الذاكرة الجمعية شديدة الأهمية للشعوب التي أُرغمت على التناثر في الأمكنة، وهي مهمة جداً في تكوين الهوية الثقافية، خصوصاً لدى الشعوب التي رزحت طويلاً تحت الاحتلال. ولعل الفلسطينيون، وهم آخر الشعوب التي لم تنل حريتها بعد، أفضل مَن يمثل اليوم جدل السكان الأصليين في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي. وفي خضم هذه المواجهة المستمرة منذ نحو مئة عام، أو على الأقل منذ النكبة قبل نحو سبعين عاماً، صار الفلسطيني كالأعرابي المترحل؛ يعيش في أمكنة
كثيرة، لكنه لا يعيش في مكانه الأصلي. والمكان لدى الفلسطيني هو النطاق الذي لا يمكن اكتشافه أو استرجاعه إلا بالتذكر لأنه منسوج بالحنين والتخيل. فالمنفى هو مكان الفلسطيني، والزمن هو مأساته: إنه ينتظر وينتظر ويتذكر ويراقب تساقط شعر رأسه وتجاعيد وجهه ويتألم لرحيل الأحبة.
إن ترميم الذاكرة المثقلة بالألم مثل صنع الفخار الذي يحتاج إلى الطين والماء والنار. غير أن مأساة الذاكرة الفلسطينية أنها تعرضت مراراً للنار والماء والاندثار. وكان النهب والإتلاف والطرد سياقاً واحداً نفذه الصهيونيون لغاية وحيدة هي الاستيلاء على فلسطين. وهذه العملية اتخذت شكلاً خاصاً من أشكال تغيير ملكية المكان وكل ما كان عليه، فنهبت اسرائيل كنوزاً لا تقدر بثمن من الكتب والوثائق والصور والمقتنيات الفريدة. ففي القدس وحدها نَهَبت نحو ثلاثين ألف كتاب ومخطوط، وجمعت ما يناهز الأربعين ألف كتاب من مناطق أخرى مثل يافا وحيفا والناصرة وطبرية، ومن المنازل المهجورة والمكتبات الشخصية مثل مكتبة خليل السكاكيني في حي القطمون في القدس الغربية.
في سنة 1957 قررت وزارة المعارف الاسرائيلية إبادة 27 ألف كتاب عربي، فعمدت إلى بيعها من معامل الورق وطحنتها على الفور Libricide بوصفها "بضائع غير صالحة للاستعمال"، واستخدمت الباقي في المدارس العربية بعدما نخلتها من كل ما له علاقة بالتاريخ الفلسطيني. وفي منافيهم الجديدة عاد الفلسطينيون إلى اقتناء الكتب وجمع المكتبات وإنشاء المؤسسات، إلا أنهم فقدوها بالتدريج. ففي الأردن سنة 1970 فقدوا، من بين ما فقدوا، تسجيلات الاذاعة الفلسطينية. وفي لبنان مُحقت مكتبة مركز التخطيط الفلسطيني ومكتبة مركز الآثار ومقتنيات مركز التوثيق وتسجيلات الاذاعة وأرشيف وكالة "وفا" للأنباء ومجلة "فلسطين الثورة"، وغيرها من المجلات. واندثرت مؤسسة السينما الفلسطينية وتاهت أفلامها بين العواصم. وقد شاهدت بعينيّ "تعفيش" مكتبة مركز التخطيط من شباك أحد منازل شارع عفيف الطيبي، ولم أجرؤ على التدخل. وشاهدت أيضاً عملية الاستيلاء على مكتبة مركز الأبحاث من منزل يقع فوق محلات سميث في رأس بيروت، وأُصبت جراء ذلك المشهد بأوجاع قوية في البطن. وفي بيروت فُقدت لوحات معرض الفن الدولي من أجل فلسطين الذي نُظِّم في بيروت سنة 1978 وفيه لوحات لخوان ميرو وكلود لازار وأندريه ماسون وجورج بهجوري ومصطفى الحلاج، وتسربت لوحات أخرى منه إلى طهران.
تحت ركام المخيمات في اليرموك ودرعا والنيرب وحندرات، وقبل ذلك في النبطية وتل الزعتر وجسر الباشا في لبنان، طُمرت كنوز إنسانية كالصور وأوراق الطابو والمشغولات اليدوية التي تشكل معاً جانباً من الميراث الثقافي والحضاري للشعب الفلسطيني.
مأساة مركز الأبحاث
تقدم لنا مأساة مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية أفضل برهان عن المحاولات الدائبة لوأد الذاكرة الفلسطينية. ففي سنة 1969 أُلقيت متفجرة على مدخل مبنى المركز. وفي سنة 1972 انفجر طرد ناسف بين يدي مديره الدكتور أنيس صايغ فقطع له بعض أصابعه، وأصاب وجهه وعينيه وأذنيه. وفي سنة 1974 انطلقت أربعة صواريخ نحو المركز من الساحة المحاذية له، فأوقعت أضراراً في المبنى والمكتبة وبقية الأقسام. وفي سنة 1982 اجتاحته القوات الاسرائيلية ونهبت محتوياته وخزائن الوثائق والصور والمخطوطات. وفي 4/2/1983 دمرته سيارة مفخخة، ثم تناثرت مقتنياته فوق رمال الصحراء الجزائرية.
أسس مركز الأبحاث الدكتور فايز صايغ في شباط/ فبراير 1965 في عهد أحمد الشقيري حين كان رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية. ثم تسلم الدكتور أنيس صايغ إدارة المركز في آب/أغسطس 1966، وكان يحتل شقة متوسطة الحجم، فيها مكتبة مؤلفة من أربع خزائن فقط، وكان أصدر خمسة كتب لا غير. وحين غادر أنيس صايغ موقعه في نيسان/ابريل 1977 كان المركز قد صار يحتل ست طبقات بينها طبقتان للمكتبة، وفيها 20 ألف مجلد، وعشرات الخزائن التي تحتوي الوثائق، وألف ملف معلوماتي. وكانت منشوراته تجاوزت الثلاثمئة، علاوة على مجلة "شؤون فلسطينية" الشهرية، ونشرة رصد إذاعة إسرائيل التي كانت تصدر مرتين في اليوم كي يتسنى لقادة الفصائل الفلسطينية متابعة أحوال اسرائيل يوماً بيوم. أما الباحثون فارتفع عددهم من ثلاثة إلى أربعين، والاداريون من خمسة الى عشرين، أي أن المركز كان يضم في ذروة عطائه سبعين موظفاً.
كانت مكتبة المركز تضم خمسة آلاف كتاب بالعربية، وثلاثة آلاف كتاب بالعبرية، واثني عشر ألف كتاب بالانكليزية، علاوة على الدوريات الشهرية والفصلية منها 160 دورية بالعربية، و 49 بالعبرية، و250 بالانكليزية، و 63 بالفرنسية، فضلاً عن الوثائق والصور والمخطوطات والأوراق الخاصة وأشرطة صوتية مسجل عليها مقابلات تندرج في نطاق التاريخ الشفوي الفلسطيني، مع محمد عزة دروزة وعجاج نويهض ومصطفى مراد الدباغ وأكرم زعيتر. أما الأوراق الخاصة فهي التالية:
1- أوراق إميلي فرانسيس نيوتن، وهي امرأة عاشت في فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين.
2- مجموعة كبيرة من أوراق دائرة المخابرات في الشرطة الفلسطينية في زمن الانتداب البريطاني.
3- وثائق حكومة عموم فلسطين.
4- وثائق جيش الانقاذ.
5- أوراق الحاج أمين الحسيني.
6- مذكرات حسين فخري الخالدي وحنا عصفور وعوني عبد الهادي وفوزي القاوقجي وكمال ناصر.
7- مجموعة كاملة من إحصاءات وبيانات دائرة الأراضي في حكومة الانتداب.
8- آلاف البيانات التي صدرت عن منظمة التحرير الفلسطينية ودوائرها، وعن الفصائل الفلسطينية المختلفة.
9- آلاف الصور، ومئات الخرائط، بينها خرائط عسكرية مفصلة ودقيقة.
10- مئات الكتب النادرة عن الآثار في فلسطين.
11- مئات الكتب عن الجماعات اليهودية جمعها أنيس صايغ خلال خمس سنوات من التحايل على شخص يهودي بريطاني كان يحتفظ بها في إحدى مكتبات لندن ويرفض بيعها إلا لأفراد متفرقين.
لتقدير أهمية مركز الأبحاث لدى صانعي القرارات السياسية في العالم العربي يمكن أن نشير إلى أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يُرسل أسئلة سياسية وعسكرية إلى مدير المركز أنيس صايغ ويطلب الإجابة عنها. وكان أمين هويدي مدير المخابرات الحربية بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967 هو الواسطة بين عبد الناصر وأنيس صايغ، علاوة على قناة أخرى هي الملحق الأمني في سفارة مصر في بيروت عبد الحميد المازني الذي حذر أنيس صايغ من الاغتيال قبل ثلاثة أشهر من تفجيره بالطرد الناسف. وكان الرئيس حافظ الأسد يتابع بانتظام منشورات المركز ويسأل عن بعضها بانتظام وعن كتابات أنيس صايغ بالدرجة الأولى. وكانت جميع الأسئلة محصورة في اسرائيل والقضية الفلسطينية.
التيه بين البحر والصحراء
في 4/9/1982، وبعد أربعة أيام فقط من خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، أُهين الجيش الاسرائيلي أيما إهانة حين انقضّت مجموعة فدائية من أبناء الجبل اللبناني (مجموعة هلال رسلان- أبو محمود) بقيادة عيسى حجو من حركة فتح على جنود اسرائيليين في منطقة رويسة البلوط وساقوهم من دون إطلاق رصاصة واحدة. وكان عدد الجنود الاسرائيليين الأسرى ثمانية جنود، واضطرت المجموعة الفدائية إلى منح الجبهة الشعبية- القيادة العامة أسيرين لقاء تأمين مرور الباقين عبر الخطوط العسكرية السورية إلى مكان آمن. وفي 23/11/1983 أُطلق سراح الأسرى الستة لدى حركة فتح لقاء إطلاق 4600 أسير فلسطيني ولبناني وسوري في معتقل أنصار في جنوب لبنان، والافراج عن مكتبة مركز الأبحاث من خلال الصليب الأحمر الدولي. وبالفعل، سلّمت اسرائيل 113 صندوقاً خشبياً إلى الجزائر وُضعوا في معسكر الخروبة التابع للجيش الجزائري، ثم نُقلت الصناديق إلى معسكر تبسة الذي ترابط فيه وحدات من جيش التحرير الفلسطيني. والغريب أن تسليم محتويات مكتبة مركز الأبحاث قد جرى من دون أن يكون لدى أي واحد ممن تسلموا الصناديق قائمة بمحتويات المكتبة في بيروت، مع أن التسليم جرى بحضور ممثل السفير الفلسطيني في الجزائر منذر الدجاني (أبو العز) يدعى عيسى عبد الحفيظ، وهو السكرتير الأول في السفارة، والأميرة دينا عبد الحميد الزوجة السابقة للملك حسين بن طلال ، والزوجة اللاحقة لصلاح التعمري من حركة فتح.
بعد العدوان الجوي الاسرائيلي على المقر الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط في تونس العاصمة في 1/10/1985، عمدت السلطات الجزائرية إلى نقل المعسكر الفلسطيني من تبسة إلى معسكر البيض الواقع في جنوب الجزائر، واعتقد كثيرون أن الصناديق انتقلت بدورها الى المعسكر الجديد في عمق الصحراء. وفي تلك الأثناء بدأ الكلام على تلف مكتبة مركز الأبحاث يتصاعد في الأوساط الفلسطينية في تونس ودمشق، فطلب ياسر عرفات من صبري جريس (مدير مركز الأبحاث الذي خلف محمود درويش والذي انتقل بالمركز إلى قبرص بعد الخروج من بيروت في سنة 1983)، ومن الباحث في المركز سميح شبيب السفر إلى الجزائر لمعاينة الصناديق. وبالفعل سافر الاثنان إلى الجزائر في آذار/ مارس 1986. وانتقل سميح شبيب وحيداً من الجزائر العاصمة إلى مدينة تبسة الصحراوية ليُفاجأ بأن لا أحد من الفلسطينيين يعرف شيئاً عن تلك الصناديق. واكتشف، في خلال تقصي تلك الكارثة، أن الكتب ما برحت لدى الجيش الجزائري في تبسة. وتمكن سميح شبيب من معاينة 20 صندوقاً كعينة عشوائية من بين 113 صندوقاً، فوجدها صالحة لتخزين الكتب، فهي لا تتأثر بعوامل المناخ، ومانعة لتسرب الماء إلى داخلها جراء وجود مادة الزفت على الجدران الداخلية، فضلاً عن الفلّين ورقائق القصدير، فاطمأن، واقترح شحن الصناديق إلى ميناء لارنكا القبرصي لتصبح في عهدة مركز الأبحاث، ليكتشف لاحقاً أن الشحن من ميناء عنابة إلى قبرص غير ممكن، وأن الشحن الدولي محصور بميناء الجزائر العاصمة.
إذاً، كان لا بد من الاستحصال على ترخيص بشحن الكتب من ميناء الجزائر إلى لارنكا عبر محطات بحرية أوروبية، أي ليس مباشرة. وهذا الترخيص يحتاج إلى موافقات من جبهة التحرير الوطني الجزائرية- قسم حركات التحرر، ومن الاستخبارات العسكرية وغير ذلك، فتوقف المسعى موقتاً. وفي غضون ذلك روج البعض فكرة نقل مكتبة مركز الأبحاث إلى القاهرة، وأن ثمة مبنى في مصر الجديدة يجري تجهيزه ليكون مقراً للمركز، إلا أن هذه الفكرة تعثرت، حتى أن البعض اقترح تقديم المكتبة إلى الأهرام هدية، لكن مؤسسة الأهرام اعتذرت عن قبول ذلك (راجع: سميح شبيب، الذاكرة الضائعة، لندن: هيئة أرض فلسطين، ورام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية – مواطن، 2005، وفي هذا الكراس رواية كافية وتفصيلية عن مصير مكتبة مركز الأبحاث). وقد تحالف الإهمال وعدم المتابعة والعوائق البيروقراطية، وانشغال الدوائر الفلسطينية كلها بالاجتياح العراقي للكويت وبمؤتمر مدريد اللاحق، ثم بقضايا التفاوض مع إسرائيل سراً وعلناً، لتصبح قضية المكتبة في آخر قائمة اهتمامات القيادة الفلسطينية. وبهذا السلوك المهين تناثرت محتويات الصناديق فوق رمال الصحراء، كما تناثرت مكتبة المركز التي جُمعت في قبرص بعد سنة 1983 على أرصفة أحد الموانئ الاسرائيلية غداة نقلها إلى الأراضي الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993.
ذاكرة الفلسطينيين مثل أوليس الإغريقي الذي أصر على العودة إلى مكانه الأول، أي إلى مكانه الأصلي، لأن لا خلاص لروحه المتقلقلة إلا بالعودة. وحين عاد اكتشف انه لم يعد حقاً إلى مكانه الأول على الاطلاق، لأن المكان نفسه تغير، وأن ما مضى لن يعود ثانية حتى لو عاد الكائن حقاً إلى موطنه الأصلي. ذاكرة الفلسطينيين لم تعد إلى موطنها الأصلي قط، بل تناثرت كغبار الطلع.
كثيرة، لكنه لا يعيش في مكانه الأصلي. والمكان لدى الفلسطيني هو النطاق الذي لا يمكن اكتشافه أو استرجاعه إلا بالتذكر لأنه منسوج بالحنين والتخيل. فالمنفى هو مكان الفلسطيني، والزمن هو مأساته: إنه ينتظر وينتظر ويتذكر ويراقب تساقط شعر رأسه وتجاعيد وجهه ويتألم لرحيل الأحبة.
إن ترميم الذاكرة المثقلة بالألم مثل صنع الفخار الذي يحتاج إلى الطين والماء والنار. غير أن مأساة الذاكرة الفلسطينية أنها تعرضت مراراً للنار والماء والاندثار. وكان النهب والإتلاف والطرد سياقاً واحداً نفذه الصهيونيون لغاية وحيدة هي الاستيلاء على فلسطين. وهذه العملية اتخذت شكلاً خاصاً من أشكال تغيير ملكية المكان وكل ما كان عليه، فنهبت اسرائيل كنوزاً لا تقدر بثمن من الكتب والوثائق والصور والمقتنيات الفريدة. ففي القدس وحدها نَهَبت نحو ثلاثين ألف كتاب ومخطوط، وجمعت ما يناهز الأربعين ألف كتاب من مناطق أخرى مثل يافا وحيفا والناصرة وطبرية، ومن المنازل المهجورة والمكتبات الشخصية مثل مكتبة خليل السكاكيني في حي القطمون في القدس الغربية.
في سنة 1957 قررت وزارة المعارف الاسرائيلية إبادة 27 ألف كتاب عربي، فعمدت إلى بيعها من معامل الورق وطحنتها على الفور Libricide بوصفها "بضائع غير صالحة للاستعمال"، واستخدمت الباقي في المدارس العربية بعدما نخلتها من كل ما له علاقة بالتاريخ الفلسطيني. وفي منافيهم الجديدة عاد الفلسطينيون إلى اقتناء الكتب وجمع المكتبات وإنشاء المؤسسات، إلا أنهم فقدوها بالتدريج. ففي الأردن سنة 1970 فقدوا، من بين ما فقدوا، تسجيلات الاذاعة الفلسطينية. وفي لبنان مُحقت مكتبة مركز التخطيط الفلسطيني ومكتبة مركز الآثار ومقتنيات مركز التوثيق وتسجيلات الاذاعة وأرشيف وكالة "وفا" للأنباء ومجلة "فلسطين الثورة"، وغيرها من المجلات. واندثرت مؤسسة السينما الفلسطينية وتاهت أفلامها بين العواصم. وقد شاهدت بعينيّ "تعفيش" مكتبة مركز التخطيط من شباك أحد منازل شارع عفيف الطيبي، ولم أجرؤ على التدخل. وشاهدت أيضاً عملية الاستيلاء على مكتبة مركز الأبحاث من منزل يقع فوق محلات سميث في رأس بيروت، وأُصبت جراء ذلك المشهد بأوجاع قوية في البطن. وفي بيروت فُقدت لوحات معرض الفن الدولي من أجل فلسطين الذي نُظِّم في بيروت سنة 1978 وفيه لوحات لخوان ميرو وكلود لازار وأندريه ماسون وجورج بهجوري ومصطفى الحلاج، وتسربت لوحات أخرى منه إلى طهران.
تحت ركام المخيمات في اليرموك ودرعا والنيرب وحندرات، وقبل ذلك في النبطية وتل الزعتر وجسر الباشا في لبنان، طُمرت كنوز إنسانية كالصور وأوراق الطابو والمشغولات اليدوية التي تشكل معاً جانباً من الميراث الثقافي والحضاري للشعب الفلسطيني.
مأساة مركز الأبحاث
تقدم لنا مأساة مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية أفضل برهان عن المحاولات الدائبة لوأد الذاكرة الفلسطينية. ففي سنة 1969 أُلقيت متفجرة على مدخل مبنى المركز. وفي سنة 1972 انفجر طرد ناسف بين يدي مديره الدكتور أنيس صايغ فقطع له بعض أصابعه، وأصاب وجهه وعينيه وأذنيه. وفي سنة 1974 انطلقت أربعة صواريخ نحو المركز من الساحة المحاذية له، فأوقعت أضراراً في المبنى والمكتبة وبقية الأقسام. وفي سنة 1982 اجتاحته القوات الاسرائيلية ونهبت محتوياته وخزائن الوثائق والصور والمخطوطات. وفي 4/2/1983 دمرته سيارة مفخخة، ثم تناثرت مقتنياته فوق رمال الصحراء الجزائرية.
أسس مركز الأبحاث الدكتور فايز صايغ في شباط/ فبراير 1965 في عهد أحمد الشقيري حين كان رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية. ثم تسلم الدكتور أنيس صايغ إدارة المركز في آب/أغسطس 1966، وكان يحتل شقة متوسطة الحجم، فيها مكتبة مؤلفة من أربع خزائن فقط، وكان أصدر خمسة كتب لا غير. وحين غادر أنيس صايغ موقعه في نيسان/ابريل 1977 كان المركز قد صار يحتل ست طبقات بينها طبقتان للمكتبة، وفيها 20 ألف مجلد، وعشرات الخزائن التي تحتوي الوثائق، وألف ملف معلوماتي. وكانت منشوراته تجاوزت الثلاثمئة، علاوة على مجلة "شؤون فلسطينية" الشهرية، ونشرة رصد إذاعة إسرائيل التي كانت تصدر مرتين في اليوم كي يتسنى لقادة الفصائل الفلسطينية متابعة أحوال اسرائيل يوماً بيوم. أما الباحثون فارتفع عددهم من ثلاثة إلى أربعين، والاداريون من خمسة الى عشرين، أي أن المركز كان يضم في ذروة عطائه سبعين موظفاً.
كانت مكتبة المركز تضم خمسة آلاف كتاب بالعربية، وثلاثة آلاف كتاب بالعبرية، واثني عشر ألف كتاب بالانكليزية، علاوة على الدوريات الشهرية والفصلية منها 160 دورية بالعربية، و 49 بالعبرية، و250 بالانكليزية، و 63 بالفرنسية، فضلاً عن الوثائق والصور والمخطوطات والأوراق الخاصة وأشرطة صوتية مسجل عليها مقابلات تندرج في نطاق التاريخ الشفوي الفلسطيني، مع محمد عزة دروزة وعجاج نويهض ومصطفى مراد الدباغ وأكرم زعيتر. أما الأوراق الخاصة فهي التالية:
1- أوراق إميلي فرانسيس نيوتن، وهي امرأة عاشت في فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين.
2- مجموعة كبيرة من أوراق دائرة المخابرات في الشرطة الفلسطينية في زمن الانتداب البريطاني.
3- وثائق حكومة عموم فلسطين.
4- وثائق جيش الانقاذ.
5- أوراق الحاج أمين الحسيني.
6- مذكرات حسين فخري الخالدي وحنا عصفور وعوني عبد الهادي وفوزي القاوقجي وكمال ناصر.
7- مجموعة كاملة من إحصاءات وبيانات دائرة الأراضي في حكومة الانتداب.
8- آلاف البيانات التي صدرت عن منظمة التحرير الفلسطينية ودوائرها، وعن الفصائل الفلسطينية المختلفة.
9- آلاف الصور، ومئات الخرائط، بينها خرائط عسكرية مفصلة ودقيقة.
10- مئات الكتب النادرة عن الآثار في فلسطين.
11- مئات الكتب عن الجماعات اليهودية جمعها أنيس صايغ خلال خمس سنوات من التحايل على شخص يهودي بريطاني كان يحتفظ بها في إحدى مكتبات لندن ويرفض بيعها إلا لأفراد متفرقين.
لتقدير أهمية مركز الأبحاث لدى صانعي القرارات السياسية في العالم العربي يمكن أن نشير إلى أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يُرسل أسئلة سياسية وعسكرية إلى مدير المركز أنيس صايغ ويطلب الإجابة عنها. وكان أمين هويدي مدير المخابرات الحربية بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967 هو الواسطة بين عبد الناصر وأنيس صايغ، علاوة على قناة أخرى هي الملحق الأمني في سفارة مصر في بيروت عبد الحميد المازني الذي حذر أنيس صايغ من الاغتيال قبل ثلاثة أشهر من تفجيره بالطرد الناسف. وكان الرئيس حافظ الأسد يتابع بانتظام منشورات المركز ويسأل عن بعضها بانتظام وعن كتابات أنيس صايغ بالدرجة الأولى. وكانت جميع الأسئلة محصورة في اسرائيل والقضية الفلسطينية.
التيه بين البحر والصحراء
في 4/9/1982، وبعد أربعة أيام فقط من خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، أُهين الجيش الاسرائيلي أيما إهانة حين انقضّت مجموعة فدائية من أبناء الجبل اللبناني (مجموعة هلال رسلان- أبو محمود) بقيادة عيسى حجو من حركة فتح على جنود اسرائيليين في منطقة رويسة البلوط وساقوهم من دون إطلاق رصاصة واحدة. وكان عدد الجنود الاسرائيليين الأسرى ثمانية جنود، واضطرت المجموعة الفدائية إلى منح الجبهة الشعبية- القيادة العامة أسيرين لقاء تأمين مرور الباقين عبر الخطوط العسكرية السورية إلى مكان آمن. وفي 23/11/1983 أُطلق سراح الأسرى الستة لدى حركة فتح لقاء إطلاق 4600 أسير فلسطيني ولبناني وسوري في معتقل أنصار في جنوب لبنان، والافراج عن مكتبة مركز الأبحاث من خلال الصليب الأحمر الدولي. وبالفعل، سلّمت اسرائيل 113 صندوقاً خشبياً إلى الجزائر وُضعوا في معسكر الخروبة التابع للجيش الجزائري، ثم نُقلت الصناديق إلى معسكر تبسة الذي ترابط فيه وحدات من جيش التحرير الفلسطيني. والغريب أن تسليم محتويات مكتبة مركز الأبحاث قد جرى من دون أن يكون لدى أي واحد ممن تسلموا الصناديق قائمة بمحتويات المكتبة في بيروت، مع أن التسليم جرى بحضور ممثل السفير الفلسطيني في الجزائر منذر الدجاني (أبو العز) يدعى عيسى عبد الحفيظ، وهو السكرتير الأول في السفارة، والأميرة دينا عبد الحميد الزوجة السابقة للملك حسين بن طلال ، والزوجة اللاحقة لصلاح التعمري من حركة فتح.
بعد العدوان الجوي الاسرائيلي على المقر الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط في تونس العاصمة في 1/10/1985، عمدت السلطات الجزائرية إلى نقل المعسكر الفلسطيني من تبسة إلى معسكر البيض الواقع في جنوب الجزائر، واعتقد كثيرون أن الصناديق انتقلت بدورها الى المعسكر الجديد في عمق الصحراء. وفي تلك الأثناء بدأ الكلام على تلف مكتبة مركز الأبحاث يتصاعد في الأوساط الفلسطينية في تونس ودمشق، فطلب ياسر عرفات من صبري جريس (مدير مركز الأبحاث الذي خلف محمود درويش والذي انتقل بالمركز إلى قبرص بعد الخروج من بيروت في سنة 1983)، ومن الباحث في المركز سميح شبيب السفر إلى الجزائر لمعاينة الصناديق. وبالفعل سافر الاثنان إلى الجزائر في آذار/ مارس 1986. وانتقل سميح شبيب وحيداً من الجزائر العاصمة إلى مدينة تبسة الصحراوية ليُفاجأ بأن لا أحد من الفلسطينيين يعرف شيئاً عن تلك الصناديق. واكتشف، في خلال تقصي تلك الكارثة، أن الكتب ما برحت لدى الجيش الجزائري في تبسة. وتمكن سميح شبيب من معاينة 20 صندوقاً كعينة عشوائية من بين 113 صندوقاً، فوجدها صالحة لتخزين الكتب، فهي لا تتأثر بعوامل المناخ، ومانعة لتسرب الماء إلى داخلها جراء وجود مادة الزفت على الجدران الداخلية، فضلاً عن الفلّين ورقائق القصدير، فاطمأن، واقترح شحن الصناديق إلى ميناء لارنكا القبرصي لتصبح في عهدة مركز الأبحاث، ليكتشف لاحقاً أن الشحن من ميناء عنابة إلى قبرص غير ممكن، وأن الشحن الدولي محصور بميناء الجزائر العاصمة.
إذاً، كان لا بد من الاستحصال على ترخيص بشحن الكتب من ميناء الجزائر إلى لارنكا عبر محطات بحرية أوروبية، أي ليس مباشرة. وهذا الترخيص يحتاج إلى موافقات من جبهة التحرير الوطني الجزائرية- قسم حركات التحرر، ومن الاستخبارات العسكرية وغير ذلك، فتوقف المسعى موقتاً. وفي غضون ذلك روج البعض فكرة نقل مكتبة مركز الأبحاث إلى القاهرة، وأن ثمة مبنى في مصر الجديدة يجري تجهيزه ليكون مقراً للمركز، إلا أن هذه الفكرة تعثرت، حتى أن البعض اقترح تقديم المكتبة إلى الأهرام هدية، لكن مؤسسة الأهرام اعتذرت عن قبول ذلك (راجع: سميح شبيب، الذاكرة الضائعة، لندن: هيئة أرض فلسطين، ورام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية – مواطن، 2005، وفي هذا الكراس رواية كافية وتفصيلية عن مصير مكتبة مركز الأبحاث). وقد تحالف الإهمال وعدم المتابعة والعوائق البيروقراطية، وانشغال الدوائر الفلسطينية كلها بالاجتياح العراقي للكويت وبمؤتمر مدريد اللاحق، ثم بقضايا التفاوض مع إسرائيل سراً وعلناً، لتصبح قضية المكتبة في آخر قائمة اهتمامات القيادة الفلسطينية. وبهذا السلوك المهين تناثرت محتويات الصناديق فوق رمال الصحراء، كما تناثرت مكتبة المركز التي جُمعت في قبرص بعد سنة 1983 على أرصفة أحد الموانئ الاسرائيلية غداة نقلها إلى الأراضي الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993.
ذاكرة الفلسطينيين مثل أوليس الإغريقي الذي أصر على العودة إلى مكانه الأول، أي إلى مكانه الأصلي، لأن لا خلاص لروحه المتقلقلة إلا بالعودة. وحين عاد اكتشف انه لم يعد حقاً إلى مكانه الأول على الاطلاق، لأن المكان نفسه تغير، وأن ما مضى لن يعود ثانية حتى لو عاد الكائن حقاً إلى موطنه الأصلي. ذاكرة الفلسطينيين لم تعد إلى موطنها الأصلي قط، بل تناثرت كغبار الطلع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق