اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

الـمـخــــــاض ــ قصة | بقلم :ــ زهرة مراد ـ تونس

فاجأها ألمٌ كبير، اهتزّ له كلّ جسدها... ألمٌ موجعٌ. وجعٌ جعلها تصرُخ بأعلى الصّوت. إنّه المخاض.
تتوجّع... يعتصرها الألم حتّى الذّوبان... ثمّ تنتابها لحظات من الرّاحة فتستكين... وما بين الألم والرّاحة... تتمزّق روحُها. لكنّها تقاوم وتتنفّس... وتتشبّث بالحياة. ترفع نظرها إلى السّماء... فترى الشّمس في الأفق البعيد... تشعر بالقوّة تسْري في جَسدها... ثمّ سرعان ما تتلبّد الغيُوم مرّة أخرى أمَام عيْنيْها... ويغِيب الضّوء عن سَمائها... فيعود الألَم من جدِيد... تُطرِقُ... تعضّ أصابعَها وجَعـًا... ويَبلُغ الألَمُ منتهَاه فتَصِيح مُسْتغيثةً "ربّاه"، باذِلَة أقصى مَا لَديْها لتنْتصِر علَى الوجَع... وتستمِيت حتّى الخَلاص.

وأخيرا... تنفّست الصّعَداء. وجاءها الفَرَج. أنجبَت الحُلْم الموُعود. رَأى مولُودُها النّور. هلّل الجَميع فرحًا به. تحلّق حولَه أنَاس كثيرون، من كلّ العالم جاؤوا يصَوّرون مولودَها... وتحدّثوا عنه في كلّ وسائل الإعلام... لكنّها لمْ ترَه... ولمْ تفرَح به.
جالت بذِهنِها كلّ أنْواع الاحتمَالات. وبقيَت تتألّم... تتعَذّب... حائرةً، عاجزةً. دمَاؤها تخضّبُ المكان لكنّ عينيْها عالقَتان بالنّافِذة. تسْمع أصْوات البعض في قاعة الانتظار ولا تفْهم حديثهم. أيْن مَوْلودُها ؟ لا أحدَ يردّ عليْها. الكُلّ يتكلّم عنه لكنّها لا تتبيّن ما يحدث له. البعض يبتسم لها عبر النّوافذ البلّورية. وتسْمع أصواتَهم لكنّها لا تعي ما يقولون. أين مولودها ؟ هل مات ؟ هل اغتيل؟ هل كان غير مكتمل فوضعُوه في محضنة حتّى يكتمل نموُّه ؟
وبينما هي في حيْرتها وتحت تأثير جروحها وبقايا ألم الولادة، كان الجميع في قاعة الانتظار يتجادلون. البعض يقولون : مولود رائع بهيّ... هنيئا لها به. والبعضُ يضربون كفًّا بكفٍّ ويتحسّرون متوقّعين موتَه... وآخرون ينظرون إلى بعضِهم البَعض في صمتٍ رهيب... تُرى ما سرّ هذا المولود ؟
ها قد أتوْها بوليدها. اليوم فقط أعادوه. اليوم فقط عرفت ماذا أنجبت. اليوم فقط وضعوا مولودَها بين ذراعيها. آه كم انتظرت ! كم صبرت ! كم توتّرت وهي تنتظر أن ترى مولودَها الذي أبهر العالم ! اليوم جاؤوها به. الكلّ يرقص ويحتفل. احتضنته لأوّل مرّة وقلبُها يكاد ينخلِع من مكانه من شدّة الفرح. ضمّته إلى صدرها والبعض يهتفون : الله أكبر... ويهنـّئونها به. كانت تنظر إلى الجميع في صمت ولا ترى أحدا منهم. كانت تشعر بما لم تشْعرْ به قَطّ... أحاسيس متعدّدة ومختلفة... متناقضة أحيانا، امتزجت في صدرها. لكنّها كانت متمسّكة بمولودها في حضنها بشدّة وحرْص وكأنّها تخاف أن يُفتكّ منها. إنّه مولودها البِكْر. وكم هي كبيرة لهفة الأمّ في ولادتها الأولى.
تركت الجميع في قاعة الجلوس واختفت لتنفرد برضيعها في غرفتها. كانت يداها ترتعشان وهي تكشف عنه الغطاء لتتأمّله. تتلهّف لرؤية وجهٍ ورديّ صبوح، وابتسامة بريئة ساحرة. آه ! ما أجمل أن تلد المرأة مولودا ساحِرا، يُدْخل البهجة على القلوب جميعا. ويفرَح به الجميع ويحتفل به الكلّ. كمْ هو رائعٌ أن تتغيّر الحياة بحدث مثل هذا. وكم هو جميل أن نعيش البهجة مع قدوم مولود جديد.
وما إن انفردت في غرفتها ورفعت اللّحاف عن مولودها لتراه، حتّى تجمّدت الدّماء في عروقها وهربت من وجهـها لِلَحظات... فاصفرّت كالورس وازدادت دقـّات قلبها وتسارعت، انحبست الكلمات في حنجرتها. وجَمَتْ... انقبض قلبُها داخل صدرها. لكنّها لم تفعل شيئا ولم تقُل شيئا. بقيت تنظر إلى وجهه الصّبوح وتسبّح باسم الله في سرّها. كان المولود رائعا حقّا، جميلا وساحرا، إلاّ أنّه بعين واحدة. ومكان العين الأخرى، ثقوب صغيرة لا تكاد تُرى. آه من الحياة، إنّها لا تعطي شيئا كاملا. الآن فهِمَتْ سرّ اهتمام طاقم الأطبّاء به وعدم السّماح لها برؤيته ساعة ولادته، الآن عرفتْ لماذا شدّ انتباه الإعلام من كلّ صوب وحدْب... بكَتْ صامتة حتّى احمرّت مدامعها. ولكنّها احتضنت صغيرها من جديد وأرضعته وقالت تحدّثه وكأنّه سيفهمُها : "لن أتخلّى عنك يا غال. سأرعاك مهما يكن حتّى أعيد إليك كلّ البهاء". ثمّ مسحت دموعها وحملت وليدها وخرجت لضيوفها مبتسـمـة.
كان الجميع ممّن حضر ليهنّئها بمولودها، يعرف ما حدث. لكنّها وحدها لم تكن تعرف، ولم تكن تدري أنّهم يعرفون. لذلك فوجئت حين بدأ الأهل والأصحاب يتحدّثون عن الموضوع مباشرة، وكلّ يُقدّم اقتراحه لتحسين حال الوليد. قال أحد الأقارب : "هذا المولود رائع وسيكون له شأن عظيم" وقالت إحدى القريبات :"لا بدّ من إجراء عمليّة جراحيّة لِعَيْنِه حتّى يصبح نظره سويّا، فعين واحدة قد تفقده القدرة على الرؤية بوضوح... وعموما لن تكون الولادة الأخيرة". وأضاف صديق : "لقد تقدّم العِلْم. ونحن في تونس نمتلك القدرات الطّبيّة بامتياز... يمكن عرضه على خِيرة أطبّائنا لإيجاد حلّ له... فيصبح أجمل وأروع". تَواصل الحديث وتعدّدت الاقتراحات. وبينما كان الجميع في جدل، قالت الأمّ : "آمل أن أجد لابني حلاّ مناسبا حتّى لا يسخر منه أحد حين يكبر. وحتّى إذا ما أصبح له إخوة، لا يشعر بالنّقص أمامهم... ولكن كيف ؟ لا أدري". قال الأب : "لا تحزنِي. لن أرضَى بأن يبقى بعين واحدة ولو دفعت العمرَ ثمنًا لذلك." وقال أحد الحاضرين : "لِمَ الحيرة ؟ يمكن معالجته في إحدى مدن الغرب، فهُم أدرى بمثل هذه الحالات... ويقدرون على خلق المعجزات."
نظر له الوالد وقال : " لا. لن أسمح بذلك. سوف يكون علاج ابني هنا في وطني."
وأضافـت الأمّ مـتحمّسة :" نعم، لا أريد لولَدي أن يُعالَج إلاّ بأيادٍ وطنيّة... أريده أن يجد عينه الأخرى ها هنا... في وطنه".
صَمَت الجميع قليلا، وقبْل أن يتفرّقوا، وعَدَ كلّ منهم بالمساعدة.
أقرّت العائلة بمشاركة الجميع من الأهل والأصحاب، أنّ التّدخّل الجراحيّ أصبح ضرورة لا مفرّ منها... خصوصا أنّ الرّضيع قد أظهر، مع الأيّام الموالية، قلقا وألما ممّا تفرزه عينه المشوّهة من قذى بسبب التّعفّن الذي أصابها. فكان يصرخ طوال الوقت... والأمّ تحاول التّخفيف عنه بلا جدوى، رغم استعانتها بطبيب العائلة، الذي كان يصف لها الوصفة تلو الوصفة.
كانت ما إن تنظّف عينه حتّى تفرز عفنًا جديدًا، فأصبحت المسكينة تعيش في توتّر مستمرّ وفي خوف دائم. وإذا بالتّعفّن يتحوّل تدريجيًّـا إلى أعضاء أخرى من جسم الطّفل، ممّا أربك كلَّ العائلة وكلّ الأقارب وحتّى الأصدقاء... فسارع الوالدان بإدخاله المستشفى.
هناك، اجتمع كلّ الأطبّاء والاختصاصيّين للتّشاور حوْل إمكانيّة فتح العيْن المشوّهة. وتعدّدت الاقتراحات العلميّة، وخاض الجميع في كلّ الاحتمالات الواردة عمّا يمكن أن ينتج عن مثل هذا التدخّل الجراحيّ... هل ينجح؟ هل تكون نتيجة التّدخّل الجراحيّ إيجابيّة؟ ألاَ تكون له آثار جانبيّة سلبيّة؟ تساؤلات كثيرة طُرِحت وطال النّقاش داخل مجلس الأطبّاء بينما كانت حالة المولود تسوء يوما بعد يوم... لكنّه مازال متمسّكا بالحياة.
الأمّ لا تزال تعاني من عذابات الألم لأجله. والتوتّر لا يزال يلفّ الجميع. عجْزٌ جعَل كلّ الأهل يحيَوْن في حيرة مستمرّة وقلق دائم. قضّى الطّفل أيّاما عديدة في المستشفى وطالت المدّة أكثر حتّى أصبحت أسابيعا وامتدّت حتّى استغرقت أشهرا ومجلس الأطبّاء لا يزال يناقش الأمر... دون أن يتّخذ أيّ قرار عمليّ... فهل يقع إنقاذ الوليد من الموت؟ هل تُكتب له الحياة بعافية ؟ هل تفرح والدته به فرحة حقيقيّة كامـلـة لا يشوبها حزن ولا يعتريها أسى ؟ هل يتمكّن أهل الاختصاص من أبناء الوطن الأكفّاء من إعادة البصر السّليم لهذا المولود البكر ؟ هذا هو أمل الأمّ وحلمها الأكبر.
بقي الرّضيع على سرير المرَض مدّة طويلة وكانت الأمّ تلازمه والأب يتردّد عليهما يوميّا علّه يحظى بخبر مُفرح يُطمْئنه على وضع الوليد. لكن هيهات، فلا جديد ولا تحديد لحلٍّ ممكنٍ. كلّما تَحاوَر مع أحد الأطبّاء، يُقال له كلام كثير، لكنّه لا يستطيع أن يستنتج منه شيئا. هل ستجرَى العمليّة أم لا ؟ لا شيء واضح. لم يكن الأطبّاء المباشرون لحالة الطّفل الوليد على اتّفاق. فكلّ منهم يُدلي برأي ويشرح الأمرَ على طريقته. مناقضا زملاءَه، وكأنّهم لا يمثّلون فريقا واحدًا.
اِحتار الأبُ. ولكنّ حيرة الأمّ كانت أكبَر. لقد انتقل العفن لجسمها بحكم ملازمتها لابنها. أصبحت هي الأخرى تعاني الألم مضاعفًا وتحتاج عناية خاصّة. سيْطر القلق على العائلة كلِّها وحضر الأهل جميعا إلى المستشفى محاولين فهم ما يحدث آملين في إيجاد حلّ سريع للأمّ وموْلودِها. واجتمع فريق الأطبّاء ليتشاوروا من جديد. ووعدوا بأنّهم سيقومون بمعالجة الطّفل والأمّ في أقرب وقت. وأنّ المسألة ليست خطيرة بالشّكل الذي تتصوّره الأسرة. قالوا : بعض الألم في كامل الجسم وبعض العفن مصدره العيْن المشوّهة انتقل إلى باقي الجسد لا أكثر ! فلا داعي لتهـويـل الأمــور.
لم يكن أمام أفراد العائلة الكبيرة والأصدقاء إلاّ أن يتقبّلوا الأمر رغم إحساسهم أنّ تصريحات فريق الأطبّاء غير مقنِعة. لعلّهم عاجزون عن فعل أيّ شيء !
وطالت مدّة مرض الأمّ ووَلَدها شهورا وشهورا... حتّى بلغت السّنة. وكلّ يوم يزداد العفن في جسمها وجسم ولدها انتشارا. أصبح الابن شبه هيكل عظمي. وتحوّل جسم الأمّ الفارع إلى ما يشبه شجرة يابسة قد أسقطت جلّ أوراقها، بعد أن كانت كالسّنديانة اليافعة. وجُنّ جنون الأب وأصبحت حالته النّفسيّة متدهورة بسبب ما يحدث لابنه وزوجته وهو عاجز عن إنقاذهما. وأمام إلحاح العائلة قرّر فريق الأطبّاء أن يعقد اجتماعا طارئا لتَدارُس وضع الطّفل مرّة أخرى. وحضر الاجتماع الطبّيّ اختصاصيّون من دول مختلفة. وطال النّقاش ولم يتوصّل الحاضرون إلى نتيجة لأنّ بعض الأطبّاء لم يجدوا أسبابا واضحة لهذه المشكلة وليس لديهم أيّ تصوّر لكيفيّة حلّها. أمّا البعض الآخر، فكلّما اقترحوا حلاّ، إلاّ وُوجِهَ بلامبـالاة.
أقترح أن نرسله إلى إحدى الدّول الشّقيقة لتُجرى له العمليّة هناك.
هذا ما اقترحه رئيس القسم الذي يقيم فيه المولود وأمّه، أثناء النّقاشات.
كيف نقبل بهذا ونحن الأكثر كفاءة من أيّ بلد مجاور لنا ؟ إنّه لأمر مخجِل ! نحن قادرون على معالجته. لكنّنا فقط نحتاج إلى فرصة، نحتاج موافقتك يا سيادة الرّئيس، لقد شخّصنا الحالة وعرفنا أصل العلّة واتّفقنا حول ما يلزمها وأجرينا التّحاليل اللاّزمة ولم يبق غير تحديد موعد إجراء العمليّة حتّى يتوقّف التّعفّن.
هذا ما قاله أحد أعضاء الفريق الطّبّي في انفعال شديد رافضا ما يمارسه رئيس القسم من تسلّط وتجاهل لاقتراحاته. فسانده في ذلك البعض من زملائه. أمّا البعض الآخر فقد بقوا صامتين خوفا من أن يغضب رئيسهم.
ابتسم رئيس القسم، كعادته، ابتسامة تخبـر بعكس ما يبـطن، وقـــال :
معك حقّ، نـ...ـعم، نحن قـ...ـادرون على معالجة الطّـ...ـفل و...أمّه لكن... يلزمنا بعض الوقت لنرتّب أمورنا ... سـ...... ـنحدّد في القريب العاجل موعد إجراء العمليّة إذنْ. و....... بحول الله سَـ......ـنتمكّن من إنقاذ الطّفل و..... أمّه. رغم أنّ إرسـ ــ ـاله للخـ ـ ـارج أضمن بـ ـ رأيي...
في تلك الأثناء كان الوضع يتدهور أكثر فأكثر. وبات الخطر محدِقا بالأمّ وابنها دون أن يحرّك رئيس القسم ساكنا. وأصبح الجميع في البلدة يتحدّثون عن الأمر وعمّا يحدث للأمّ وابنها في المستشفى.
في المقهى، كلّ النّاس يردّدون الحكاية. في المدارس، الجميع لا حديث لهم سوى عن الولد ذي العين الواحدة. في الشّارع، النّاس يستغربون موقف الأطبّاء وعجزهم، والبعض يتحدّث بانفعال مندّدا بهذا الإهمال. وآخرون لا يُقدّرون معاناة المريضيْن ولا الحالة النفسيّة للوالد وبقيّة العائـلـة فـيـردّدون: ماذا يفـعلون لهـما؟ إنّـه قدرهما ولا رادّ لقضاء الله.
كان هؤلاء يحاولون إسكات الجميع، داعين إلى القبول بالأمر الواقع. ولكنّ أهل البلدة غاضبون وفي كلّ يوم يزداد غضبهم حدّة وغليانهم شدّة.
وذات صباح، وعلى غير العادة حضر طبيب من الفريق في وقت غير وقت عمله. وطلب الحديث مع زملائه المباشرين لحالة الطّفل وأمّه ومع رئيسهم.
لم يكن هذا الطّبيب معروفا ولا مشهورا. لكنّه كان كفُؤا في مجال عمله، ماهرا في اختصاصه مؤمنا بإنسانيّته واثقا من نفسه، محبّا للخير، شغوفا بخدمة أهل بلدته. وهو مشهود له بجدّيته في العمل. طلب من رئيس القسم والفريق العامل معه أن يـُصغوا إليه لأنّه قرّر أن يجري العمليّة بنفسه ضامـنا نجاحها. لكنّ رئيس القسم رفض مع ابتسامته المعتادة متعلّلا بأنّ الطّفل تحت مسؤوليّته. ولا يجدر به أن يسمح لأيّ طبيب أن يتدخّل أو أن ينفرد بأخذ القرار.
عندها، اتّصل الطّبيب الشّابّ، بعائلة المولود وتحدّث مع كلّ أفرادها كبيرا وصغيرا. تحدّث مع والديْه ومع جدّيْه وجدّتيْه، ومع أعمامه وأخواله ومع كلّ أقاربه من بعيد ومن قريب وحتّى مع أصدقائهم، وتحدّى الجميع بعزمه وإصراره ليُنقذ الطّفل، بأن يجريَ له العمليّة في مصحّة أحد أصدقائه المقرّبين. فيفتح العـيـن المُشـوّهـة ويـعــالج الــتـعــفّـن الذي تـفـرزه.
كان ذلك هو الأمل الوحيد الذي لمع في أفق العائلة بعد شبه يأس. فلم تتردّد في قبول المقترح.
انضمّ لهذا الشّاب أطبّاء آخرون من مستشفيات أخرى كانوا قد علموا بالحالة المرضيّة المستعصية، وقرّروا المساعدة فكوَّنوا بذلك فريقا لا همّ له إلاّ إنقاذ حياة الطّفل وأمّه بما لديهم من كفاءة في ميدانهم. لكن، هل سيسمح رئيس القسم في المستشفى بذلك ؟ وهل سيوافق على التخلّي عن مسؤوليّته تجاه المريضيْن طالما هو عاجز عن إنقاذهما ؟ وإن حصل ذلك هل ينجح الفريق في ما ينوي القيام به ؟ هل سينجو الطّفل وتتوازن رؤيته ؟ هل تـُشفى الأمّ من التّعفّنات التي انتشرت في كامل جسمها ؟ هل تستقرّ أوضاع العائلة بعد كلّ التّوتّر الذي أصابها ؟ كلّ هذه الأسئلة، كانت تدور في أذهان النّاس جميعا.
باشر الفريق العمل بكلّ تحدّ منذ الصّباح. وخيّم الصّمت على الجميع. ها إنّ اللّيل يسدل ظلامه وينشر الرّهبة. فعمّ الهلع.
لقد طالت مدّة العمليّة أكثر ممّا يَحتمل صبر العائلة. كان الفريق يعرف قيمة التّحدّي الذي يخوضه وحجم المسؤوليّة التي يتحمّلها. الثّقة في النّفس لا تمنع الخوف من النّتيجة. مرّت ساعات اللّيل متثاقلة. كانت كلّ دقيقة تمرّ تضاعِف التّوتّر لدى الجميع ولكن، كانت تحمل معها بعضَ الأمل.
طال الانتظار ولا جديد. وها هو الفجر يبتسم. حينها، كان أحد أطبّاء الفريق يغادر غرفة العمليّات، ومع خطوته الأولى بزغ شعاع الشّمس الأوّل. فهل كان البعث ؟ أم أن آلام المخاض ذهبت سدًى ؟
بالجوار كانت ترقد الأمّ وحيدة في غرفة فسيحة. تلازم الصّمت، لا تقوى على الحراك لشدّة ما أصابها من ألم بسبب التعفّن الذي سرى في جسدها حتّى بلغ شرايينها. إنّها في حالة قد تؤدّي إلى هلاكها.
كانت خطوات الطّبيب ثقيلة متباطئة. اشرأبّت إليه كلّ الأعناق. الجميع ينتظر أن يسمع الخبر. هل وقع علاج الطّفل، أم باءت جهودهم بالفشل ؟ تبع الطّبيبَ بقيّةُ الفريق في خطى مماثلة، وبعيون هاربة. وعائلة الطّفل وأصدقاؤها في لهفة لمعرفة نتيجة التّدخّل الجراحي، أيًّا كانت هذه النّتيجة. وقف الجميع في صمت رهيب. تجمّع كامل الفريق أمام العائلة. لم ينبس الطّبيب الشّاب ببنت شفة. ولم يجرؤ أيّ زميل له على الكلام. طأطأ الجميع رؤوسهم، إلاّ هو. نظر في عينيْ الأب المتلهّف لمعرفة الخبر وقال : آسف جدّا. لا مجال لأن أخدعكم.
سقط الأب متهالكا على الكرسيّ مُتَمْتِمًا : "لقد مات ابني إذن وتبخّر الأمل" واندفع الأهل والأصدقاء يسألون الطّبيب وزملاءه عمّا حدث. "لا... لم يمت... إنّما دخل في غيبوبة... قد يستعيد الحياة بعدها وقد لا يستعيدها. لقد حاولنا ونجحنا إلى حدّ مّا في منع التعفّن من التواصل. لكنْ ما لم يكن في الحسبان هو ضعف مناعة جسده."
ها هو الطّفل في فراشه لا يعي شيئا ولا يحرّك ساكنا. عين مغمضة وأخرى مضمّدة. أطراف لا حراك فيها. أعضاء فاشلة في أداء أيّة مهمّة عدا العينان اللّتان أصبحت كلتاهما تفرز مادّة مقزّزة، رغم نقصها عمّا كانت تفرزه عين واحدة. إلاّ أنّها تتواصل من تحت الضّمادة ومن دونها.
نظر إليه الأب والعائلة والأصدقاء من خلف البلّور وسبَح كلّ واحد في خياله... ماذا سيخبر الغد عن هذا الابن البكر ؟
في الأثناء، تحوّل فريق الأطبّاء إلى غرفة الأمّ التي انشغل عنها الجميع بما في ذلك الأب. كان الطّبيب الّذي ترأّس مهمّة إنقاذ الطّفل وأمّه يعرف مدى خطورة الوضع. لكنّه كان يأمل في إنقاذ الأمّ إن فشل في إنقاذ وليدها. لذلك، ما إن رأى حالتها المتدهورة، حتّى تحدّث لكلّ الفريق واتّفق الجميع على إعداد غرفة العمليّات في الحال. كانت ضعيفة جدّا لكنّها متمسّكة بالحياة. ورغم عجزها عن الحركة، كانت عيناها مليئتين بالأمل. تـتـحـدّى المـوت وتـتــربّـص بـهِ.
مضت الأيّام ثقيلة. ولم يعد أحد من العائلة يستسيغ طعم الحياة. كلّ شيء صار مرّا أو يكاد. غير أنّ الشّمس لم تتوقّف عن الشّروق كلّ صباح.
وشُفيت الأمّ أخيرا، بعد طول صبر ومعاناة. وعادت لبيتها ولحياتها. لكنّها خلّفت وراءها ابنَها المريض بين أيادي الأطبّاء. لم يكن بِيَدها حيلة ولم يكنْ لديْـها خيــار.
اضطُرّ الأطبّاء لعزل المريض في إحدى الغرف بالمشفى حتّى لا يتعدّى مرضه الحدود فينتشر بين بقيّة المرضى، خصوصا بعد أن لاحظوا سلوكاتٍ غريبة تصدر عنه. ولكنّ ما حدث بعد ذلك لم يكن في الحسْبان. أمرٌ لم يتوقّعه الأطبّاء، ولم يتوقّعه الأب ولا الأمّ.
لم يخطر ببال أحد أبدًا أن يُرى الطّفل، صاحب الابتسامة السّاحرة والوجه الورديّ الصّبوح رغم تشوّه عينه، وقد كبُر فجأة، واستفاق من غيبوبته ليتحوّل إلى وحش عنيف تزداد ضراوته وبشاعته كلّ لحظة. أصيب الأطبّاء والممرّضون والعملة بالذّهول إلى حدّ الصّدمة. فلم يسبق لهم أن رأوا مثل هذه الحالة رغم بساطة مظاهر المرض. لكنّ دهشتهم تحوّلت إلى خوف بعد أن أصبح المريض يهاجم الطّبيب المعالج والممرّضات، محاولا أكل لحمهم وتلذّذ دمائهم. كان الأمر جدّيا في غاية الخطورة. وحين علمت الأمّ بالأمر، سقطت مغشِيًّا عليها. أمّا الأب فقد أصابته دهشة عظمى ولكنّه تمالك نفسه وانحنى على زوجته يوفّر لها ما تيسّر من العناية. ولمّا عاد إليها وعيُها، قال لها : "الحمد لله على كلّ حال. ما عسانا نفعل وقد ابتُلينا ؟ نحن لا نملك غير الصّبر. ولن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا."
نظرت إليه في صمت نظرةً مليئة بالحزن والأسى. ثمّ اتّفقا على زيارة ابنهما في الحال. ولمّا رأياه، كان يبدو عليه الهدوء. لكنّ الطّبيب المتابع لحالته أمرَهما أن يسايراه وألاّ يقتربا منه كثيرا. غير أنّ الأمّ، ذلك الكائن البشريّ الذي يفيض عاطفة ولا يحسن غير العطاء، لم تكن لتهتمّ بما قاله الطّبيب المداوي. دخلت غرفته كما كانت تفعل دوما. فكانت المفاجأة أكبر ممّا توقّعت هي ووالده.
لم يعد ابنها طفلا. بل صار وحشا حقيقيّا يتصرّف بجنون. ولا أحد قادر على تفسير ما يحدث له. إلاّ أنّ الأكيد أنّ عقله لم يتغيّر أو هو في حالة عَطَلٍ على عكس ما نما عليه جسده. ورغم ذلك، اقتربت منه هي وأبوه. وأرادت أن تلامسه فكشّر في وجهها ودفعها لتسقط أرضا.
سمعت الممرّضة صوت الأب يطلب النّجدة فأسرعت إلى الغرفة وأخرجت الأبوين. ثمّ أغلقت الباب لتسرع في طلب المساعدة من الأطبّاء. وحلّ بالغرفة ممرّضان كانا قد أُمِرا بحقنه بإبرة تخدّره وتبقيه طريح الفراش فلا يقوى على إيذاء أحد، في انتظار أن يلتحق الطّبيب بهما. غير أنّهما لم يتمكّنا منه. فالتحق بهما ممرّضان آخران...
وتقبّلت الأمّ الوضع مكرَهة ودأبت على زيارته يوميّا وقلبُها تملأه المرارة ويعتصره الألم.
بقيت على تلك الحال زمنا غير قصير وابنها لا يتغيّر من وضعه شيء حتّى يئست من شفائه.
كانت خلال تلك الفترة قد أنجبت توءما، طفلين جميلين، أحدهما يشبه أباه والآخر يشبه أمّه. أدخل الحدث بعض الفرح على الأسرة وكلّ الأهل. لكنّه لم يُنسِهم الابن البكر المريض. فقد طالب الوالدان باستعادته من المشفى.
كانا يعلمان جيّدا مدى خطورة الوضع الذي هو عليه، فقد يؤذي الآخرين من حوله، لذلك خصّصا له غرفة في المنزل العائلي وسعدت أمّه بالعناية به رغم أنّها فضّلت ألاّ تجمعه بأخويه. وهل تفرّق الأمّ بين أبنائها وقد خُلِقوا جميعا في أحشائها ؟!
وذات ليلة، تناهى إلى سمعها صوت أنين يأتي من الغرفة المجاورة. تسلّلت من فراشها حتّى لا توقظ زوجها واتّجهت نحوه. فإذا بالصّوت يأتي من غرفة ابنها المتحوّل. كان يلوي عنق قطّة تسلّلت إليه من النّافذة. صاحت منادية تطلب النّجدة فلحق بها زوجها. ولم يكن بإمكانهما إيقافه. فقد كان شرسا. وتعالى صوت الأمّ ثانية حتّى بلغ الجيران. وتجمّع النّاس ولكنّ الوحش لم يتوقّف. فقد صار ينهش الكلّ. حتّى أنّه طال الأمّ التي طالمَا تألّمت لأجله. فقدتْ وعيَها وبات الأب عاجزا على إيقافه وإنقاذ زوجته حتّى التحق الجيران بالمكان.
ها هي الأمّ طريحة الأرض وقد ضرّح جسمها بالجراح، ودماؤها تسيل على الأرض. وها هو الأب يجلس قبالتها ماسكا رأسه بين يديه عاجزا عن التّفكير. فهذا ابنه وتلك زوجته. فما عساه فاعل ؟!
أمّا الابن الوحش. فقد حاول الجيران والأهل الذين أسرعوا للمساعدة أن يسيطروا عليه حتّى لا يؤذي الآخرين. فشدّوه إلى السّرير في انتظار أن يأتيَ الإسعاف...
وفي خضمّ كلّ هذه الأحداث، وبين الحيرة والخوف، كان الجميع يتساءل : كيف يمكن أن يحدث هذا ؟ فلم يسبق لأيّ منهم أن رأى مثل هذا المشهد : الابن ينهش لحم والدته حتّى يكاد يقضي عليها !!؟
وبينما كان الجميع منشغلا يطرح الأسئلة، الواحد تلو الآخر، والأمّ والأب على حالهما من العجز والضّعف، استطاع ابنهما البكر أن يتخلّص من القيد وقد نمت له أطراف متعدّدة، وتسلّل إلى غرفـة أخـويـه الرّضـيـعـيـن.
طال انتظار سيّارة الإسعاف. وخلال الانتظار، تواصل النّقاش بين الجيران الذين حضروا لنجدة الأسرة، قال أحدهم :"الحمد لله... يبتلينا تعالى ويجعل في ابتلائه لنا خيرا كثيرا... لكنّنا لا نعلم... ترى ما حكمة الله في ظهور مثل هذا المولود الغريب على أرضنا ؟!!"
التفتت إليه امرأة كانت تحاول تضميد جراح الأمّ، التي استعادت وعيها، بما وجدت في بيتها من مستلزمات طبّية لمثل هذه الحالات وقالت تـحـدّثـه : "ما قُلتَه صحيح، إنّ الله تعالى يريد بنا دائما كلّ الخير، حتّى حين يبتلينا، فله حكمة في كلّ شيء. لعلّه يريد أنْ يكشف لنا أمرا خفي عن الجميع" وتـوقّـفـت قليلا ثمّ واصلت تـقـول : "لقد أخبرتني ابنتي الممرّضة والتي كانت حاضرة ليلة المخاض في المستشفى، أنّها رأت رئيس القسم يحقن الأمّ وهي على طاولة الولادة ويخرج مسرعا. ثمّ يلتقي بزميله الذي سأله عن الحالة، فأجابه بأنّها ولادة متعسّرة ويلزمها تدخّل سريع خوفا على حياة الأمّ. وبعد النّقاش، قرّرا حقن الأمّ دون أن يَعلم زميلُه بأمر الحقنة الأولى. ممّا جعل ابنتي تشكّ في الأمر. لكنّها لم تجرؤ على السّؤال أو الاستفسار، خوفا من غضب ذاك الطّبيب المعروف في كامل المستشفى بغلظته وشراسة طبعه وقـبـح مـنـطـقـه وسـوء سمـعـتـه."
شدّت الحكاية التي روتها المرأة انتباه كلّ الحاضرين. وبدأت التّساؤلات وبدأ التّأويل بعد ذلك مباشرة : "أتراه حقنها بدواء مضرّ بها أمْ بصحّة المولود ؟ ربّما كان يريد إجراء تجربة غير قانونية فهو قد تعوّد الأعمال الخارجة عن القانون ولا ندري كيف لا يوقفونه عن مهنة الطّبّ !! ومن يجرؤ على مواجهة ذاك الطّبيب ؟ إنّ لديه من يسنده ولا يخشى أحدا... هو لا يخشى الله فكيف سيخشى البشر. يبدو أن تلك الحقنة لها تأثير على المولود فعلاً... وإلاّ كيف يحدث له هذا التـحوّل الغريب والمفاجـئ ؟"
كانت هذه بعض الأحاديث التي دارت على ألسنة الحاضرين، حين التفت الجميع إلى فراش الابن المتحوّل فلم يجدوه. تحرّك الكلّ بسرعة يبحثون عنه في كلّ أرجاء البيت. ونهضت الأمّ رغم جراحها، صانعة من ضعفها قوّة. وسرَت في البيت حركة يلفّها الرّعب والقلق والحيرة والخوف ممّا يمكن أن يحدث. ذهب البعض يبحث خارج المنزل. والبعض في المطبخ، وآخرون في غرفة النّوم. أمّا الأب، فذهب يفتّش عنه في غرفة المؤونة وبيت الحمّام وكلّ الأركان التي لا يمكن أن تخطر ببال بقيّة الحاضرين. لكنّ الأمّ التي تحاملت على جراحها، فقد توجّهت مباشرة إلى غرفة التوأم. وما إن دخلت الغرفة حتّى وجدته هناك، تماما كما توقّعت.
بحث الجميع في كلّ الأماكن الأخرى بلا جدوى. وحين لم يعثروا عليه عادوا إلى غرفته. وعاد كذلك الأب الذي لاحظ أنّ زوجته ليست في مكانها. فصاح بالجميع :"يا للمصيبة !!! تعالوا معي..."
جال بخاطر الجميع أنّ الوحش قد عاد إلى غرفته في غفلة أخرى والْتهم أمّه التهاما. لم يكن بينهم من رأى الأمّ وهي تجرّ نفسها نحو غرفة الرّضيعين. لكنّ الأب الذي كان يعلم شدّة ارتباط زوجته بالطّفلين، توجّه مسرعا إلى الغرفة التي تـضـمّـهـمـا ومن ورائـه كلّ الحـاضـريـن. ويا لهَول ما رأوْا...!!!
لم يكن أحد يتوقّع ذلك أبدًا ! مشهدٌ بقي عالقا بأذهانهم منحوتا بذاكرة كلّ واحد منهم، ولا أظن أحدا سينساه مهما طال به العمر...
توقّع الأب وجوده هناك. وتوقّع أيضا أنّه سيجد أخويه بين يديه وقد فارقا الحياة. لكنّه لم يكن أبدا ليتوقعَ أنّه سيرى زوجته في ذلك الموقف المهيب.
حين دخلت الأمّ الغرفة، كان ضوء الفجر قد تسلّل عبر النّافذة. وكان الطّفل المتحوّل قد أمسك الرّضيعين بكلتا يديه. وقد رفعهما في الهواء. ما إن رأت ذلك المشهد، حتّى وقفت أمامه دون خوف وبدأت تحدّق بعينيه وكأنّها تذكّره بشيء ما. فإذا به يعيد الطّفلين برفق إلى مكانهما. وكم كانت دهشة الأمّ التي تسمّرت في مكانها دون أن تحوّل نظرها عنه، حين بدأ الوحش يصغر إلى أن صار في حجمه الطّبيعي. ثمّ فجأة صار سائلا متحرّكا وبدأ يسيل إلى خارج البيت حتّى بلغ الحديقة.
تحرّك الجميع في دهشة من أمرهم يتبعون السّائل فإذا به يختفي داخل التّربة، هناك قبالة النّافذة وكأنّه لم يكن. علَت وجوه البعض علامات بالغ الاستغراب. في حين تمتم البعض الآخر : "سبحان الله... سبحان الله... هل نحن في الواقع... أم أنّه كابوس"
أفاقوا على صوت سيّارة الإسعاف. وتأكّدوا أنّهم يعيشون واقعا لم يكن ليمرّ أبدا بأذهانهم أنّهم سيعيشونه.
حين بلغ رجال الإسعاف غرفة الرّضيعين يتبعهم الأب ومَنْ حضرَ مِنَ الجيران، كانت الأمّ هناك تتأمّل طفليْها. وقد نسيَت آلامها وتجاهلت جراحها. ولم يصدّق أحد ما يحدث.
لقد علاَ وجهيْ الطّفليْن نورٌ لا مثيل له. ولمعت عيونهما ببريق ينبئ بالخير. اقتربت منهما الأمّ فإذا بهما يمسكان كلٌّ بيدها ويقبّلانها. بقيت صامتة... لا تنبُس ببِنْت شفةٍ. وكان الجمْع بما فيهم زوجها ورجال الإسعاف يقفون على باب الغرفة. يشاهدون في صمت. ما يحدث للطّفلين.
تحرّك الطّفل الأوّل ونزل من الفراش فإذا به يمشي على قدميه. وتبعه أخوه. وانتقل كلاهما خارج البيت تراقبهما الأمّ في صمت ويتبعهما الأب ومن معه في دهشة، حتّى بلغا الحديقة. أخذ كلّ واحد منهما عشبة ونفخ فيها وألقى بها أرضا. وإذا بها تتحوّل إلى نبتة خضراء يانعة. ابتسم الجميع واستبشروا خيرا. ثمّ ما لبثوا أن أتوا بما يلزم للعناية بالنبتَتَيْن. هذا يسقيهما وذاك يزرع إلى جانبهما نبتات أخرى. وآخر يغرس شجرا وغيره يجلب الماء. والطّفلان يقفان بين الجميع، ينفخان فيهما من روحهما، فلم يشعر أحد بالتّعب ولا بالملل رغم أن الجميع قد قضّى وقتا طويلا واقفا.
ها هي الشّمس تتوسّط السّماء وقد أصبحت الحديقة خضراء غنّاء قد انجذبت إليها كلّ الطّيور وكلّ الفراشات...
وفجأة، تلبّدت غيوم سوداء في السّماء وغابت الألوان عن الحديقة. ونَمَتْ فيها إحدى النَّبْتات الصّغيرة بسرعة غريبة إلى أن بلغت مستوى النّافذة المقابلة لها. التَفَتَ الجميع إليها فإذا هي تمتدّ وتمتدّ. ثمّ تعلُو وتعُلو. وتتوالد وتتشابك حول كلّ الحديقة. إنّها نبتة دمويّة لاحمة. كانت وحشيّةً لدرجةِ أنّها كشّرت عن أنيابٍ حادّةٍ وفتحت جوفها محاولة ابتلاع الطّفلين ومن معهما.
البعض فتحوا أفواههم وبقوا كالأصنام ثابتين من شدّة الصّدمة. بينما انبَرى البعض الآخر يصيح بأعلى الصّوت. أمّا البقيّة فقد حاولوا قطع أطراف النبْتة المتوحّشة دون جدوى. كانت تتوالد وتتوالد دون توقّف، حتّى أنّها تمكّنت من ابتلاع ذراع أحد التّوأمين : أجملهما وأقواهما. ورغم ذلك لم يتراجع الجمع عن محاولة قطعها واجتثاث جذورها.
ها أنّ خبر النبتة المتوحّشة قد بلغ مسامع أهل القرية جميعا. وتبيّن لهم أنّ لها جذور في كلّ الحدائق المجاورة. وأنّه يكفي أن تجد الفرصة سانحة، فتنمو وتعلو حتّى تقضيَ على كلّ ما حولها.
أصبح الحديث عن هذه النّبتة اللاّحمة المتغوّلة، الشّاغل الأوّل لكلّ النّاس. ما الذي يغذّيها ؟ من أين نبتت ؟ كيف يمكن القـضاء على شــرّها؟ تساؤلات يردّدها الجميع في حيرة وعجز.
احتار أهل البيت والجيران والأصدقاء في اقتلاعها. لقد حوّلت الحديقة الجميلة إلى مكان مقفر موحش يوحي بالخراب والموت. غير أنّ سكّان البلدة لم يتوقّفوا عن التّفكير في حلّ لهذه الكارثة التي تهدّد الجميع.
كان رجال الإسعاف آنذاك قد أخذوا الطّفلين وأمّهما إلى المستشفى مردّدين في دهشة ما رأوه بكلّ تفاصيله. والتحق بهم الأب ليكون بجانب ابنيْه وزوجته. وسرت التّفاصيل في المدينة الصّغيرة. كما تسري النّار في الهشيم. والنّبتة لا تزال متربّصة بكلّ من يقترب منها. فما عسى أهل البيت يفعلون، ولا مأوى لهم غير بيتهم هذا ؟
انشغل النّاس بالأمر. وبات الكلّ يبحث عن طريقة لقطع رأس الدّاء الذي قد يؤذي أيّا كان. وخافوا أن يمتدّ أذى هذه النّبتة إلى الحدائق المجاورة. فتكون الكارثة أكبر. بدأ أهل البلدة يجتمعون ويتحاورون ويقترحون الحلول. لم يسبق لهم في الحقيقة أن اجتمعوا على أمر. فقد كانت مشاغل الحياة اليوميّة تفرّقهم. أتكون المصائب هي التي تجمع ولا تفرّق، وتآخي ولا تعادي ؟! فقد صاروا أسرة واحدة. يعدّون لوقفة رجل واحد في وجه خطر هذه النبتة الوحشيّة المتوحّشة الغريبة التي لم يسبق لهم أن عرفوا مثلها في أراضيهم.
ها هو الأب يعود بزوجته وولديه بعد الاسعافات. ها هما يدخلان المنزل بحذر. إلاّ أنّ النّبتة اللاّحمة كانت متعطّشة للدّم. فقد هاجمتهم وابتلعت ذراعا آخر لأحد الطّفلين.
وما إن علم النّاس بالأمر حتّى هبّوا من كل حدب وصوب. وهاجموا النّبتة المرعبة بكلّ قوّة وبكلّ إرادة. ها هي الفؤوس تهوي على أطرافها وجذعها وجذورها، وهي تتلوّى كالأفعى. كلّما قطعوا طرفا منها نمى طرف آخر في الحين. ورغم الجراح التي أصابت الكثير من المتساكنين، لم يتراجعوا، ولم ييأسوا. بل كلّما سالت منهم الدّماء، إلاّ وازداد إصرارهم على قطعها واجتثاث جذورها من العمق.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...