال الروح عن سلطانها لأجل رفاهية القلب، وأنا بحاجة للحضيض ما دام ذاك يرضى القلب!
حفل زفافي الثلجي يذوب، ويحين وقت الرحيل. كلما ذابت قطعة من الوقت، زاد على الضفة المقابلة ارتعادي وخوفي، وتخيلت كيف يهاجم الذئب الغزال بضراوة.
يفصلني مع الذوبان هاجس الألم، والقرف الذي سينتصر الليلة في كلاسيكيو فض البكارة!


آدم
كان باقيًا على دوامي الجامعي في مصر أكثر من شهرين، والفراغ لا يستهويني، فلا مفر من البحث عن شيء أضفي فيه قيمة للوقت. كان الحل سهلًا أمامي، كنت أتمشى في محيط الحي الذي أقطن به في مدينة 6 أكتوبر التابعة لمحافظة الجيزة، والتي بنيت في الأصل لتقليل الكثافة السكانية المتزايدة في مدينة القاهرة.
الأحياء هنا منظمة ومتشابهة جدًا، يضيع فيها الزائر لها لأول مرة. يوجد الكثير من المطاعم والمقاهي، بالإضافة للمعاهد والمراكز التعليمية.
أثناء تجوالي، تعثرت بإعلان عن دورة للغة الإنجليزية في أحد المراكز، وقد ذكر في الإعلان أن طاقم التدريس هم مدرسون أجانب، وهذا ما شجعني للالتحاق بها، بصرف النظر عن حاجتي لتقوية مستواي في اللغة الإنجليزية.
سجلت في المعهد، وحضرت الدرس الأول. وبالفعل، معلمتان من أوروبا هما من كانتا تقومان بتدريسي اللغة في المعهد؛ إحداهما اسمها "لي يا ني- Liene " من لاتفيا - دولة تقع في منطقة بحر البلطيق في أوروبا الشمالية، تبلغ من العمر 27 عام، شقراء وعملية جدًا، ومصابة بهوس السفر.. تفضل العمل عن الطعام، تُعلم اللغة الإنجليزية في أربع أماكن مختلفة بشكل يومي، ومع ذلك كانت تستيقظ مبكرًا، وتجد متسعًا من الوقت لكي تركض بشكل يومي في شوارع الحي، الهادئة ساعات الصباح. "لي يا ني" امرأة نشيطة جدًا، مع أن طعامها اليومي لا يكفي لطفلِ.
أعرف كل تلك المعلومات عنها وأكثر، كونها صارت إحدى صديقاتي المقربات جدًا؛ فقد كنا نركض معًا، ونخرج معًا. تعرفت من خلالها على الكثير من الأصدقاء الذين ما زالوا معي حتى هذه اللحظة. تعلمت منها ما هو أكثر من اللغة، فقد كانت ناشطة في إحدى مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالتبادل الثقافي "الأوربي – العربي".
وتعرفت من المعهد أيضًا على طالبٍ فلسطيني يدعي محمد، يدرس الطب البشري في إحدى الجامعات الخاصة في مدينة 6 أكتوبر. وقتها كان يبحث عن شريك لكي يقيم معه ويتقاسم معه إيجار الشقة. كان لديه غرفة فارغة، وكنت أنا آنذاك أبحث عن شقة، لذا أقمت معه، وصار صديقي وزميلي في السكن.
يومًا بعد يوم، انخرطت مع الحياة في مصر، وصرت شيئًا فشيئا بعيدًا عن الحنين والسياسة، وقريبًا من نفسي، أشغل وقتي بكل ممتع أو مفيد. واستطعت أن أهزم الفراغ وحدة التفكير في حياتي شر هزيمة، مما فجر بي طاقة كبيرة وحفز عقلي لأبدع وأنجز في الكثير من المواقع، وكل هذا بدافع الهروب من التفكير بماضٍ أليم لا أكثر.

ريم
وصلت إلى مدخل بيته.. بيت الرجل الذي من المفترض أن أسميه زوجي من الآن. كان أهلي معي.. دخلنا إلى البيت، وانهالت عليّ وعلى زوجي التبريكات والتماني بالرفاء والبنين. كانت الدموع في عيون ليلى وأمي لا تجف، وكان غانم يشير إليهما بين الفينة والأخرى حتى تكفا عن البكاء وتمسحا دموعهما. هو لا يدري أن الدموع لا سلطان عليها.
كان تقودني خفيةً نزعة عنيفة أن أعض ردن ثيابي، وأقطع بأسناني فستاني.. مع ذلك لم أفعل. أول ما تعلمته في هذا اليوم البلادة واللامبالاة! مثلي - صرت- مثل أسيرٍ ملّ سجانه من تعذيبه، وملّ هو من الألم، وصارت ضربات السوط على ظهره تطبع علامات لا أكثر.. علامات قاسية، تؤذي السجان ولا تؤذيني.
خرج أبي أولًا، ثم خرجت ليلى وأمي مع غانم.. كم وددت لو أخرج معهم!....
الخوف والرعب يتملكانني بشكل لم يسبق له مثيل في حياتي. ها هي الفريسة الميتة جاهزة، والاختلاف الوراد الآن كيف يبدأ مسلسل الانقضاض. حاول تقبيلي، فتحاشيته، وتحججت بالحمام. كان مرحلة هروب لحظية، فلا مفر من مواجهة القرف مجددًا.
طرق باب الحمام، واستأذن بالدخول، فركضت خلف الستارة وقلت له مرتبكة:
اخرج بعد إذنك، آسفة، أعطني بعض الوقت.
ترك على الباب لفظًا نابيًا، حاملًا الكلام على مضض، وخرج..
بمرارة أكملت حمامي. كان يخالجني إحساس غريب بالطفولة والفرح وأنا عارية تحت قطرات الماء. هذا الشيء كان يمنحني الشعور بالسعادة، كان يخدرني، يخدرني جدًا، ويسترني من كل عري. قرأت مرة أن الموضوع يستمر لإحدى عشرة دقيقة، فأخذت أصبر نفسي بالاحتمالات والتشبيهات. كنت أقول في نفسي لا يليق أن أظل أندب لأجل إحدى عشرة دقيقة من الألم والقرف، فلأتخيلها أغنية مزعجة تثير تقززي وتقشعر مسامات جلدي.. في النهاية دقائق وتمضي..
أنهيت حمامي، وكنت أرتدي قميص نومٍ لا يلائم شكلي في أحلامي مع رجل أحلامي. أمي اختارته لي لأرتديه في ليلة الدخلة. ساقاي كانتا تسبحان في عري الهواء. مرتحلة عن عذوبتي، خرجت إلى غرفة النوم. كانت تنتظرني صدمة من نوع آخر، من ذلك الشيء، الذي من المتوقع حصوله، ومع ذلك إن حصل تتفاجأ منه لدرجة الصدمة. لم أدر حينها هل أهرب أو أتقدم.. تسمرت مكاني، البحر خلفك والعدو أمامك. وما يزيد الطين بلة، أنك في الحالتين لن تسعفك أي معجزة، إلا إذا انشقت السماء وابتلعتك من على الأرض.
صوت التكييف يصرخ بشكل هستيري، ويطلق نسمات هواء صحراوية باردة جدًا، تفكك مفاصل جسدي وتطرقها في بعضها، وتعاود الكرّة من جديد. كان يرسم ضحكة، لم أر في بشاعتها من قبل في حياتي. كان بإمكاني تجاوزها، لكن ما رأيته أمامي أثار فزعي. طوال حياتي لم أدخل في حوار يتعلق بالجنس أبدًا؛ كان الحديث على هذا النحو محظورا بالنسبة لي، سواء من نفسي أو من تربيتي والمجتمع، لذا صار مع الوقت هذا الموضوع مثل عذاب القبر!
معقودة اللسان والجسد أقف بلا حراك، بصلابة قطة خائفة أداري فزعي.. رجلٌ يحدق بي بشكل مخيف، يتفحص جسدي بتدقيق، يجلس وفمه مفتوح كأنه يلهث لشيء ما، وفوق كل هذا يجلس كما ولدته أمه، عاريًا من كل شيء!


آدم
أجيد الهروب من المعارك الخاسرة، لا أعارض المجازفة في حروب "ما بين بينين". تلك فلسفتي في حياة تعلمت فيها ملء ثلاثة أرباع الكأس بالعقلانية، والربع الأخير منه بالجنون.
أحاول ألا أغرق في عمق الكون، كي لا أتوه في مراهقة المؤامرات و نظريات البطريق وقربان السلام. مع ذلك ،كانت صديقتي اللاتيفية "لي ياني" تحفزني على ذلك، وتستعرض أمامي قدراتها على التبحر في علوم الدين وأسرار الوجود. كانت قارئة من الطراز الأول، بالإضافة لكونها مهتمة بدراسة العلوم الإسلامية والشرقية بشكل عام. بسهولة كانت تقنعني وتنتصر عليّ في أحابيل الحوار. لكني أدركت مؤخرًا أن القراءة والفهم هي ما تعطيك شخصية وحضورًا قويًا في أي مكان.
كانت "لي ياني" تصدمني بأفكارها وأطروحاتها في أي نقاش؛ بل وحتى معرفتها بالتفاصيل الصغيرة جدًا عن حياتنا كشرقيين. كيف لامرأة أوربية أن تعرف أدق التفاصيل عن مشاكل المرأة في العالم العربي؟! حتى نظرتها لهذا الموضوع مختلفة، لم يسبق لي بالمطلق أن حاولت رؤيتها من هذه الزاوية. الزواج، الطلاق، تعدد الزوجات، عمل المرأة، قيادة المرأة، التعليم، الاضطهاد، غلبة العادات والتقاليد على الدين.. والكثير الكثير من المواضيع، فقد كنا نلتقي بشكل يومي، وكل يوم تفجر "لي ياني" موضوع جديد. لكني الحمد لله كنت أنجو دائمًا من الحديث السياسي معها، باستثناء كرهها لروسيا!
حاولت مرة أن أستفرد عضلاتي السياسية بمدح روسيا. كان ذلك من منطلق أن أي أحد ضد أمريكا فهو حتمًا صديق. يا إلهي، ماذا حدث بعد ذلك الحوار؟ استطاعت تقريبًا أن تجعلني أتقيأ إذا ما سمعت شيئًا عن روسيا، وأنا من قبل كراهيتي لأمريكا مزروعة منذ فجر ميلادي.
من هذا المنطلق، تعلمت ألا أطبطب على أكتاف أي ظالمٍ، مهما تحلى بالفضيلة من جانبٍ أو أكثر. تخلصت من جرثومة الضعف، وأن أكف عن تفضيل السيء عن الأسوأ. لم أكن أدرك أن بمقدوري كإنسان أن أقول لا في وجه الاثنين من قبل. كنت مغيبًا كليًا عن فكرة أن الحق لا يتجزأ، ولا يجب أن ينقص منه شيئًا؛ فمن يقبل أن يتنازل عن جزء من حقه مرة، سيحترف الخنوع والخضوع.
كنت قد فعَّلت مبدأ القياس في جميع أفكاري. أطبق فكرة معينة على آلاف المواضيع، أستذكرها وأربطها بأشياء كانت تمر على ذهني مرور سائح على محل زهور. منذ صغري، كانت رسومات ناجي العلي في كل مكان، غير أني في الأصل أحمل ميدالية لشخصية حنظلة الكاريكاتيرية، التي رسمها ناجي العلي، والتي صارت رمزًا للنضال والقضية الفلسطينية. كان هناك جملة غالبة على رسومات ناجي يقول فيها "كامل التراب الفلسطيني". إذًا لم تكن هذه الجملة عبثًا، بل تحمل أعمق مما تخيلت، بل في الأصل تجاهلنا لما تعنيه عن قصد أو غير قصد جعلنا نتفاوض على بقايا الأرض والقضية.
ها أنا من جديد أعود للحديث عن السياسة للمرة الألف. أنا أُحمِّل السياسية مسؤولية جريمة فوضوية أحلامي وكتاباتي وحياتي.
في أحد الأيام، خرجت مع "لي ياني" للرقص في نادي الجاز في الزمالك، حيث كانت هناك حفلة لفرقةِ موسيقية من الصين، تقدم عروضا في مختلف الدول. تعرفت هناك على حسام، أحد أصدقاء "لي ياني". هو مصري يعيش في مدينة عين شمس. أصبح من بعد ذلك اليوم أحد أصدقائي المقربين.
كانت "لي ياني" تريد منه الاستفسار عن المراكز التي تدرس اللغة العربية، لكن باللغة الفصحى. وفي السياق، أخبرته أن صديقتها سارة ستأتي لمصر وتقيم معها لفترة مؤقتة، وذكرت أيضَا أن سارة هي عربية من أصول خليجية، لكنها ولدت في المملكة المتحدة البريطانية، وعاشت وترعرعت هناك في مدينة إدنبرة "Edinburg" عاصمة اسكتلندا.
سارة تعمل مع "لي ياني" في المؤسسة التي تهتم بالتبادل الثقافي ما بين الشرق والغرب. ما فهمته حينها أنها تجيد اللغة العربية، لكنها ترغب في تعلم الكتابة باللغة الفصحى والكتابة الصحفية. وبشكل لا إرادي، تدخلت في الحوار الدائر بين "لي ياني" وحسام، وتطوعت بتعليمها اللغة الفصحي، وتقريبًا اتفقنا على ذلك.
يومان وستصل سارة القاهرة. ستقيم في فندق أول ثلاث أيام، ثم ستذهب مع "لي ياني" إلى شرم الشيخ للاستجمام والاستمتاع بالغوص والبحر الأحمر، وبعدها ستعود الاثنتان إلى مدينة 6 أكتوبر.
عرضت عليا "لي ياني" الذهاب معها إلى شرم الشيخ، لكني اعتذرت. لم يكن معي مال كافٍ لقضاء رحلة كهذه، وأنا معتاد أن أتجنب اقتراض المال من أحد إلا للضرورة، ورحلة كهذه لم تكن في أولويات اهتمامي.
في اليوم الذي ذهبت فيه "لي ياني" مع سارة، كتبت مقالي الثاني على مدونتي، ولاحظت وجود متابعة لمدونتي، كانت أول شخص يتابع كتاباتي، وكانت تسمي نفسها باسم "رحيل القمر". كانت قد تركت تعليقًا مقتبسًا من نص لمحمود درويش على مقالتي عن الحنين.
"الحنين ندبة في القلب، و بصمة بلد على جسد. لكن لا أحد يحن إلى جرحه، لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس، بل يحن إلى ما قبله, إلى زمان لا ألم فيه سوى ألم الملذات الأولى التي تذوّب الوقت كقطعة سكر في فنجان شاي".
كان واضحًا من توقيت نشر التعليق أنه كتب في منتصف الليل، الساعة الثانية تقريبًا. شخص ما أدمن الوجع، فمن يتحدث عن الحنين في مثل هذا الوقت، بلا شك روحه معذبة بالماضي ومشانق الشوق.
وختمت تعليقها بنص يعكس مدى تعلقها بكتابات محمود درويش.
تصبح على وطن!
وضعت مؤشر الفارة في خانة التعليقات، وأضفت تعليقا لها، كتبت فيه شيئًا مما قرأته عن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه:
"الحنين، ليس إلى بلد، أو إلى عائلة و موطن، فما عندي هذا ولا ذاك. لكن الحنين أني بلا موطن."
وعلى طريقة غسان كنفاني، ختمت تعليقي مضيفًا بالعامية لما سبق:
"ما فش حد بنام بصحى بلاقي وطن يا رحيل!"
أنا أحب جدًا المناظرات في الردود التي تكون بهذا الشكل. تثير شهيتي للاطلاع، وتربت على ذاكرتي كي لا تنام أو تسهو عما قرأت. تعلمت هذا الطبع من شهد، فهي خير من يبدع في هذا الشكل من الحوار.
أنا لا أهمل ما قرأته. حين أقرأ شيئا، يلازمني دفتر أدون فيه الملاحظات والاقتباسات التي أعجبتني، وأناقش بها مع أصدقائي والآخرين. هذا ما جعلني أكثر اجتماعية من غيري، مع أني لا مانع لدي من حياة العزلة، لكن هذه الطريقة تجعلني أهضم أفكار الكتاب بيسرٍ، وتجعلني شيئًا فشيئا أهندم حديثي وأفكاري، وحتى مظهري.
أظن أيضًا أن أناقة المرأة الدائمة غالبًا ما تكون بسبب طهارة روحها المعجونة بالقراءة منذ الصغر، ذاك الشيء الذي يجعل من قلبها سمفونية خالدة، تأثيرها مطبوع في حياة أحدهم، وأحدهم ما زال يطبعه في حياة الآخرين..
بالضبط كما كانت شهد.
اتصلت بي "لي ياني" من شرم الشيخ ساعة الظهيرة. كانت ترغب أن تعود في المساء، ولكنها لم تكن تستطيع أن تذهب لحجز تذاكر العودة في محطة باصات "السوبر جيت"، ومن ثم العودة لشرم مرة أخرى، ومن ثم العودة إلى الباصات في المساء.
فكان أسهل لها أن أحجز تذاكر العودة من أحد المكاتب السياحية في مدينة أكتوبر، والتي لا تبعد إلا دقائق معدودة عن شقتي، فلم أمانع. وبالفعل، ذهبت إلى المكتب، وقمت بإجراءات الحجز.
في صباح اليوم الثاني، وصلت إلى القاهرة. أخذت سيارة وحملت أغراضها هي وسارة، ووصلتا إلى البيت.
حدثتني على الهاتف المحمول وهي في طريقها وقالت: أنا وسارة الآن عند مول العرب، وسنصل إلى شقتنا قريبًا. سنخلد للنوم لأننا مرهقتان جدًا من السفر. سنلتقي الليلة في القهوة التي اعتدنا أن نجتمع بها دائمًا.
طقوسي الخامدة في التحضيرات والتأنق لمقابلة امرأة صحت من جديد مع هذه المكالمة. ربما كنت أخطط آنذاك لمشروع حُب جديد. فمع التغيرات الجذرية في أفكاري وشخصيتي، ظننت أن امرأة عربية بخلطة فكرية تجمع ما بين الشرق والغرب ستكون خير دواء لقلبي الكبريتي، الذي ينتظر شرارة لينفجر في وجه إحداهن بالعواطف. أردت بشدة أن أبحث عن الحب، لا أن أتعثر به. ما ضرر لو تخلصت لوهلة من صورة الحب المحتكرة في الروايات؟ مثلما يبحث المتصوف في الوجود، سأبحث عن الحب.. مثلما تفتش الفراشات عن الرحيق بين الأزهار، سأفتش عن الحب. فقدت الحب، بعد أن اعتدت عليه.. لا أرى ضررًا في البحث عنه من جديد.
من حق الجميع ذلك، حتى المطلقات اللواتي لا يجرؤن على ذلك، من حقهن.. كل الناس عليهم استبدال الدم بالحب، وهذا ليس بشيء أخترعه.. قيل هذا الكلام كثيرًا، لكنه لم يصل لوعي إلا القليل جدًا..
ما الداء في أن يكون الحب دواء ؟
بسيط، جميل، مسالم، إنساني، صديق السعادة والألم الجميل..
لا بد لجينات الحب في دمنا أن تنشط وتحارب النرجسية والكراهية، وأن تضع حدًا لويلات الحزبية الكريهة، لهذا أبحث عن الحب، وكل يوم يزداد إيماني.
حتى مفهومي للحب توسع، لم يعد مختزلًا في امرأة، بل صار أسلوب حياة، أدى بطبيعية الحال إلى اختلاف كلي في تعاملي مع الناس، ومع نفسي ومظهري من الداخل والخارج، كأن الحب هو عملية التجميل الوحيدة التي تصلح للقلب والعقل معًا.
جلست على الأريكة كالقرفصاء، أشاهد التلفاز ولا أشاهده، أنتظر أن تحادثني "لي ياني"، وقد كنت في كامل جاهزيتي. كنت أحاول تهذيب عقلي من هذا الجنون، كنت طفلًا بكل تصرفاتي آنذاك، وما إن أتذكر حالي آنذاك، حتى أنكب بالضحك على نفسي وأسخر من هوسي باللقاء.
اتصلت "لي ياني"، وأخبرتني أنها ستكون في المطعم خلال ساعة. شتمت في سري "لي ياني".. ساعة! هل ينقصني ساعة أخرى؟ الانتظار برمته أمرٌ يقلقني ويجعلني عصبيًا، لذا تركت البيت وذهبت أتصفح شوارع وأقارن بين شوارع غزة وشوارع مدينة أكتوبر، عساني أتعثر بوجه شبه واحد. أقف عند عمارة من خمس طوابق، وأقول في نفسي: أراهن بأن عدد سكان هذه البناية لن يتجاوز في أفضل الأحوال خمسة عشر شخصًا، ولو كانت هذه العمارة في غزة، لكان عدد السكان هناك ستين شخصًا تقريبًا. وبعد ذلك، أقارنها بالبنايات في القاهرة، وأصل لنتيجة مقاربة، وفي أغلب الأحوال أجد القاهرة أشد زحامًا، وأستنتج أخيرًا أن هذا ما يجعل مدينة 6 أكتوبر جميلة وهادئة وتحتوي على مساحات جميلة جدًا من الأشجار والأزهار أمام كل بيت. هذا الشيء بحد ذاته من مقاييس الجمال في المدينة.
6 أكتوبر جميلة، تحتضن العرب من كل الجنسيات، وجمر الغربة فيها أقل حرارة من أي مكان. ولأجل طبيعية المصريين الاجتماعية، تجد نفسك صديق الجميع هنا. أنا عن نفسي، صرت فيها صديقا لكل زملائي المصريين في الجامعة، وحتى الباعة هنا، من الجزار لبائع الفاكهة والخضروات، والعمال الذين يعملون في المقاهي.. من هذا المنطلق، آمنت أن كون مصر أمًا للدنيا لم يكن عبثًا..
في أحداث ثورة 25 يناير، أرسلت معظم السفارات باصات نقل خاصة، لكي تقل الطلاب العرب الذين يدرسون في الجامعات المصرية إلى مطار القاهرة، حيث سيتم إعادتهم لبلادهم. وأرسلت السفارة الفلسطينية رسالة للقنوات التلفزيونية الفلسطينية، تحتوي على أرقام هواتف للسفارة للاتصال بها في حال حدث مكروه للطلاب الفلسطينيين الذين يعيشون في مصر!
بطبيعة الحال، ونظرًا للظرف الأمني والعدد الكبير جدًا من الطلاب الفلسطينيين في المدينة، لم يكن هناك مفر من السفر والعودة إلى البلاد.
ما حدث حينذاك، أن انتقل الطلاب من الأحياء البعيدة للإقامة عند أصدقائهم في الأحياء القريبة والأكثر أمانا. بعضهم قبعوا في الشقق، ولم يخرجوا أبدًا منها إلا لشراء شيء ما. والبعض الآخر كان يقف جنبًا إلى جنب مع المصريين في اللجان الشعبية، التي كانت تحمي البيوت والمحلات. كانت الشائعات تمطر كل دقيقة، لكن التنظيم السكني الجيد للأحياء جعل البوابين -والذين كانوا يعرفون بعضهم البعض- يسيطرون على مداخل الأحياء جميعها بشكل منظم.
كان شعورا جميلا في تلك الأوقات، رؤية الفلسطينيين يقفون جنبًا إلى جنب مع المصريين لحماية البيوت والشقق السكنية.. تلك الأيام لا أنساها أبدًا.
المهم، أني ظللت أمشي في الشوارع، التي مشيتها مرارًا وتكرارًا، أنتظر اتصال صديقتي، لتؤكد لي وصلها للمكان الذي اتفقنا على الالتقاء فيه.
ظللت أعيد الكرّة، وأمشط تفاصيل الأرصفة، وأشاكس زهور الزينة التي عقدت اتفاقية سلام مع حرارة الشمس، حتى جاءني الاتصال من "لي ياني" تسألني أين أنا الآن، فقد وصلت مع سارة إلى "الكافيه" أخيرًا.

ريم
رجلٌ عارٍ من كل شيء يقف أمامي لأول مرة في حياتي.. يا لسوء حظي الذي لن تنجده حتى بركة الدراويش.
رجلٌ عارٍ، امرأة نصف عارية، وحالة قرف لا دين لها، أداريها بجهد لا طاقة لي به ولا حول. كنت متعبة، كأني أحمل على ظهري جبلا ثقيلٌ ظله، يغطي قرية بكاملها. الليل فطيم أسود، بين أسوار طروادة محاصرةٌ أنا مع ذئب، لا أعلم هل يفترض أن أغفر له فطرته القاتمة، أم عليّ أن أغيِّر فطرتي لتلائم شهيته؟
يا لغتي، توقفي عن جرحي بالمجاز، وارحميني ولا تجعلي الجُرح أكبر، ولا تجعلي الجُرح أعمق. تلاشت صور الأطفال، والكلام المعسول الذي أغويت لبرهة نفسي به حتى لا أشحب أكثر. كيف أطلب من نفسي أن أكون عاقلةً في شيءٍ لا علاقة له بالعقل؟ كيف؟.. لا أدري. سألت نفسي ألف مرة.
قطع شرودي آمرًا: تعالي.
ظللت واقفة.. مصدومة.. أرجف.. لا أشعر برغبة إلا في الهروب.
كرر مرة أخرى أمره: "تعالي، بَسك دلع"
تقدم نحوي، شدني من يدي نحو السرير.. صوت أنفاسه يتصاعد كلما اقتربت أكثر منه.. كان الصوت أشبه بلهاث حيواني.
حركات مشمئزة سريعة كانت تدور حولي. لم أكن مستعدة، لا على المستوى النفسي ولا الجسدي.. كنت مرهقة جدًا من حفل الزفاف، لم تتجاوز فترة الخطوبة بيننا سوى لقاء مع محرمٍ، أو حديث عادي جدًا على الهاتف. لم يكن هناك أي انسجام بيننا، ولم يتطرق أحد لهذا الموضوع معي غير أمي، وأمي كل نصائحها كانت أن أقدم قربان الطاعة لكل ما يأمرني به، وأن أكون عند حسن طلبه.
وإن كان هذا الأمر رغمًا عني، وأنا غير متهيئة له أبدًا، فقد كان على العكس هو. كان ثائرًا جدًا في تلك اللحظة.
تلعثمت بكلمات لا أدري كيف انبسست بها وهو يجذبني إلى السرير:
"مقدر.. مقدر.. تعبانة من حفلة العرس، ممكن تأجل هالشيء لبكرا"
أمسك يديّ الاثنتين بشدة، وقال لي بالحرف الواحد:
" لا عاد تقولين لا لِ بغيتك"
اكتمل نصاب الرعب.. لا يحق لي أن أقاوم أصلا!.. رائحة أنفاسه المعجونة برائحة السجائر تغتال أنفي، أشعر برغبة شديدة في عضه وهو يرشق كالمسعور قبلاتٍ على جسدي.كيف أغسل عفنه عني الآن، يُوشم أثره على عنقي بشفتيه، اللتين يحيط بهما الشوك من كل جهة. أتألم بحق وهو يسلخ عني ثيابي، ويباعد فخدي عن بعضها، ويدس رأسه بينهما، آه.. آه.. لا أستطيع وصف اشمئزازي حينذاك. شيئا فشيئا، نزل من عيني الدمع، ليسعفني قليلًا من ورطةٍ مع سبق إصرار وترصد.
أيتها السماء المرصعة بالقطن، والمعبأة بزرقة الأنهار.. ارحميني وأخرجيني من هذا الهول النهز.. انتشلي روحي وقلبي مني، ودعي لهم جسدي يتحسسونه ويتأكَّلونه كيفما شاءوا، مثلهم مثل الطيور الوضيعة التي تتغذى على الجيف..
بدأت أصرخ وأتوجع أكثر.. لسوء الحظ، كان صراخي يزيد شهيته، صار يثور ويصبح عنيفًا أكثر، دشن نوعًا جديدا من الألم الجسدي.. الأمر الذي جعلني أتغاضى عن ألمي النفسي.
أصبح يغرس أظافره في كتفي، ويضغط بيده عليه، ثم يسحب يده بعنف إلى رسغي، حتى صارت خطوط حمراء بارزة على جلد كتفي. شيئًا فشيئا، صعد جسده إلى ذروة الولوج، وشعرت بما يخترقني ويؤلمني بقسوةٍ، ويقرفني أكثر وأكثر وأكثر وأكثر وأكثر..
لدقائق ظل على هذا الحال، إلى أن جد شيء ما.. هناك صدمة تدريجية تنتابه، وهو يتشربها بكاملها إلى آخر قطرة!.. ماذا يجري لي؟ كيف تضاعفت سيرورة الرعب والارتعاد في جسدي بهذه السرعة؟ ماذا يريد مني؟ هل هذه الملامح المجلودة على وجه صدمة سببها أنا أو هو؟
كانت الأفكار تجرف في رأسي بشكل هستيري. سيل من الأفكار لا يجوز احتواءه في دقائق.
لحظات مريبة مرعبة أخذت فيها أسترجع نصائح أمي المتكررة على مدار حياتي.. "خافي من حالك على جسمك"، "لا تمشي هكذا بل امشي هكذا"، "لا ترتدي هذه الثياب وارتدي ثيابا فضفاضة"، "ممنوع عليك ركوب الخيل"، "ممنوع عليك ركوب العجلة".. عشرات الجمل الناهية والآمرة، سواء كان منها أو من غانم، سواء كان لي أو لليلى. لمعت صورة نبيل يبتسم أمامي، كان ذلك حارقًا جدًا.. وتوالت صوره,, تارة وهي يجادلني عن كاتب وكتاب، وتارة وهو ينصحني بقراءة لشاعر وينهاني عن آخر.. صورته وهو يتحاشى أخذ ثمن الكتب التي اشتريتها من مكتبتهم، وأنا أصر وهو يصر، ويزيد لقاؤنا دقائق أخرى.
ثم تأتي صورة غانم وهو ينهاني عن النظر يمينا أو يسارا، ويأمرني ألا أحدق بشيء مطولًا، ويتأكد من حفظي لقائمة المحرمات والمحظورات.. لم أكن متمردة لكي ألاقي كل هذا، وهل لو كنت كذلك، لوصلت لهذا الحال؟
كانت صديقتي سارة المقيمة في بريطانيا قد نصحتني بالدراسة هناك. ترددت حينها، وخفت كثيرًا أن أترك أمي وأختي.. ليتني سمعت نصيحتها.. وما نفع التمني وفوق جسمي جسم مقزز..
كان أخي ينهاني على لقاء سارة، في الوقت الذي يذوب شوقًا لرؤيتها. هي لم تكن معجبة به أبدًا، بل كانت تنفر جدًا منه. غانم يخاف أن تؤثر سارة بأفكارها المتحررة عليّ. هي من مواليد بريطانيا، ولا تأتي إلى الخليج إلا كزيارات قصيرة في فترات متباعدة، خصوصًا بعدما عاشت سنة كاملة في الخليج، عندما كانت تبلغ من العمر تسعة عشر عامًا. أنا أعتبر سارة من صديقاتي المقربات. لو سمعت كلامها وذهبت للدراسة هناك لما حصل ما أنا متورطة به الآن بلا خلاص. يا ندمي الذي لا يستطيب، يكفيني ما أنا فيه..
عادت صورة نبيل تظهر أمامي، لكن هذه المرة بوجه البوكر.. لا ملامح ولا تعبيرات فيها. لم أفهم هذا الظهور، صرت مشلولة تقريبًا، لا إرادة أتعكز عليها.
لكني أحسست بالجسد الملقى فوقي يرحل.. ثم يعود غاضبًا، ليلطمني على وجهي بعنف ويصرخ قائلًا:
" ليش ما نزل دم؟
إنت مش بنت يا ****، إنت مش بنت يا كلبة،
إنت مش بنت يا بنت الكلب، تضحكون علي، تستغفلوني؟"
انهار عليّ بالضرب،
وانهرتُ أنا مع الألم..
آدم
أجبتُ على الهاتف المحمول، وأخبرت "لي ياني" أني قد خرجت من البيت منذ خمس دقائق، وسأكون في المكان المنشود خلال عشر دقائق. وبالفعل صرت هناك.. دخلت "الكافيه"، ورأيت "لي ياني".. سلمت عليها وعلى سارة، وبدأت أتحدث مع "لي ياني" عن الرحلة، وأتجاهل وجود سارة عن غير قصد، وكان هذا أول انطباع سيئ عني طُبع على وجه سارة.
علاقتي مع "لي ياني" تطورت من مرحلة الرهبة والخجل إلى الصداقة، إلى تبادل الخبرات والثقافات، ثم إلى السخرية والضحك من أي شيء. يكفي أن نصمت لثوانٍ، حتى ننفجر بعدها ضحكًا بلا سبب.
أصبحت علاقتنا كوميدية نوعًا ما، أشبه بتلك التي عرضها المسلسل الأمريكي الأصدقاء "Friends". طلبت من النادل "لاتيه سكر زيادة"، وطلبت "لي ياني" قهوة اسبرسو دوبل، أما سارة فقد فضلت أن تشرب عصيرا باردا. هذا اللقاء كان مفروضا من أجل سارة، لكنني أنا و"لي ياني" أفسدنا الجلسة، وكانت لدينا قابلية للضحك من أي شيء.
تعلمنا من أصدقائنا المصريين "الألش"، وهي دعابة لفظية نرددها بتلقائية، في جو عصبي أو ساخر، وهي بمعظمها تكون مستفزة جدًا للآخرين الذين يشاركونا اللقاء، وتكون بتحريف حرف من الكلمة أو قول كلمة أخرى بنفس الوزن والقافية. مثلًا في فيلم متحف الشمع لإسماعيل ياسين كان هناك مشهد يمر فيه إسماعيل ياسين من بين التماثيل والمومياء، فيقول صديقه: "وآدي راجل محنط"، فيرد إسماعيل ياسين: "محنط عبد الوهاب". هذا النوع من الحديث كانت تعشقه "لي ياني"، بل وكادت تتفوق على أصدقائنا المصريين فيه. هذا كان كفيلا بأن يجعل سارة تضجر منا لأبعد حد.
أحضر النادل "لاتيه" لي، والقهوة "للي ياني" والعصير لسارة. أخذت أنا رشفة من اللاتيه، و "لي ياني" من القهوة، وقلت عن "اللاتيه" "مرٌ جدًا"، وقالت "لي ياني" عن القهوة اسبرسو "حلوة جدًا".
ثم بدلنا مع بعضنا البعض القهوة باللاتيه، وأكملنا الحديث، وكأن شيئًا لم يكن.
صمتت سارة من هذا التصرف لثوانٍ.. ثم أخذت من يد "لي ياني" اللاتيه وتذوقته، وقالت: نعم بالفعل مرٌ جدًا.
كانت ملامحها جدية، ولو أني لم أتذوق اللاتيه لصدقت أنه مرٌ بالفعل. أخذت بنفس الطريقة في تذوق العصير، وقالت: "جيدة، سكرها زيادة". وبدلت عصيرها بقهوتي السادة!
كان هذا الموقف كفيلًا بأن نندمج كليًا في الحوار والضحك أيضًا. وأخذنا الحديث والسخرية من قصص من واقع الحياة في بلادنا، حتى أن "لي يا ني" شاركتنا هذا النمط الساخر من الحديث. تطرقنا لفكرة الزواج وتعدد الزوجات. قالت "لي يا ني" إنها مستحيل أن تتزوج إلا بعد الثلاثين من عمرها، أما سارة فأخذت تتحدث عن الزواج في بلادها، وكيف يتم الزواج من العوائل والقبائل وعواقبه، دون الأخذ بعين الاعتبار رأي العروس. حكت عن إحدى صديقاتها، التي تزوجت من رجل مقتدر من نفس قبيلتها، وذلك لأن أخاها اكتشف أنها معجبة بشاب فلسطيني كان يعمل في مكتبة ببلادهم، وكيف كانت صديقتها تستنجد بها من وقت لآخر. سردت علينا ماذا حدث لصديقتها في ليلة الدخلة، وكيف قام زوجها بضربها وتشويه وجهها، ذلك لأن دمًا لم ينزل من جرح بكارتها، فاتهم عذريتها وطهارتها، وظل يضربها إلى أن فقدت الوعي.
حكت عن الأذى النفسي من أهلها، إلى أن اكتشف أحدهم القدرة على التفكير في عقله واقترح أن يفحصوها عند الطبيب الشرعي، حينها تفاجأوا جميعًا بأنها ما زالت عذراء، وأن غشاء البكارة لديها مطاطي، لا يمكن فضه إلا بعد ممارسة العملية الجنسية عدة مرات، أو بواسطة الفض الجراحي من قبل الطبيب الشرعي، والذي يقوم بعمله في وجود الزوج...
حالة حزن من تلك التي تعم في نهاية كل الحوارات التي تبدأ بالضحك حلت علينا. لا أدري ما الحكمة في ذلك، لكن الحوار انتهى لشيء مس إنسانيتنا بشكلٍ موجعٍ إلى حدٍ كبير.

ريم
لم يداو أحدٌ سقمي.. أثقلني أهلي بالظلم واللعنات، فزاد فتق الجُرح أكثر.. لا أحد يرتق الوجع. استيقظت على نفسي في المستشفى، وبجانبي أمي بنظرتها الشاحبة القاسية، التي لم أر ملامحها ترسمها من قبل.
كان الشجن ونظرة أمي كفيلتان بأن تعيدا لي استيعابي في ثوانٍ. أمي لم تستفسر عن سلامتي حين صحوت من غيبوبتي.. لم تسألني عما أصابني، بل قصمت ظهري بسؤال قهر حياتي للأبد:
" ليش ما قلتِ إنك معطوبة؟ ليش ما قلتيلي يا كلبة، ليش كان تصرفت، جبتيلنا الفضيحة.."
من كثرة العنف اللفظي الذي تعرضت له في تلك الأيام، صرت أتحسس وجهي أتأكد من ملامحي.. هل هناك وجه شبه بيني وبين الكلبة؟، لما ينعتوني بذلك دائمًا؟ هل يقصدون الشكل، أم يقصدون الجانب الجنسي في حياة الكلاب؟ لا بد أنه كذلك، فالكلبة تعاشر عشرات الكلاب بلا حسيب ولا رقيب.. ما أوجع هذا الاستنتاج، ما ألعن هذا الوصف، ما أنذل هذا التشبيه..
أختي ليلي أيضًا مختفية، إنني أتوسم خيرًا بوجودها، لا يمكنها أن تصدق ما قيل عني.. هي أكثر من يعرف كم أنا متمسكة بأخلاقي وفضائلي التي تقتدي هي بها. آه.. نسيت بأنني كلبة، ولا تجوز الشفقة على إناث الكلاب.
أمي بجانبي تعاتبني، وأنا أحاول عبثًا أن أقنعها أن أحدًا لم يلمسني من قبل، وأني لم أختلِ مع رجلٍ في حياتي أبدًا. معدتي كانت تؤلمني جدًا، وأضلاعي إن ما حركتها تدق أجراس الوجع في مفاصل جسدي. تخيلت مسبقًا شكلي على المرآة بمعطيات الألم المثخن على شغاف وجهي.
فقدت إحساسي بوجود أمي شيئًا فشيئا، وتجردت من أحساسي كليًا، وصرت بعيدةً بُعدًا سحيقًا عن ريم التي خطفتها مجازفة بسيطة لرجلٍ صار في أقاصي الدنيا، لا سبيل لرؤيته ولا حتى الحُلم أو الاحتلام فيه.
إذا كانت مواجهة أمي بهذه القسوة، ماذا سيفعل بي أخي غانم؟ هل لهذا الأمر أهمية عند أبي؟ أين ليلى أختي؟ اتصل أخي بأمي وهو يسرد قُبح الظنون في وجهها ووجهي. كانت أمي تجيبه وهي مرعوبة، تكاد تبكي وهي ترجوه ألا يفعل شيئًا لي، تحذره من الفضائح. تعرض له وجهة نظر الناس فيه بعدما يعرفون أن أخته كانت عاهرة، وتذكره بأخته الأخرى ليلى، وما سيحصل لمستقبلها.
لكن ثورة أخي كانت باهتة. كنت أراه مثل تاجرٍ تورط في بضاعة فاسدة ويريد أن يتخلص منها بأقل الخسائر. كان ظني خائبًا، عندما اعتقدت أنه سيأتي ليدمر الدنيا فوق رأسي. لم أعد أفهم الدنيا أبدًا. فكلما آنستها دالستني، وكلما لاحقتها فارقتي، وكلما وافقتها نافقتني، وكل ما فيها لا يسير حسب سنة المنطق ولا مشاع الفضيلة. ماذا لو هربت من المشفى الآن؟ سألت نفسي: هل سأخطئ في الوصول لبيتي؟ ثم أي بيت يحتويني، منزل جزاري، أو منزل مربي الأضاحي؟ أو شارع المدينة الذي لا أفهم لغته ولا قسوته؟
أريد الهروب وحسب، لا يهم إلى أين. المجهول سيقودني لسبيل يضمر وجعًا أقل.
منذ أن أفقت من غيبوبتي القصيرة، وأنا أسمع صفيرًا مزعجًا في رأسي، لا يكل ولا يمل، كاحتكاك لحدَّين من حديد. كان هذا الصوت أشبه بضجيج منفر رافقني طوال حياتي الآتية، وجعل مني إنسانة عصبية جدًا.
أأقول إني ميتة؟ إن اغتصاب جسدي من الدودِ تحت القبر لأرحم من شك أهلي في عذريتي وشرفي.
أصدرت أمي حكم الإعدام بشكها في أخلاقي، ورغبتها بالتستر على مصيبة لم تحدث. سواء كان بقصدها أو لم يكن، الجرم طال فؤادي.
من غير الممكن لوم أمي حتى وإن أخطأت. الخوف والرعب، الذي اضطرت لتحمله من رجلٍ ساديٍ كأبي، جعل من نظرتها في بعض الأمور محض الشك. إن الموجوعين معجونون بالشك وترنح الثقة في الآخرين.
تلاشى خوفي من أخي، فكلامه وغضبه كان أقرب لأداء ممثل فاشل على مسرح للعمالقة، وأمي هي الوحيدة المتأثرة بتمثيله، فكلما سايرته، صدع فجر غضبه أكثر.
نبشت في داخلي عن مفردات أدافع بها عن نفسي.. لم أجد. أخبر زوجي أخي برغبته في الطلاق، لكن أخي استمهله حفاظًا على سمعة العائلة، وطلب منه أن أظل على ذمته لبعض الوقت. حماتي امرأة طيبة جدًا، أخبرها زوجي بما حدث، فطلبت منه اصطحابي لطبيب شرعي، فلقد سمعت من قبل عن قصة بنت قتلها أخيها حين أخبره زوجها بأن أخته ليست بعذراء، وبعد فحص الجثة من قبل الطبيب الشرعي تبينت براءة البنت. لم أتمالك نفسي حين ذهبت إلى الطبيب الشرعي. كان ذلك بحضور أخي وأمي وحماتي وزوجي. كانت أمي تستفسر مني عن سر ابتسامتي المعتصرة من صميم الظلم الذي تعرضت له.. كنت أجيبها لا شيء.
ذهبت للطبيب وأنا في أوج ثقتي. هذا طبيعي رغم كل شيء، فأنا أعرف نفسي أكثر من غيري، ولو لم أخرج ببراءة من هذا الاختبار، لكانت فكرة أن الجن ضاجعني خلسة في الليل أقرب للواقع من أي شيء. دخل الطبيب، وحولي يحاصرني الرعاة. كان مبتسمًا..، شرح لهم ما حدث بالضبط، وأكد لهم أني ما زلت عذراء..
فور سماع ذلك، ركضت أمي تقبلني وتعتذر مني، بشكل استفزني كي أحتضنها وأبكي على صدرها مثل الأطفال. ظل الكلام محبوسًا في حلق زوجي؛ لكن حماتي كانت على العكس، تشكر الله وتحمده.
جاءت تقبلني من جبيني، وتدعو لي بالتوفيق في حياتي. اقتربت من أذني، واعتذرت لي من تصرفات ابنها الذي وصفته بالأرعن!. استأذنت منا بعد ذلك وخرجت.. طلبت من زوجي أن يلحقها إلى الخارج.
في ذلك الوقت، كان أخي يعض بشفتيه. حتى اللحظة لم أفهم شعوره بالضبط تجاه هذا الخبر. من المفترض أن يكون سعيدًا؛ في المقام الأول لن أكون سبب فضيحة له، وفي المقام الثاني سيرتاح من همي وسأظل عند زوجي.
أظهر ما أخفى ونُبشت مدافنه.. اخترق الموقف بعدما خرج زوجي قائلًا:
"حمد لله ع السلامة، تحمدين ربك، الله أعطاك فرصة ثانية"
ما أسوأ ما قال.. حتى بعدما تبين ظلمهم، يريد أن يصيغ الكلام بصورة يحافظ فيها على كوني المذنبة! أي حقد انسل من أغباش قلبه هذا!
كنت قد قررت مسبقًا -حين سمعت عن موضوع الطبيب الشرعي- أن أطلب الطلاق بعد أن تثبت براءتي، وكان ذلك قرارًا نهائيا. لكني أردت أن يكون ذلك موجعًا، بشكل أنتزع فيه حقي، وأهينهم مثلما أهانوني.
وجعي كان فريدًا، وإن تشابه في فكرته مع إحدى النساء. تفاصيل الأوجاع عند النساء لا تتشابه أبدًا، على عكس الفرح، الذي تشترك بأسبابه ومظاهره جميع النساء.
ما قاله أخي جعلني قوية جدًا. مسحت دموعي قبل أن تنهمر. لم أعد بحاجة لشفقة أحد. أخذت أمي إلى حضني أقرب من مسافة الصفر، أعطاني ذلك شعورًا مفعمًا بالأمان. تجاهلت أخي فلم يكترث، وخرج ليرى زوجي.
في هذا الوقت، كانت أمي بين يدي عصفورة مذبوحة، وكنت لها الكتف الذي تبكي عليه، والأمل الذي يحتويها. أحاول جاهدة أن أقشع همها، وأحسر غمها، وأُسفر الحزن عنها. قد يكون تمردي على الظلم فضيلتي الوحيدة وسبيلي للخلاص، كي لا أواجه قدر أمي. لا أريد أن أتورط بأولاد يحكمون وجودي إلى الأبد مع رجل برائحة حظيرة.
عقلي يعصف ذهنيًا بأقصى طاقته، جليت عنه ضبابية الصمت، ودجن المفردات التحذيرية الظلامية التي تربيت عليها، كما لو أنها أوامر رب السماء. تلك اللحظات هي التي بدأت فيها إفراغ قلبي من المشاعر والإحساس، وبدأت الاستقواء من جلمود الضعف. كشرت عن أنياب عقلي في وجه كل من يتلذذون بكسر خاطر الأنثى.
دخلت حماتي بعد لحظات، ثم زوجي وأخي معًا. توقعت ماذا سيحدث.. باشرت حماتي بكلامِ طيبٍ تحاول إصلاح ما أفسده ابنها.
في الأصل، لم يكن هذا السبب الوحيد الذي جعلني أريد الطلاق منه، بل ما حدث قبل الصدمة، فكبريائي لا يقوى على تحمله مجددًا. تحليت بالصبر احترامًا لكلام أم زوجي، لأنها بشكل أو بآخر سبب قوتي في هذه اللحظة. لكنها رغم ذلك كانت تعرف مسبقًا طبيعة ابنها، ومع ذلك لم تصارحني بأسلوب حياته، بل كان الحديث عنه متناقضًا تمامًا لما هو عليه. أنهت كلامها، الذي -صراحة- لا أذكر منه غير آخر جملتين، القرار قرارك. زوجي كان ملتزمًا الصمت. لم يخرج منه شيئًا غير بعض الإيحاءات الاستنكارية.
حين أنهت حماتي الحديث قال أخي:
" تعالي وبوس راس زوجك، واعتذري منه!"
أي وقاحة وخساسة ونذالة تلك التي تظهر على صورة أخي؟! سألت نفسي مرارًا وتكرارًا: هل هذا نفسه هو أخي الذي كان يشاركني اللعب في طفولتي؟

آدم
تطرقنا قليلًا للموضوع الأساسي الذي جئنا إليه، وهو تعليم سارة اللغة العربية الفصحى بشكل عام، والكتابة الصحفية بشكل خاص. أعربت سارة أنها ستمكث في مصر سنة على الأقل.
مشروع الإعجاب الذي كنت أكنه مسبقًا لسارة تلاشى نوعًا ما، لذا بدوت معها عمليًا جدًا، ونصحتها بالتسجيل في جامعة عين شمس، حيث يمكنها الدراسة ضمن برنامج وخطة واضحة، وعرضت عليها مساعدتي في أي وقت ترغب فيه، ويمكننا -إلى جانب انتسابها للجامعة- البدء من الأسبوع القادم في الدروس، لأن التسجيل في الجامعات المصرية يبدأ في الشهر التاسع بعد نتائج الثانوية العامة، لذا كان لدينا متسع من الوقت للبدء، قبل بداية الدراسة في الجامعة.
كنت قد رق قلبي بشكل كبير لقصة صديقتها. لكن رقة القلب لا تنفع أنثى أشهرت أسلحة كبريائها في وجه الجميع. في الوقت الذي كانت سارة تسرد فيه القصة، كُنت أتخيل كيف أصبحت شخصيتها في الوقت الحالي. أنا خير من يعرف ما يفعل الألم بامرأة، فهو إما أن يقضي عليها تمامًا، أو يجعلها امرأة في حالة نضج ٍ وحذرٍ كاملة، على المستوى العقلي والعاطفي.
ستأخذ حياتها صبغة السخرية من مجريات الحياة، ستشرق شمس أناقتها أكثر، ستهمل العالم الواقعي.. وتتجه للعالم الافتراضي!.. ستعطي اهتماما أكثر للزهور والموسيقى، ستهرب من القاع إلى القمة، ستكره الرجال كلهم عن بكرة أبيهم، لكنها ستلين يومًا أمام أحدهم.
حين تطلب امرأة الطلاق من رجل لم تتجاوز فترة زوجهما أسبوعا، وخصوصًا بعد واقعة طمس كبريائها، فهي بلا شك امرأة قوية، لا ريح تجابهها.
كم أن لديها بُعد نظر وجليتها مشرقة!.. بالطبع الكل اتهمها بالجنون.. لكن على مستوى نظرتي الشخصية، رأيت زينة العقل فيها تلمع مثل اللآلئ. لقد طلبت الطلاق من رجلٍ شبه سادي، تكره حتى رائحته.. كم من الأذى تجنبت، وكم من سنوات عمرها أنقذت، وكم من غصات الأهل تحاشت، وكم من كرامة نفسها حفظت.
ماذا لو ظلت على ذمته وأنجبت أطفالا، ماذا سيفعل زوجها؟ الجواب البديهي، إن لم يقايضها على أبنائها، حتما سيجبرها على الخضوع من خلالهم.
على أي حال، فستواجه هذه المرأة عجب العجاب بعد حصولها على لقب مطلقة. ستقضي على نفسيتها تلميحات الأهل والأصدقاء، إذا لم تعِ أنها انسانة، وأن كل هؤلاء ليس لهم سلطان عليها. ستعيش بشخصية أقوى، وتبدع أكثر.. لن يكون هناك مجال للفشل في حياتها، لأنها قبلت أن تضع نفسها في تحدٍ، خيار الفشل فيه غير متاح.
طلبنا الحساب من النادل، وأثناء ذلك تبادلت مع سارة أرقام الهاتف وحساباتي الافتراضية على الإنترنت. إنني مدين لصديقتي اللاتيفية "لي ياني" لمسؤوليتها عن إيقاظ قضية المرأة في أكناني، فلولاها لأصبحت مثل غيري مدفونًا بالشرق. إن لديّ الآن رغبة بكتابة رواية عن المرأة في العالم العربي. الفكرة غير ناضجة بعد، لكن استراق بعض الأفكار من سيرة صديقة سارة لا يضر. وإن كانت الكتابة عن أوجاع النساء أمرًا مرهقًا، فالظلم الذي يتعرضن له لا يمكن حصره بكتاب!
فكرت أنني كنت بحاجة لإلهام، وقصة صديقة سارة بذرة هذا الإلهام.. لم أنتبه لصوت قلبي، الذي كان يريد أن يقول لي شيئًا، وأنا أسكته على سبيل الإنجاز قلائلا: سنتكلم عن ذلك لاحقًا.
أثناء خروجنا من "الكافيه" أوقفت سارة قليلًا وسألتها:
- ما اسم صديقتك؟
قالت : ريم..
قلت في سري... ريم؟ أين سمعت هذا الاسم؟
أخذ الأمر ثوان، حتى عادت لخاطري ذكراه. أنا واقعًا فعلًا بغرام هذا الاسم من قبل. لقد أحببته بعدما اختارته شهد اسما لأول أبنائنا الذين حلمنا بهم. لدي ذكريات جميلة جدًا مع هذا الاسم.. هو يعني الغزال شديد البياض. سألت سارة بعفوية:
هل هي من أصل بدوي؟
فردت سارة: نعم هي من أصل بدوي.
الجمال البدوي وعراقة تفاصيله.. تلك التي تغني بها شعراء العرب قديمًا. بدأت أرسم ملامحها في مخيلتي على استحياء، وأقول لنفسي: كف عن الجنون، ولا تشطط بأكثر مما يجب.
أعترف أني أتسرع أكثر من اللازم في رسم هكذا نوع من العلاقات الهلامية؛ لكنها سرعان ما تنقشع عن بالي. ولو أن كل علاقة غرامية أقمتها في خيالي غدت حقيقة، لأصبحت أكثر من زير نساء، وأعظم دونجوان على الأرض. كنت أتهم نفسي أني أبحث عن حب جديد لأنسى شهد. وكنت مخطئًا.. أنا أؤمن أن الحب الأول لا يعني الأخير. لقد كتبت في مدونتي عن ذلك حين عدت إلى البيت. لقد شعرت بتأنيب الضمير من تلك الفكرة، فأردت أن أغسل روحي بنص جديد، أصارح فيه الواقع، وأحتذي سبيلا آخر للحياة.
كتبت مدونة بعنوان قصير "ما الحب إلا للحبيب الأخير"، فيه قلت:
"فشل أو نهاية العلاقة بين اثنين عادة ما تسبب نقلة من اللاوعي إلى الوعي، وذلك يبدأ مع التحليل المكثف لتجارب الماضي، والتي تخلق لدينا كمية مهولة من التخيلات السلبية، التي تؤدي إلى فقداننا للثقة في الحب بالدرجة الأولى. سنفكر بمرارة: لماذا حال بنا الحال إلى هذا؟ أو إذا كان الحب فاشلًا سنسأل: بماذا أسأت إليه؟ ونرثي أنفسنا بالأسباب وحُسن النوايا. لكن ماذا بعد؟
إن الروح تنمو بالتجارب، فكما احتاجت الفلسفة للمدرسة التجريبية لكي تصطفي أفكار الآخرين على مدى قرون، تحتاج الروح لذلك، لكي تنمو في رعاية العقل".
بعدما نشرت هذه التدوينة بعشر دقائق، جاء تعليق على صيغة سؤال من الفتاة نفسها، التي تسمي نفسها رحيل القمر:
كيف نحافظ على الحب إن تعثرنا به؟
علقت بإجابة طويلة على سؤالها:
في الحب، لا يجب أن تنفق كل وقتك على الحبيب. إن هذه الفكرة المفسدة ما هي إلا من طلاسم الشعراء، الذين يفوحون بتعدد العلاقات في حياتهم. أي مخلوق في الحياة يحتاج لوقت خاص، بعيدًا حتى عن أقرب الناس، فلا ضرورة لأن تحول نفسك من عاشق لمخبرٍ. حاول أن تتفهم أن حبيبك ليس بمادة تتملكها، ولا يحق لك أن تملي عليه قوانينًا، وتجبره على أن يصادق أحد ويترك آخر، يأكل هذا ولا يأكل ذاك,, كل هذا الهراء منفر جدًا.
ثقتك بنفسك -كما أنت- هي ما تضفي أناقة لحضورك، فمحاولة أن تغير عادات ومظهر شريكك ترهق حبكما، فلماذا تحاول أن تجعل الصخر ماء؟!
كثافة المشاعر الجميلة التي تنتابك في بداية الحب تختفي مع الوقت. ذلك ليس قصورا في حبيبك، أبدًا، لكنكما وصلتما لمرحلة نضوج العشق. فرجفة كل لقاء ستتلاشى ولا يعني ذلك تلاشي الحب، فلا تسرف بالشكوى وتوّصل بنفسك لسلامك الداخلي.
أتعرفين؛ حتى عند الفراق، كن رشيقًا ما استطعت، والتزم بقواعد الفراق.. لا تحن، لا تعد، لا تندم، ولا تخن سرًا كان يجمعكما!
كانت لاتزال متصلة بالإنترنت، فقد جاء ردها سريعًا:
سأحرص على تجنب ما ذكرته، إذا وقعت في الحب يومًا ما.
كنت سعيدًا جدًا بتعليقها. أجفف خاطري، وأقول لنفسي: بعضهم يؤمن بحروفك، استمر في الكتابة، لا بد أن الكتابة طوق النجاة الذي لم تنتبه لوجوده في حياتك. في تلك الليلة، تحمست ونشرت أربع مقالات قديمة كنت أحتفظ بها، غالبيتها عن الفراق وألمه. وكانت رحيل القمر تترك دائمًا إما تعليقًا أو رمزًا لوردةٍ على كل مقال. من هذا المنطلق، بدأت أكتب بكثافة، بعدما شعرت أن (أحدهم) يتابعني باستمرار.

ريم
أخذت على عاتقي الجنون، وبلا تردد طلبت الطلاق، وقلت لهم:
أنا المجنونة التي تريد أن تحافظ على ما تبقى من عمرها بالطلاق، أريد الطلاق ولا رجعة لي عن هذا.
لمحت أمي بطرف عيني تمسح دموعها، وتخفي ابتسامة الرضا التي لم ينتبه لها أحد سواي؛ كأنها تريد القول إن هذا خير ما فعلتِ كي لا تحصدي ما حصده حظي.
أمي الوحيدة التي تفهم لماذا أصررت على الطلاق.. لا تريد أن يعيد التاريخ نفسه، تكره أن تتخيلني أواجه ما واجهته في حياتها. أمي رقيقة جدًا، تفهمني وأفهمها، حتى لو كان كلامنا عكس ما تخفيه أفئدتنا. أدركت أن عتبي عليها لم يكن في موضعه. فمثلما أنا مكرهة على الزواج، هي مكرهة على قول ما قالت، وخوفها الشديد، جعلها تتحدث بلسان بالخوف، ولسان الخوف لا يؤخذ عليه في دنيا الضباع.
كانت "أريد الطلاق" كل ما تفوهت به، بعدما طلب مني أخي أن أُقبل رأس زوجي. كاد يلطمني على وجهي، فحمتني أمي بجسدها، وقفت حماتي بيننا. قام بإهانتي بلفظ نابٍ.. كانت أول مرة في حياتي أسمع هذا النوع من الألفاظ. أردت أن أبصق في وجهه، لكن خوفي رحمني من حماقة تصرف كهذا. تشبثت بأمي أكثر، انهرت في البكاء، بكيت كما لم أبكِ من قبل في حياتي.
أما ذلك الزوج، فكان متفرجا، لم ينطق بشيء؛ حتى رغم تدخل والدته. أي رجل في الكون هذا؟! لم يحاول منع أخي من ضربي، وأنا بحكم الدين والقانون ما زلت زوجته! كل من عاشرتهم من الرجال كانوا شكلاً للرذيلة في حياتي. تعلقت صور الوضاعة والخيانة في نظري بهم، واحتكروا لهم دور الشر على مسرح الحياة.
وأنا قررت ألَّا أشارك في هذا المسرح، لا بخير ولا بشره. قررت أن أكون ما أريد وحسب. ظللت أبكي بشكل هستيري، وفقدت السيطرة على نفسي. لم أستطع الوقوف من شد القهر.
أوسعني غانم لومًا وتوبيخًا وتعنيفًا، لكني احتفظت بثبات قراري وصمتي رغم كل ذلك، فأنا أعرف أني إذا ما تفوهت بحرف ستزداد فورة غضبه؛ أخي وأعرفه..
رغم غانم، تفوقت عليهم وطُلِّقت. والدة زوجي كانت تقف إلى جانبي.. لا أدري هل ذلك كان بحسن نية أو لا، ولا أدري إذا كان موقفها لصالحي بالفعل، أو لصالح ابنها. هي من أجبرت ابنها على الطلاق، رغم أنه في الحقيقة لم يكن مجبرًا، فلم يبدُ عليه بأنه يمانع ذلك. يبدو أني استطعت جعله يكرهني من الليلة الأولى. المهم أني طُلِّقت. كان يوم براءتي هو نفسه يوم طلاقي. ما أوسع تعاستي في ذاك اليوم.
في اليوم الذي عدت فيه إلى بيت أهلي، اكتشفت أن أخي غانم هو من قام بمنع أختي ليلى من مكالمتي. كانت ملامح ليلى باهتة، هالة السواد على جفونها نضجت، وصورة العجز من عينها نطقت. بمجرد دخولي البيت، ركضت نحوي، واهتدت إلى حضني، واعتصمنا بحبل البكاء جميعًا.
عرفت ماذا تعني الدموع.. إنها أشبه باستراحة محاربٍ قضى شهورًا في المعارك. البكاء حالة رخاء للنفس، نلفظ فيه أوجاعنا، ونعبر فيه عن ندامتنا، ونُكفر به عن ندبات الفراق.. البكاء صلاة للروح والقلب.
تعافيت، وتعاميت عن كل ما مضى، منذ دخلت بيت أهلي، رغم إدراكي بأني مع الأيام سأكون منبوذة في هذا البيت. لذا، رتبت جدول حياتي، وقررت أن أعمل.
وضعت هذا الموضوع جانبًا إلى أن يهدأ عطش الوقت من هذيانه، ولأستوعب وضعي الجديد في البيت، وأرى نبض أهلي تجاهه. بدأت الأيام تمر يومًا بعد يوم، وأمي شيئًا فشيئا تعود لجبروتها الحريري. تراكم الفراغ فوق بعضه.. أخي غانم صار ينبذني أكثر، لدرجة أنه إذا أراد أن يقول لي شيئا، يخبره لليلى أولا، ثم تنقله ليلى إليَّ.
كنت أُنجد وقتي بالقراءة، ثم لاحقًا صار العالم الافتراضي الحضن الدافئ لأفكاري. على الرغم من ترددي في اقتحام هذا العالمـ إلا أني تورطت به حد الثمالة. الإنترنت نافذتي الوحيدة التي تنشق من جدران سجني الاجتماعي، خصوصا بعد زيادة منسوب المحظورات، التي حاصرتني بعد الفوز بلقب مطلقة.
في تلك الأيام، زاد شعوري بالغثيان ونقص وزني بشكلٍ كبير. كنت أعاني من ضغط نفسي شديد، وكالعادة كان سلاحي الأسبرين، الذي لم أكن أتخلى عنه أبدًا.. مغمودٌ هذا الدواء في جيبي أينما ذهبت.
أنا لا أنكر أني كرهت نفسي بشكلٍ كبير. لكني كنت أعرف مسبقًا أن إحساسًا كهذا سيراودني. ليس ذلك وحسب، كنت على يقين بأن الشك سيزور قلوب أقرب الناس لي. عين العطف في عين أمي وأختي ستغدو يومًا عين اتهام. حتى الخادمة، ستصبح لها سلطة على حريتي أكثر من نفسي. كنت أعرف كل ذلك، وأعرف أني يومًا ما، لن يكون بمقدوري ارتداء بعض الملابس الداخلية، تحديدًا الزاهي منها.. ولن يكون بمقدوري النوم بقمصان نومٍ، بل بالبيجامة.. كما سيكون من الأفضل أن أقتني أنواعا معينة من المكياج، وألا أضع عطرًا فوَّاحًا، وألا أتحرك لأي مكان بدون وجود محرم. صديقاتي سيحرّم عليهن أزواجهن وأهلهن لقائي، سأغدو خطرًا محدقًا لأي علاقة أحد أطرافها قريب مني، وربما أكون حجةً تناكف بها زوجة أخي المستقبلية زوجها، فأخي من النوع الذي تقضي على شخصيته امرأة.
سينظر لي الرجال على أني فريسة سهلة للجنس. وربما سيخطر في بال غانم أني مارست الجنس مع أحدهم، رغم كل التشديد الأمني الملقى على كاهلي من أهلي. سأكون مطمعًا للقطاء، والسيدة المسلية والمضحكة في سهرات الأهل والأصدقاء. سيظن الناس أني أجيد النكات الإباحية. وسيبدع البعض في افتراض أنفسهم نافذة الهواء الوحيدة في حياتي. كل هذا أعرفه وأدركه، لذا رفضت ما أرادوا أن يجعلوني إياه، المرأة المهترئة التي تستحق الشفقة. ارتداني الشحوب عنوة، ولم أمانع.
كنت في بداية إدماني للمواقع الافتراضية، لم أقتحم هذا العالم باسمي الحقيقي. اخترت اسمًا مستعارًا أتخفى به. لا أعلم لماذا تصرفت كذلك؛ ولكن أغلب الظن أني أردت أن أتحاشى نوعًا من المشكلات ستظهر في حال استخدمت اسمي الحقيقي. لذا، وتجاوزًا لهذه المشكلات المتوقعة، تخفيت تحت اسم مستعار. أغرقت جهازي بالأحزان والأغاني، وبمجلدات مملؤة بصورٍ تعكس أمنياتي وأحلامي. صورةٍ لرجل يحتضن امرأة على شاطئ البحر، عشرات الصور لمارلين مونرو وسعاد حسني، صور لعشاق يتبادلون القبل والنظرات، صور مميزة للشكولاتة، رجل وامرأة يمارسان الرياضة بشكل رومانسي، وأغنيات من الزمن الجميل، وأخرى لمطربين مغمورين تعثرتُ بأصواتهم مصادفة أثناء تسكعي على الانترنت، وخواطرٍ تهجو الرجال تارة، وتمدح الحب تارة أخرى.
أدمنت المنتديات الحوارية فترة، ثم وصلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي. كان لديَّ مدونة خاصة، لا أكتب فيها كثيرًا، أضيف من خلالها بعض التعليقات على تدوينات الآخرين، وفيها بعض المعلومات المهملة عني.
كانت تشدني جدًا الأفكار غير المألوفة والمتحررة، وكتابات المدونين كانت بمستويات تحررية لا سقف لها على مستوى انتقاء الألفاظ، واختيار المواضيع.. تقريبًا كل شيء مباح هناك، وكل شيء واضح وصريح بشكل صادم. تفاجأت بأفكار بعض المدونين على تويتر، الذين يقيمون بالخليج.. أفكارهم، وأطروحاتهم، وانتقاداتهم للعادات والتقاليد والسياسة. قرأت عددًا من الروايات بأقلام نساء من الخليج، تصف الواقع بعمق وجرأة. لم تكن تلك الكتب في المكتبات؛ قرأتها بصيغ الكترونية. حتى الآن، لا أستطيع أن أصل في تخيلاتي لهذا المستوى التحرري الفكري الذي لديهن.
كان تأثير المدونين على أفكاري مترنحًا، ما بين عميق وسطحي. لكن قراءة مواضيع بعضهم شكلت إدمانًا جديدًا أتعرض له. فُضت بكارة قلبي، وصار أكثر جنونًا، يحب هذا ويكره هذا، يعرف الحقد ويعرف الخبث، وغدت له عيون تحيط بجدرانه من كل جهة، وآمنت بأن مبدأ حسن النية لا يجب أن يعمم على جميع البشر.
من بين من تابعت، كانت تشدني كلمات كاتب مغمور، تابعته منذ كانت مدونته فارغة الا من اسمها، الذي جذبني: "لاجئ على باب الله". موضوعي مع الفلسطينيين طويل لا ينتهي.. رافقني طوال حياتي.
كانت نصوصه قصيرة بدائية، لم تكن لغته قوية لتجعله فريدًا، ولم تكن المواضيع التي يطرحها والنقاط التي يشير إليها بجديدة. لكن طريقة طرحه للمقالات كانت مختلفة، تجعلني أصدقها وأشعر بها.. كانت تعكس تجربة شخصية. كنت قادرة على أميز كتابات هذا الشاب، حتى لو وضع نصه في كومة ورق.. لم يكن يتقمص أوجاع الناس ويتحدث بها، بل كل تدويناته ترتكز على وجعٍ واحد.. كنت أشعر بهذا الوجع.. إنه يختزل في مكنون كتابته الوجع الفلسطيني، حتى لو كان النص مُعَنوَنًا بموضوع لا علاقة له بالأرض. تشبيهاته كانت تقنص شيئًا من الوجع.. وكانت لدي متعة في اكتشاف هذا الانعكاس على نصه.
في غمرة هذا التعب وهذه الأجواء، وبعد انقضاء شهرين على طلاقي، كنت أجلس في صالة البيت على الأريكة أتابع التلفاز، أقامر الوقت عسى أن ينقضي لأي أجل لا يطرحني فريسة الفراغ. جلس بجانبي والدي، على غير عادته. سألني عن حالي بأبوية لم أعتد عليها. أجبته بشكل مختصر "الحمد لله". ثم بدأ على تردد إقحامي في نقاش عابر عن المسلسل الذي كنت أتابعه. تقريبًا منذ سنوات لم أحظ بفرصة الجلوس معه.
كانت جلسة لا حدة فيها. فاتحني بالسؤال عن مشروع حياتي، وسألني ماذا سأفعل بعد الحال الذي رسَوت إليه، هل سأبقى في البيت بلا شيء يشغل عقلي عن مشانق الفكر، أم ماذا. اقترح عليّ العمل في إحدى شركاته؛ لكن مجال دراستي لم يكن يؤهلني لذلك. وبعد الأخذ معه في الحوار، خيرني ما بين العمل أو الدراسة، وقال لي:
بإمكاني إيجاد فرصة عمل مناسبة لك، أو إذا أردت بإمكانك تكملة الدراسات العليا في أي بلد تختارينها.
ثم نهض بشكل مفاجئ عن الأريكة، والتقط مفاتيحه من على الطاولة، وسألني أين أمي وأختي. أجبته:
أمي فوق، وأختي ما زالت تقلم أظافرها عند الكوافيرة
وقبل أن يصعد للطابق العلوي ليستريح قال:
فكري بالأنسب لك، وخلال أسبوع أخبريني عن قرارك.
كان هذا اللقاء الأكثر فرجًا في حياتي. هي مكافأة وفرصة أرسلها الله ليـ ليخلصني من برودة الوحدة وقسوة الفراغ. شعرت أن جسدي انتعش، وكأن نهرًا انفجر في صحرائه المتصدعة، والملوثة بالتشققات والعادات المقلقة.
من كل محنة تومض جنة؛ لكننا بحاجة لعيون ترى الأشياء على حقيقتها، لنميز الفرق ما بين الفردوس والجحيم. في كل مرة تطل على أحزاني نافذة فرج.. نعم، حتى في زواجي الخائب، كانت والدة زوجي باب الحرية، الذي أخرجني من قفص الزواج.. وحتى بعد طلاقي، ها هو والدي يمنحني -من حيث لا أدري- شرفة تطل على الحياة من جديد. أخذت قرارًا بأن أدرك هذه الفرصة بكل عقلانية، فهي ملاذي الوحيد لحياة كريمة أبدية. كانت سعادتي لا توصف.
أقفلت التلفاز، وذهبت مسرعة إلى غرفتي، لكي أستفرد مع عقلي بهدوء، وأصارعه كأني عدوته على طاولة الشطرنج، أناظره وأشعل عواصف ذهنية به.
كنت أشعر حينذاك بألم حاد جدًا في الجانب الأيسر من بطني؛ لكني لم أعطه أي اهتمام، فأنا اعتدت على وجع العظام وآلام البطن التي تأتِي وترحل، كأنها جيش مزاجي. فتشت في مخالب الإنترنت عن مشاكل الدراسة في كل بلد على حدة. لم أبحث عن المزايا؛ مباشرة ركزت بحثي عن الصعوبات. تجولت في الصفحات الإلكترونية والمنتديات.
بالطبع فضلت فكرة الدراسة عن العمل، كي أستطيع أن أنأى بنفسي، بقسط من الحرية والراحة، وأرى العالم بغير قيود، خصوصًا بعد شلالات العالم الافتراضي، التي كانت تصب أفكارها في خزانات عقلي الفارغة إلى كبير..
تمنيت الدراسة في ألمانيا أو فرنسا، لكن اللغة كانت حاجزًا بالنسبة لي. لم يكن لدي رغبة في دراسة سنة تحضيرية، ثم معادلة شهادتي الجامعية حسب قوانين التعليم هناك، وربما سيكون هناك زيادة كبيرة متوقعة في معدل الساعات المقرر دراستها، ثم أخيرًا الالتحاق بدراسة الماجستير أو لا. أنا لست صبورة، ولا أريد أن أضيع سنة أخرى من عمري -على أقل تقدير- بالإضافة لسنوات دراسة الماجستير. لذا، ارتحلت من موقع لآخر، ومن بلد لأخرى.. مرة أقرأ عن الدراسة في أوكرانيا، ومرة في بريطانيا، وأخرى في سويسرا.. كانت الرهبة الشديدة دائمًا تمنعني من المغامرة في التبحر في قراري في أحد البلدان، حتى أرهقت تمامًا في عملية البحث، فارتأيت أن أستريح وأكمل بحثي غدًا.
بدأت أتصفح المدونات، أريح عقلي بها، فوجدت المدون الفلسطيني "لاجئ على باب الله" قد نشر مدونة عاطفية قصيرة، يقول فيها:
"أحبك بسلوكٍ غير مألوف!
لحسن شأن الحب معي، أني أحبك أنت لا غيرك من النساء. نمر على لفتات الحب معًا، كلاعبي سيرك يتراقصان على حبل، دون أن يهتز توازنهما.
أسأل والديك، إخوتك، أصدقاءك عن كل أغنية مفضلة مرت بذاكرتك، وأجمعها وأجمع لك من كل لحنٍ صوب قلبك أغنية. أضعها على قرصٍ مدمج، وأغلفها بصورة ليدينا معًا، وأكتب "أحبك يا تعبي".
وأعود بنهج حبنا إلى الماضي الجميل، وأعيد إحياء هدايا الدباديب والمكاتيب. أستيقظ في متن الليل، أكتب على ورقةٍ سطرًا عن حبي لك، وألصقها مرة على الثلاجة، وتارة على مرآة الحمام.. كل تلك الأماكن التي تجعلك تبتسمين من نواةِ قلبك.
سأخطط خلسة مع والدك للسطو على صورك الطفولية، أضعها في "ألبوم صور" تحت وسادتي، ولا تكتشفين أني أملكه إلا مصادفة لا شأن لي فيها إلا خبث الدهشة.
وفي كل يوم من الأسبوع يشابه يوم زواجنا، أهديك كتابًا لأولئك الرائعين الذين تقرئين لهم،.. مع وردة بالطبع!
لا أتعشى من غيرك، وإن غبت يومًا قهرًا عن عشاء، نعوضه في يوم آخر بالعشاء مرتين.. ولا تقلقي بشأن تنظيف الصحون والطبخ!..
سيكون في كل مكان أجلس فيه متسع لتشاركيني جلستي، حتى ولو كان الكرسي لا يتسع لنصف جسدي!، وأنظف لك زاويتك على السرير، بإزاحة الفوضى كلها على مكاني..
و أكرر لك إعلاني حبي كل يوم، ولا أكرر نفس الطريقة!"

كلماته بسيطة نقية، لا تعقيد فيها، يهفت لها القلب لوهلة، ليتخيل نفسه يعيش فيها. أغمضت عيني، وبدأت أترجم هذا المشهد في خيالي. كنتُ الجميلة التي تجلس إلى جانبه، على أرجوحة تلتف حول أضلاعها أغصان الياسمين.. وكنت أستمع بتمنع له، وأداري ضحكة قلبي وفرحته.
لكن.. لكن لم يكن لديَّ صورة لأتخيل وجهه؛ لذا لم يطُلْ الحلم. أردت أن أكتب تعليقًا على النص، ففوجئت بنفسي أنزعج جدًا، حينما لاحظت أن هناك متابعةٍ جديدة غيري قد سبقتني بالتعليق. شعرت بنوع من الغيرة، لأني في الأصل كنت سعيدة بكوني الوحيدة تقريبًا الذي تزور كهف حروفه المهجور.
ذهبت مسرعة لزيارة ملفها الشخصي على مدونتها، من خلال الضغط على اسمها في التعليق الذي أضافته. كانت مدونتها باللغة الإنجليزية، وكان على الجانب ثلاث أيقونات لحسابها على الفيس بوك والتويتر وجوجل بلس.
ضغطت بلا تردد على حسابها على الفيس بوك، لأرى شكل هذه التي اقتحمت كهفي الخاص. كانت عقلي يضج بالأفكار الشريرة.. أتخيل نفسي تارة أضعها في طنجرة كبيرة مملوءة بالماء المغلي، وتارة أحبسها مع مجموعة أسود جائعة، والكثير الكثير من السادية انفجرت في أفكاري تلك اللحظة. لكن الصدمة التي لم أتمالك نفسي أمامها كانت فيما هو في أصعب الأحوال لم يكن بإمكاني توقعه. ظللت للحظات ساكنة لا أتحرك، صامتة، حتى وجع بطني تحنط، وآلام عظامي توقفت عن أزيرها لتستوعب ما رأيت.
هذه السيدة ضمن قائمة أصدقائي!
يتبع الجزء الثاني

*يامي أحمد
روائي فلسطيني يعيش في مصر

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...