عمر شبانةانطلاقًا من علاقة حبّ في مرحلة الطفولة، بين ولد في التاسعة وطفلة في الثامنة، حيث تبادر الطفلة إلى إلقاء وردة لابن الجيران، فيقوم بالتخلص منها، خوفًا من مساءلة الأهل والتعرّض للعقوبة بسبب الحبّ، يرسم الروائي والناثر الفلسطيني يامن نوباني خطوط كتابه "المسافة بيننا شهيد"، بوصفها نصوصًا مفتوحة على الأنواع، ويطوف أرجاء فلسطين، فتتداخل فيها أزمنتها وأمكنتها، لـ"يقول" مشاهداته ومعايشاته وتأمّلاته في ما يجري للفلسطينيّين من عرب 48 وعرب "أراضي السلطة" الذين يعيشون احتلالَين
معًا، الاحتلال الصهيوني والاحتلال الذي تجسّده سلطة أوسلو بتنازلاتها وتراجعاتها التي أوصلت الشعب الفلسطينيّ إلى ما هو عليه اليوم.
يكتب الكاتب الفلسطينيّ الشابّ (1986) رواية المتاهة والعذابات التي يعيشها الفلسطينيّ، لا بوصفها رواية حسب التجنيس الأدبي والفنّي، بل "روايته" في مواجهة "رواية" الاحتلال المتضمّنة فرض الأمر الواقع بالقوة، كما في مواجهة السلطة.
ولعلّ العنوان الذي اختاره لعمله هذا، يعبّر من بين أمور عدّة، عن رؤية صاحبه للمساحة الواسعة التي يحتلّها الشهداء في حياة الشعب الفلسطينيّ، بوصفهم الأعلى تضحيةً، إلى جانب الأسرى وضحايا العنف والتدمير والتهجير. فهو (البطل/ وربما المؤلف) يربط علاقته بحبيبته بحالات الاستشهاد، وبحجم الشهداء، يقول "مع ارتقاء كلّ شهيد كانت تقترب منّي، وأقترب منها. هكذا بدأت علاقتنا، وهكذا صارت المسافة بيننا شهيد". وهذا هو عنوان الكتاب إذن.
كتابة جديدة وتجريب
لقد سبق للكاتب أن أصدر "ذاكرة اللوز" (2015)، واعتبر أنها "رسائل إلى فاطمة"، وأضاف أنها "سلسلة من الهزائم الجميلة على عتبات المقاهي، الموسيقى، النساء، المدن، الفرح، الليل، الشتاء، العصافير، الشوارع، الذاكرة، الأزمنة، الأرصفة، الخدوش، القمح، الموت، المنفى، النسيان، الصدف، الصحف، الشجر، الألوان، الخيانة، الوحدة، الجرأة، الجنون الأول، النسيان، اللوز، الحلم.. فهو يبدو كأنه لم يترك شيئًا للآخرين من الكتّاب".
يندرج الكاتب وكتابه هذا، كما كتابه السابق، ضمن موجة الكتابة الجديدة، التجريبيّة، على الساحة الفلسطينية (بأقسامها الثلاثة: من غزة إلى رام الله حتى عرب 1948)، حيث المحاولات الجادّة ليس للاختلاف عن المألوف والسائد فقط، بل للدخول - بعمق - في مناطق جديدة من قراءة/ كتابة الواقع أيضًا. وأقول جديدة، ولا أستبعد اتّكاء هذه الكتابة على تجارب سابقة، وإفادتها من نصوص مؤسِّسة. والإفادة هنا تتعدّى استلهام روح تلك النصوص، إلى استعارة واقتباس مقاطع منها، كما هو حال نوباني الذي يقتبس من إميل حبيبي و"سداسيّته" مقاطع تتعلّق بحديث حبيبي عن الضفة وقراها التي زارها بعد الاحتلال 1967. كما يفيد الكاتب من كمٍّ من التقارير والمعلومات والقراءات القابعة في أرشيفه، وفي ذاكرة كمبيوتره الخاص، مما كان يكتبه أثناء حوادث ومواجهات واقعية على الأرض، ويرسلها لوكالة الأنباء التي يعمل معها.
العتبة الأولى
الكتاب الذي يقع في تسعة نصوص أساسيّة (160 صفحة، طبعة ثانية في دار الإسراء للنشر، عمّان)، يضمّ نصوصًا تجمع السرد والحوار والوصف والتصوير السينمائي، ويلتقي فيها أسلوب الكتابة الصحافية - البانوراميّة مع الأسلوب الأدبي الساخر، يذكّرنا بأسلوب إميل حبيبي أيضًا في التقاط المواقف "الكوميديّة السوداء"، إضافة إلى لغة تتسم بقدر من الشاعريّة والعفوية والبساطة القريبة من لغة الحياة اليومية.
وما بين الفصل الأول "طفولة وحُبّ وجنود"، والفصل التاسع والأخير "الطريق إلى البيت"، تجري فصول حياةٍ تشبه حياة أيّ فلسطينيّ، تحت الاحتلال، في جوانبها المتعدّدة، حيث يكتب الكاتب، هنا، مازجًا العاطفيّ بالوطنيّ/ السياسيّ مع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ، وهو يكتب في محاولة لإعادة رسم حدود الثوابت الفلسطينيّة، الحدود التي رسمها الشهداء واستُشهدوا من أجلها، ومن أجلها قُدّمت التضحيات على مدى عقود هي عُمر "القضية". يفعل الكاتب ذلك كلّه بأدوات وأساليب متعدّدة ومتنوّعة، لكن من دون أن ينسى المبادئ الأساسيّة للإنسان الفلسطينيّ، المبادئ القائمة على العدل والحريّة والحقوق المنصوص عليها في الشرائع والقوانين، مع التفاتات عميقة إلى بعض قيم المجتمع الفلسطيني، فضلًا عن الانتفاضات والهبّات الشعبية. هنا قراءة في أبرز المحاور التي تتضمنها هذه النصوص، وكيفيّة تناولها.
طفولة وحُبّ وجنود:
هذا هو عنوان الفصل الأوّل، وكما يبدو فإنه يشتمل على محاور ثلاثة، فنحن أمام طفولة "بطل"، بطولة سلبية حينًا وإيجابيّة حينًا آخر، إذا جاز التعبير، فليس هو البطل المطلق في كلّ الأحوال. وهو يلعب دور "السارد العليم" كما يحدث في الروايات، وربما هو - هنا - الكاتب والإعلاميّ مؤلف الكتاب نفسه، لكنه من "أبطال العمل" الذين يتابعون سير الأحداث، وهو صاحب رأي وموقف تجاه كلّ ما يجري، وسنعرض لبعض مواقفه ومفاهيمه وآرائه.
منذ البداية نحن أمام الطفل في علاقاته بمن حوله، من أسرة وأطفال وجنود احتلال مخيفين، كما أمام علاقته بالأرض والطبيعة الريفية بحقولها وبيوتها القديمة، التي تؤشر كلّها على عمق علاقة الإنسان بالمكان. ويعبّر عن انشداده إلى الحبّ الطفوليّ البريء والبسيط في عبارات بسيطة لكنها عميقة "ما يُوجِع هو اليدُ التي فقدتُها، حين كانت تُلّوِّحُ لي قبل أربعة وعشرين عامًا ببراءة، قائلةً: يلّا سلام. كانت تَعنِي أكثر مِمَا تعنِيه الآن أقوى قِصّة حُب"، وذلك في مقابل حبّ جرى تشويهه بكثرة المسمّيات مع تغيّر الزمن "كَبرنَا، استُنفِدت كل المسميات يا أمي، فالشِعرُ كثير، وكل عاشق يسابق اللغة والزمن ليخترع لقبًا لعشيقته. تشوّهت ألقاب كثيرة!".
هذا من جانب، ومن جانب آخر فهو شديد الحساسية في رفضه العنف والدم، إذ يكرر هذا الموقف "نعم أبكي على حيفا، أنا الذي لا يبكي إلا نادرًا، أبكي إن مات أحد، أي أحد، في أي مكان من العالم، أحيانًا على طائر جائع أو حيوان دهسته سيارة وألقاه المارة طرف الشارع. أكره الدم!". بل إنّه لا يتورّع عن إعلان خوفه الإنسانيّ، لكنّ هذا يأتي على لسان طفل حين يحذّره أهله من الجنود "أعترف أنني من الذين يخافون الأسلحة والصراخ والعربدة، وأحبّ الابتسام والورد والشجر، أحب الطبيعة والهدوء..".
ومن بين ما يميّز هذه الشخصية أيضًا، ارتباطها الوثيق بالأرض وما تنتج "حين أصعد الجبل وأقطف ورقة ميرمية، أشمها، أشعر بفلسطين كاملة بين يدي". وقوله عن علاقته بالقرية "بطريقة ما كما أشتهي، بقيت ذلك الولد البريّ، الذي لا تُغريه المدن، وفيًا لما تبقى من ريفنا". وبالمطر الذي هو ابن الطبيعة "في كل المراحل القذرة التي عشتها، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، لم يكن شيء يُهوِّن عليَّ مثل المطر، وحين لا يكون موعده، أجلس وحدي وأتذكره، لقد اعتمدت عليه بشكل كبير في تعديل مزاجي المكتئب بشكل شبه يومي منذ ولدت".
العلاقة بالمكان ومكوّناته
كأيّ فلسطينيّ، ليس غريبًا أن تكون للعلاقة بالمكان قوّة العلاقة بالوجود، فلا وجود للفلسطينيّ من دون مكان، وتتخذ هذه العلاقة صوَرًا وأشكالًا متعدّدة، هنا صورة ترتبط بالمكان القديم الذي هو علامة من علامات الهويّة ومكوّناتها، ومن ذلك "هدموا طابون أم أنور، شابّان ينقلان حجارته القديمة إلى سيارة شحن، ويبتسمان، توقّفت قبالتهما صامتًا لدقيقتين، مرّت خلالهما في خيالي سنوات طويلة، سنوات من الطفولة والشقاء".
أما الصورة الثانية، وهي على قدر من الهزل والعمق في آن، وتتعلّق بمدى معرفة الفلسطينيّ بالمكان، حيث "البطل" يريد أن يدل ضيفين قادمين إلى قريته من لحظة انطلاقهما من فندق في حيّ المصيون في رام الله إلى بيته على بعد سبعة وعشرين (27 كم). وبالفعل يقدم الوصف الدقيق لطريق طويل بتفاصيل يواجهها العابر: مستوطنات ومدارس وجسور وشجر وووإلخ. لكنها تفاصيل مرتبطة بحوادث وأشخاص ومواصفات للمكان "إلى اليسار عين سينيا، بلد الينابيع والمشمش، سِر مستقيمًا، خمس دقائق وتصل دوّار عين سينيا، هناك استشهد عثمان قبل عام ونصف، على الجانب برج عسكريّ للاحتلال، يندهش كريم... وعلى يمينك ترمسعيّا التي ستعتقد رجاء أنّها مستوطنة لكثرة سقوفها القرميدية، هي بلدة فلسطينية ومن أثرى القرى، يقيم ويعمل الكثير من أهلها في أميركا. بعد ثلاث دقائق تصل مستوطنة شيلو العنصرية جدًا، هنا يستغلّون كل شبر من أرضنا لزراعة الخوخ والعنب والمشمش والزيتون، ويمتدون!"، وغير ذلك من التفاصيل. وهذا أسلوب للسرد وتوضيح بعض مفاصل القضيّة، كما هو واضح.
المرأة الفلسطينيّة
يبقى كثير من القضايا التي يشتغل عليها هذا الكتاب، ومما يتوجّب الوقوف عليه صورة المرأة الفلسطينية خصوصًا، وربّما العربية عمومًا، تحديدًا صورتها في الأدب، الصورة التي انحصرت في المرأة المضطهدة غالبًا، لكن كثيراً من الصور تظهر امرأة واعية ومشاركة، وهو ما يظهر في بعض المشاهد في نصوص نوباني، فهو يتحدث عن جدّته مثلًا "جدّتي التي كانت أهمّ من كل الكتب التي قرأتها، عشت معها 14 عامًا، أي نصف عمري إلى الآن، علّمتني كل شيء، دون أن تدخل التكنولوجيا السريعة والمذهلة في ما تقدمه لي، علّمتني الأمل والقوة والخوف والخشية والحب والحزن، علمتني كل شيء إلا الكراهية". وحتّى نساء البيوت "في حارتنا تجتمع النسوة على عتبة بيت إحداهنّ، أو على طرف الطريق، يفرطن معاً الملوخية، ويتحدثن في كل قضايا الأمة..".
معًا، الاحتلال الصهيوني والاحتلال الذي تجسّده سلطة أوسلو بتنازلاتها وتراجعاتها التي أوصلت الشعب الفلسطينيّ إلى ما هو عليه اليوم.
يكتب الكاتب الفلسطينيّ الشابّ (1986) رواية المتاهة والعذابات التي يعيشها الفلسطينيّ، لا بوصفها رواية حسب التجنيس الأدبي والفنّي، بل "روايته" في مواجهة "رواية" الاحتلال المتضمّنة فرض الأمر الواقع بالقوة، كما في مواجهة السلطة.
ولعلّ العنوان الذي اختاره لعمله هذا، يعبّر من بين أمور عدّة، عن رؤية صاحبه للمساحة الواسعة التي يحتلّها الشهداء في حياة الشعب الفلسطينيّ، بوصفهم الأعلى تضحيةً، إلى جانب الأسرى وضحايا العنف والتدمير والتهجير. فهو (البطل/ وربما المؤلف) يربط علاقته بحبيبته بحالات الاستشهاد، وبحجم الشهداء، يقول "مع ارتقاء كلّ شهيد كانت تقترب منّي، وأقترب منها. هكذا بدأت علاقتنا، وهكذا صارت المسافة بيننا شهيد". وهذا هو عنوان الكتاب إذن.
كتابة جديدة وتجريب
لقد سبق للكاتب أن أصدر "ذاكرة اللوز" (2015)، واعتبر أنها "رسائل إلى فاطمة"، وأضاف أنها "سلسلة من الهزائم الجميلة على عتبات المقاهي، الموسيقى، النساء، المدن، الفرح، الليل، الشتاء، العصافير، الشوارع، الذاكرة، الأزمنة، الأرصفة، الخدوش، القمح، الموت، المنفى، النسيان، الصدف، الصحف، الشجر، الألوان، الخيانة، الوحدة، الجرأة، الجنون الأول، النسيان، اللوز، الحلم.. فهو يبدو كأنه لم يترك شيئًا للآخرين من الكتّاب".
يندرج الكاتب وكتابه هذا، كما كتابه السابق، ضمن موجة الكتابة الجديدة، التجريبيّة، على الساحة الفلسطينية (بأقسامها الثلاثة: من غزة إلى رام الله حتى عرب 1948)، حيث المحاولات الجادّة ليس للاختلاف عن المألوف والسائد فقط، بل للدخول - بعمق - في مناطق جديدة من قراءة/ كتابة الواقع أيضًا. وأقول جديدة، ولا أستبعد اتّكاء هذه الكتابة على تجارب سابقة، وإفادتها من نصوص مؤسِّسة. والإفادة هنا تتعدّى استلهام روح تلك النصوص، إلى استعارة واقتباس مقاطع منها، كما هو حال نوباني الذي يقتبس من إميل حبيبي و"سداسيّته" مقاطع تتعلّق بحديث حبيبي عن الضفة وقراها التي زارها بعد الاحتلال 1967. كما يفيد الكاتب من كمٍّ من التقارير والمعلومات والقراءات القابعة في أرشيفه، وفي ذاكرة كمبيوتره الخاص، مما كان يكتبه أثناء حوادث ومواجهات واقعية على الأرض، ويرسلها لوكالة الأنباء التي يعمل معها.
العتبة الأولى
الكتاب الذي يقع في تسعة نصوص أساسيّة (160 صفحة، طبعة ثانية في دار الإسراء للنشر، عمّان)، يضمّ نصوصًا تجمع السرد والحوار والوصف والتصوير السينمائي، ويلتقي فيها أسلوب الكتابة الصحافية - البانوراميّة مع الأسلوب الأدبي الساخر، يذكّرنا بأسلوب إميل حبيبي أيضًا في التقاط المواقف "الكوميديّة السوداء"، إضافة إلى لغة تتسم بقدر من الشاعريّة والعفوية والبساطة القريبة من لغة الحياة اليومية.
وما بين الفصل الأول "طفولة وحُبّ وجنود"، والفصل التاسع والأخير "الطريق إلى البيت"، تجري فصول حياةٍ تشبه حياة أيّ فلسطينيّ، تحت الاحتلال، في جوانبها المتعدّدة، حيث يكتب الكاتب، هنا، مازجًا العاطفيّ بالوطنيّ/ السياسيّ مع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ، وهو يكتب في محاولة لإعادة رسم حدود الثوابت الفلسطينيّة، الحدود التي رسمها الشهداء واستُشهدوا من أجلها، ومن أجلها قُدّمت التضحيات على مدى عقود هي عُمر "القضية". يفعل الكاتب ذلك كلّه بأدوات وأساليب متعدّدة ومتنوّعة، لكن من دون أن ينسى المبادئ الأساسيّة للإنسان الفلسطينيّ، المبادئ القائمة على العدل والحريّة والحقوق المنصوص عليها في الشرائع والقوانين، مع التفاتات عميقة إلى بعض قيم المجتمع الفلسطيني، فضلًا عن الانتفاضات والهبّات الشعبية. هنا قراءة في أبرز المحاور التي تتضمنها هذه النصوص، وكيفيّة تناولها.
طفولة وحُبّ وجنود:
هذا هو عنوان الفصل الأوّل، وكما يبدو فإنه يشتمل على محاور ثلاثة، فنحن أمام طفولة "بطل"، بطولة سلبية حينًا وإيجابيّة حينًا آخر، إذا جاز التعبير، فليس هو البطل المطلق في كلّ الأحوال. وهو يلعب دور "السارد العليم" كما يحدث في الروايات، وربما هو - هنا - الكاتب والإعلاميّ مؤلف الكتاب نفسه، لكنه من "أبطال العمل" الذين يتابعون سير الأحداث، وهو صاحب رأي وموقف تجاه كلّ ما يجري، وسنعرض لبعض مواقفه ومفاهيمه وآرائه.
منذ البداية نحن أمام الطفل في علاقاته بمن حوله، من أسرة وأطفال وجنود احتلال مخيفين، كما أمام علاقته بالأرض والطبيعة الريفية بحقولها وبيوتها القديمة، التي تؤشر كلّها على عمق علاقة الإنسان بالمكان. ويعبّر عن انشداده إلى الحبّ الطفوليّ البريء والبسيط في عبارات بسيطة لكنها عميقة "ما يُوجِع هو اليدُ التي فقدتُها، حين كانت تُلّوِّحُ لي قبل أربعة وعشرين عامًا ببراءة، قائلةً: يلّا سلام. كانت تَعنِي أكثر مِمَا تعنِيه الآن أقوى قِصّة حُب"، وذلك في مقابل حبّ جرى تشويهه بكثرة المسمّيات مع تغيّر الزمن "كَبرنَا، استُنفِدت كل المسميات يا أمي، فالشِعرُ كثير، وكل عاشق يسابق اللغة والزمن ليخترع لقبًا لعشيقته. تشوّهت ألقاب كثيرة!".
هذا من جانب، ومن جانب آخر فهو شديد الحساسية في رفضه العنف والدم، إذ يكرر هذا الموقف "نعم أبكي على حيفا، أنا الذي لا يبكي إلا نادرًا، أبكي إن مات أحد، أي أحد، في أي مكان من العالم، أحيانًا على طائر جائع أو حيوان دهسته سيارة وألقاه المارة طرف الشارع. أكره الدم!". بل إنّه لا يتورّع عن إعلان خوفه الإنسانيّ، لكنّ هذا يأتي على لسان طفل حين يحذّره أهله من الجنود "أعترف أنني من الذين يخافون الأسلحة والصراخ والعربدة، وأحبّ الابتسام والورد والشجر، أحب الطبيعة والهدوء..".
ومن بين ما يميّز هذه الشخصية أيضًا، ارتباطها الوثيق بالأرض وما تنتج "حين أصعد الجبل وأقطف ورقة ميرمية، أشمها، أشعر بفلسطين كاملة بين يدي". وقوله عن علاقته بالقرية "بطريقة ما كما أشتهي، بقيت ذلك الولد البريّ، الذي لا تُغريه المدن، وفيًا لما تبقى من ريفنا". وبالمطر الذي هو ابن الطبيعة "في كل المراحل القذرة التي عشتها، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، لم يكن شيء يُهوِّن عليَّ مثل المطر، وحين لا يكون موعده، أجلس وحدي وأتذكره، لقد اعتمدت عليه بشكل كبير في تعديل مزاجي المكتئب بشكل شبه يومي منذ ولدت".
العلاقة بالمكان ومكوّناته
كأيّ فلسطينيّ، ليس غريبًا أن تكون للعلاقة بالمكان قوّة العلاقة بالوجود، فلا وجود للفلسطينيّ من دون مكان، وتتخذ هذه العلاقة صوَرًا وأشكالًا متعدّدة، هنا صورة ترتبط بالمكان القديم الذي هو علامة من علامات الهويّة ومكوّناتها، ومن ذلك "هدموا طابون أم أنور، شابّان ينقلان حجارته القديمة إلى سيارة شحن، ويبتسمان، توقّفت قبالتهما صامتًا لدقيقتين، مرّت خلالهما في خيالي سنوات طويلة، سنوات من الطفولة والشقاء".
أما الصورة الثانية، وهي على قدر من الهزل والعمق في آن، وتتعلّق بمدى معرفة الفلسطينيّ بالمكان، حيث "البطل" يريد أن يدل ضيفين قادمين إلى قريته من لحظة انطلاقهما من فندق في حيّ المصيون في رام الله إلى بيته على بعد سبعة وعشرين (27 كم). وبالفعل يقدم الوصف الدقيق لطريق طويل بتفاصيل يواجهها العابر: مستوطنات ومدارس وجسور وشجر وووإلخ. لكنها تفاصيل مرتبطة بحوادث وأشخاص ومواصفات للمكان "إلى اليسار عين سينيا، بلد الينابيع والمشمش، سِر مستقيمًا، خمس دقائق وتصل دوّار عين سينيا، هناك استشهد عثمان قبل عام ونصف، على الجانب برج عسكريّ للاحتلال، يندهش كريم... وعلى يمينك ترمسعيّا التي ستعتقد رجاء أنّها مستوطنة لكثرة سقوفها القرميدية، هي بلدة فلسطينية ومن أثرى القرى، يقيم ويعمل الكثير من أهلها في أميركا. بعد ثلاث دقائق تصل مستوطنة شيلو العنصرية جدًا، هنا يستغلّون كل شبر من أرضنا لزراعة الخوخ والعنب والمشمش والزيتون، ويمتدون!"، وغير ذلك من التفاصيل. وهذا أسلوب للسرد وتوضيح بعض مفاصل القضيّة، كما هو واضح.
المرأة الفلسطينيّة
يبقى كثير من القضايا التي يشتغل عليها هذا الكتاب، ومما يتوجّب الوقوف عليه صورة المرأة الفلسطينية خصوصًا، وربّما العربية عمومًا، تحديدًا صورتها في الأدب، الصورة التي انحصرت في المرأة المضطهدة غالبًا، لكن كثيراً من الصور تظهر امرأة واعية ومشاركة، وهو ما يظهر في بعض المشاهد في نصوص نوباني، فهو يتحدث عن جدّته مثلًا "جدّتي التي كانت أهمّ من كل الكتب التي قرأتها، عشت معها 14 عامًا، أي نصف عمري إلى الآن، علّمتني كل شيء، دون أن تدخل التكنولوجيا السريعة والمذهلة في ما تقدمه لي، علّمتني الأمل والقوة والخوف والخشية والحب والحزن، علمتني كل شيء إلا الكراهية". وحتّى نساء البيوت "في حارتنا تجتمع النسوة على عتبة بيت إحداهنّ، أو على طرف الطريق، يفرطن معاً الملوخية، ويتحدثن في كل قضايا الأمة..".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق