⏪⏪ مخاطبة النفس البشرية و حلم التغيير بين الواقعي و المتخيل .. صرخة حروف مدوية في واقع يستسلم فيه الخير لقوى الشر،
لتبدو الشخوص معراة من أقنعتها، على مسرح وجود بطلته الذات المتلبسة بنوازعها و أخطائها.. تلك هي نصوص هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا للكاتب رائد الحسْن.. نصوص لاهثة، هاجسها اقتناص اللحظة و تصوير المشهد في عمقه النفسي الداخلي و تجلياته الموضوعية . القصة القصيرة جدًا غايتها اقتطاف ( الأثر الكلي ) الذي قال به ت.س. إليوت .. و هي _ في طلبها الحثيث للقبض على الجوهر الكامن في الأشياء _ قد خطت نحو ( الروحية ) خطوات واسعة حثيثة , و ابتعدت بذلك عن تلك الروابط القديمة التي كانت تربطها _ في الذهنية العامة _ بالقصة القصيرة .. و هي لهذا تخاطب مستوى ذهنيًا جديدًا لا يقف عند حدود ألحكي العادية في رحلتها تلك للاكتشاف _ فكرًا و روحًا و تأملًا، أو في ذلك النبش في عمق الحياة العادية و زواياها المنسية التي لا نأبه لها غالبا و نمر عليها مسرعين_ لترسم رؤاها في فضاءات و جماليات و إيقاع داخلي خاص. في القصة القصيرة جدا، هناك توتر بين لحظة البدء و لحظة انتهاء النص .. توتر نغمي هامس و شعري ( نغمة الختام ) أو ما يُعرف بالقفلة. و هي ترسم ذلك [ التناغم المشهدي] الذي ينادي التأمل بعنف و شدة ( فعل قصصي .. حالة سردية بالغة الخصوصية ..تفجر قصصي تنويري بمعنى اليقظة و الاكتشاف اللحظي ) القصة القصيرة جدا في جوهرها العميق تأمل مستفز، يفترض وعيًا يمكنه _ على مستوى الكتابة و التلقي _ اختزال الكون في قبضة يد، و يمكن متابعته في نقطة ذرية بالغة الصغر. مشهديتها تقتضى أن تكون خاطفة كالبرق، لأن التفاصيل قد تعيق انطلاقات الخيال بغية أن تلامس بعمق التجريد الموسيقي الرحب المرتبط بعدم التحديد .. هذا ما يضعنا أمام نمط سردي جديد تمامًا يتطلب مسعًى مغايرًا و رؤية أخرى، دون أن ننفي حضورا ما ل[ روح ] القصة فيها التي يتم توظيفها في القصة القصيرة جدا بشكل آخر تماما يتمظهر ك: هاجس و سؤال و خفقة
و رؤية و كشف صوفي جليل أو طرقة على باب الروح ما يجرد القصصية من النمطية، و يضفي على الحدث [ الحدوتة ] بمعناها القديم كما فى الحكايات القديمة ، معنى جديدا مخالفا. فالقصة القصيرة جدًا تخاطب الوعي اقتحامًا، و تتحرك لإثارته بشكل صادم يستدعي مستوى معينًا للإدراك، و يحفزه على التأمل مستندة إلى أشكال جديدة مغايرة تمامـًا في طرق الفكرة المطروحة، لعل أهمها توجيه مرآة متعددة الأسطح تبهر انعكاساتها الجنونية الأعين لتحقيق أقنومَيْ ) الدهشة \ و الهاجس ) تبعا لذلك، سيصبح ألحكي [ فكرة ]، و [ ستُعقلن ] الحدوتة و تكون جسرًا و معبرًا إلى شيء أكبر تمامًا من مجرد تعريفها القديم البسيط الشائع. و بسبب طبيعة التكثيف الذي هو خاصيتها الكبرى، ستعني البؤرية _ و الميكروسكوبية _ الدخول إلى الأعماق (أعماق الكهف ) حيث يتبدى المعنى[ الجوهر ] أو المعنى الخالص. و طبيعي أن هذه التركيبة تستدعي قارئا يُعنى بالمرايا و الانعكاسات، قارئًا يترك حين يدخل هذا الفضاء القصصي البؤري المدهش أشكالَ المقاييس التي تفرضها الرؤية بالعينين العاديتين ( فقط )، و نمط القراءة الذي عهده و مارسه طويلا، و لم يصل بعد لجرأة إلقاء نفسه بشجاعة في غياهب توق التبصر في عمق البحر المتلاطم، و طرق أبواب إبستمولوجية و روحية جديدة عبر مرآة تستقطر و تجمع و تنسق هذه الإشعاعات و الانعكاسات القادمة التي يضاعفها فتتبدى الخمسون ألف سماء، لا السماء الواحدة المعروفة.
مراسيل متيم .. وإغراء العتبة...... عنوان شاعري يوحي بعالم رومانسي تحياه الذات عشقًا و توقًا إلى ذات أخرى، عبر مراسيل حب و حنين، مراسيل متيم سرعان ما نكتشف و نحن مأخوذون بجاذبية العنوان أنها رسائل إلى المفتَقد الغائب، الذي لن يكون بالضرورة الإنسان الحبيب، بل قد يكون المرسَلُ إليه القيمَ ذاتَها: الحب، الوفاء، التضحية ، الاعتراف، العدالة ،الإيثار، الصدق ... هكذا نمضي في استكشاف عوالم مجموعة قصصية قصيرة جدا تساءل الذات و المجتمع، في واقع يسوده الظلم و الشر، واقع تكاد تستسلم فيه القيم المثلى لنقائضها، إلى درجة أن جدلية الخير و الشر ، تكاد تتوقف عند لحظة سكون و موات لكل ما هو خير في الإنسان، والذي لن يكون إلا موتا للإنسان ذاته. فأي مغامرة هي بثُّ مراسيلَ لمرسَل إليه، هو ذاته المرسِل؟ !!! متاهة توقِ متيَّم بعبق الحيرة، لا تخلو من إرهاصات وعي قلق باللا معنى و العبث، التقطها الكاتب من الحياة، من الواقع لتكون مشاهد النهايات، حيث الأمل مجرد أمنيات وردية، مراسيل لمتيّم ينتظر و حيث الحياة كوميديا، في وعي متسائل شقي. ربما تكون تلك الإرهاصات الوجودية في بعض قصص المجموعة وراء نهج الكاتب رائد الحسْن أسلوبًا ساخرًا في معالجته لقضايا مجتمعية واقعية، كان الغرض منها إبراز المفارقة التي تسم مواقف شخصيات مجتمعية، لكنها السخرية المرة التي ما إن ترسم البسمة على شفاهنا، حتى تلقي بنا في دائرة البؤس و القلق و المعاناة .. ففي نص " نصر " نقف أمام مشهد قصصي ساخر، بطلته الذات المتعطشة للصراع و العدوان و الشر، نقطة تقاطع شخصيتين ينهاران معا بعد عراك، لكن التحدي و الهوس بالنصر يرغم أحد المتعاركين على النهوض بمشقة و نزع يده النازفة من تحت حذاء غريمه مشيرا إليه بالوسطى، و بابتسامة تكشف عن أسنان مكسورة، عن نصرٍ وهمي.. ابتسامة لها أكثر من دلالة في رسم الذات المنهزمة العليلة في صراعات مفتعلة المنتصر فيها منهزم. مشهد لا تخفى أبعاده العبثية و المأساوية رغم طابعه الساخر.
هذا المشهد الكاريكاتوري يتخذ في أكثر من قصة طابعا سرديا موضوعيا عاكسًا مفارقات الواقع اجتماعيا و سياسيا و ثقافيا. ففي نص " أمان " يحارب الوالي الجريمة بالجريمة، ليتحقق الأمان على يد كبير المجرمين الذي نصبه أمينا للشرطة. مفارقة بطعم المرارة تكشف عن واقع يعشِّش فيه الظلم و تتناسل الجرائم بين حاكم و محكوم، كما تكشف عن منظومة حكم فاسدة تجنِّد كل ما في السياسة من مكر و دهاء من أجل ترسيخ الاستبداد و الهيمنة. هكذا تتوالى النصوص عاكسةً لحظات متتابعة محتدمة سريعة و لاهثة، لحظات متوترة جسدها السرد السريع لتكون التقاطات تتسم بالامتلاء و الحركة، و هو ما يسمى في المونتاج بالإيقاع السريع اللاهث المتوتر. يتكئ السرد في النصوص على معادلتي الوهم والخداع و تباين الرؤى من جهة، و الحقيقة في نصاعتها من جهة أخرى، و يضع الشخوص بين قطبي الرحى، عند لحظات القلق أو اختيار احد الحلين عند نقاط الافتراق و التحول. و لعل هاجس البحث عن القيم المفتَقدة، عن المعنى، هو الذي يقف وراء نهج الكاتب هذه البنية السردية المشهدية الخاطفة التي حاولت النفاذ داخل الشخصيات لتعري ذاتًا تترنح على حبل نوازع الشر وغواية السلطة، راسمةً لوحات حياتية قاتمة تتراوح فيها العلاقات الإنسانية بين الغدر و الخيانة و الظلم كقيم منحطة تسم السياسي و الاجتماعي ليكون الإنسان بالنهاية هو المدان، بينما تُطلّ القيم المثلى بخجل من ثنايا بعض النصوص كالوفاء الذي يصارع قوى الشر ليفلِت بنفس من حياة. و لا أروع من نص ( حل ) الذي جسد ظلم الحاكم في أبشع صوره بسرد مشهدي لخص حكاية أمة في مأساة واقع يرزح تحت وحشية قاداته، واقع كان فيه طفل متسول القربانَ الشاهدَ على ظلم سياسي اجتماعي تتوارى دوافعه في أغوار لا وعي سحيق. يشق الطفل حذاءً أصغرَ منه تُصدِّقَ به عليه ليجد بعض راحة، لكن الحاكم و بإيعاز من حاشيته يأمر بقطع أصابعه و قطع سيل من فرحة شعر بها الصغير عند مروره. فأي دوافع لاواعية تكمن وراء فعل بشع ملطّخ بالدم لنظام سياسي ظالم عليل!!! ( حل ) "تصدقوا عليه بحذاء أصغر من قدمه، فشقه من الأمام.. فرح لما مر به الحاكم الجديد و هو جالس يستعطي.. بعد أن قدّم مستشاروه النصيحة، أمر بقطع أصابعه." مشهد صُوِّر بعدسة ذكية تنعي إرادة التغيير و الثورة إذ تنعي الطفل المتسول الذي تُجتثُ أصابع قدمه ليوأد الأمل عند مشهد مأساوي صارخ، لقدم تٌبتَر لتكون على مقاس حذاء صغير، فلا تخدش نظر الحاكم و حاشيته ، و لا تقوى على الركض أيضا ثورة عليه.
ومن الاجتماعي إلى النفسي، يأخذنا السرد الساخر إلى العوالم الداخلية للشخصية، معرِّيًا الذات ، كاشفًا عما قد يسم الشخصية من سادية تتوارى دوافعها في غياهب اللاوعي. ففي نص ( لعبة قذرة ) يتم إغراء شخصين بممارسة لعبة شد الحبل طويلا إلى أن يتعبا، و باقتراب أحدهما من خط الوسط يرخي الخصم له الحبل فيسقط، ليختلط صوت دحرجته بقهقهة ذلك المتربع على كرسيه، ما يوحي بمجتمع طبقي يُستَغلُّ أفراده البسطاء لممارسة أدوار تثير الشفقة على مسرح تتداخل فيه الكوميديا بالمأساة، يختنق فيه أنين اللاعبين بقهقهات المتفرج السادية. صورة يمكن النظر إليها كعلامة على فساد سياسي هو في جوهره فساد أخلاقي و خواء روحي. خلف هذه الملامح الاجتماعية و السياسية للشخصيات ، بأبعادها النفسية اللاواعية المرعبة، و بما تنطوي عليه من مفارقات تجسد فساد الواقع، تقبع ذات إنسانية تعاني مأساتها الوجودية، و تدرك هشاشتها في وجود زائف وهمي. في نص (وهم ) يتوسل البطل إلى الشمس كي تشرق لينعتق من ظلام دامس يغلّف حياته، فيبزغ الفجر و يفرح متبجحا بظله الممتد طويلا، لكن سرعان ما تدركه الظهيرة ليرى الظل يتقزم فيدرك حقيقته.. مشهد كوني للذات و هي تعيش وهم التحقق في وجود يتجاوزها، وجود تفضل فيه العتمة على ضوء الشمس، و الوهم على الحقيقة. إنه مشهد النهايات، إلماحة فلسفية تومض في العقل و الروح بأسئلة الذات و الكون الكبرى.
وهم.. "كان في ظلام دامس.. توسل إلى الشمس أن تشرق، فبزغ الفجر. بعد ساعات رأى ظله فأخذ يتبجح.. في وقت الظهيرة أدرك الحقيقة." لكن إرادة الحياة تأبى إلا أن يذوق الإنسان مرارة الوجود، فها هو الجنين في نص (انبثاق) يشق بطن أمه المقيّدة، و يطلق صرخته أمام دهشة من حالوا دون إطلالته على الدنيا من رحمها. مشهد أسقطهم أرضا دلالة على ضآلة إرادة المجتمع العرفية القبيلة قياسا إلى إرادة الحياة لِجنينٍ يكسر القيود متمرّدًا، ينبثق من جوف أمه، يخترق دائرة الحلال و الحرام المختَلَقة، قاصفًا الوعي و اللاوعي لمجتمع ما فتئ يستهويه الوأد داخل الرحم كما استهواه خارجه في جاهليته الأولى، فأهال التراب على الأنثى منذ صرختها الأولى. مشهد سردي لاهث يعري مجتمعا ذكوريا لا زال يقتات على ماضيه الجاهلي بوعي و بلاوعي معا. لكن في الوقت ذاته ينسج مفارقة ذات ملمح وجودي، فالجنين يتحرر من قبضة الموت قبل الولادة ليخوض رحلة الوجود القاسية.
بين سخرية حد البكاء، و رصد للعبث الوجودي، و تصوير للظلم السياسي و الاجتماعي، توالت نصوص هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا، هاجسها الأكبر كشف الذات أمام ذاتها، مواجهتها بأخطائها و انزلاقاتها، لتنكشف لنا ملامح العنوان الشاعري المراوغ : مراسيل متيم .. هذه العتبة التي لم نسلم من إغوائها فمضينا نبحث عن تجليات إنسانية رومانسية لمراسيل حب بين رجل و امرأة، ثم نتبين أنها رسائل تنتظر بلا ملامح، بلا أمل، فالأنثى ضحية عقلية ذكورية شديدة الغرابة، عقلية تحرم على الزوجة أن تكون أنثى في علاقتها مع زوجها، لأن ذلك حرام ، (نص شخصيتان)، ثم و بذات العقلية تحاكمها لو أخطأت باسم العار( نص انبثاق).. و عند نافذة الزمن، تقبع الأنثى تنتظر مراسيل متيم قد لا تصل أبدا، تحلم برباط قدسي يجسد قيمة الحب و الوفاء في أسمى تجلياتهما، لكن رباطا كهذا لن يتحقق إلا بموتهما معا( نص: وفاء)، فالحبيب يتبع حبيبته إلى العالم الآخر، حيث الحياة خارج دوائر الشر و الظلم، و حيث مراسيل متيم تصل أخيرا إلى مرسَل إليه ينتظر.
*رجاء البقالي -المغرب
*أحمد طنطاوي - مصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة كتابي القصصي الورقي الثالث - مراسيل متيّم - يحتوي على 120 قصة قصيرة جدًا، إصدار دار ديوان العرب للنشر والتوزيع - مصر - بور سعيد سنة 2019
لتبدو الشخوص معراة من أقنعتها، على مسرح وجود بطلته الذات المتلبسة بنوازعها و أخطائها.. تلك هي نصوص هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا للكاتب رائد الحسْن.. نصوص لاهثة، هاجسها اقتناص اللحظة و تصوير المشهد في عمقه النفسي الداخلي و تجلياته الموضوعية . القصة القصيرة جدًا غايتها اقتطاف ( الأثر الكلي ) الذي قال به ت.س. إليوت .. و هي _ في طلبها الحثيث للقبض على الجوهر الكامن في الأشياء _ قد خطت نحو ( الروحية ) خطوات واسعة حثيثة , و ابتعدت بذلك عن تلك الروابط القديمة التي كانت تربطها _ في الذهنية العامة _ بالقصة القصيرة .. و هي لهذا تخاطب مستوى ذهنيًا جديدًا لا يقف عند حدود ألحكي العادية في رحلتها تلك للاكتشاف _ فكرًا و روحًا و تأملًا، أو في ذلك النبش في عمق الحياة العادية و زواياها المنسية التي لا نأبه لها غالبا و نمر عليها مسرعين_ لترسم رؤاها في فضاءات و جماليات و إيقاع داخلي خاص. في القصة القصيرة جدا، هناك توتر بين لحظة البدء و لحظة انتهاء النص .. توتر نغمي هامس و شعري ( نغمة الختام ) أو ما يُعرف بالقفلة. و هي ترسم ذلك [ التناغم المشهدي] الذي ينادي التأمل بعنف و شدة ( فعل قصصي .. حالة سردية بالغة الخصوصية ..تفجر قصصي تنويري بمعنى اليقظة و الاكتشاف اللحظي ) القصة القصيرة جدا في جوهرها العميق تأمل مستفز، يفترض وعيًا يمكنه _ على مستوى الكتابة و التلقي _ اختزال الكون في قبضة يد، و يمكن متابعته في نقطة ذرية بالغة الصغر. مشهديتها تقتضى أن تكون خاطفة كالبرق، لأن التفاصيل قد تعيق انطلاقات الخيال بغية أن تلامس بعمق التجريد الموسيقي الرحب المرتبط بعدم التحديد .. هذا ما يضعنا أمام نمط سردي جديد تمامًا يتطلب مسعًى مغايرًا و رؤية أخرى، دون أن ننفي حضورا ما ل[ روح ] القصة فيها التي يتم توظيفها في القصة القصيرة جدا بشكل آخر تماما يتمظهر ك: هاجس و سؤال و خفقة
و رؤية و كشف صوفي جليل أو طرقة على باب الروح ما يجرد القصصية من النمطية، و يضفي على الحدث [ الحدوتة ] بمعناها القديم كما فى الحكايات القديمة ، معنى جديدا مخالفا. فالقصة القصيرة جدًا تخاطب الوعي اقتحامًا، و تتحرك لإثارته بشكل صادم يستدعي مستوى معينًا للإدراك، و يحفزه على التأمل مستندة إلى أشكال جديدة مغايرة تمامـًا في طرق الفكرة المطروحة، لعل أهمها توجيه مرآة متعددة الأسطح تبهر انعكاساتها الجنونية الأعين لتحقيق أقنومَيْ ) الدهشة \ و الهاجس ) تبعا لذلك، سيصبح ألحكي [ فكرة ]، و [ ستُعقلن ] الحدوتة و تكون جسرًا و معبرًا إلى شيء أكبر تمامًا من مجرد تعريفها القديم البسيط الشائع. و بسبب طبيعة التكثيف الذي هو خاصيتها الكبرى، ستعني البؤرية _ و الميكروسكوبية _ الدخول إلى الأعماق (أعماق الكهف ) حيث يتبدى المعنى[ الجوهر ] أو المعنى الخالص. و طبيعي أن هذه التركيبة تستدعي قارئا يُعنى بالمرايا و الانعكاسات، قارئًا يترك حين يدخل هذا الفضاء القصصي البؤري المدهش أشكالَ المقاييس التي تفرضها الرؤية بالعينين العاديتين ( فقط )، و نمط القراءة الذي عهده و مارسه طويلا، و لم يصل بعد لجرأة إلقاء نفسه بشجاعة في غياهب توق التبصر في عمق البحر المتلاطم، و طرق أبواب إبستمولوجية و روحية جديدة عبر مرآة تستقطر و تجمع و تنسق هذه الإشعاعات و الانعكاسات القادمة التي يضاعفها فتتبدى الخمسون ألف سماء، لا السماء الواحدة المعروفة.
مراسيل متيم .. وإغراء العتبة...... عنوان شاعري يوحي بعالم رومانسي تحياه الذات عشقًا و توقًا إلى ذات أخرى، عبر مراسيل حب و حنين، مراسيل متيم سرعان ما نكتشف و نحن مأخوذون بجاذبية العنوان أنها رسائل إلى المفتَقد الغائب، الذي لن يكون بالضرورة الإنسان الحبيب، بل قد يكون المرسَلُ إليه القيمَ ذاتَها: الحب، الوفاء، التضحية ، الاعتراف، العدالة ،الإيثار، الصدق ... هكذا نمضي في استكشاف عوالم مجموعة قصصية قصيرة جدا تساءل الذات و المجتمع، في واقع يسوده الظلم و الشر، واقع تكاد تستسلم فيه القيم المثلى لنقائضها، إلى درجة أن جدلية الخير و الشر ، تكاد تتوقف عند لحظة سكون و موات لكل ما هو خير في الإنسان، والذي لن يكون إلا موتا للإنسان ذاته. فأي مغامرة هي بثُّ مراسيلَ لمرسَل إليه، هو ذاته المرسِل؟ !!! متاهة توقِ متيَّم بعبق الحيرة، لا تخلو من إرهاصات وعي قلق باللا معنى و العبث، التقطها الكاتب من الحياة، من الواقع لتكون مشاهد النهايات، حيث الأمل مجرد أمنيات وردية، مراسيل لمتيّم ينتظر و حيث الحياة كوميديا، في وعي متسائل شقي. ربما تكون تلك الإرهاصات الوجودية في بعض قصص المجموعة وراء نهج الكاتب رائد الحسْن أسلوبًا ساخرًا في معالجته لقضايا مجتمعية واقعية، كان الغرض منها إبراز المفارقة التي تسم مواقف شخصيات مجتمعية، لكنها السخرية المرة التي ما إن ترسم البسمة على شفاهنا، حتى تلقي بنا في دائرة البؤس و القلق و المعاناة .. ففي نص " نصر " نقف أمام مشهد قصصي ساخر، بطلته الذات المتعطشة للصراع و العدوان و الشر، نقطة تقاطع شخصيتين ينهاران معا بعد عراك، لكن التحدي و الهوس بالنصر يرغم أحد المتعاركين على النهوض بمشقة و نزع يده النازفة من تحت حذاء غريمه مشيرا إليه بالوسطى، و بابتسامة تكشف عن أسنان مكسورة، عن نصرٍ وهمي.. ابتسامة لها أكثر من دلالة في رسم الذات المنهزمة العليلة في صراعات مفتعلة المنتصر فيها منهزم. مشهد لا تخفى أبعاده العبثية و المأساوية رغم طابعه الساخر.
هذا المشهد الكاريكاتوري يتخذ في أكثر من قصة طابعا سرديا موضوعيا عاكسًا مفارقات الواقع اجتماعيا و سياسيا و ثقافيا. ففي نص " أمان " يحارب الوالي الجريمة بالجريمة، ليتحقق الأمان على يد كبير المجرمين الذي نصبه أمينا للشرطة. مفارقة بطعم المرارة تكشف عن واقع يعشِّش فيه الظلم و تتناسل الجرائم بين حاكم و محكوم، كما تكشف عن منظومة حكم فاسدة تجنِّد كل ما في السياسة من مكر و دهاء من أجل ترسيخ الاستبداد و الهيمنة. هكذا تتوالى النصوص عاكسةً لحظات متتابعة محتدمة سريعة و لاهثة، لحظات متوترة جسدها السرد السريع لتكون التقاطات تتسم بالامتلاء و الحركة، و هو ما يسمى في المونتاج بالإيقاع السريع اللاهث المتوتر. يتكئ السرد في النصوص على معادلتي الوهم والخداع و تباين الرؤى من جهة، و الحقيقة في نصاعتها من جهة أخرى، و يضع الشخوص بين قطبي الرحى، عند لحظات القلق أو اختيار احد الحلين عند نقاط الافتراق و التحول. و لعل هاجس البحث عن القيم المفتَقدة، عن المعنى، هو الذي يقف وراء نهج الكاتب هذه البنية السردية المشهدية الخاطفة التي حاولت النفاذ داخل الشخصيات لتعري ذاتًا تترنح على حبل نوازع الشر وغواية السلطة، راسمةً لوحات حياتية قاتمة تتراوح فيها العلاقات الإنسانية بين الغدر و الخيانة و الظلم كقيم منحطة تسم السياسي و الاجتماعي ليكون الإنسان بالنهاية هو المدان، بينما تُطلّ القيم المثلى بخجل من ثنايا بعض النصوص كالوفاء الذي يصارع قوى الشر ليفلِت بنفس من حياة. و لا أروع من نص ( حل ) الذي جسد ظلم الحاكم في أبشع صوره بسرد مشهدي لخص حكاية أمة في مأساة واقع يرزح تحت وحشية قاداته، واقع كان فيه طفل متسول القربانَ الشاهدَ على ظلم سياسي اجتماعي تتوارى دوافعه في أغوار لا وعي سحيق. يشق الطفل حذاءً أصغرَ منه تُصدِّقَ به عليه ليجد بعض راحة، لكن الحاكم و بإيعاز من حاشيته يأمر بقطع أصابعه و قطع سيل من فرحة شعر بها الصغير عند مروره. فأي دوافع لاواعية تكمن وراء فعل بشع ملطّخ بالدم لنظام سياسي ظالم عليل!!! ( حل ) "تصدقوا عليه بحذاء أصغر من قدمه، فشقه من الأمام.. فرح لما مر به الحاكم الجديد و هو جالس يستعطي.. بعد أن قدّم مستشاروه النصيحة، أمر بقطع أصابعه." مشهد صُوِّر بعدسة ذكية تنعي إرادة التغيير و الثورة إذ تنعي الطفل المتسول الذي تُجتثُ أصابع قدمه ليوأد الأمل عند مشهد مأساوي صارخ، لقدم تٌبتَر لتكون على مقاس حذاء صغير، فلا تخدش نظر الحاكم و حاشيته ، و لا تقوى على الركض أيضا ثورة عليه.
ومن الاجتماعي إلى النفسي، يأخذنا السرد الساخر إلى العوالم الداخلية للشخصية، معرِّيًا الذات ، كاشفًا عما قد يسم الشخصية من سادية تتوارى دوافعها في غياهب اللاوعي. ففي نص ( لعبة قذرة ) يتم إغراء شخصين بممارسة لعبة شد الحبل طويلا إلى أن يتعبا، و باقتراب أحدهما من خط الوسط يرخي الخصم له الحبل فيسقط، ليختلط صوت دحرجته بقهقهة ذلك المتربع على كرسيه، ما يوحي بمجتمع طبقي يُستَغلُّ أفراده البسطاء لممارسة أدوار تثير الشفقة على مسرح تتداخل فيه الكوميديا بالمأساة، يختنق فيه أنين اللاعبين بقهقهات المتفرج السادية. صورة يمكن النظر إليها كعلامة على فساد سياسي هو في جوهره فساد أخلاقي و خواء روحي. خلف هذه الملامح الاجتماعية و السياسية للشخصيات ، بأبعادها النفسية اللاواعية المرعبة، و بما تنطوي عليه من مفارقات تجسد فساد الواقع، تقبع ذات إنسانية تعاني مأساتها الوجودية، و تدرك هشاشتها في وجود زائف وهمي. في نص (وهم ) يتوسل البطل إلى الشمس كي تشرق لينعتق من ظلام دامس يغلّف حياته، فيبزغ الفجر و يفرح متبجحا بظله الممتد طويلا، لكن سرعان ما تدركه الظهيرة ليرى الظل يتقزم فيدرك حقيقته.. مشهد كوني للذات و هي تعيش وهم التحقق في وجود يتجاوزها، وجود تفضل فيه العتمة على ضوء الشمس، و الوهم على الحقيقة. إنه مشهد النهايات، إلماحة فلسفية تومض في العقل و الروح بأسئلة الذات و الكون الكبرى.
وهم.. "كان في ظلام دامس.. توسل إلى الشمس أن تشرق، فبزغ الفجر. بعد ساعات رأى ظله فأخذ يتبجح.. في وقت الظهيرة أدرك الحقيقة." لكن إرادة الحياة تأبى إلا أن يذوق الإنسان مرارة الوجود، فها هو الجنين في نص (انبثاق) يشق بطن أمه المقيّدة، و يطلق صرخته أمام دهشة من حالوا دون إطلالته على الدنيا من رحمها. مشهد أسقطهم أرضا دلالة على ضآلة إرادة المجتمع العرفية القبيلة قياسا إلى إرادة الحياة لِجنينٍ يكسر القيود متمرّدًا، ينبثق من جوف أمه، يخترق دائرة الحلال و الحرام المختَلَقة، قاصفًا الوعي و اللاوعي لمجتمع ما فتئ يستهويه الوأد داخل الرحم كما استهواه خارجه في جاهليته الأولى، فأهال التراب على الأنثى منذ صرختها الأولى. مشهد سردي لاهث يعري مجتمعا ذكوريا لا زال يقتات على ماضيه الجاهلي بوعي و بلاوعي معا. لكن في الوقت ذاته ينسج مفارقة ذات ملمح وجودي، فالجنين يتحرر من قبضة الموت قبل الولادة ليخوض رحلة الوجود القاسية.
بين سخرية حد البكاء، و رصد للعبث الوجودي، و تصوير للظلم السياسي و الاجتماعي، توالت نصوص هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا، هاجسها الأكبر كشف الذات أمام ذاتها، مواجهتها بأخطائها و انزلاقاتها، لتنكشف لنا ملامح العنوان الشاعري المراوغ : مراسيل متيم .. هذه العتبة التي لم نسلم من إغوائها فمضينا نبحث عن تجليات إنسانية رومانسية لمراسيل حب بين رجل و امرأة، ثم نتبين أنها رسائل تنتظر بلا ملامح، بلا أمل، فالأنثى ضحية عقلية ذكورية شديدة الغرابة، عقلية تحرم على الزوجة أن تكون أنثى في علاقتها مع زوجها، لأن ذلك حرام ، (نص شخصيتان)، ثم و بذات العقلية تحاكمها لو أخطأت باسم العار( نص انبثاق).. و عند نافذة الزمن، تقبع الأنثى تنتظر مراسيل متيم قد لا تصل أبدا، تحلم برباط قدسي يجسد قيمة الحب و الوفاء في أسمى تجلياتهما، لكن رباطا كهذا لن يتحقق إلا بموتهما معا( نص: وفاء)، فالحبيب يتبع حبيبته إلى العالم الآخر، حيث الحياة خارج دوائر الشر و الظلم، و حيث مراسيل متيم تصل أخيرا إلى مرسَل إليه ينتظر.
*رجاء البقالي -المغرب
*أحمد طنطاوي - مصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة كتابي القصصي الورقي الثالث - مراسيل متيّم - يحتوي على 120 قصة قصيرة جدًا، إصدار دار ديوان العرب للنشر والتوزيع - مصر - بور سعيد سنة 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق