في الذكرى المئوية لإعلان بلفور أصدر الكاتب اللبناني حسن قبلان كتاباً جديداً بعنوان "فلسطين: الذئب والغزال" (بيروت، 2017). واللافت أن الكتابة عن فلسطين وقضية فلسطين، وعن قضايا الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي باتت مقصورة، في الأعم الأغلب، على الباحثين الفلسطينيين، وها هو حسن قبلان يخالف هذا الاتجاه، ويُصدر كتاباً مهماً وراقياً. والذئب في هذا الكتاب واضح تماماً، فهو اسرائيل والمشروع الاستعماري الأوروبي، والبريطاني بالدرجة الأولى. أما الغزال فهو فلسطين التي لم تجد من يحميها أو ينجدها في مأساتها التاريخية. وحتى الغزال في الغابة يعثر على مَن يحميه في بعض الأحيان، لكن الغزال العربي تُرك في النار والعراء منذ سنة 1948 فصاعداً.
وحسن قبلان هو إبن جبل عامل الملتصق منذ قديم العصور بفلسطين، بل هو ابن قرية ميس الجبل الواقعة على الحد الفاصل بين لبنان وفلسطين مباشرة، وهو خط وهمي حوّله نيوكمب وبوليه (ممثلا بريطانيا وفرنسا) في سنة 1923 إلى خط حدود رسمي. وقد تبرعم وعي حسن قبلان على أخبار فلسطين والفدائيين، وكان يحفظ منذ طفولته أسماء قرى سهل الحولة كلها، وشهد منزله حكايات عن بدايات الفدائيين في الجنوب اللبناني، وتداخلت حياته وحياة أهله بحياة الفلسطينيين، فدرست شقيقاته في مدرسة أبناء شهداء الثورة الفلسطينية في سوق الغرب (بيت إسعاد الطفولة)، وبعضهن تزوجن شباناً من فلسطين. وبين مسقطه ومرتع طفولته في جنوب لبنان، ثم فتوته ومرحلة الشباب في بلدة القماطية في جبل لبنان عاش أجواء النضال الفلسطيني، والتقى مناضلين من شتى الاتجاهات، فامتزجت فلسطين بكيانه وعقله ووجدانه، فضلاً عن عائلته، فصار فلسطينياً بقدر ما هو لبناني.
الدافع إلى إصدار هذا الكتاب في مئوية إعلان بلفور هو قضية فلسطين وواقعها الراهن. أما ما جعله يبري قلمه ويتوفر على المراجع والمصادر فكان عبد الرحمن الشهبندر ومقالته المنشورة في مجلة "الجامعة الإسلامية" في يافا (1/3/1935) بعنوان "ماذا تقولون للأجيال اللاحقة؟"، والتي أعاد ملحق "فلسطين" في جريدة " السفير" نشرها في 17/7/2010 وفي تلك المقالة حذر الشهبندر العرب من هزيمة نكراء أمام اليهود؛ هزيمة ترغمهم على التراجع جغرافياً نحو الفيافي والقفاز في وادي السرحان وقريات الملح، ونحو البداوة على المستوى الحضاري. وبما أن الكاتب في كتابه هذا هو من الأجيال اللاحقة حقاً، فقد أرّقه السؤال القديم والمتجدد: كيف استطاع المشروع الصهيوني أن ينتصر، وأن يستولي على فلسطين. وفي معرض التفتيش عن جواب شافٍ رأى الكاتب أن 15 أيار/ مايو 1948 ليس هو التاريخ الحقيقي لتأسيس دولة اسرائيل، بل إن التأسيس الفعلي بدأ قبل ذلك بستين عاماً، أي منذ بداية الاستيطان اليهودي في عهد الدولة العثمانية. وفي هذا الميدان حمّل الكاتب العرب، حكاماً ونظماً ومؤسسات، جزءاً وافياً من المسؤولية عن قيام دولة اسرائيل، وبالتحديد أصحاب الياقات والطرابيش والمشايخ وزعماء العشائر والرؤساء والأمراء والسلاطين وخدام الحرمين والأشراف والأفندية والبكوات وملاك الأرض وغيرهم (ص 20).
يبحث الكتاب بفصوله الخمسة مجموعة من القضايا التاريخية والسياسية، منها، على سبيل المثال، موقع فلسطين في العقل اليهودي، وتمثلات ذلك في المشروع الصهيوني الذي تبلور وتطور فكرياً وسياسياً في أواخر عهد السلطنة العثمانية، ثم يركز على قضية الأرض، فيؤرخ لا لمفهوم الأرض وحده، بل للمشروع الصهيوني الذي تجسد في المستوطنات الأولى وفي المستوطنين الأوائل، ويؤرخ أيضاً للحركة الوطنية الفلسطينية وكيف واجهت الصهيونية (وهي حركة سياسية أوروبية المنشأ ذات نزعة حديثة) بعُدة قديمة ومتهالكة. وفي هذا المجال يحمِّل الكاتب السلطنة العثمانية والسلطان عبد الحميد جزءاً أساسياً من المسؤولية عن ضياع الأرض التي يروي مأساة بيعها بالأسماء والأرقام والوقائع. ثم يتوفر على دراسة المصادر البشرية التي أمدت الكيان الاسرائيل بالنسغ الضروري لبقائه، أي الناس الذين حملوا البنادق في وجه العرب، وحملوا المعاول كي يتحولوا إلى "شعب" مرتبط بأرض ليست لهم. ويتوسع الكاتب هنا في دراسة أحوال اليهود العرب قبل قيام دولة اسرائيل، وكيف انقلبت الحال وراح هؤلاء يهاجرون إلى فلسطين المحتلة إما بعملية "بساط الريح" المشهورة، أو بعملية "بلقيس"، أو بالتواطوء مع الحكام العرب كما جرى في العراق حين أُسقطت الجنسية عن اليهود بقانون أصدره الوصي عبد الإله ورئيس الوزراء توفيق السويدي ووزير الداخلية صالح جبر. وفي هذا الحقل من التاريخ يعيد الكاتب إلى الأذهان ما فعله السعودي عدنان خاشقجي والسوداني جعفر النميري عندما سّهلا تهجير اليهود الأحباش (الفلاشا) إلى اسرائيل، وصَمَتَ عن تلك الفضيحة الشيخ حسن الترابي. ويكشف في هذا السياق كيف أن صحافياً لبنانياً مشهوراً (لعله يقصد سليم اللوزي) ذهب ضحية تقاطعات استخبارية عدة بعدما أشاع أنه يرغب في نشر مذكرات ثريا خاشقجي التي تضمنت وصفاً لاهباً لعلاقاتها الجنسية مع عدد من أمراء العرب.
إلى ذلك احتوى الكتاب دراسة مقارنة للمجتمع اليهودي في فلسطين قبل النكبة، وللمؤسسات الصهيونية التي أنشأت ذلك المجتمع فوق الأرض الفلسطينية، خصوصاً بعد صدور صك الانتداب البريطاني على فلسطين في سنة 1922، ثم يضاهي ذلك بالمجتمع الفلسطيني وتشققاته وتفسخ مؤسساته المحلية. ثم يعقد مقارنة مؤلمة بين مفاتيح بيوت أهل الأندلس الذين تشتتوا في بلدان المغرب العربي، ومفاتيح منازل الفلسطينيين في بلاد المنافي ليقول: "الخشية اليوم من أن يصبح العرب كلهم حمّالي مفاتيح بيوت متروكة ومدن مهجورة" (ص 267). ويختم الكاتب كتابه بخلاصة ثاقبة هي التالية: ليس أمامنا إلا ما قاله إدوارد سعيد لياسر عرفات حين تردد اسحق رابين في مد يده لمصافحته يوم التوقيع على اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض: "كان عليك أن تدير ظهرك له وتعود إلى الحجارة".
متابعات
ضفة ثالثة
وحسن قبلان هو إبن جبل عامل الملتصق منذ قديم العصور بفلسطين، بل هو ابن قرية ميس الجبل الواقعة على الحد الفاصل بين لبنان وفلسطين مباشرة، وهو خط وهمي حوّله نيوكمب وبوليه (ممثلا بريطانيا وفرنسا) في سنة 1923 إلى خط حدود رسمي. وقد تبرعم وعي حسن قبلان على أخبار فلسطين والفدائيين، وكان يحفظ منذ طفولته أسماء قرى سهل الحولة كلها، وشهد منزله حكايات عن بدايات الفدائيين في الجنوب اللبناني، وتداخلت حياته وحياة أهله بحياة الفلسطينيين، فدرست شقيقاته في مدرسة أبناء شهداء الثورة الفلسطينية في سوق الغرب (بيت إسعاد الطفولة)، وبعضهن تزوجن شباناً من فلسطين. وبين مسقطه ومرتع طفولته في جنوب لبنان، ثم فتوته ومرحلة الشباب في بلدة القماطية في جبل لبنان عاش أجواء النضال الفلسطيني، والتقى مناضلين من شتى الاتجاهات، فامتزجت فلسطين بكيانه وعقله ووجدانه، فضلاً عن عائلته، فصار فلسطينياً بقدر ما هو لبناني.
الدافع إلى إصدار هذا الكتاب في مئوية إعلان بلفور هو قضية فلسطين وواقعها الراهن. أما ما جعله يبري قلمه ويتوفر على المراجع والمصادر فكان عبد الرحمن الشهبندر ومقالته المنشورة في مجلة "الجامعة الإسلامية" في يافا (1/3/1935) بعنوان "ماذا تقولون للأجيال اللاحقة؟"، والتي أعاد ملحق "فلسطين" في جريدة " السفير" نشرها في 17/7/2010 وفي تلك المقالة حذر الشهبندر العرب من هزيمة نكراء أمام اليهود؛ هزيمة ترغمهم على التراجع جغرافياً نحو الفيافي والقفاز في وادي السرحان وقريات الملح، ونحو البداوة على المستوى الحضاري. وبما أن الكاتب في كتابه هذا هو من الأجيال اللاحقة حقاً، فقد أرّقه السؤال القديم والمتجدد: كيف استطاع المشروع الصهيوني أن ينتصر، وأن يستولي على فلسطين. وفي معرض التفتيش عن جواب شافٍ رأى الكاتب أن 15 أيار/ مايو 1948 ليس هو التاريخ الحقيقي لتأسيس دولة اسرائيل، بل إن التأسيس الفعلي بدأ قبل ذلك بستين عاماً، أي منذ بداية الاستيطان اليهودي في عهد الدولة العثمانية. وفي هذا الميدان حمّل الكاتب العرب، حكاماً ونظماً ومؤسسات، جزءاً وافياً من المسؤولية عن قيام دولة اسرائيل، وبالتحديد أصحاب الياقات والطرابيش والمشايخ وزعماء العشائر والرؤساء والأمراء والسلاطين وخدام الحرمين والأشراف والأفندية والبكوات وملاك الأرض وغيرهم (ص 20).
يبحث الكتاب بفصوله الخمسة مجموعة من القضايا التاريخية والسياسية، منها، على سبيل المثال، موقع فلسطين في العقل اليهودي، وتمثلات ذلك في المشروع الصهيوني الذي تبلور وتطور فكرياً وسياسياً في أواخر عهد السلطنة العثمانية، ثم يركز على قضية الأرض، فيؤرخ لا لمفهوم الأرض وحده، بل للمشروع الصهيوني الذي تجسد في المستوطنات الأولى وفي المستوطنين الأوائل، ويؤرخ أيضاً للحركة الوطنية الفلسطينية وكيف واجهت الصهيونية (وهي حركة سياسية أوروبية المنشأ ذات نزعة حديثة) بعُدة قديمة ومتهالكة. وفي هذا المجال يحمِّل الكاتب السلطنة العثمانية والسلطان عبد الحميد جزءاً أساسياً من المسؤولية عن ضياع الأرض التي يروي مأساة بيعها بالأسماء والأرقام والوقائع. ثم يتوفر على دراسة المصادر البشرية التي أمدت الكيان الاسرائيل بالنسغ الضروري لبقائه، أي الناس الذين حملوا البنادق في وجه العرب، وحملوا المعاول كي يتحولوا إلى "شعب" مرتبط بأرض ليست لهم. ويتوسع الكاتب هنا في دراسة أحوال اليهود العرب قبل قيام دولة اسرائيل، وكيف انقلبت الحال وراح هؤلاء يهاجرون إلى فلسطين المحتلة إما بعملية "بساط الريح" المشهورة، أو بعملية "بلقيس"، أو بالتواطوء مع الحكام العرب كما جرى في العراق حين أُسقطت الجنسية عن اليهود بقانون أصدره الوصي عبد الإله ورئيس الوزراء توفيق السويدي ووزير الداخلية صالح جبر. وفي هذا الحقل من التاريخ يعيد الكاتب إلى الأذهان ما فعله السعودي عدنان خاشقجي والسوداني جعفر النميري عندما سّهلا تهجير اليهود الأحباش (الفلاشا) إلى اسرائيل، وصَمَتَ عن تلك الفضيحة الشيخ حسن الترابي. ويكشف في هذا السياق كيف أن صحافياً لبنانياً مشهوراً (لعله يقصد سليم اللوزي) ذهب ضحية تقاطعات استخبارية عدة بعدما أشاع أنه يرغب في نشر مذكرات ثريا خاشقجي التي تضمنت وصفاً لاهباً لعلاقاتها الجنسية مع عدد من أمراء العرب.
إلى ذلك احتوى الكتاب دراسة مقارنة للمجتمع اليهودي في فلسطين قبل النكبة، وللمؤسسات الصهيونية التي أنشأت ذلك المجتمع فوق الأرض الفلسطينية، خصوصاً بعد صدور صك الانتداب البريطاني على فلسطين في سنة 1922، ثم يضاهي ذلك بالمجتمع الفلسطيني وتشققاته وتفسخ مؤسساته المحلية. ثم يعقد مقارنة مؤلمة بين مفاتيح بيوت أهل الأندلس الذين تشتتوا في بلدان المغرب العربي، ومفاتيح منازل الفلسطينيين في بلاد المنافي ليقول: "الخشية اليوم من أن يصبح العرب كلهم حمّالي مفاتيح بيوت متروكة ومدن مهجورة" (ص 267). ويختم الكاتب كتابه بخلاصة ثاقبة هي التالية: ليس أمامنا إلا ما قاله إدوارد سعيد لياسر عرفات حين تردد اسحق رابين في مد يده لمصافحته يوم التوقيع على اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض: "كان عليك أن تدير ظهرك له وتعود إلى الحجارة".
متابعات
ضفة ثالثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق