فوق هضبة بعيدة في مطلع تغاريد العصافير فرحا بقدوم الربيع وتوديعا لرحيل الشتاء..كل الدنيا وبما تحتويه من شوارع وأزقة وجبال وهضاب وتلال تتجهز بما لديها من حلي لاستقبال الربيع الجميل بأبهى حلة..ومن كل ناحية تنطلق أغنية دافئة ترحيبية يفوح منها عبق الرياحين الندية والياسمين الشهية..
هذه الدنيا..وهكذا حالها..زائر يغيب..وزائر يؤوب.. يا لفرح الدنيا بقدوم ربيعها..ويا لانهمار دموعي بغياب ربيعي.. يبدو أنني سأبقى طيلة هذه السنة في فصل الشتاء ولن ألتقي بالربيع..لأن ربيعي قد رحل..رحل ولم يفكر بأنني أحتاجه..حملت له العمر حبا وشوقا..ولم يحمل لي إلا الغياب..أحببتك أيها الربيع ثمانية أعوام..أقل قليلا أو أقل كثيرا..
في العام الأول أهديتني كلماتك..وفي العام الثاني أهديتني طوقا ذهبيا..وفي العام الثالث أهديتني قرطي ألماس..وفي العام الرابع أهديتني عطرا لا أنساه..وفي العام الخامس أهديتني أقلاما خشبية..وفي العام السادس أهديتني الدموع الضائعة..وفي العام السابع أهديتني خيبات الأمل..وفي العام الثامن أهديتني الفراق..سأشكرك على كل ما أهديتني..وأقول لك:" الأعوام السبع الأولى كلها رسمت ابتسامة على ثغري أما العام الثامن حان موعد العين لأن تبكي.."..كسمفونية بيتهوفن عزفت معزوفة حبك..كروعة النيل في أسوان تمتعت بصفاء قلبك..كروايات أحلام وفلسفة جبران أدمنتك..أنت رحلت..وأنا بقيت في الغربة..حيث تأكل الأشياء الأشياء..يسقط المطر لكن القلب يبقى ظامئا..تضيع كل المواويل.. أصبح الشمع بين يدي أغصانا جافة..
في غربتي عنك..حيث يكون النهار بعيدا حزينا والليل بلا نجوم..وجهي يركض في الشارع القديم..يبحث عن ظلال وجهك..تأتي إلي الكلمات من نافذة على الشمس..لكن الشمس نائمة والقمر يسهر في قرية بعيدة..وحيدة أجلس مع صوتك الآتي من الطريق..أقرأ قصيدة عن الشجر الحزين..أضيء شمعة في عمر الفرح ثم أطفؤها بعبرة سقطت من عيني صدفة لأن عقلي غاب إليك..حينها ترقص الظلال على الحائط..يطل وجهك من بعيد..أركض نحوه وأنا متلهفة.. تستوقفني نجمة على النافذة وتهمس لي "هو الآن بين صفحة مطوية وصفحة مكتوبة"..يقرأ سطرا من الماضي وينساه ثم يكتب سطرا جديدا ويبتسم له.. أقسم أنني تعبت طويلا..وأنني ظمئت كثيرا..وأنني من الحزن صادقت كثبان رمل..وأسلمت رأسي لكفي..وما زار عيني نوم..أصبحت لغتي الصمت..حين يصير وجهك حقلا من التساؤلات..وعيناك طريقا بلا نهاية..تصبح لغتي الصمت..
لقد كتبت كثيرا..ركضت كثيرا فقلت :"آن للقلب أن يتوقف هنا! وأن يكتب بلا كلمات.. "لكنك تطارد قلبي مثل طفل مسكون بالدهشة..وتسكن عقلي حيث لا أستطيع إلا أن أعطيك مفاتيحه وأقول لك :"امكث حيث شئت.." لكنني في نهاية المطاف يبدو أن قلبي وعقلي كانا مقصرين في حقك..أعذرهما..لذلك اخترت قلب وعقل أخرى..ربما تكن أكرم مني..لكن حرقة دموعي تشهدك أن خنجرك ما زال مغروسا في جسدي..سأبقيه أجمل ذكرى منك..حتى ولو أدماني..أوحعني..آلمني..أبكاني..قتلني..ستبقى ذكرى مؤلمة..لكن قلبي وعقلي يرفضان نسيانها لأنها تذكرني بك....