⏪⏬
استيقظَ أسعد على صوت رنين هاتفه، كان غارقاً في نومٍ لذيذ، أيقظه إشعار رسالةٍ الكترونية. لقد سهر ليلة أمس مع أصدقائه حتى وقتٍ متأخر وقد شرب كثيراً. وما أن قرأ الرسالة حتى طار النوم من عينيه ونهض من فراشه كمن لدغه عقرب، ارتدى ثيابه بسرعة
وانطلق إلى الشارع، ركضاً وتعثّراً وسقوطاً ونهوضاً إلى أن قابل صديقه يوسف مرسل الرسالة، عانقه بشدة وأخذ يصرخ كالمجانين؛ أحقاً ما تقول؟ أحقاً انتهت الحرب؟ أومأ الصديق بالإيجاب وبكى أسعد وشد يوسف بذراعيه إلى صدره بكل قوته وفرك وجهه بقميص يوسف عدة مراتٍ يمنةً ويسرة حتى مسحَ بحر دموعه، ثم رفع رأسه ونظر إلى عيني يوسف مبتسماً ابتسامةً عريضة، وأمسكه من يده وانطلقا نحو أقرب ملهى ليحتفلا بالحدث الجلل.
وكان أبو أسعد شيخاً كبيراً ملقىً في فراشه منذ عدة أشهر يتصارع مع الموت،
قطع الخبرُ العاجل برامجَ التلفاز وظهرت المذيعة الموقرة التي لا تظهر عادةً إلا عند الأحداث العظيمة وأعلنت انتهاء الحرب، ثم بدأت المحطة تبث الأغاني الوطنية، سمع أبو أسعد أن الحرب انتهت، فتح عينيه إلى أقصاهما، ونادى زوجته خديجة بأعلى صوته، هرعت الأخيرة إليه وهي تحمل ملعقة الطهي الكبيرة وتغطي رأسها بمنديلٍ صغير، دفعت الباب بكتفها ودخلت غرفته وهي تتمايل بتثاقل، سألت زوجها وهي ترفع حاجبيها وتسدل فكها السفلي: ما الذي حدث يا رجل؟ لقد أفزعتني!
"انتهت الحرب"، بكلمتين موجزتين وصوتٍ خافتٍ حنون وابتسامةٍ عريضةٍ أجابها.
قالت خديجة بهدوء: انتظر كي أطفئ النار تحت الطعام وأعود إليك.
عادت إلى المطبخ، أطفأت النار وتمتمت مع نفسها؛ يبدو أنه فقد عقله، هذا ما كان ينقصنا.
رجعت إليه مسرعة الخطى تجرّ قدميها وتهزّ الأرض هزّاً، سألته بهدوءٍ ممزوجٍ بلهاث؛ ماذا قلت؟
- انتهت الحرب.
لمستْ جبينه بقفا كفها فوجدت حرارته طبيعية، التفتت إلى التلفاز وقرأت الخبر، أصدرت زغرودةً طويلةً ثم صمتت.
جلست على السرير إلى جانب زوجها وشخَصَ كلاهما بعينيه نحو التلفاز، وارتسمت ابتسامتان عريضتان على وجهيهما، ساد الصمت بضع دقائق، كسره الزوج بأن طلب منها أن تنزل إلى قبو المنزل وتحضر النبيذ المعتق الذي خبأه منذ سنواتٍ كي يحتفل بهذه المناسبة، لكنها نظرت إليه باستغرابٍ وكانت شفتها السفلى قد تدلّت، وبقيت تنظر إليه هكذا حتى هزّها من كتفها، فقالت: لكنك مريض وبالكاد تستطيع أن تشرب الماء، فكيف ستشرب النبيذ؟
ابتسم مكشراً عن فمٍ تساقطت جلّ أسنانه، وصرخ بها: قومي بسرعة وافعلي ما طلبته منكِ قبل أن أحطم عظامكِ، فأنا أشعر بقوةٍ عظيمةٍ تسري في جسدي.
ثم أخذ يزأر كالوحش.
وكان أيهم يقود سيارة الأجرة التي يعمل عليها حين أُعلن في المذياع عن انتهاء الحرب، فأخذ يصرخ ويضغط زمور السيارة ويقود بسرعةٍ جنونية، ويخرج يده من النافذة، يلوّح بها ثم يخرج رأسه ويصرخ، ثم يدوس فرامل السيارة بشكلٍ مفاجئ ثم يعود ليدوس البنزين، وكانت الفتاة التي تركب في المقعد الخلفي تتمايل طرباً على أنغام الأغاني الحماسية التي يبثها المذياع، التفت أيهم إليها وسألها إن كانت تمانع من الاحتفال معه وقضاء بقية النهار برفقته، فلمعت عيناها واحمرت وجنتاها ووافقت بخفَر!
وكان بعض الصبية يلعبون بالكرة حين مرّت سيارة أيهم بالقرب منهم، فتوقفوا عن اللعب ونظروا إليه نظرة طفلٍ واحد، ثم التفتت رؤوسهم التفاتةً واحدة حتى اختفى عن أنظارهم، عندها قفزوا جميعاً وضربوا أكفهم بأكفّ بعض وصرخوا صرخةً واحدة ثم واصلوا اللعب بالكرة.
وكان مركب الصيد في غمار البحر عندما رنّ هاتف أحد الصيادين، وحين ردّ على الاتصال قفز من الفرح وأخذ يصرخ بأعلى صوته؛ "انتهت الحرب" وجعل رفاقُه في المركب يصرخون ويقفزون حتى مال المركب وكاد ينقلب، وكانت الشبكة ممتلئةً عن آخرها بالصيد الوفير، وكان الصيادون على وشك سحبها إلى المركب، لكنهم أفلتوها داخل الماء وانطلقت الأسماك باحثةً عن الحياة، بينما عاد الصيادون بمركبهم إلى الشاطئ واحتفلوا بالرقص والغناء.
وكان المشفى يغصّ بالمرضى والجرحى، وكان الطبيب يضع الجبيرة على يد شابٍ مصابٍ بكسرٍ حين رنّ هاتفه، مسح يديه الملوثتين بالجبس بثوبه الأبيض، وفتح الهاتف، كانت المتصلة زوجته، تخبره بأن الحرب انتهت، أغلق الهاتف بسرعة وفتح الكاميرا وأخذ صورةً تذكارية مع المريض، ثم أمسكه من يده السليمة ورفعها عالياً ثم راحا يقفزان ويصرخان، جاءت الممرضات من بقية الأقسام، واستيقظ المرضى على أثر الضجيج وخرجوا من غرفهم يحملون أكياس السيروم بأيديهم وعقدوا حلقات الدبكة، وأخذ الجميع صوراً تذكارية. وفي غرفة المخاض قفز الطفل من بطن أمه بعد مخاضٍ عسير، حملته الممرضة من أسفل قدميه، ورأسه إلى الأسفل وأخذت تصفعه على مؤخرته وتزغرد، والمحتفلون يرقصون ويتناوبون بالتقاط الصور معه.
وكان جنديٌّ نحيلٌ أسمر في الجبهة يحتمي داخل خندقٍ، معانقاً بندقيته واضعاً إصبعه على الزناد، وعينه نحو العدو، وكان حذاؤه مهترئاً يتسرّبُ التراب من خلاله إلى أصابعه، فيشعر بحريق الجلد المنسلخ عن اللحم، ويحرك أصابع قدميه رويداً رويداً كي يخفف من الألم، من دون أن يتحرك من مكانه أو يرفّ جفنه، ثم يأخذ شهيقاً ويطلق زفرةً طويلةً ويحلم.
استيقظَ أسعد على صوت رنين هاتفه، كان غارقاً في نومٍ لذيذ، أيقظه إشعار رسالةٍ الكترونية. لقد سهر ليلة أمس مع أصدقائه حتى وقتٍ متأخر وقد شرب كثيراً. وما أن قرأ الرسالة حتى طار النوم من عينيه ونهض من فراشه كمن لدغه عقرب، ارتدى ثيابه بسرعة
وانطلق إلى الشارع، ركضاً وتعثّراً وسقوطاً ونهوضاً إلى أن قابل صديقه يوسف مرسل الرسالة، عانقه بشدة وأخذ يصرخ كالمجانين؛ أحقاً ما تقول؟ أحقاً انتهت الحرب؟ أومأ الصديق بالإيجاب وبكى أسعد وشد يوسف بذراعيه إلى صدره بكل قوته وفرك وجهه بقميص يوسف عدة مراتٍ يمنةً ويسرة حتى مسحَ بحر دموعه، ثم رفع رأسه ونظر إلى عيني يوسف مبتسماً ابتسامةً عريضة، وأمسكه من يده وانطلقا نحو أقرب ملهى ليحتفلا بالحدث الجلل.
وكان أبو أسعد شيخاً كبيراً ملقىً في فراشه منذ عدة أشهر يتصارع مع الموت،
قطع الخبرُ العاجل برامجَ التلفاز وظهرت المذيعة الموقرة التي لا تظهر عادةً إلا عند الأحداث العظيمة وأعلنت انتهاء الحرب، ثم بدأت المحطة تبث الأغاني الوطنية، سمع أبو أسعد أن الحرب انتهت، فتح عينيه إلى أقصاهما، ونادى زوجته خديجة بأعلى صوته، هرعت الأخيرة إليه وهي تحمل ملعقة الطهي الكبيرة وتغطي رأسها بمنديلٍ صغير، دفعت الباب بكتفها ودخلت غرفته وهي تتمايل بتثاقل، سألت زوجها وهي ترفع حاجبيها وتسدل فكها السفلي: ما الذي حدث يا رجل؟ لقد أفزعتني!
"انتهت الحرب"، بكلمتين موجزتين وصوتٍ خافتٍ حنون وابتسامةٍ عريضةٍ أجابها.
قالت خديجة بهدوء: انتظر كي أطفئ النار تحت الطعام وأعود إليك.
عادت إلى المطبخ، أطفأت النار وتمتمت مع نفسها؛ يبدو أنه فقد عقله، هذا ما كان ينقصنا.
رجعت إليه مسرعة الخطى تجرّ قدميها وتهزّ الأرض هزّاً، سألته بهدوءٍ ممزوجٍ بلهاث؛ ماذا قلت؟
- انتهت الحرب.
لمستْ جبينه بقفا كفها فوجدت حرارته طبيعية، التفتت إلى التلفاز وقرأت الخبر، أصدرت زغرودةً طويلةً ثم صمتت.
جلست على السرير إلى جانب زوجها وشخَصَ كلاهما بعينيه نحو التلفاز، وارتسمت ابتسامتان عريضتان على وجهيهما، ساد الصمت بضع دقائق، كسره الزوج بأن طلب منها أن تنزل إلى قبو المنزل وتحضر النبيذ المعتق الذي خبأه منذ سنواتٍ كي يحتفل بهذه المناسبة، لكنها نظرت إليه باستغرابٍ وكانت شفتها السفلى قد تدلّت، وبقيت تنظر إليه هكذا حتى هزّها من كتفها، فقالت: لكنك مريض وبالكاد تستطيع أن تشرب الماء، فكيف ستشرب النبيذ؟
ابتسم مكشراً عن فمٍ تساقطت جلّ أسنانه، وصرخ بها: قومي بسرعة وافعلي ما طلبته منكِ قبل أن أحطم عظامكِ، فأنا أشعر بقوةٍ عظيمةٍ تسري في جسدي.
ثم أخذ يزأر كالوحش.
وكان أيهم يقود سيارة الأجرة التي يعمل عليها حين أُعلن في المذياع عن انتهاء الحرب، فأخذ يصرخ ويضغط زمور السيارة ويقود بسرعةٍ جنونية، ويخرج يده من النافذة، يلوّح بها ثم يخرج رأسه ويصرخ، ثم يدوس فرامل السيارة بشكلٍ مفاجئ ثم يعود ليدوس البنزين، وكانت الفتاة التي تركب في المقعد الخلفي تتمايل طرباً على أنغام الأغاني الحماسية التي يبثها المذياع، التفت أيهم إليها وسألها إن كانت تمانع من الاحتفال معه وقضاء بقية النهار برفقته، فلمعت عيناها واحمرت وجنتاها ووافقت بخفَر!
وكان بعض الصبية يلعبون بالكرة حين مرّت سيارة أيهم بالقرب منهم، فتوقفوا عن اللعب ونظروا إليه نظرة طفلٍ واحد، ثم التفتت رؤوسهم التفاتةً واحدة حتى اختفى عن أنظارهم، عندها قفزوا جميعاً وضربوا أكفهم بأكفّ بعض وصرخوا صرخةً واحدة ثم واصلوا اللعب بالكرة.
وكان مركب الصيد في غمار البحر عندما رنّ هاتف أحد الصيادين، وحين ردّ على الاتصال قفز من الفرح وأخذ يصرخ بأعلى صوته؛ "انتهت الحرب" وجعل رفاقُه في المركب يصرخون ويقفزون حتى مال المركب وكاد ينقلب، وكانت الشبكة ممتلئةً عن آخرها بالصيد الوفير، وكان الصيادون على وشك سحبها إلى المركب، لكنهم أفلتوها داخل الماء وانطلقت الأسماك باحثةً عن الحياة، بينما عاد الصيادون بمركبهم إلى الشاطئ واحتفلوا بالرقص والغناء.
وكان المشفى يغصّ بالمرضى والجرحى، وكان الطبيب يضع الجبيرة على يد شابٍ مصابٍ بكسرٍ حين رنّ هاتفه، مسح يديه الملوثتين بالجبس بثوبه الأبيض، وفتح الهاتف، كانت المتصلة زوجته، تخبره بأن الحرب انتهت، أغلق الهاتف بسرعة وفتح الكاميرا وأخذ صورةً تذكارية مع المريض، ثم أمسكه من يده السليمة ورفعها عالياً ثم راحا يقفزان ويصرخان، جاءت الممرضات من بقية الأقسام، واستيقظ المرضى على أثر الضجيج وخرجوا من غرفهم يحملون أكياس السيروم بأيديهم وعقدوا حلقات الدبكة، وأخذ الجميع صوراً تذكارية. وفي غرفة المخاض قفز الطفل من بطن أمه بعد مخاضٍ عسير، حملته الممرضة من أسفل قدميه، ورأسه إلى الأسفل وأخذت تصفعه على مؤخرته وتزغرد، والمحتفلون يرقصون ويتناوبون بالتقاط الصور معه.
وكان جنديٌّ نحيلٌ أسمر في الجبهة يحتمي داخل خندقٍ، معانقاً بندقيته واضعاً إصبعه على الزناد، وعينه نحو العدو، وكان حذاؤه مهترئاً يتسرّبُ التراب من خلاله إلى أصابعه، فيشعر بحريق الجلد المنسلخ عن اللحم، ويحرك أصابع قدميه رويداً رويداً كي يخفف من الألم، من دون أن يتحرك من مكانه أو يرفّ جفنه، ثم يأخذ شهيقاً ويطلق زفرةً طويلةً ويحلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق