اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

فرصٌ لا تعود | قصة قصيرة ...*مهدي زلزلي

1
كلُّ اللواتي عرفتُهنّ بعد مايا فشلنَ في أن ينزعنَ من أعماقي شعورًا يشبه الحسرةَ على فرصةٍ ضاعت ولن تعود.
هكذا حدَّثتُ نفسي، وأنا أسير متمهّلًا بين أشجار الزيتون، في الحقول التي لم يجفَّ ترابُها بعد يومين من توقّف المطر - - مع قبّعةٍ
مستديرة من القشّ، و"طاروحَين" متفاوتَي الطول من القصب، وكيسيْن كبيريْن من الخيش، وقنّينةِ مياهٍ باردة، وجهاز ترانزستور صغير.
استغربتْ أمّي نشاطي المفاجئ وحماستي الطارئة، وأنا العائد قبل ثلاثة أيّام فقط من كندا متأبّطًا شهادةً في الهندسة المدنيّة. أصرّت على أن أنتظر يومَ عطلة جميع أفراد العائلة. "كتر الأيادي بالحصيدة بركة،" قالت، "ثمّ مَن سيعرف بك - وأنتَ تذهب وحدك - إنْ وقع لك حادث مؤسف، كالسقوط من شجرة عالية أو التعرّض للدغةٍ من أفعى سامّةٍ، لا سمح الله؟" ضحكتُ وقلتُ لها إنني ذاهبٌ لقطاف الزيتون، لا لحصاد القمح!

والحقيقة أنني لم أكن ذاهبًا لحصاد القمح ولا لقطاف الزيتون، بل لرؤية مايا فقط، أو على وجه الدقّة توسّلًا لرؤية محتملة، تتوقّف على قرارها الخروجَ إلى شرفة منزلها، الواقعِ على سفحٍ منحدِرٍ مجاورٍ لحقلنا البعيد عن القرية. ومَن يدري؟ فلعلّي أوفَّق في الحديث إليها أيضًا، إذ ثمّة كلامٌ مؤجَّلٌ لا بدّ من أن أقولَه لها.

كان انشغالُ أشقّائي فرصةً لا تعوَّض، وكذلك الأرضُ الموحلة التي تضمن غيابَ أصحاب البساتين المجاورة عن أعمالهم. ثمّ إنّ البيت منفردٌ بين الحقول. فلن يشتبهَ في مقاصدي أحدٌ، إذًا.

2
لمَعَتْ مايا في سمائي وأنا طالبٌ في المرحلة الثانويّة، معتدٌّ بنفسه اعتدادًا متوقّعًا من أسمرَ وسيمٍ، صاحبِ جسدٍ رياضيٍّ ممشوق، يحمل شارةَ قائد فريق كرة القدم الذي أحرز بطولة الجمهوريّة، ومتفوّقٍ في دراسته في الوقت نفسه.

كنتُ أستنكر كلامَ رفاقي عن الحبّ، وأستغربُ حاجةَ المرء إلى تلك الترَّهات والأضاليل، ما دمتُ لا أجدُ صعوبةً تُذكَر في وصل أيّ زميلةٍ تعجبني أو أستاذةٍ أُعجِبُها!

ولعلّ انجذابي لاحقًا إلى مايا كان نابعًا في بدايته - فضلًا عن جمالها الساحر - من تمنّعها عن الانخراط الطوعيّ في صفوف المعجَبات، لا أكثر!

لم يكن سهلًا الاعترافُ لنفسي بأنّ ما أشعرُ به تجاهها إنّما هو الحبُّ عينُه الذي أنكَرْتُه على رفاقي. ولم يكن ذلك من باب المكابرة فحسب، بل لعجزي أيضًا - حتى ذلك الوقت - عن إدراك حقيقة الحبّ وتحديد ماهيّته.

لكنْ، في إحدى زياراتها إلى دكّان والدي، الذي كنت أُضطرُّ إلى تسييره حين أحتاج إلى طلب علاوةٍ على المصروف، تنازلتُ رسميًّا عن استعلائي وموقفي السلبيّ من الحبّ.

في تلك الزيارة كانت مايا أبهى من أيّ وقتٍ مضى. كانت قد طلبتْ علبة "روثمانز" حين لمَحَت ابتسامتي. وكأنّها فهِمَتني خطأ، فأكّدتْ أنّ السجائرَ لوالدها، وأنّها لا تدخّن طبعًا. قلتُ لها إنّني قد أغيّر نظرتي كرياضيّ إلى التدخين، بل لعلّي سأكون سعيدًا لو أكثَرَ والدُها منه لأنّ ذلك سيمنحني متعةَ رؤيتها كلّ يوم. وكأنّ كلامي أوصل لعبة عضّ الأصابع بيننا إلى منتهاها، فانقلبتْ سحنتُها فجأةً، وابتسمتْ بلطف، قائلةً إنّ رؤيتي تسعدها بالمثل، وإنّ سماعَها هذه الكلمات منّي - أنا تحديدًا - يُشْعرها بالفخر!

حين التقينا بعد أيّام في ساحة القرية، لم تردْعها رفقةُ شقيقتها، ورفقةُ صديقي صلاح، من تكريمي بقبلةٍ هوائيّةٍ أرسلتْها عن بُعدٍ، مصحوبةً بعبارةٍ ممطوطةٍ حمَّلتها كلَّ الغنج الممكن: "حساااام. تقبرنيييي. كيفك؟" يومَها، نصَحَني صلاح بأن أكون أكثرَ حرصًا وتعقّلًا، مذكّرًا بأنّنا نعيش في قرية محافظة، وزاعمًا أنّ شقيقيْها شديدا التزمّت. ولم يكن ممكنًا أن أصدّق صلاح بسهولة، خصوصًا بعد أن اختلقَ سريعًا صلةً بشقيقتها ميرنا، الأقلّ منها جمالًا، بدافعٍ من غيرته لا أكثر.

وحين أخبرتُه أنّني ومايا عدنا معًا سيرًا على الأقدام من مدرستنا في البلدة المجاورة، بسبب تأخّر سائقي الباصات عن موعدهم، انتفضَ للأسباب المزعومة نفسها. فدفعتْني رغبتي في مكايدته إلى الزعم أنّنا سلكنا الطريقَ الترابيَّ المختصر الذي يشطر الوادي إلى نصفين، لأنّ مايا أحبَّت أن تقطف بعضَ الأزهار، وأنّ أجملَ زهرة قطفتْها كانت من نصيبي.

بعد أيّام، انتحى بي صلاح جانبًا، ليهمسَ لي أنّه في الرحلة الأخيرة إلى فاريّا - وقد تغيّبتُ عنها بداعي الزكام - كان جالسًا خلف مايا في الباص، فسمعها تقول لصديقةٍ تجلس إلى جانبها: "أنا ألف واحد بيموت على إجري، وأوَّلهم حسام، هيدا اللي كلّ البنات بتركض وراه." ظننتُها الغيرة من جديد، وقد دفعتْه إلى الكذب والاختلاق. ولكنّه أقسم بوالدته المتوفّاة على صحّة كلامه. واستحضر شاهدًا موثوقًا، قال إنّه كان إلى جانبه في الباص وسمع الكلامَ ذاتَه. ولأنّني لم أكن قد تخلّصتُ تمامًا من كبريائي، ولم أنخرطْ في الحبّ إلى حدّ تغليبه على كرامتي، فقد قرَّرتُ الابتعادَ عن مايا فورًا، وقطْعَ كلّ صلةٍ بها، من دون أدنى توضيح.

اشتقتُ إليها في البداية. ولكنّني كرهتُ ذلك من نفسي، فقمعتُه بشدّة. وكانت المفارقة أنّ صلاح نفسَه، الذي أحسَّ بالذنْب، هو مَن تدخَّل لإصلاح ذات البْين، مؤكِّدًا أنّ مايا طيّبة، وأنّها تحبُّني، وأنّها - وإنْ كانت مغرورةً قليلًا - فإنّني أكثرُ منها غرورًا، وأنّها حبيبةٌ لا يجود القدَرُ بمثلها كلَّ يوم، بجمالها الفائق وذكائها المتّقد، وأنّ تفوّهَها بعبارتها الطائشة لا يدلّ إلّا على افتخارها بكونها حبيبةً لي. غير أنّني قلتُ لنفسي إنّ صلاح يفكّر في نفسه كعادته: فهو يريد أن يكون، وصديقَه المقرَّب، صهريْن لعائلة واحدة لكي لا يُلقي القدرُ إليه بأقارب لا ينسجم معهم.

سافرتُ إلى كندا للتخصّص في الهندسة المدنيّة بمنحة دراسيّة، وذلك بعد وقت قصير من خطوبة مايا إلى شابٍّ يكبرني بسنوات. وعدتُ إلى سابق عهدي بالنظر إلى النساء أداةً لمتعةٍ موقّتة ونزوةٍ عابرة، نابذًا الحبَّ وأهلَه، بإصرارٍ أشدّ من ذي قبل. غير أنّ شيئًا ممّا قاله صلاح رسَخ عنوةً في ذهني، وأعني كلامَه عن الفرص الضائعة التي لا تعود. وقد غذَّيتُ هذا الكلامَ كلّ يوم من دون تعمّدٍ مني، فأضفى على حكايتي التافهة مع مايا بعداً عشقيًّا أسطوريًّا وحزينًا، لم يتوفّرْ من قبل، ليصحّ وصفُ هذه الحكاية بـ"الحبّ الأوّل والأخير في حياتي،" وسط مجموعة هائلة من النزوات العابرة.

3
لهذا كلِّه كنتُ أرغب في رؤية مايا وسماعِ صوتها من جديد. كان الذوقُ يقتضي أن أعتذرَ إليها - ولو متأخّرًا - عن ذلك الانسحاب المفاجئ، وأن ألفتَ نظرَها إلى أسبابه المتمثّلة في عبارةٍ طائشةٍ تفوَّهتْ بها من دون قصدٍ حتمًا (لأنّها أعقلُ من أن تقصد إلى هذا المعنى، وهي الرقيقةُ المرهفة)، وفي استعجال صلاح في نقل العبارة إليّ.

ولم ينقضِ وقتٌ طويل قبل أن أسمع صوتَ مايا بالفعل. لم أكن قد وصلتُ إلى الحقل بعد، حين سمعتُها تصرخ. رفعتُ رأسي باتجاه شرفتها، فرأيتُها من مكاني البعيد، واطمأننتُ إلى محافظتها على جمالها المشعّ. ولكنني انشغلتُ عن ذلك كلّه بمعرفة سبب صراخها على طفلةٍ لم تتجاوز الأربع سنوات.

كانت تسأل بتوتّر وحنق عن أحدٍ ما، وتتوعّد الطفلة بعقابٍ شديد، قبل أن تباشر سريعًا بتنفيذ تهديدها، منهالةً عليها بضربٍ مبرِّحٍ لا يتناسب مع ما رسمتْه ذاكرتي عنها من رقّةٍ وأنوثةٍ ووداعة. وفجأةً، حملت الطفلة مدلّيةً جسدَها من فوق إفريز الشرفة مهدِّدةً: "برْميكِ وراه؟ قولي لي، برْميكِ وراه؟"

اعتقدتُ جازمًا أنّ مَن تسأل عنه هو طفلُها الذي يبدو أنّ شقيقته فتحتْ له البابَ ليخرج في غفلةٍ من الوالدة المنشغلة بأمور المنزل، أو لعلّه سقط من الشرفة مثلًا! وقلتُ إنّ مايا أصبحتْ مجنونةً في غيابي، وإنّ خوف الأمّ على ولدها لا يبرِّر تضحيتَها بولد آخر، ولو على سبيل التهديد. ولكنّني قمعتُ استرسالي في هذه الأفكار حين لاحظتُ أنّها مستمرّةٌ في تطويح جسد ابنتها، التي لم تتوقّفْ عن إطلاق صرخات الاستغاثة وتحريك يديها وقدميها في الهواء.

صرختُ بمايا من مكاني، فأنزلت الطفلةَ إلى أرض الشرفة، بعد أن فوجئتْ بوجود أحد غيرهما في هذا المكان شبهِ المعزول. ولكنّها واصلت الركضَ بين هذه الشرفة وشرفةٍ أخرى موازية، ناظرةً إلى الأسفل، سائلةً بصوت عالٍ: "ويْنه؟ يا الله ويْنه؟"

توجَّهتُ سريعًا نحوها، عازمًا على المساعدة. في هذا الوقت، كانت مايا قد فتحتْ بابَ المنزل وخرجتْ هابطةً المنحدرَ الصخريَّ القصير، من دون أن تتوقّف عن الصراخ والشكوى: "يا الله. بدّا تجنّني. بنتي بدّا تجنّني. بدّا تموّتني. يا الله. إذا وقعتْ من هون، شو بيصير فيّي؟ وإذا طلعتْ لي شي حيّة؟ رحْ موت. ما بدّي موت. بعدني زغيرة يا إمّي. والله زغيرة!"

انتابتني شفقةٌ عارمةٌ تجاهها. قلت إنّ أوّل ما سأفعله حال وصولي إليها هو احتضانُها. ما أشدَّ هشاشتَها وضعفَها في موقفها هذا، تلك المايا التي قالت يومًا إنّ الجميع يموتون تحت قدميها. دعوتُ الله أن نعثر على ابنها سريعًا، وأن يكون بخير، وأن يكون خارجًا من الباب لا واقعًا من الشرفة.

حين وصلتُ إليها لم ترحّب بي، بل سألتْني بلهفة: معك تلفون؟

ناولتُها هاتفي الجوّال، وباشرتُ في البحث حولي عن طفل ضائع، مقدِّرًا أنّ وقتًا ثمينًا سيضيع إلى أن يستجلي زوجُها على الطرف الآخر هويَّة صاحب الهاتف الذي تتصل منه، والسبب الذي ألهاها عن حمل هاتفها معها.

"أموت وينشرح صدري": صدح صوتُ وديع الشيخ من مكانٍ ما بين قدميّ. ذهلتُ، قبل أن أكتشف أنّه صادرٌ عن هاتفٍ خلويّ قابع بين الحشائش اليابسة.

- خيّ. لقيته. الحمد لله يا ربّ!

قالت مايا، معيدةً إليّ هاتفي. سألتُها عن مكان طفلها. أجابت باستغراب: "ما عندي غير هالبنت الشيطانة. إنتَ عن أيّ ولد عم تحكي؟"

- اللي ضاع! قلتُ.

- تلفوني اللي ضاع. ليش انتَ شو افتكرت؟

وقبل أن أجيبها، التفتتْ إلى طفلتها التي تراقبنا من الشرفة: "بعد تقولي لي بدّي التلفون؟ والله لأكسرلك إيدك وعلّقها برقبتك. ما تفكّري إنّك خلصتِ مني!"

استدارت مايا متوجّهةً إلى منزلها بعد أن شكرتْني باسمي، فتأكَّدتُ أنّها لم تزل تذكرني، من دون أن يكون لهذا الاكتشاف أيُّ أثر في "انشراح صدري." استدرتُ بدوري، لتفاجئني أفعى رقطاءُ تلمعُ تحت أشعّة الشمس.

قفزتُ مبتعدًا وأنا أحمد الله في سرّي على الفرص التي تذهب ولا تعود.

*مهدي زلزلي
لبنان - صور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أرشيف الآداب

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...