الفصل الأول؛
( حكاية قديمة, في ورقة مطوية ) ..
حي الضاهر.. القاهرة.. ديسمبر 1980م..
ــ سأفتقدكَ للغاية يا بُني..
قالها الرجل الطيب الأشيب "جابر عوَّاد", في صوتٍ يغالب لوعة فراقه لذلك الجار الشاب المُسالم " مصطفى درويش "؛ أمام دَرج البيت القديم الذي جمعتهما جنباته لثمانية عشر عامًا تقريبًا, قُبيل فجر الخامس من شهر ديسمبر..
ــ لا تَقُل ذلك يا عم "جابر".. أنتَ تعرف عنواني الجديد جيدًا, و قد وعدتني بالزيارة كلما سنحت لك الفرصة..
ثم أضاف "مصطفى", الذي أوشكَ على إتمام عامه السابع, و العشرين, في شفقة:
ــ ثم أنني لن أفارقك, و ستراني بالعمل كل يوم.. أنسيتَ أيها العجوز أننا نعمل بالمكان ذاته ؟!
شدَّ "جابر" على يدِ "مصطفى" في أبوةٍ بادية, فقال "مصطفى", و هو يسحب يده من بين يدي الرجل العطوف, و يهم بمغادرة البيت, في قفزاتٍ سريعة يجتاز بها الدَّرج:
ــ ألقاكَ صباحًا بإذن الله.. و لن أتناول الفطور قبل أن تأتي للعمل, و نتشارك الطعام ككل يوم ..
اغرورقتْ عينا الرجل بالدمع, و هو يلوح للفراغ:
ــ مع السلامة يا بُني..
ثم تمتمَ في حنق:
ــ مِنْكِ لله يا حداءة, يا أم الحدائتين.. أنتِ السبب !
هبطَ "مصطفى" مسرعًا, و في الوقت ذاته, كان يغادر البيت, حاملًا بعض ماتبقى من ملابسه, و كُتبه الجامعية, بأقدامٍ بالكاد كانت تُصدر صوتًا خابيًا, كان يخشى أن تراه " فهيمة", التي تقطن بالطابق الأرضي من البيت,, أو إحدى ابنتيها, و إلا فلن يستطيع المغادرة إلا إلى مخفر الشرطة, متهمًا بتهمةٍ مُشينة لم يقترفها يومًا !
أما "جابر", فقد كان يعلم يقينًا, بأنه سيقف وحده, و زوجته الوديعة في وجه المدفع, عندما تعلم السيدة "فهيمة", بأن "مصطفى", قد تركَ لها "الجمل بِما حمل", و اكتفى بأخذ ملابسه فقط, عندما قرر الرحيل عن مسكنه, الذي ما باتَ ليلةً واحدة خارجه منذ تفتحتْ عيناه على الحياة !
أما "جابر", فقد اعتزمَ اللحاق به, متى شغرتْ شقة صغيرة, بالبناية التي يقطن بها ابنه الأول "بهجت", أو متى أبلغته ابنته "أحلام" بوجود شقة صغيرة تناسبه, و أمها طريحة الفراش في محيط سُكنى عائلة زوجها..
***
قبل أسبوعين..
فيما هو عائد من صلاة الجمعة, و بينما يدلف إلى بيته بهدوئه المعتاد؛ إذ اعترضت طريقه "وِداد" الابنة الصغرى للسيدة فهيمة, و قد ارتدت ماضاق, و التصق بجسدها النحيل من الثياب, و قد بدا وجهها الأعجف, كما جدار ملطخ, لايوحي لمن يراه بشيء, سوى "النشاز", و عدم التناسق, و خُزعبلية عامل الطلاء الذي مارس عليه أصناف الجنون, و الهلاوس, مُدعيًا الموهبة الخارقة .. و إذ بها تقول له في غنج منفر:
ــ ألن تلين رأسك لي بعد.. أريدكَ, و أنت تَصُدني, و لن أنسى صفقك للباب في وجهي أمس..
أعرضَ عنها, و هو يكظم غيظه, حتى لايتهور, و يسدد لوجهها لكمةً, تُلخص لها كل مايعتمل في نفسه إزاءها, و أمها و أختها..
فتلكم الثلاثة؛ هُنَّ أضلاعُ مثلثِ الجحيم الذي ابتُليَ به, منذ أن سكنَّ بالطابق الأرضي من بيته, على غير إرادته, و إرادة أمه..
انحرفَ مبتعدا, صوب السُّلم, يريد الصعود إلى شقته, حيث تترقب والدته قدومه لتناول الغداء الذي أعدته من أجله, و هى تقاوم آلامها, و أوجاعها, التي قد لايعلم عنها سوى أهونها!
أوشكَ على وضع قدمه على أولى درجات السُّلم, و لكنه تراجع عندما أفزعه جسدٌ سمينٌ, ووجهٌ ممتليء يقطر سماجة, و ذراعان وضعتهما صاحبتهما حول خصرها البرميلي في وضع التحفز للشجار.. وقد راحت ترميه بصوتٍ غليظ:
ــ هل وعدتها بالزواج ؟ أنا الكبرى, و أنا أحق بك من ذات الجسد المصوص الأعجف !
ثم استطردت:
ــ متى ستأتي لتطلب يدي ؟!
في حدةٍ, و بصوتٍ رفيع, يخترق المسامع كهزيم العواصف:
ــ أنا الصغرى.. و قد وعدتني أمي بالزواج منه.. أما أنتِ فلا تصلحين له؛ لأنكِ تكبرينه بعشر سنين على الأقل..
تناوبت الأختان التقريع, و المعايرة, على مرأى, و مسمع الجيران, و المارة العابرين من أمام البيت.. بلا ذرةٍ من حياء..
لن تقل سحنة "نوال" بشاعة, عن سحنة "وداد", فكما لو كانتا قد غاصتا بدِلاء طلاء رخيص, متعدد الألوان من دون رابط يجمعها, وكأنهما قد قررتا أن تفزعانه, كلما غدا, أو راح!
أنسل صاعدًا, فإذ بأمهما "فهيمة", تناديه:
ــ يا ابن درويش الصرَّاف؛ قف عندك..
لم يُعرِها انتباهًا؛ فلم تكن في ناظريه, سوى امرأة سُوقية, لم تعِ أدنى آداب التعامل, و كذلك ابنتيها, اللتين لم يعرف لهم أحدٌ بالحي أبًا, و لم تتلقيا أبسط قواعد التربية, و التهذيب.. ولكن سلاطة ألسنتهنَّ؛ حَدتْ بالمحيطين إلى تجنبهن, حتى لقبهنَّ الجيران؛ بِــ "جِيرة الشُّوم"..
ومن الذي جلبَ تلك الجيرة السيئة سوى "درويش" والده.. مالك البيت !
تعالت أصواتهنَ, حتى سمعتهنَ أمه, فختمت تلاوتها القرآنية, وقالت هامسةً:
ــ اللهم إنِّي لا أسألكَ رد القضاء.. و لكنِّي أسألكَ اللطفَ فيه !
ثم فتحت باب شقتها بالطابق الثاني, و هبطت الدرجْ بتثاقلٍ, ووهن, و هى تقول بأقصى ما استجمعت من قواها:
ــ يا "ست فهيمة"؛ ألم أقل لكِ أنني سأسوي معكِ الأمر ؟!
صاحت "فهيمة" بينما تراقب ابنتيها ماسيحدث:
ــ لقد آنَ الأوان؛ ليعلم ابنكِ كل شيء !
في توسلٍ, وبينما يدخل "جابر" البيت, و يهم بصعود الدَّرَج.. قالتْ " نجاة " والدة "مصطفى":
ــ أرجوكِ يا "سِتْ فهيمة"؛ ليكن حديثنا بيننا وحسب..
امتقع وجه الشاب الوسيم, وهو يتجاوز درجات السلم في سرعة كعادته, متوجهًا صوب أمه:
ــ ما الذي آن الأوان لكي أعلمه يا أمي ؟!
لحقَ به "جابر" جاره العجوز, يرجوه بقوله:
ــ تعال معي يا وَلدي..
ولكن "مصطفى" رفضَ الاستجابة لرجائه, وقال للسيدة "فهيمة":
ــ هاتِ ماعندكِ.. ماذا تريدين أن تخبريني ؟!
بكتْ أمه و قالت في توسلٍ:
ــ يا بُني.. لاشيء..
فقالت "فهيمة" في تحدٍ, و الأنظار مصوبة نحوها مابين ترقبٍ, و قلق, و هى ترفع ذراعها مُشهِرة ورقة ًمطويةً, يميل لونها إلى اللون الأصفر قليلًا:
ــ الحكاية كلها هُنا .. في هذه الورقة ..
لم تنتهِ "فهيمة" من مقولتها؛ حتى سقطتْ "أم مصطفى" مغشي عليها, في الحال.. و تهاوى جسدها متدحرجًا على درجات السُّلم الحجري العتيق !!!
* أسماء الصياد
( حكاية قديمة, في ورقة مطوية ) ..
حي الضاهر.. القاهرة.. ديسمبر 1980م..
ــ سأفتقدكَ للغاية يا بُني..
قالها الرجل الطيب الأشيب "جابر عوَّاد", في صوتٍ يغالب لوعة فراقه لذلك الجار الشاب المُسالم " مصطفى درويش "؛ أمام دَرج البيت القديم الذي جمعتهما جنباته لثمانية عشر عامًا تقريبًا, قُبيل فجر الخامس من شهر ديسمبر..
ــ لا تَقُل ذلك يا عم "جابر".. أنتَ تعرف عنواني الجديد جيدًا, و قد وعدتني بالزيارة كلما سنحت لك الفرصة..
ثم أضاف "مصطفى", الذي أوشكَ على إتمام عامه السابع, و العشرين, في شفقة:
ــ ثم أنني لن أفارقك, و ستراني بالعمل كل يوم.. أنسيتَ أيها العجوز أننا نعمل بالمكان ذاته ؟!
شدَّ "جابر" على يدِ "مصطفى" في أبوةٍ بادية, فقال "مصطفى", و هو يسحب يده من بين يدي الرجل العطوف, و يهم بمغادرة البيت, في قفزاتٍ سريعة يجتاز بها الدَّرج:
ــ ألقاكَ صباحًا بإذن الله.. و لن أتناول الفطور قبل أن تأتي للعمل, و نتشارك الطعام ككل يوم ..
اغرورقتْ عينا الرجل بالدمع, و هو يلوح للفراغ:
ــ مع السلامة يا بُني..
ثم تمتمَ في حنق:
ــ مِنْكِ لله يا حداءة, يا أم الحدائتين.. أنتِ السبب !
هبطَ "مصطفى" مسرعًا, و في الوقت ذاته, كان يغادر البيت, حاملًا بعض ماتبقى من ملابسه, و كُتبه الجامعية, بأقدامٍ بالكاد كانت تُصدر صوتًا خابيًا, كان يخشى أن تراه " فهيمة", التي تقطن بالطابق الأرضي من البيت,, أو إحدى ابنتيها, و إلا فلن يستطيع المغادرة إلا إلى مخفر الشرطة, متهمًا بتهمةٍ مُشينة لم يقترفها يومًا !
أما "جابر", فقد كان يعلم يقينًا, بأنه سيقف وحده, و زوجته الوديعة في وجه المدفع, عندما تعلم السيدة "فهيمة", بأن "مصطفى", قد تركَ لها "الجمل بِما حمل", و اكتفى بأخذ ملابسه فقط, عندما قرر الرحيل عن مسكنه, الذي ما باتَ ليلةً واحدة خارجه منذ تفتحتْ عيناه على الحياة !
أما "جابر", فقد اعتزمَ اللحاق به, متى شغرتْ شقة صغيرة, بالبناية التي يقطن بها ابنه الأول "بهجت", أو متى أبلغته ابنته "أحلام" بوجود شقة صغيرة تناسبه, و أمها طريحة الفراش في محيط سُكنى عائلة زوجها..
***
قبل أسبوعين..
فيما هو عائد من صلاة الجمعة, و بينما يدلف إلى بيته بهدوئه المعتاد؛ إذ اعترضت طريقه "وِداد" الابنة الصغرى للسيدة فهيمة, و قد ارتدت ماضاق, و التصق بجسدها النحيل من الثياب, و قد بدا وجهها الأعجف, كما جدار ملطخ, لايوحي لمن يراه بشيء, سوى "النشاز", و عدم التناسق, و خُزعبلية عامل الطلاء الذي مارس عليه أصناف الجنون, و الهلاوس, مُدعيًا الموهبة الخارقة .. و إذ بها تقول له في غنج منفر:
ــ ألن تلين رأسك لي بعد.. أريدكَ, و أنت تَصُدني, و لن أنسى صفقك للباب في وجهي أمس..
أعرضَ عنها, و هو يكظم غيظه, حتى لايتهور, و يسدد لوجهها لكمةً, تُلخص لها كل مايعتمل في نفسه إزاءها, و أمها و أختها..
فتلكم الثلاثة؛ هُنَّ أضلاعُ مثلثِ الجحيم الذي ابتُليَ به, منذ أن سكنَّ بالطابق الأرضي من بيته, على غير إرادته, و إرادة أمه..
انحرفَ مبتعدا, صوب السُّلم, يريد الصعود إلى شقته, حيث تترقب والدته قدومه لتناول الغداء الذي أعدته من أجله, و هى تقاوم آلامها, و أوجاعها, التي قد لايعلم عنها سوى أهونها!
أوشكَ على وضع قدمه على أولى درجات السُّلم, و لكنه تراجع عندما أفزعه جسدٌ سمينٌ, ووجهٌ ممتليء يقطر سماجة, و ذراعان وضعتهما صاحبتهما حول خصرها البرميلي في وضع التحفز للشجار.. وقد راحت ترميه بصوتٍ غليظ:
ــ هل وعدتها بالزواج ؟ أنا الكبرى, و أنا أحق بك من ذات الجسد المصوص الأعجف !
ثم استطردت:
ــ متى ستأتي لتطلب يدي ؟!
في حدةٍ, و بصوتٍ رفيع, يخترق المسامع كهزيم العواصف:
ــ أنا الصغرى.. و قد وعدتني أمي بالزواج منه.. أما أنتِ فلا تصلحين له؛ لأنكِ تكبرينه بعشر سنين على الأقل..
تناوبت الأختان التقريع, و المعايرة, على مرأى, و مسمع الجيران, و المارة العابرين من أمام البيت.. بلا ذرةٍ من حياء..
لن تقل سحنة "نوال" بشاعة, عن سحنة "وداد", فكما لو كانتا قد غاصتا بدِلاء طلاء رخيص, متعدد الألوان من دون رابط يجمعها, وكأنهما قد قررتا أن تفزعانه, كلما غدا, أو راح!
أنسل صاعدًا, فإذ بأمهما "فهيمة", تناديه:
ــ يا ابن درويش الصرَّاف؛ قف عندك..
لم يُعرِها انتباهًا؛ فلم تكن في ناظريه, سوى امرأة سُوقية, لم تعِ أدنى آداب التعامل, و كذلك ابنتيها, اللتين لم يعرف لهم أحدٌ بالحي أبًا, و لم تتلقيا أبسط قواعد التربية, و التهذيب.. ولكن سلاطة ألسنتهنَّ؛ حَدتْ بالمحيطين إلى تجنبهن, حتى لقبهنَّ الجيران؛ بِــ "جِيرة الشُّوم"..
ومن الذي جلبَ تلك الجيرة السيئة سوى "درويش" والده.. مالك البيت !
تعالت أصواتهنَ, حتى سمعتهنَ أمه, فختمت تلاوتها القرآنية, وقالت هامسةً:
ــ اللهم إنِّي لا أسألكَ رد القضاء.. و لكنِّي أسألكَ اللطفَ فيه !
ثم فتحت باب شقتها بالطابق الثاني, و هبطت الدرجْ بتثاقلٍ, ووهن, و هى تقول بأقصى ما استجمعت من قواها:
ــ يا "ست فهيمة"؛ ألم أقل لكِ أنني سأسوي معكِ الأمر ؟!
صاحت "فهيمة" بينما تراقب ابنتيها ماسيحدث:
ــ لقد آنَ الأوان؛ ليعلم ابنكِ كل شيء !
في توسلٍ, وبينما يدخل "جابر" البيت, و يهم بصعود الدَّرَج.. قالتْ " نجاة " والدة "مصطفى":
ــ أرجوكِ يا "سِتْ فهيمة"؛ ليكن حديثنا بيننا وحسب..
امتقع وجه الشاب الوسيم, وهو يتجاوز درجات السلم في سرعة كعادته, متوجهًا صوب أمه:
ــ ما الذي آن الأوان لكي أعلمه يا أمي ؟!
لحقَ به "جابر" جاره العجوز, يرجوه بقوله:
ــ تعال معي يا وَلدي..
ولكن "مصطفى" رفضَ الاستجابة لرجائه, وقال للسيدة "فهيمة":
ــ هاتِ ماعندكِ.. ماذا تريدين أن تخبريني ؟!
بكتْ أمه و قالت في توسلٍ:
ــ يا بُني.. لاشيء..
فقالت "فهيمة" في تحدٍ, و الأنظار مصوبة نحوها مابين ترقبٍ, و قلق, و هى ترفع ذراعها مُشهِرة ورقة ًمطويةً, يميل لونها إلى اللون الأصفر قليلًا:
ــ الحكاية كلها هُنا .. في هذه الورقة ..
لم تنتهِ "فهيمة" من مقولتها؛ حتى سقطتْ "أم مصطفى" مغشي عليها, في الحال.. و تهاوى جسدها متدحرجًا على درجات السُّلم الحجري العتيق !!!
* أسماء الصياد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق