1 ـ
..وتجرؤ علي أن تكتب قصصاً قصيرة؟
ما قرأت كتاباً لسعيد حورانية، ثم ما رأيته مرة بعد أن تعرفت إليه، إلا وتذكرت هذه العبارة من حوار، أو من حادثة جرت معي:
كنت في الصف الثاني من قسم اللغة العربية في جامعة دمشــــــق، وقد تعرفت إلي زميل كان يهوي المطالعة، ويكتب القصة القصيرة، وذات يوم، في مقصف الجامعة، سألني هذا الزميل:
ـ وأنت..ألا تكتب؟
متلعثماً وخجلاً أجبته:
ـ أكتب..
وبالطبع خجلت أن أقول ماذا أكتب، ولكن الزميل تابع سؤاله:
ـ ماذا تكتب؟
ـ أكتب...أكتب..قصة قصيرة..
صمت الزميل القصاص، برهة، وكان قد نشر في مجلات معروفـــــــة آنذاك منها الأســــبوع العربي و المضحك والمبكي ثم سألني فجأة؟
ـ هل قرأت قصص سعيد حورانية.
كانت هي المرة الأولي التي اسمع فيها باسم سعيد حورانية، نظرت إلي الأرض، وقد ازداد ارتباكي وخجلي أمام زميل يفوقني في التجربة والثقافة والمعرفة، فقد كنت شاباً ريفياً آتياً من مدينة صغيرة، بينما كان زميلي شاباً من مدينة كبيرة، وكأن هو الوضع الآن بالضبط، فأنت لا تستطيع أن تجد في طرطوس الكتب التي تجدها في دمشق.
أجبت زميلي:
ـ لا.. لم أقرأها
وبحدة فيها مزيج من الدعابة والقسوة، بل والعتب، ومع ابتسامة، ما أزال اذكر منها ملامح الإشفاق واللوم معاً، قال الزميل:
ـ لم تقرأ قصص سعيد حورانية، وتجرؤ علي أن تكتب قصة قصيرة؟
صمت لحظة، واذكر انه قطب ما بين حاجبيه، ثم انفرجت أساريره وقال:
ـ قم..تعال معي إلي البيت..خذ قصص سعيد حورانية...اقرأها..ثم اكتب قصة قصيرة.
قرأت مجموعتي قصص سعيد حورانية شتاء قاس آخر و سنتان وتحترق الغابة في ذاك اليوم الذي حدثت معي الحادثة التي رويتها لكم، وبعدها، في أواسط السبعينيات، تعرفت علي سعيد حورانية، وربما أستطيع أن أدعي أننا كنا في مرحلة أصدقاء، لكنني بقيت، وبعد أن قرأت قصصه، بل وكلما قابلته، اشعر بشيء من الارتباك والخجل اللذين شعرت بهما عندما قرّعني زميلي عام 1968، بل إنني أقول لنفسي بين حين وآخر، وربما كلما كتبت قصة قصيرة:
قرأت قصص سعيد حورانية وقصص زكريا تامر ويوسف إدريس وتشيخوف وموباسان وهمنغواي وكاترين مانسفيلد وإيتالو كالفينو وبورخيس ومحمد خضير، وتجرؤ علي كتابة قصة قصيرة؟! .
سعيد حورانية وزكريا تامر شكلا بالنسبة لجيلي، الأستاذين اللذين كانا علينا أن نكتب القصة وطيفهما حائم فوق مخيلتنا وأقلامنا، فإما أن نفعل شيئاً يليق بالأستاذين أو أن لا نكتب، كان سعيد حورانية قادماً من اندفاعة الخمسينيات والتي كانت رداً مجتمعياً علي هزيمة الـ48، وكان جيلنا قادماً في السبعينيات رداً مجتمعياً آخر علي هزيمة الـ 67، وربما كان هذا ما جمعنا به أدباً وأفكاراً ونمط حياة، أما زكريا تامر فقد كان آتياً من الحساسية والأوضاع الجديدة التي تشكلت في الستينيات والتي أعقبت اندفاعة الخمسينيات وفورتها، وبداية ظهور أنظمة التسلط والقمع وحكم الأجهزة المخابراتية مع تجربة الوحدة المجهضة، كان سعيد حورانية بحادثته المركزة ولغته الواضحة واندفاعات سرده، قمة لا يمكن أن تجاري، وكان زكريا تامر بمخيلته الشاعرية، قمة أخري، وكان علينا أن نسبح في الوادي بينهما.
لكن ماذا من قصص سعيد حورانية وعالمه القصصي؟
أعلنت مجموعة سعيد حورانية الأولي وفي الناس المسرة ـ 1952 أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، ميلاد كاتب وعالم قصصي جديد، وذلك بإعلانها آن الجيل في المجتمع العربي ـ في سورية ـ قد بدأ الانفصال عن الجيل القديم، لكن هذا الانفصال عن سعيد حورانية لم يأخذ شكل صراع أجيال ، كما يمكن أن يقال لدي التحليل السريع، بل إن هذا الصراع فهم علي حقيقته صراع أفكار ورؤي وبمعني أكثر تحديداً صراع طبقات فالصراع الفكري احد مظاهر، أو أحد أبعاد الصراع الاجتماعي. ومن هنا نفهم لماذا يترك حامد في قصة سريري الذي لا يئن أهله ليعيش وحيداً: إن الفكر الجديد، ممثل القوي الشعبية الجديدة، والتي بدأت تعي نفسها حديثاً، أي بعد الخروج العسكري والإداري للفرنسيين، إن هذا الفكر بدأ يعبر عن نفسه، وعن وضع القوي الجديدة الذي يمثل: عن رفض هذه القوي للواقع الذي هو استمرار للماضي.
لقد تمرد حامد علي أفكار أسرته، وانفصل عنها وعلي الرغم من مشهد الفراق العاطفي فإن حامداً لم ينثن عن قراره، بل إن حامداً وجد ذاته الحقيقية في انفصاله عن أسرته، أي عن نمط الأخلاق، وعن المجتمع القديمين.
إن انفصال حامد لم يكن مجرد تمرد شاب، بل كان انفصالاً فكرياً، انفصـــــالاً طبقياً بالضبط.
ـ وهذا ما عرفناه في سعيد حورانية عند تشاركنا وإياه عيش نمط حياة جديدة فيما بعد ـ يفكر حامد في غرفته ـ حياته ـ الجديدة:
..أشعر أنني قوي رغم كل شيء..وأنني وجدت ذاتي التي أضعتها منذ وقت طويل وكما هو معروف، فإن إضاعة الذات هي الاغتراب والعكس صحيح.
هذا الصراع بين حامد وأهله، بين الشباب والشيوخ، بين الحاضر والماضي، بين الجديد والقديم، سوف يأخذ صورته وبعده الاجتماعي الواضح في مجموعتي سعيد حورانية التاليتين: شتاء قاس آخر و سنتان وتحترق الغابة وفي هذه المجموعات الثلاث يكتمل رسم عالم قصص جديد تماماً، ومغاير لعالم العجيلي السابق، فإذا كان عالم العجيلي القصصي هو عالم ـ مجتمع ـ القدر، والمصادفة، والثبات، فإن عالم ـ مجتمع ـ سعيد حورانية القصصي هو عالم الكفاح والتغيير والأمل، عالم قصصي لن يدرك كنهه تماماً إلا بالرجوع الي مرحلة الخمسينيات وديناميكيتها، مرحلة الكفاح الاجتماعي ـ الوطني الفكري الذي شهدته الساحة العربية والسورية خصوصاً. فهذا الصراع، الذي قامت به القوي الشعبية وأفكارها، التي بدأت تعي نفسها وقوتها حديثاً ـ آنذاك ـ تبدي جلياً في العالم القصصي لسعيد حورانية، وكما كان الصراع واضحاً علي ارض الواقع، فقد كان واضحاً في ارض العالم القصصي لسعيد حورانية حيث ينتهي الصراع في هذا العالم القصصي بانتصار القوي الشعبية، ذلك أن سعيد حورانية يضيف إلي عالمه القصصي رؤيته الفكرية لحركة التاريخ: الإيمان بالإنسان والمستقبل، هذا ما رآه الكاتب، فاضافة إلي الواقع القصصي، وبهذا فإن العالم القصصي لهذا القاص لا يقف عند حدود مرحلة الخمسينيات، بل ينفذ خارجها باتجاه المستقبل كما يراه أو يريده الكاتب، وبمثل هذا العالم القصصي نقول: ان الواقعية ليست نقلاً ميكانيكياً للواقع. .إن الواقعية هي رؤية لحركة الواقع واتجاه هذه الحركة.
يقوم الصراع في عالم سعيد حورانية بين قوتين تتصارعان في الطبيعة، وككاتب واقعي أصيل، فإن هذا الصراع بين قوتين في الطبيعة يتجسد ويتعين، واقعياً ـ اجتماعياً، علي الشكل التالي:
1 ـ القوة الأولي:
تتجسد هذه القوة، في القوي المسيطرة والظالمة في المجتمع، وبكل أنواع السيطرة والظلم: العسكر والدرك الــــــذين ينفذون قانوناً جائراً: الأهل الذين يمثلون قيماً اجتماعية ـ
أخلاقية قديمة: الإقطاعيون والحكومة والمستعمرون، وهناك البوم والغربان كرمز لهذه القوي، وإذا استخدمنا اللغة الفلسفية نقول: هناك في جانب واحد قوي الشر مجتمعة، لكنها تظهر في هذا العالم القصصي مجسدة واقعية بشرية.
2 ـ القوة الثانية:
هي القوة النقيض للقوة الأولي والتي تتعرض لعسفها وظلمها، فتتحرك مكافحة هذا العسف تتجسد هذه القوة في عالم سعيد حورانية القصصي عبر شخصيات الشباب الثائر علي أخلاقيات الأهل، والبدوي الفقير المدافع عن شرفه، والفلاحين المدافعين عن أراضيهم، والعمال المتظاهرين والمسجونين والمناضلين ضد الاستعمار والإقطاع تتجسد هذه القوي في الفقراء عموماً وكرمز يستخدم سعيد حورانية الطيور الجميلة، فلسفياً، يمكن تسمية هذه القوي بقوة الخير، لكنها قوي مجسدة، واقعية، بشرية، وهنا نضيف إنسانية.
3 ـ الطبيعة ـ المكان:
من خلال الصراع بين هاتين القوتين ينبني العالم القصصي لسعيد حورانية، تماماً مثلما ينبني العالم الواقعي من خلال الصراع بين هاتين القوتين إياهما، وإذا كانت هاتان القوتان مجسدتين بشرياً، عيانياً، فإن الطبيعة، مكان الصراع، مجسدة أيضاً عيانياً، جغرافياً إن مكان الصراع هو الأرض التي تعيش عليها هاتان القوتان، وهو في عالم سعيد حورانية القصصي، الأرض العربية في سورية من السويداء إلي القامشلي من جبال السويداء بثلوجها وأشجارها إلي سهوب الجزيرة بوحلها، وإقطاعها وفلاحيها، ولهذا فإن الصراع في هذا العالم القصصي يتجلي عيانياً في حياة الناس العاديين اليومية، البطولية، في كفاح هؤلاء الأبطال ضد كل ما من يضطهدهم، ومن هنا فإن الصراع يأخذ في عالم سعيد حورانية القصصي شكلاً وبعداً إنسانيا ـ اجتماعياً ـ فكريا محدداً، أي إن الصراع يظهر في هذا العالم القصصي كما يبدو بالنسبة للكاتب في الواقع: صراع بين الظالم والمظلوم، صراع بين قوي تريد إدامة ذل الإنسان وبؤسه وجوعه، وبين قوة تريد رفع سيطرة وظلم القوي الأولي تأخذ القوي الأولي في الواقع والعالم القصصي معاً، شكل الأخلاق القديمة وعسكر الاستعمار والإقطاع والحكومة، بينما تأخذ شخصيات الشباب المتمرد ـ في الواقع والعالم القصصي ـ والقرار ضد الاستعمار والحكومة، وشخصيات العمال والفلاحين شل القوة الثانية، أي إن هذه هي قوة : الشعب والخير والتقدم، وإذا كان الصراع في الواقع هكذا، حقاً، فإن سعيد حورانية يضيف إليه شيئاً هاماً، هو عماد عالمه القصصي، انه، كما تقدم: المستقبل، مستقبل الشعب، الإنسان. الخير..
إن إضافة المستقبل أي رؤية حركة الصراع ككل، لا الاقتصار علي جزئها الذي يراه الكاتب في حياته الشخصية، أو واقعه المحلي، أعطي سعيد حورانية بعداً واقعياً إنسانياً وكونياً شاملاً، وجعل هذا العالم القصصي يخرج عن أن يكون مجرد عكس لمرحلة الخمسينيات زمنياً، أو لواقع الصراع الطبقي في سورية، مكانياً. إن سعيد حورانية لم يقتصر علي أن يري ببصره مرحلة الخمسينيات في سورية، بل رأي ببصيرته مرحلة الصراع الإنساني ككل، وكما يريد لها أن تكـــــون وان تنتهي وبهذا كان عالمه القصصي رؤية تاريخية قد تكون أكثر صدقاً من عوالم قصصية أخري اقتــــــصرت علي رؤية مرحلة زمنية معينة، جزء من الحركة ، فعممت هذا الجزء علي الكل، فكان عالمها القصصي، عالماً كاذباً، علي الرغم من انه يبدو للنظرة الأولي واقعياً، صادقاً، قد تكون هذه الرؤية ميكانيكيـــــــة أو قل مانوية إلي حد ما، وقد تكون ساذجة، لكن ما ينقذها ـ فنياً هو موهبة الكاتب وقدرته القصصية علي السرد.
في محاولات سعيد حورانية، للالتصاق بالقوة الثانية ومعانقة روحها ـ قوة الشعب ـ اضطر الكاتب سواء في فن القصص عموماً، أو في اللغة القصصية، للتبسيط وللاقتراب ـ أحياناً ـ من اللهجة العامية. أما من حيث الشكل، ككل فقد ادخل سعيد حورانية ـ وربما كان من أوائل من فعل هذا ـ تقنية قريبة من التكنيك السينمائي فقد استخدم سعيد حورانية وببراعة، ما يسمي المونتاج المتوازي حيث يتوازي حدثان مترابطان ليقدما حدثاً واحداً جامعاً للحدثين، يستخلص دلالة القصة ككل قصة قيامة العازر كما أن سعيد حورانية استخدم أحيانا، وبشكل واع و ناضج عملية الترميز، حيث يجد الكاتب في رمز ما معادلاً لوضع واقعي ـ كما يراه ـ ولكن الترميز عند سعيد حورانية لا ينحل إلي مجرد علاقة ـ وجه شبه ـ بين المشبه والمشبه به، بل إن قيمة عملية الترميز عند هذا الكاتب تكمن في أن الرمز يستخلص دلالة الواقع وأعماقه وبهذا لا يكون الرمز مصوراً أو عاكساً للواقع ـ فوتوغرافياً ـ بل لدلالة الواقع ومعناه وروحه، كما يري الكاتب.
إلي جانب عملية الترميز في القصص، قدم سعيد حورانية قصصاً تكمن قوتها في مباشرتها وشدة ملاصقتها للواقع، حتي أن القاريء لا يستطيع التمييز أحيانا: هل الواقع فن، أم الفن واقع؟ هل ما يقرأ هو قصة ذكية أم هي عريضة استرحام يرفعها فلاحو قرية مضطهدة؟ إن ارتفاع قيمة عملية الترميز وارتـــــفاع قيمة عملية ملاصقة الواقع بدون رمز في عالم سعيد حورانية القصصي يثبت حقيقة أدبية وهي أن الشكل بذاته لا يعني دائـــماً الكثير، كما لا يعني المضمون بحد ذاته الكثير. فقصة عاد المدمن مغرقة في الرمزية، بينما قصة عريضة استرحام مغرقة في الواقعية، لكن القصتين ترتفعان معاً إلي أعلي ذري الفن القصصي، بل إلي أعلي درجات التكنيك المختلف، وهما في الوقت نفسه تقفان موقفاً فكرياً واحداً لم يتغير سواء في الرمزية أم الواقعية.
تقديراً لفن القصة القصيرة في سورية، وتقديراً لأحد رواده، في ذكري وفاته العاشرة، تقدم وزارة الثقافة الأعمال القصصية الكاملة لسعيد حورانية:
1 ـ وفي الناس المسرة ـ 1952
2 ـ سنتان وتحترق الغابة ـ 1964
3 ـ شتاء قاس آخر ـ 1964
إضافة إلي حوار مهم يقدم فيه سعيد حورانية نفسه خير تقديم، ضمن مشروعها لإعادة نشر الأعمال الكاملة للكتّاب السوريين المؤسسين، أو مختارات من أعمالهم.
ہ قاص وكاتب من سورية
..وتجرؤ علي أن تكتب قصصاً قصيرة؟
ما قرأت كتاباً لسعيد حورانية، ثم ما رأيته مرة بعد أن تعرفت إليه، إلا وتذكرت هذه العبارة من حوار، أو من حادثة جرت معي:
كنت في الصف الثاني من قسم اللغة العربية في جامعة دمشــــــق، وقد تعرفت إلي زميل كان يهوي المطالعة، ويكتب القصة القصيرة، وذات يوم، في مقصف الجامعة، سألني هذا الزميل:
ـ وأنت..ألا تكتب؟
متلعثماً وخجلاً أجبته:
ـ أكتب..
وبالطبع خجلت أن أقول ماذا أكتب، ولكن الزميل تابع سؤاله:
ـ ماذا تكتب؟
ـ أكتب...أكتب..قصة قصيرة..
صمت الزميل القصاص، برهة، وكان قد نشر في مجلات معروفـــــــة آنذاك منها الأســــبوع العربي و المضحك والمبكي ثم سألني فجأة؟
ـ هل قرأت قصص سعيد حورانية.
كانت هي المرة الأولي التي اسمع فيها باسم سعيد حورانية، نظرت إلي الأرض، وقد ازداد ارتباكي وخجلي أمام زميل يفوقني في التجربة والثقافة والمعرفة، فقد كنت شاباً ريفياً آتياً من مدينة صغيرة، بينما كان زميلي شاباً من مدينة كبيرة، وكأن هو الوضع الآن بالضبط، فأنت لا تستطيع أن تجد في طرطوس الكتب التي تجدها في دمشق.
أجبت زميلي:
ـ لا.. لم أقرأها
وبحدة فيها مزيج من الدعابة والقسوة، بل والعتب، ومع ابتسامة، ما أزال اذكر منها ملامح الإشفاق واللوم معاً، قال الزميل:
ـ لم تقرأ قصص سعيد حورانية، وتجرؤ علي أن تكتب قصة قصيرة؟
صمت لحظة، واذكر انه قطب ما بين حاجبيه، ثم انفرجت أساريره وقال:
ـ قم..تعال معي إلي البيت..خذ قصص سعيد حورانية...اقرأها..ثم اكتب قصة قصيرة.
قرأت مجموعتي قصص سعيد حورانية شتاء قاس آخر و سنتان وتحترق الغابة في ذاك اليوم الذي حدثت معي الحادثة التي رويتها لكم، وبعدها، في أواسط السبعينيات، تعرفت علي سعيد حورانية، وربما أستطيع أن أدعي أننا كنا في مرحلة أصدقاء، لكنني بقيت، وبعد أن قرأت قصصه، بل وكلما قابلته، اشعر بشيء من الارتباك والخجل اللذين شعرت بهما عندما قرّعني زميلي عام 1968، بل إنني أقول لنفسي بين حين وآخر، وربما كلما كتبت قصة قصيرة:
قرأت قصص سعيد حورانية وقصص زكريا تامر ويوسف إدريس وتشيخوف وموباسان وهمنغواي وكاترين مانسفيلد وإيتالو كالفينو وبورخيس ومحمد خضير، وتجرؤ علي كتابة قصة قصيرة؟! .
سعيد حورانية وزكريا تامر شكلا بالنسبة لجيلي، الأستاذين اللذين كانا علينا أن نكتب القصة وطيفهما حائم فوق مخيلتنا وأقلامنا، فإما أن نفعل شيئاً يليق بالأستاذين أو أن لا نكتب، كان سعيد حورانية قادماً من اندفاعة الخمسينيات والتي كانت رداً مجتمعياً علي هزيمة الـ48، وكان جيلنا قادماً في السبعينيات رداً مجتمعياً آخر علي هزيمة الـ 67، وربما كان هذا ما جمعنا به أدباً وأفكاراً ونمط حياة، أما زكريا تامر فقد كان آتياً من الحساسية والأوضاع الجديدة التي تشكلت في الستينيات والتي أعقبت اندفاعة الخمسينيات وفورتها، وبداية ظهور أنظمة التسلط والقمع وحكم الأجهزة المخابراتية مع تجربة الوحدة المجهضة، كان سعيد حورانية بحادثته المركزة ولغته الواضحة واندفاعات سرده، قمة لا يمكن أن تجاري، وكان زكريا تامر بمخيلته الشاعرية، قمة أخري، وكان علينا أن نسبح في الوادي بينهما.
لكن ماذا من قصص سعيد حورانية وعالمه القصصي؟
أعلنت مجموعة سعيد حورانية الأولي وفي الناس المسرة ـ 1952 أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، ميلاد كاتب وعالم قصصي جديد، وذلك بإعلانها آن الجيل في المجتمع العربي ـ في سورية ـ قد بدأ الانفصال عن الجيل القديم، لكن هذا الانفصال عن سعيد حورانية لم يأخذ شكل صراع أجيال ، كما يمكن أن يقال لدي التحليل السريع، بل إن هذا الصراع فهم علي حقيقته صراع أفكار ورؤي وبمعني أكثر تحديداً صراع طبقات فالصراع الفكري احد مظاهر، أو أحد أبعاد الصراع الاجتماعي. ومن هنا نفهم لماذا يترك حامد في قصة سريري الذي لا يئن أهله ليعيش وحيداً: إن الفكر الجديد، ممثل القوي الشعبية الجديدة، والتي بدأت تعي نفسها حديثاً، أي بعد الخروج العسكري والإداري للفرنسيين، إن هذا الفكر بدأ يعبر عن نفسه، وعن وضع القوي الجديدة الذي يمثل: عن رفض هذه القوي للواقع الذي هو استمرار للماضي.
لقد تمرد حامد علي أفكار أسرته، وانفصل عنها وعلي الرغم من مشهد الفراق العاطفي فإن حامداً لم ينثن عن قراره، بل إن حامداً وجد ذاته الحقيقية في انفصاله عن أسرته، أي عن نمط الأخلاق، وعن المجتمع القديمين.
إن انفصال حامد لم يكن مجرد تمرد شاب، بل كان انفصالاً فكرياً، انفصـــــالاً طبقياً بالضبط.
ـ وهذا ما عرفناه في سعيد حورانية عند تشاركنا وإياه عيش نمط حياة جديدة فيما بعد ـ يفكر حامد في غرفته ـ حياته ـ الجديدة:
..أشعر أنني قوي رغم كل شيء..وأنني وجدت ذاتي التي أضعتها منذ وقت طويل وكما هو معروف، فإن إضاعة الذات هي الاغتراب والعكس صحيح.
هذا الصراع بين حامد وأهله، بين الشباب والشيوخ، بين الحاضر والماضي، بين الجديد والقديم، سوف يأخذ صورته وبعده الاجتماعي الواضح في مجموعتي سعيد حورانية التاليتين: شتاء قاس آخر و سنتان وتحترق الغابة وفي هذه المجموعات الثلاث يكتمل رسم عالم قصص جديد تماماً، ومغاير لعالم العجيلي السابق، فإذا كان عالم العجيلي القصصي هو عالم ـ مجتمع ـ القدر، والمصادفة، والثبات، فإن عالم ـ مجتمع ـ سعيد حورانية القصصي هو عالم الكفاح والتغيير والأمل، عالم قصصي لن يدرك كنهه تماماً إلا بالرجوع الي مرحلة الخمسينيات وديناميكيتها، مرحلة الكفاح الاجتماعي ـ الوطني الفكري الذي شهدته الساحة العربية والسورية خصوصاً. فهذا الصراع، الذي قامت به القوي الشعبية وأفكارها، التي بدأت تعي نفسها وقوتها حديثاً ـ آنذاك ـ تبدي جلياً في العالم القصصي لسعيد حورانية، وكما كان الصراع واضحاً علي ارض الواقع، فقد كان واضحاً في ارض العالم القصصي لسعيد حورانية حيث ينتهي الصراع في هذا العالم القصصي بانتصار القوي الشعبية، ذلك أن سعيد حورانية يضيف إلي عالمه القصصي رؤيته الفكرية لحركة التاريخ: الإيمان بالإنسان والمستقبل، هذا ما رآه الكاتب، فاضافة إلي الواقع القصصي، وبهذا فإن العالم القصصي لهذا القاص لا يقف عند حدود مرحلة الخمسينيات، بل ينفذ خارجها باتجاه المستقبل كما يراه أو يريده الكاتب، وبمثل هذا العالم القصصي نقول: ان الواقعية ليست نقلاً ميكانيكياً للواقع. .إن الواقعية هي رؤية لحركة الواقع واتجاه هذه الحركة.
يقوم الصراع في عالم سعيد حورانية بين قوتين تتصارعان في الطبيعة، وككاتب واقعي أصيل، فإن هذا الصراع بين قوتين في الطبيعة يتجسد ويتعين، واقعياً ـ اجتماعياً، علي الشكل التالي:
1 ـ القوة الأولي:
تتجسد هذه القوة، في القوي المسيطرة والظالمة في المجتمع، وبكل أنواع السيطرة والظلم: العسكر والدرك الــــــذين ينفذون قانوناً جائراً: الأهل الذين يمثلون قيماً اجتماعية ـ
أخلاقية قديمة: الإقطاعيون والحكومة والمستعمرون، وهناك البوم والغربان كرمز لهذه القوي، وإذا استخدمنا اللغة الفلسفية نقول: هناك في جانب واحد قوي الشر مجتمعة، لكنها تظهر في هذا العالم القصصي مجسدة واقعية بشرية.
2 ـ القوة الثانية:
هي القوة النقيض للقوة الأولي والتي تتعرض لعسفها وظلمها، فتتحرك مكافحة هذا العسف تتجسد هذه القوة في عالم سعيد حورانية القصصي عبر شخصيات الشباب الثائر علي أخلاقيات الأهل، والبدوي الفقير المدافع عن شرفه، والفلاحين المدافعين عن أراضيهم، والعمال المتظاهرين والمسجونين والمناضلين ضد الاستعمار والإقطاع تتجسد هذه القوي في الفقراء عموماً وكرمز يستخدم سعيد حورانية الطيور الجميلة، فلسفياً، يمكن تسمية هذه القوي بقوة الخير، لكنها قوي مجسدة، واقعية، بشرية، وهنا نضيف إنسانية.
3 ـ الطبيعة ـ المكان:
من خلال الصراع بين هاتين القوتين ينبني العالم القصصي لسعيد حورانية، تماماً مثلما ينبني العالم الواقعي من خلال الصراع بين هاتين القوتين إياهما، وإذا كانت هاتان القوتان مجسدتين بشرياً، عيانياً، فإن الطبيعة، مكان الصراع، مجسدة أيضاً عيانياً، جغرافياً إن مكان الصراع هو الأرض التي تعيش عليها هاتان القوتان، وهو في عالم سعيد حورانية القصصي، الأرض العربية في سورية من السويداء إلي القامشلي من جبال السويداء بثلوجها وأشجارها إلي سهوب الجزيرة بوحلها، وإقطاعها وفلاحيها، ولهذا فإن الصراع في هذا العالم القصصي يتجلي عيانياً في حياة الناس العاديين اليومية، البطولية، في كفاح هؤلاء الأبطال ضد كل ما من يضطهدهم، ومن هنا فإن الصراع يأخذ في عالم سعيد حورانية القصصي شكلاً وبعداً إنسانيا ـ اجتماعياً ـ فكريا محدداً، أي إن الصراع يظهر في هذا العالم القصصي كما يبدو بالنسبة للكاتب في الواقع: صراع بين الظالم والمظلوم، صراع بين قوي تريد إدامة ذل الإنسان وبؤسه وجوعه، وبين قوة تريد رفع سيطرة وظلم القوي الأولي تأخذ القوي الأولي في الواقع والعالم القصصي معاً، شكل الأخلاق القديمة وعسكر الاستعمار والإقطاع والحكومة، بينما تأخذ شخصيات الشباب المتمرد ـ في الواقع والعالم القصصي ـ والقرار ضد الاستعمار والحكومة، وشخصيات العمال والفلاحين شل القوة الثانية، أي إن هذه هي قوة : الشعب والخير والتقدم، وإذا كان الصراع في الواقع هكذا، حقاً، فإن سعيد حورانية يضيف إليه شيئاً هاماً، هو عماد عالمه القصصي، انه، كما تقدم: المستقبل، مستقبل الشعب، الإنسان. الخير..
إن إضافة المستقبل أي رؤية حركة الصراع ككل، لا الاقتصار علي جزئها الذي يراه الكاتب في حياته الشخصية، أو واقعه المحلي، أعطي سعيد حورانية بعداً واقعياً إنسانياً وكونياً شاملاً، وجعل هذا العالم القصصي يخرج عن أن يكون مجرد عكس لمرحلة الخمسينيات زمنياً، أو لواقع الصراع الطبقي في سورية، مكانياً. إن سعيد حورانية لم يقتصر علي أن يري ببصره مرحلة الخمسينيات في سورية، بل رأي ببصيرته مرحلة الصراع الإنساني ككل، وكما يريد لها أن تكـــــون وان تنتهي وبهذا كان عالمه القصصي رؤية تاريخية قد تكون أكثر صدقاً من عوالم قصصية أخري اقتــــــصرت علي رؤية مرحلة زمنية معينة، جزء من الحركة ، فعممت هذا الجزء علي الكل، فكان عالمها القصصي، عالماً كاذباً، علي الرغم من انه يبدو للنظرة الأولي واقعياً، صادقاً، قد تكون هذه الرؤية ميكانيكيـــــــة أو قل مانوية إلي حد ما، وقد تكون ساذجة، لكن ما ينقذها ـ فنياً هو موهبة الكاتب وقدرته القصصية علي السرد.
في محاولات سعيد حورانية، للالتصاق بالقوة الثانية ومعانقة روحها ـ قوة الشعب ـ اضطر الكاتب سواء في فن القصص عموماً، أو في اللغة القصصية، للتبسيط وللاقتراب ـ أحياناً ـ من اللهجة العامية. أما من حيث الشكل، ككل فقد ادخل سعيد حورانية ـ وربما كان من أوائل من فعل هذا ـ تقنية قريبة من التكنيك السينمائي فقد استخدم سعيد حورانية وببراعة، ما يسمي المونتاج المتوازي حيث يتوازي حدثان مترابطان ليقدما حدثاً واحداً جامعاً للحدثين، يستخلص دلالة القصة ككل قصة قيامة العازر كما أن سعيد حورانية استخدم أحيانا، وبشكل واع و ناضج عملية الترميز، حيث يجد الكاتب في رمز ما معادلاً لوضع واقعي ـ كما يراه ـ ولكن الترميز عند سعيد حورانية لا ينحل إلي مجرد علاقة ـ وجه شبه ـ بين المشبه والمشبه به، بل إن قيمة عملية الترميز عند هذا الكاتب تكمن في أن الرمز يستخلص دلالة الواقع وأعماقه وبهذا لا يكون الرمز مصوراً أو عاكساً للواقع ـ فوتوغرافياً ـ بل لدلالة الواقع ومعناه وروحه، كما يري الكاتب.
إلي جانب عملية الترميز في القصص، قدم سعيد حورانية قصصاً تكمن قوتها في مباشرتها وشدة ملاصقتها للواقع، حتي أن القاريء لا يستطيع التمييز أحيانا: هل الواقع فن، أم الفن واقع؟ هل ما يقرأ هو قصة ذكية أم هي عريضة استرحام يرفعها فلاحو قرية مضطهدة؟ إن ارتفاع قيمة عملية الترميز وارتـــــفاع قيمة عملية ملاصقة الواقع بدون رمز في عالم سعيد حورانية القصصي يثبت حقيقة أدبية وهي أن الشكل بذاته لا يعني دائـــماً الكثير، كما لا يعني المضمون بحد ذاته الكثير. فقصة عاد المدمن مغرقة في الرمزية، بينما قصة عريضة استرحام مغرقة في الواقعية، لكن القصتين ترتفعان معاً إلي أعلي ذري الفن القصصي، بل إلي أعلي درجات التكنيك المختلف، وهما في الوقت نفسه تقفان موقفاً فكرياً واحداً لم يتغير سواء في الرمزية أم الواقعية.
تقديراً لفن القصة القصيرة في سورية، وتقديراً لأحد رواده، في ذكري وفاته العاشرة، تقدم وزارة الثقافة الأعمال القصصية الكاملة لسعيد حورانية:
1 ـ وفي الناس المسرة ـ 1952
2 ـ سنتان وتحترق الغابة ـ 1964
3 ـ شتاء قاس آخر ـ 1964
إضافة إلي حوار مهم يقدم فيه سعيد حورانية نفسه خير تقديم، ضمن مشروعها لإعادة نشر الأعمال الكاملة للكتّاب السوريين المؤسسين، أو مختارات من أعمالهم.
ہ قاص وكاتب من سورية
*محمد كامل الخطيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المقالة بالاساس مقدمة للاعمال القصصية الكاملة للقاص السوري الراحل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق