حاوره: عزالدين المناصرة (دمشق، 1975):
وُلد سعيد حورانية في دمشق 1929، وتوفي 1994. صدرت له ثلاث مجموعات قصصية، هي:
1. وفي الناس المسرّة، 1954.
2. شتاء قاسٍ آخر، 1962.
3. سنتان وتحترق الغابة، 1964.
وهو يُعدّ من روّاد القصة القصيرة في سوريا. وقد اُشتهر بأسلوبه الواقعي.
كانت بيني وبينه صداقة فكرية بدأت عام 1970، حين زرت دمشق لأول مرة قادماً من (القاهرة) حيث كنت أعيش، يومها لم أنسجم معه، بسبب وثوقيته في طرح بعض آرائه، إضافة لبعض الإحباط الذي كان يبدو في لغته الحوارية. لكني تراجعت في لقائي الثاني عن موقفي منه حين كنا وحيدين، فقد تدفق بصدق ينتقد الأوضاع العربية العامة آنذاك. وانتقدنا معاً (فساد العرب)، فأدركت أن الرجل مجروح في
داخله. أما في لقائي الصحافي معه عام 1975، فقد استقبلني شاعراً وصديقاً. وتناولت معه طعام الغذاء في (مطعم علي بابا)، وكان يتلمص من الحوار الصحافي مازحاً، (أنا مشتاق للحديث معك بعيداً عن الحوار الصحافي). وكان بالفعل مقلاً في حواراته الصحافية. كان من رواد القصة القصيرة في سوريا منذ أوائل الخمسينات، وكان ينتمي للمدرسة الواقعية:... القاص السوري المعروف سعيد حورانية، التقته "فلسطين الثورة" بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لإنطلاقة الثورة الفلسطينية، ووجهت له هذه الأسئلة:
• برز الأدب المقاوم أثناء معارك الشعوب في سبيل حريتها: فرنسا، الاتحاد السوفياتي مثلاً، كيف لعب هذا الأدب دوره أثناء المعارك؟، وهل تعتقدون أن لهذا الأدب صفة الشمولية والديمومة؟، وهل يمكن تعداد بعض نماذج من ذلك؟
سعيد: الأدب الحقيقي، ثوري في طبيعته فهو كشف وتجاوز وتعرية، وهو نوع من عدم الرضا عن السكون والنمطية ومظاهر القسوة والبلادة والشرور التي تشوه روح الإنسان فهو ينطلق كالسهم الى الجوهر، وهو بهذا المعنى، كلمة احتجاج دائمة، وسلاح فعال لأهم درجات الثورة، وهي الوعي، ويتحد هذا الصوت الخاص في الأزمات الكبرى للشعوب، حيث تفقد الأشياء توازنها الظاهري الرزين، وتكتسب معنى جديداً، وتتعرى حتى العظام كل المفاهيم السكونية... يتحد بالأنا الجماعية، فيكتسب قوة عظيمة، تعبر عن روح الشعب الذي لا يستكين، روح الصمود والصلابة، ويصبح فائق التأثر مثله مثل المقاتل بالسلاح في معركة الموت أو الحياة.
من منا لا يذكر قصص غايدار، التي كانت تقرأ في الخنادق في الاستراحة بين معركة وأخرى، فتشد أعصاب المقاتلين؟، ومن منا لا يذكر الجنود المندفعين الى الموت، وهم ينشدون قصيدة سيمونوف الشهيرة: "انتظريني فأسعود"؟ ومن منا لا يذكر قصائد إيلوار وأراغون و(الشعراء المجهولين)، وأثرها في تشديد المقاومة الفرنسية الباسلة في وجه النازيين؟ إن الأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ أي شعب يكافح في سبيل حريته، وهي أمثلة تتعدى محليتها الى أفق الإنسانية الواسع، لتصبح نشيداً للإنسان المقاتل في كل زمان ومكان، فمعارك الحرية تهم الإنسانية كلها، والأدب الذي يعبر عنها بصدق، هو أدب الإنسانية كلها.
• أثناء المعارك ينبثق فن يتسم بطابع نضالي سريع، هل تعتقدون أن هذا الفن يحقق المعادلة بين التأثير الجماهيري والنضج الفني؟
سعيد: ولمذا نضع دوماً هذا مقابل ذاك حتى كأنهما متناقضان؟، هناك أدب رديء يمكن أن يؤثر كالطرب لحظة سماعه ثم ينطفئ كفقاعة، وهناك الأدب الصادق الحقيقي، الذي ينبت الأجنحة ويهز الروح ويعمق الوعي، ويفجر الينابيع المحبوسة في أعماق النفس، وهو الذي بقي، وبالتالي فهو الأكثر جماهيرية.. أما إذا قصدت الأثر الجماهيري الآتي، فهو أدب استهلاكي قد يفيد أحياناً، ولكنه ضار في أكثر الأحيان لأنه لا يستهدف إقلاق الروح، وزلزلة المفاهيم والدفع بها الى معاناة إنسانية أرفع، وإنما يستهوي إرضاء عواطف سطحية، قد تدفع الى الانفعال وليس الى الفعل. لا اعتقد أنه هناك أكثر جماهيرية من سمفونية شوستاكوفيش "حصار لينغراد"، التي عزفت وسط هدير المدافع في المدينة البطلة، أو من لوحة بيكاسو الخالدة غرنيكا، أو أشعار ماياكوفسكي وبابلونيرودا وإيلوار واراغون، وكلها لحنت أو رسمت أو قيلت في لهب المعارك أو مستهدفة تحريضاً ثورياً أو موقفاً سياسياً واضحاً، فهل أثر جماهيريتها في قيمتها الفنية الرفيعة؟، لا أظن أن السؤال يحتاج الى جواب.
• ما هو الأثر الذي أحدثته الثورة الفلسطينية في إنتاج الكتاب العرب؟، وما هي إيجابيات تجربتهم وسلبياتها؟ وما هي الوسيلة التي تكون أكثر فعالية في العلاقة الجدلية بين الثورة والأثر الفني.
سعيد: لا أظن أنني مؤهل للرد على مثل هذا السؤال الشامل، فتلك مهمة النقاد المتابعين، ولكن لابد من بعض الملاحظات: لقد كان لانبثاق الثورة الفلسطينية ثم حرب حزيران وحرب تشرين، أثر فعال في (تسييس) الأدب، ودفعه الى أن يقترب أكثر من معاناة الجماهيري وتطلعاتها... وهذا بالطبع شيء إيجابي، ولكن الروح البرجوازية الصغيرة، بأفقها المحدود وذبذبتها الفكرية المتأصلة، أفقدت هذا الاتجاه الصحيح كثيراً من فاعليته، فبدلاً من أن تعمق وعي الإنسان العربي، زادت من نشر الضباب الفكري، والحس الرومانتيكي المريض، والأحكام المتعسفة لعدم انطلاقها من أرضية فكرية صلبة، ثم أن قضية فلسطين أخذت في أكثر نتاج أدبائنا كقضية عاطفية مجردة عائمة في الفراغ، دون التعمق في النواحي الاجتماعية الأخرى المتصلة بها، والمتفرغة عنها، مما نتج عنه حركة تزوير كبرى تتقزز لها النفس. ما أقل الجيد الذي كتب عن فلسطين، إذا أخذنا بالاعتبار هذا السيل العارم الهائل من نتاج شعراً ونثراً، وليس في قصصنا عن فلسطين ما يفوق قصة يائيل (غُبار)، وقد تقترب من أصالتها رواية لغسان كنفاني، وقصة لأديب نحوي، فعلى ماذا يدل ذلك؟ غلبة العاطفة، وهزال المعاناة ورفض المنطق العلمي، وروح البداوة ذات الحساسية المريضة. إن الوسيلة الحقيقية ذات الفاعلية في العلاقة الجدلية بين الثورة والأثر الفني، هي الالتحام الفعلي، لا الصوري، بقوى الثورة النشطة المقاتلة، التي تعرف عن فلسطين أنها أكثر من البرتقال والشذى والعطر والبحر الأزرق والجبال المزهرة.. تعرف عنها أنها أرض الموت وأرض البعث معاً.
• كيف يمكننا خلق (جبهة ثقافية عريضة مشاركة) للثورة الفلسطينية. ما هو مفهوم المشاركة.
سعيد: فلسطين لا، تخص الفلسطينيين وحدهم، وإنما هي قضية عربية، تخص كل فرد عربي، ولذلك يبدو لي السؤال عن خلق جبهة ثقافية عريضة للمشاركة، غير مفهوم!. فما معنى المشاركة؟ أهو تجمع آخر (ونحن أكثر أهل الأرض غراماً بالتجمعات؟)، أم مشاركة بالأجهزة الثقافية الفلسطينية، ودعم لها على غرار مركز الأبحاث؟ وهذا توجه، أدعمه بكل تأكيد، فيجب أن تنفتح الأجهزة الثقافية الفلسطينية على المثقفين العرب، الذين يبدون حماساً حقيقياً لنصرة القضية، ولا أعني بهذا ذوبان الشخصية الفلسطينية في هذه الأجهزة، بل أعني إغناءها بمزيد من القدرات والمواهب والأفكار الجديدة. الجبهة الثقافية العريضة للمشاركة في الثورة، يجب أن تأخذ اتجاهاً أكثر سعة، وله صفة الشمول... يجب خلق جبهة عالمية في كل بقاع الأرض من المثقفين ذوي التأثير.. لقد برع أعداؤنا في إفساد المثقفين الأوروبين مثلاً، وتضليل معظمهم، ومن هنا يجب أن نتحرك، والظروف العالية الآن، أكثر مواتاة لشراعنا الهامد، لأن يبحر في المد، ولننزع من أفكارنا أن الأوروبي بطبيعته، معاد لنا.
• الأدب الفلسطيني: السمات العامة: الإيجابيات والسلبيات، ومكانه في الأدب العربي المعاصر
سعيد: هناك أدب فلسطيني، ما في ذلك شك، وهو وإن كا يصب في بحر الأدب العربي العام، فإن لهذا الجدول خصائصه المتميزة. وهو ليس تراكماً كمياً، وإنما هو قفزة نوعية، والشعب مليء بالمواهب، لقد اقتحم الفلسطيني، دنيا الشعر والقصة، وأثبت في فترة قصيرة أن مزماره أنقى المزامير في الأدب العربي المعاصر.. لقد فجرت الآلام والنكبات الهائلة التي عاناها هذا الشعب العظيم، في نفسه أعظم الطاقات، ولكنها طاقات يجب أن تعرف مسربها، إنها تتقدم ببطء ولكنها تتقدم أسرع من غيرها... وإن قدرتها على التوقف أحياناً وإعادة النظر والفحص، تبعث في النفس أقوى الآمال... لقد أخذت الموجة (العاطفية الغنائية) بالانحسار رغم أن آثارها لا تزال ملموسة في كصير من الشعر والنثر الذي يكتب الآن، واقترتب مرحلة تعميق الحس الدرامي، والبعد عن الخطابة والشعارات، والعاطفية المريضة، والتمسح بالكلمات الكبيرة لإخفاء ضحالة المعاناة.
________________
• مجلة فلسطين الثورة، بيروت، عدد 1/1/1976.
وُلد سعيد حورانية في دمشق 1929، وتوفي 1994. صدرت له ثلاث مجموعات قصصية، هي:
1. وفي الناس المسرّة، 1954.
2. شتاء قاسٍ آخر، 1962.
3. سنتان وتحترق الغابة، 1964.
وهو يُعدّ من روّاد القصة القصيرة في سوريا. وقد اُشتهر بأسلوبه الواقعي.
كانت بيني وبينه صداقة فكرية بدأت عام 1970، حين زرت دمشق لأول مرة قادماً من (القاهرة) حيث كنت أعيش، يومها لم أنسجم معه، بسبب وثوقيته في طرح بعض آرائه، إضافة لبعض الإحباط الذي كان يبدو في لغته الحوارية. لكني تراجعت في لقائي الثاني عن موقفي منه حين كنا وحيدين، فقد تدفق بصدق ينتقد الأوضاع العربية العامة آنذاك. وانتقدنا معاً (فساد العرب)، فأدركت أن الرجل مجروح في
داخله. أما في لقائي الصحافي معه عام 1975، فقد استقبلني شاعراً وصديقاً. وتناولت معه طعام الغذاء في (مطعم علي بابا)، وكان يتلمص من الحوار الصحافي مازحاً، (أنا مشتاق للحديث معك بعيداً عن الحوار الصحافي). وكان بالفعل مقلاً في حواراته الصحافية. كان من رواد القصة القصيرة في سوريا منذ أوائل الخمسينات، وكان ينتمي للمدرسة الواقعية:... القاص السوري المعروف سعيد حورانية، التقته "فلسطين الثورة" بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لإنطلاقة الثورة الفلسطينية، ووجهت له هذه الأسئلة:
• برز الأدب المقاوم أثناء معارك الشعوب في سبيل حريتها: فرنسا، الاتحاد السوفياتي مثلاً، كيف لعب هذا الأدب دوره أثناء المعارك؟، وهل تعتقدون أن لهذا الأدب صفة الشمولية والديمومة؟، وهل يمكن تعداد بعض نماذج من ذلك؟
سعيد: الأدب الحقيقي، ثوري في طبيعته فهو كشف وتجاوز وتعرية، وهو نوع من عدم الرضا عن السكون والنمطية ومظاهر القسوة والبلادة والشرور التي تشوه روح الإنسان فهو ينطلق كالسهم الى الجوهر، وهو بهذا المعنى، كلمة احتجاج دائمة، وسلاح فعال لأهم درجات الثورة، وهي الوعي، ويتحد هذا الصوت الخاص في الأزمات الكبرى للشعوب، حيث تفقد الأشياء توازنها الظاهري الرزين، وتكتسب معنى جديداً، وتتعرى حتى العظام كل المفاهيم السكونية... يتحد بالأنا الجماعية، فيكتسب قوة عظيمة، تعبر عن روح الشعب الذي لا يستكين، روح الصمود والصلابة، ويصبح فائق التأثر مثله مثل المقاتل بالسلاح في معركة الموت أو الحياة.
من منا لا يذكر قصص غايدار، التي كانت تقرأ في الخنادق في الاستراحة بين معركة وأخرى، فتشد أعصاب المقاتلين؟، ومن منا لا يذكر الجنود المندفعين الى الموت، وهم ينشدون قصيدة سيمونوف الشهيرة: "انتظريني فأسعود"؟ ومن منا لا يذكر قصائد إيلوار وأراغون و(الشعراء المجهولين)، وأثرها في تشديد المقاومة الفرنسية الباسلة في وجه النازيين؟ إن الأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ أي شعب يكافح في سبيل حريته، وهي أمثلة تتعدى محليتها الى أفق الإنسانية الواسع، لتصبح نشيداً للإنسان المقاتل في كل زمان ومكان، فمعارك الحرية تهم الإنسانية كلها، والأدب الذي يعبر عنها بصدق، هو أدب الإنسانية كلها.
• أثناء المعارك ينبثق فن يتسم بطابع نضالي سريع، هل تعتقدون أن هذا الفن يحقق المعادلة بين التأثير الجماهيري والنضج الفني؟
سعيد: ولمذا نضع دوماً هذا مقابل ذاك حتى كأنهما متناقضان؟، هناك أدب رديء يمكن أن يؤثر كالطرب لحظة سماعه ثم ينطفئ كفقاعة، وهناك الأدب الصادق الحقيقي، الذي ينبت الأجنحة ويهز الروح ويعمق الوعي، ويفجر الينابيع المحبوسة في أعماق النفس، وهو الذي بقي، وبالتالي فهو الأكثر جماهيرية.. أما إذا قصدت الأثر الجماهيري الآتي، فهو أدب استهلاكي قد يفيد أحياناً، ولكنه ضار في أكثر الأحيان لأنه لا يستهدف إقلاق الروح، وزلزلة المفاهيم والدفع بها الى معاناة إنسانية أرفع، وإنما يستهوي إرضاء عواطف سطحية، قد تدفع الى الانفعال وليس الى الفعل. لا اعتقد أنه هناك أكثر جماهيرية من سمفونية شوستاكوفيش "حصار لينغراد"، التي عزفت وسط هدير المدافع في المدينة البطلة، أو من لوحة بيكاسو الخالدة غرنيكا، أو أشعار ماياكوفسكي وبابلونيرودا وإيلوار واراغون، وكلها لحنت أو رسمت أو قيلت في لهب المعارك أو مستهدفة تحريضاً ثورياً أو موقفاً سياسياً واضحاً، فهل أثر جماهيريتها في قيمتها الفنية الرفيعة؟، لا أظن أن السؤال يحتاج الى جواب.
• ما هو الأثر الذي أحدثته الثورة الفلسطينية في إنتاج الكتاب العرب؟، وما هي إيجابيات تجربتهم وسلبياتها؟ وما هي الوسيلة التي تكون أكثر فعالية في العلاقة الجدلية بين الثورة والأثر الفني.
سعيد: لا أظن أنني مؤهل للرد على مثل هذا السؤال الشامل، فتلك مهمة النقاد المتابعين، ولكن لابد من بعض الملاحظات: لقد كان لانبثاق الثورة الفلسطينية ثم حرب حزيران وحرب تشرين، أثر فعال في (تسييس) الأدب، ودفعه الى أن يقترب أكثر من معاناة الجماهيري وتطلعاتها... وهذا بالطبع شيء إيجابي، ولكن الروح البرجوازية الصغيرة، بأفقها المحدود وذبذبتها الفكرية المتأصلة، أفقدت هذا الاتجاه الصحيح كثيراً من فاعليته، فبدلاً من أن تعمق وعي الإنسان العربي، زادت من نشر الضباب الفكري، والحس الرومانتيكي المريض، والأحكام المتعسفة لعدم انطلاقها من أرضية فكرية صلبة، ثم أن قضية فلسطين أخذت في أكثر نتاج أدبائنا كقضية عاطفية مجردة عائمة في الفراغ، دون التعمق في النواحي الاجتماعية الأخرى المتصلة بها، والمتفرغة عنها، مما نتج عنه حركة تزوير كبرى تتقزز لها النفس. ما أقل الجيد الذي كتب عن فلسطين، إذا أخذنا بالاعتبار هذا السيل العارم الهائل من نتاج شعراً ونثراً، وليس في قصصنا عن فلسطين ما يفوق قصة يائيل (غُبار)، وقد تقترب من أصالتها رواية لغسان كنفاني، وقصة لأديب نحوي، فعلى ماذا يدل ذلك؟ غلبة العاطفة، وهزال المعاناة ورفض المنطق العلمي، وروح البداوة ذات الحساسية المريضة. إن الوسيلة الحقيقية ذات الفاعلية في العلاقة الجدلية بين الثورة والأثر الفني، هي الالتحام الفعلي، لا الصوري، بقوى الثورة النشطة المقاتلة، التي تعرف عن فلسطين أنها أكثر من البرتقال والشذى والعطر والبحر الأزرق والجبال المزهرة.. تعرف عنها أنها أرض الموت وأرض البعث معاً.
• كيف يمكننا خلق (جبهة ثقافية عريضة مشاركة) للثورة الفلسطينية. ما هو مفهوم المشاركة.
سعيد: فلسطين لا، تخص الفلسطينيين وحدهم، وإنما هي قضية عربية، تخص كل فرد عربي، ولذلك يبدو لي السؤال عن خلق جبهة ثقافية عريضة للمشاركة، غير مفهوم!. فما معنى المشاركة؟ أهو تجمع آخر (ونحن أكثر أهل الأرض غراماً بالتجمعات؟)، أم مشاركة بالأجهزة الثقافية الفلسطينية، ودعم لها على غرار مركز الأبحاث؟ وهذا توجه، أدعمه بكل تأكيد، فيجب أن تنفتح الأجهزة الثقافية الفلسطينية على المثقفين العرب، الذين يبدون حماساً حقيقياً لنصرة القضية، ولا أعني بهذا ذوبان الشخصية الفلسطينية في هذه الأجهزة، بل أعني إغناءها بمزيد من القدرات والمواهب والأفكار الجديدة. الجبهة الثقافية العريضة للمشاركة في الثورة، يجب أن تأخذ اتجاهاً أكثر سعة، وله صفة الشمول... يجب خلق جبهة عالمية في كل بقاع الأرض من المثقفين ذوي التأثير.. لقد برع أعداؤنا في إفساد المثقفين الأوروبين مثلاً، وتضليل معظمهم، ومن هنا يجب أن نتحرك، والظروف العالية الآن، أكثر مواتاة لشراعنا الهامد، لأن يبحر في المد، ولننزع من أفكارنا أن الأوروبي بطبيعته، معاد لنا.
• الأدب الفلسطيني: السمات العامة: الإيجابيات والسلبيات، ومكانه في الأدب العربي المعاصر
سعيد: هناك أدب فلسطيني، ما في ذلك شك، وهو وإن كا يصب في بحر الأدب العربي العام، فإن لهذا الجدول خصائصه المتميزة. وهو ليس تراكماً كمياً، وإنما هو قفزة نوعية، والشعب مليء بالمواهب، لقد اقتحم الفلسطيني، دنيا الشعر والقصة، وأثبت في فترة قصيرة أن مزماره أنقى المزامير في الأدب العربي المعاصر.. لقد فجرت الآلام والنكبات الهائلة التي عاناها هذا الشعب العظيم، في نفسه أعظم الطاقات، ولكنها طاقات يجب أن تعرف مسربها، إنها تتقدم ببطء ولكنها تتقدم أسرع من غيرها... وإن قدرتها على التوقف أحياناً وإعادة النظر والفحص، تبعث في النفس أقوى الآمال... لقد أخذت الموجة (العاطفية الغنائية) بالانحسار رغم أن آثارها لا تزال ملموسة في كصير من الشعر والنثر الذي يكتب الآن، واقترتب مرحلة تعميق الحس الدرامي، والبعد عن الخطابة والشعارات، والعاطفية المريضة، والتمسح بالكلمات الكبيرة لإخفاء ضحالة المعاناة.
________________
• مجلة فلسطين الثورة، بيروت، عدد 1/1/1976.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق