كتاب "أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية" لعزيز سباهي هو أول دراسة حديثة تظهر باللغة العربية عن هذه الطائفة التي نشأت في وسط وجنوب وادي الرافدين قبل ظهور المسيحية. ولا شك في أن البحث في المسألة المندائية قضية شائكة جدًا، إذ ينبغي على الباحث ليس فقط معرفة اللغة المندائية بل كذلك اللغات السريانية والعبرية والإغريقية. وربما تكون هذه العقبة هي السبب المباشر في إحجام مراكز البحث في العالم العربي عن الخوض في مثل هذه المشاريع الشائكة. أما السبب الآخر فهو تحول الديانة الصابئية إلى ديانة سرية بسبب الاضطهادات التي تعرضت لها الطائفة طيلة القرون الماضية.
المؤلف عزيز سباهي، وبسبب اعتماده على المصادر الأجنبية وكتابات المستشرقين، لا يستطيع أن يجزم فيما إذا كان الصابئة قد ظهروا في وادي الرافدين أم أنهم جاؤوا من فلسطين. وبسبب من طغيان النزعة المركزية الأوروبية على البحث- المركزية الأوروبية التي ترجع أصل كل حضارة إلى الأقوام الآرية والعقل الأوروبي- فإنه يترك الباب مفتوحا للتأويل (بادئ ذي بدء نؤكد أنهم سواء كانوا قد ظهروا هنا أو هناك فإنهم ظلوا على تفاعل مستمر مع الجماعات التي كانت تجاورهم برغم العزلة إلى حد ما التي فرضوها على أنفسهم أو فرضها المحيط الذي عاشوا فيه عليهم. ومثلما أثروا في أفكار من احتك بهم، فإنهم تأثروا بمعتقدات الأقوام المجاورة برغم كل التحوطات التي كانوا يتخذونها لدفع هذه التأثيرات. إن هذا التفاعل المستمر الذي ظل يجري طوال القرون بوتائر سريعة مؤثرة أحيانا أو ببطء شديد وبتعديلات غير جوهرية كما جرى في القرون المتأخرة، أوجد نوعا من الزركشة في المعتقدات زادت في تعقد مسألة البحث في أصلهم وتحديد مستويات هذه المعتقدات).
افتقاد الرأي القاطع
مع أن هناك الكثير من المعطيات التاريخية التي تؤكد الأصل الرافديني للصابئة المندائيين، إلا إنّ المؤلف يكتفي بعرض هذه المعطيات من دون أن يقدم رأيا قاطعا (إنه ليصعب القطع بأن المندائية تلقت التأثيرات اليهودية من فلسطين وحدها حين تكون مثل هذه التأثيرات قد وجدت في جنوب ما بين النهرين أيضا وبقوة لا تقل عما هي عليه في فلسطين. فلقد تخلفت في جنوب وادي الرافدين مجموعات كبيرة من اليهود بعد أن سمح الملك الفارسي الأخميني كورش بهذه العودة. والواقع أن قلة من اليهود الذين سباهم بختصر قد عادوا إلى فلسطين، إذ آثرت الأغلبية أن تواصل عيشها في بلاد الرافدين. وفي العهد البارثي كانت هناك مجمعات لليهود في جميع المدن البابلية).
إن التلمود البابلي، وهو من أهم الكتب الدينية اليهودية، كان قد دُون في جنوب العراق وباللغة الآرامية التي تشبه كثيرا اللغة المندائية، لكن المؤلف لا يعلق على هذه النقطة. كما أن عزرا الذي تخلف عن العودة إلى فلسطين والذي أشرف على تدوين الأدب اليهودي في أورشليم فيما بعد، عاد إلى ميسان وتوفي هناك في قرية اسمها العزير. وكل هذه الإشارات القاطعة لا تثير المؤلف للتعليق عليها وكأني به يمارس التقية. فهو لا يريد أن يقول إن المندائية متأثرة بالديانة اليهودية المتأثرة بدورها بالأساطير السومرية والبابلية والسورية الكنعانية، أو أنه واقع تحت تأثير التحريم الديني الذي تفرضه الطائفة في عدم إشاعة أسرار الديانة. لكن على كل حال فإن الذنب ليس ذنبه خصوصا إذا كانت المركزية الأوروبية والمستشرقون يشككون في الأصل، وأعني بذلك أصل السومريين. لذلك لا بد لنا من تقديم وجهة نظرنا عن القضية السومرية رغم أنها ستبعدنا قليلا عن هذه المراجعة ولكنها في الوقت نفسه تصب في الإطار ذاته.
أصل السومريين
يعتقد أكثر الباحثين والمهتمين بتاريخ الحضارات القديمة أن أصل السومريين ينحدر من مرتفعات إيران. كما يعتقدون أن النظرية الخليجية هي أكثر النظريات رجاحة في تحديد أصل السومريين. ولكن بالرجوع إلى المصادر التاريخية نجد أن هناك تناقضا خطيرا ومعقدا فيما يتعلق بسكان المستنقعات – العبيد – الذين سكنوا منطقة ما بين النهرين منذ ما بعد العصر البرونزي. وسأحاول هنا أن اقدم بعض المقترحات ومن خلال المصادر التاريخية التي ترجح أن تكون الأقوام التي انحدرت من مرتفعات إيران هي الأقوام ذاتها التي هاجرت من جنوب وادي الرافدين أثناء الطوفان الكبير الذي امتد قرابة 400 سنة.
جاء في الموسوعة العالمية للآثار "أما في جيان وتل باكون وسوس فلا يوجد أي إعمار سابق لنهاية سيالك الثالثة. وبداية الألف الثالث ق. م شاهد على دمار سيالك الثالثة.. والآثار الباقية التي من العصر التالي تمدّنا بالدليل على قيام حضارة دخيلة وهي حضارة سوسة التي تأثرت تأثرا قويا ببلاد وادي الرافدين" 1.
وفي مكان آخر من الموسوعة وتحت عنوان "السومريون" يرد التالي "لم يكن السومريون يعرفون إلا من خلال نصوص الألواح المسمارية.. بينما بقيت المواد الأثرية من هذا العصر مجهولة. لكن ما كاد يحل عام 1931 حتى أثبتت الحفائر العديدة ثلاث مراحل سبقت تاريخ الأسرات في سومر وقد أطلقت عليها أسماء المواقع الأثرية التي عثر بها على شواهد كل مرحلة لأول مرة.... العبيد، أوروك، وجمدة نصر. وقد بينت حفائر العبيد أن سكان سومر الأوائل- شنعار - في التورات- جاؤوا أصلا من مرتفعات إيران وقد استقروا في جنوب وادي الرافدين حوالي 4000 ق. م"2.
وبالعودة إلى الاقتباسين نجد التناقض واضحا، حيث تقول الموسوعة "والآثار الباقية من العصر التالي تمدنا بالدليل على قيام حضارة "دخيلة" وهي حضارة سوسة التي تأثرت تأثرا قويا ببلاد وادي الرافدين في بداية الالف الثالث ق.م"، فكيف يمكن للسومريين الذين سكنوا بلاد وادي الرافدين قبل 4000 سنة ق. م كما تقول الموسوعة أن يكونوا منحدرين من مرتفعات إيران؟!
ولكي نؤكد قيام تلك الحضارة الدخيلة في سيالك والتي أخذت الكثير من التقاليد العبيدية السومرية، فإننا نعود إلى الموسوعة التي تمدنا بالدليل المادي "والسكان الأوائل لسيالك في الألف الخامس قبل الميلاد كانوا صيادين وكانوا يكملون قوتهم بالزراعة وتربية الحيوان وسرعان ما استبدلوا مساكنهم التي تشبه العشش بمبان طينية– بيزيه– صغيرة" 3. وبالرجوع إلى سكان المستنقعات – العبيد – الذين سكنوا تلك المنطقة منذ ما بعد العصر البرونزي، نجد أن طراز بناء المنازل هو نفسه الذي وجد في سيالك، خصوصا أن المواد المستعملة في بناء هذه المنازل لا توجد إلا في جنوب وادي الرافدين في المستنقعات وهما القصب والبردي.. وهما نباتان لا يمكن أن ينموا في مرتفعات إيران الصخرية والصحراوية. وأرجح الظن في اعتقادنا أن العبيديين هاجروا إلى مرتفعات إيران القريبة منهم بسبب الفيضانات السنوية التي كانت تهدد حياتهم ومزروعاتهم ونقلوا معهم تقاليدهم في بناء المنازل. وبما أن مرحلة العبيد استمرت 400 سنة وهي الفترة ذاتها التي انحسرت فيها مياه الفيضان عن جنوب وادي الرافدين، فإن الأقوام التي هاجرت بسبب الفيضان عادت مرة أخرى إلى موطنها الأصلي متأثرة ببعض التقاليد الموجودة في مرتفعات إيران.
وإذا كانت حفريات العبيد قد كشفت عن ثلاث مراحل سبقت تاريخ الأسرات في سومر هي العبيد والوركاء وجمدة نصر، فإن الحفريات تؤكد بما لا يقبل الشك أن العبيديين هم السكان الأوائل لجنوب وادي الرافدين. ولكن الذي يعنينا هو المرحلة الحضارية الثانية- الوركاء- وهو موقع بلدة من أقدم المدن السومرية (أوروك) أريخ في التورات مدينة الملك العظيم كلكامش.. تقول الموسوعة "وهي أكثر تقدما من آثار سكان المستنقعات الأوائل في العبيد توحي بحلول جنس أجنبي من أقوام جبلية جاءت من الأناضول وتفرقت شمالا وجنوبا في بلاد الرافدين" 4. تقول الموسوعة- توحي- بحلول جنس أجنبي من دون أن تقدم دليلا ماديا ملموسا عن قدوم جنس آخر له آثاره ومقتنياته وتراثه وتتجاهل أن يكون سكان العبيد الأوائل قد عاشوا ازدهارا اقتصاديا كبيرا بعد انحسار الفيضان وبتأثير هذا الازدهار انتعشت الحياة الدينية والاجتماعية للسكان فطوروا بناء المعابد وأنظمة الري للتخلص من فيضان دجلة والفرات الذي يسبق فترة الحصاد فأنتجوا بذلك حضارة الوركاء.
ثم إن الأقوام التي نزحت من الأناضول هي أقوام هندو- أوروبية ولا يوجد أي مصدر تاريخي يقول بوجود مثل هذه الأقوام كما يشير إلى ذلك الأستاذ علي الشوك "السومريون ليسوا أكراداً... وليس ثمة ما يشير في أي مصدر من المصادر التاريخية إلى أن الأكراد استوطنوا كردستان الحالية قبل سبعة آلاف سنة.. لأن الأقوام الهندو – أوروبية لم يكن لها وجود أو ذكر في الشرق الأوسط برمته في تلك المرحلة" 5.
تبقى لدينا حلقة مفقودة لم يهتم كثيرا الباحثون والعلماء في دراستها هي فترة الطوفان الذي حصل في أور والذي فقدت بسببه آثار الأسرتين السومريتين الأولى والثانية. فالآثار التي تركتها الأسرة الثالثة لا يمكن أن تكون قد أنتجت من فراغ، ولا بد أن تكون هناك حضارة سابقة لها قام الطوفان بتدميرها كليا، خصوصا أن الحضارة السومرية الأولى قامت على الطين والقصب وهما مادتان لا يمكن أن تصمدا بوجه الفيضان الذي حصل. تقول الموسوعة "يبدأ الثبت التاريخي السومري بالأسرة الثالثة بعد الطوفان وهي الأسرة المعروفة باسم أسرة أور الأولى. ويؤيد صحة هذه الرواية لوح مكتوب وجد في أحد الأساسات في أور ويبين أن أول ملوك هذه الأسرة كان ملكا يدعى ميساني = باد حوالي 2900 ق. م وفي هذا العصر كانت أور العاصمة المزدهرة في جنوب وادي الرافدين" 6.
استنتاجات
نستنتج من كل ما تقدم التالي:
1- أن السومريين لم يقدموا من مرتفعات إيران بدليل أن الحضارة التي قامت في سيالك الثالثة بداية الألف الثالث قبل الميلاد كانت دخيلة ومتأثرة تأثرا قويا ببلاد ما بين النهرين، مما يدل على أن السومريين سبقوا الإيرانيين بحوالي 1000 سنة بداية الألف الرابع ق.م.
2- أن نمط بناء المنازل الذي وجد في سيالك الثالثة هو النمط ذاته الذي استخدمه العبيديون قبل ستة آلاف سنة في جنوب العراق.
3- وأن المادة المستخدمة في بناء العشش هي القصب والبردي ولا يوجد هذان النباتان في المرتفعات الإيرانية، حيث يستحيل أن ينمو القصب والبردي في المناطق الصخرية أو الصحراوية.
4- بما أن المصادر التاريخية لم تشر مطلقا إلى وجود أقوام هندو – أوروبية في الشرق الأوسط فإنه من العسير القول إن أصل السومريين ينحدر من أصل هندو – أوروبي. والرأي الراجح هنا هو أن الأسرتين السومريتين الأولى والثانية هاجرتا من جنوب العراق إلى المناطق المرتفعة القريبة بسبب الفيضان وعادتا بعد انحساره أي بعد 400 سنة. والمشكلة الجوهرية في هذا الصدد هي أن الفيضان لم يبق على أي أثر للأسرتين مما يجعل من العسير ربط العبيديين بالأسرة الثالثة مباشرة، على الرغم من التشابه الكبير بين العبيديين والأسرة الثالثة فيما يتعلق بأدوات الصيد والزراعة والعبادات. وبالعودة إلى الموسوعة فإنها تقول "وفي كل مدونة تاريخية سومرية كان أول حادث له الأهمية القصوى هو الطوفان. وقد قسم هذا الحادث قائمة الملوك السومرية إلى قسمين ينتهي أولهما بالطوفان" 7.
ماذا نستنتج من هذا النص؟ تقول الموسوعة إن كل مدونة تاريخية سومرية كانت تشير إلى الطوفان كحادث له أهمية قصوى وأنه قسم قائمة الملوك إلى قسمين ينتهي أولهما بالطوفان.. فكم ملكا كان في القسم الأول من القائمة؟ وكم سنة حكم كل منهم؟ إن مراجعة دقيقة ومتأنية لمرحلة الطوفان يمكن أن تكشف الحلقة المفقودة من تراث الأسرتين السومريتين الأولى والثانية واللتين تعدان الامتداد التاريخي الصحيح لسكان المستنقعات – العبيديين – وليس من المستبعد أن يكون السومريون أبناء أو أحفادا للعبيديين السكان الأوائل لجنوب وادي الرافدين.
المؤلف يصر على نظرية
الأصل الغربي للمندائية
بعد هذه الجولة الطويلة نسبيا في تقصي الأصول السومرية نعود إلى كتاب "أصول الصابئة المندائيين" وبالتحديد إلى الفصل الثاني (المندائية والدين البابلي).
يعقد المؤلف مقارنة بين الديانة والأساطير البابلية والمندائية فيجد أنها واحدة ومتشابهة تماما فيتساءل مندهشا "يثار هنا تساؤل مشروع: هل كان المندائيون قد تأثروا بشكل مباشر بأفكار الجماعات البابلية التي كانت تجاورهم، أو أن يكونوا هم ذاتهم من بقايا البابليين وطوروا معتقداتهم من خلال تفاعلهم مع الجماعات اليهودية والفارسية وغيرها التي كانت تعيش جوارهم"؟. لا أعرف بالضبط ما الذي يقصده المؤلف بالجماعات البابلية؟ هل يريد بذلك أن يختزل حضارة بابل العظيمة إلى شرذمة من الجماعات المتناثرة هنا وهناك مثلا؟
وتزداد دهشته وهو يستعرض الأسطورة المندائية التي تتحدث عن العالم السفلي "فعدا عن التكرار الشائع في تراتيلهم الشعرية والذي ساروا فيه على غرار الأدب البابلي، فإن هناك جوانب عديدة تثير انتباها خاصا تتعلق بعراقية البيئة التي تدور فيها الأحداث التي توردها كتبهم" (وفي كتاب دردشة د يهيا – تعاليم يحيى – يشار إلى صيد السمك على الضوء، وهي طريقة معروفة في صيد السمك في أهوار العراق في موسم صيد الزرة).
إن كل هذه الشواهد والمعطيات المادية والتاريخية لا تشجع المؤلف على القول بالأصل الرافديني للمندائيين، لا بل إنه يصر على نظرية الأصل الغربي للمندائية: "يظل هناك تحفظ معين يحسن أن نختتم به هذا الفصل هو أن الجماعات البابلية وغير البابلية التي أسكنها ملوك آشور وبختصر في فلسطين والسامريون كما يذهب بعض الباحثين من هؤلاء، وكذلك اليهود الذين عادوا من سبي بابل أيام كورش إلى فلسطين، ربما يكونون قد حملوا معهم الأساطير والمعتقدات البابلية. فهل برزت المندائية هناك كما تذهب نظرية الأصل الغربي للمندائية"؟
يبقى أن نقول إن المندائيين الذين عاشوا ألفي سنة في ميسان وحدها كانوا يكتبون اسم المدينة مُجزأ هكذا: مي- وتعني بالمندائية الماء- وشان- وتعني القصي إشارة إلى وجودها في أقصى الجنوب الرافديني، ويكتب الاسم بالطريقة نفسها باللغة السريانية، أما بالعبرية فيكتب ميشين وبالفارسية ميشيون وبالعربية ميسان.
والملاحظة الأخيرة التي نود طرحها في نهاية المطاف هي أن الصابئة المندائيين كانوا يكتبون اسم مدينة أورشليم مجزأ أيضا هكذا: أور- شليم. فهل هناك علاقة من نوع ما بين مدينة أور الرافدية وبين أورشليم الفلسطينية- القدس؟
صلاح حسن
هوامش:
ـــــــــــــ
1- الموسوعة العالمية للآثار. إشراف ليونارد كوتريل. تأليف 48 عالما أثريا. الهيئة المصرية للكتاب 1977. موضوعة إيران ص 231.
2- المصدر السابق نفسه ص 499
3- المصدر السابق ص 231
4- المصدر السابق ص 499
5- السومريون ليسوا أكراداً، علي الشوك، جريدة الحياة
6- الموسوعة العالمية للآثار ص 500.
المؤلف عزيز سباهي، وبسبب اعتماده على المصادر الأجنبية وكتابات المستشرقين، لا يستطيع أن يجزم فيما إذا كان الصابئة قد ظهروا في وادي الرافدين أم أنهم جاؤوا من فلسطين. وبسبب من طغيان النزعة المركزية الأوروبية على البحث- المركزية الأوروبية التي ترجع أصل كل حضارة إلى الأقوام الآرية والعقل الأوروبي- فإنه يترك الباب مفتوحا للتأويل (بادئ ذي بدء نؤكد أنهم سواء كانوا قد ظهروا هنا أو هناك فإنهم ظلوا على تفاعل مستمر مع الجماعات التي كانت تجاورهم برغم العزلة إلى حد ما التي فرضوها على أنفسهم أو فرضها المحيط الذي عاشوا فيه عليهم. ومثلما أثروا في أفكار من احتك بهم، فإنهم تأثروا بمعتقدات الأقوام المجاورة برغم كل التحوطات التي كانوا يتخذونها لدفع هذه التأثيرات. إن هذا التفاعل المستمر الذي ظل يجري طوال القرون بوتائر سريعة مؤثرة أحيانا أو ببطء شديد وبتعديلات غير جوهرية كما جرى في القرون المتأخرة، أوجد نوعا من الزركشة في المعتقدات زادت في تعقد مسألة البحث في أصلهم وتحديد مستويات هذه المعتقدات).
افتقاد الرأي القاطع
مع أن هناك الكثير من المعطيات التاريخية التي تؤكد الأصل الرافديني للصابئة المندائيين، إلا إنّ المؤلف يكتفي بعرض هذه المعطيات من دون أن يقدم رأيا قاطعا (إنه ليصعب القطع بأن المندائية تلقت التأثيرات اليهودية من فلسطين وحدها حين تكون مثل هذه التأثيرات قد وجدت في جنوب ما بين النهرين أيضا وبقوة لا تقل عما هي عليه في فلسطين. فلقد تخلفت في جنوب وادي الرافدين مجموعات كبيرة من اليهود بعد أن سمح الملك الفارسي الأخميني كورش بهذه العودة. والواقع أن قلة من اليهود الذين سباهم بختصر قد عادوا إلى فلسطين، إذ آثرت الأغلبية أن تواصل عيشها في بلاد الرافدين. وفي العهد البارثي كانت هناك مجمعات لليهود في جميع المدن البابلية).
إن التلمود البابلي، وهو من أهم الكتب الدينية اليهودية، كان قد دُون في جنوب العراق وباللغة الآرامية التي تشبه كثيرا اللغة المندائية، لكن المؤلف لا يعلق على هذه النقطة. كما أن عزرا الذي تخلف عن العودة إلى فلسطين والذي أشرف على تدوين الأدب اليهودي في أورشليم فيما بعد، عاد إلى ميسان وتوفي هناك في قرية اسمها العزير. وكل هذه الإشارات القاطعة لا تثير المؤلف للتعليق عليها وكأني به يمارس التقية. فهو لا يريد أن يقول إن المندائية متأثرة بالديانة اليهودية المتأثرة بدورها بالأساطير السومرية والبابلية والسورية الكنعانية، أو أنه واقع تحت تأثير التحريم الديني الذي تفرضه الطائفة في عدم إشاعة أسرار الديانة. لكن على كل حال فإن الذنب ليس ذنبه خصوصا إذا كانت المركزية الأوروبية والمستشرقون يشككون في الأصل، وأعني بذلك أصل السومريين. لذلك لا بد لنا من تقديم وجهة نظرنا عن القضية السومرية رغم أنها ستبعدنا قليلا عن هذه المراجعة ولكنها في الوقت نفسه تصب في الإطار ذاته.
أصل السومريين
يعتقد أكثر الباحثين والمهتمين بتاريخ الحضارات القديمة أن أصل السومريين ينحدر من مرتفعات إيران. كما يعتقدون أن النظرية الخليجية هي أكثر النظريات رجاحة في تحديد أصل السومريين. ولكن بالرجوع إلى المصادر التاريخية نجد أن هناك تناقضا خطيرا ومعقدا فيما يتعلق بسكان المستنقعات – العبيد – الذين سكنوا منطقة ما بين النهرين منذ ما بعد العصر البرونزي. وسأحاول هنا أن اقدم بعض المقترحات ومن خلال المصادر التاريخية التي ترجح أن تكون الأقوام التي انحدرت من مرتفعات إيران هي الأقوام ذاتها التي هاجرت من جنوب وادي الرافدين أثناء الطوفان الكبير الذي امتد قرابة 400 سنة.
جاء في الموسوعة العالمية للآثار "أما في جيان وتل باكون وسوس فلا يوجد أي إعمار سابق لنهاية سيالك الثالثة. وبداية الألف الثالث ق. م شاهد على دمار سيالك الثالثة.. والآثار الباقية التي من العصر التالي تمدّنا بالدليل على قيام حضارة دخيلة وهي حضارة سوسة التي تأثرت تأثرا قويا ببلاد وادي الرافدين" 1.
وفي مكان آخر من الموسوعة وتحت عنوان "السومريون" يرد التالي "لم يكن السومريون يعرفون إلا من خلال نصوص الألواح المسمارية.. بينما بقيت المواد الأثرية من هذا العصر مجهولة. لكن ما كاد يحل عام 1931 حتى أثبتت الحفائر العديدة ثلاث مراحل سبقت تاريخ الأسرات في سومر وقد أطلقت عليها أسماء المواقع الأثرية التي عثر بها على شواهد كل مرحلة لأول مرة.... العبيد، أوروك، وجمدة نصر. وقد بينت حفائر العبيد أن سكان سومر الأوائل- شنعار - في التورات- جاؤوا أصلا من مرتفعات إيران وقد استقروا في جنوب وادي الرافدين حوالي 4000 ق. م"2.
وبالعودة إلى الاقتباسين نجد التناقض واضحا، حيث تقول الموسوعة "والآثار الباقية من العصر التالي تمدنا بالدليل على قيام حضارة "دخيلة" وهي حضارة سوسة التي تأثرت تأثرا قويا ببلاد وادي الرافدين في بداية الالف الثالث ق.م"، فكيف يمكن للسومريين الذين سكنوا بلاد وادي الرافدين قبل 4000 سنة ق. م كما تقول الموسوعة أن يكونوا منحدرين من مرتفعات إيران؟!
ولكي نؤكد قيام تلك الحضارة الدخيلة في سيالك والتي أخذت الكثير من التقاليد العبيدية السومرية، فإننا نعود إلى الموسوعة التي تمدنا بالدليل المادي "والسكان الأوائل لسيالك في الألف الخامس قبل الميلاد كانوا صيادين وكانوا يكملون قوتهم بالزراعة وتربية الحيوان وسرعان ما استبدلوا مساكنهم التي تشبه العشش بمبان طينية– بيزيه– صغيرة" 3. وبالرجوع إلى سكان المستنقعات – العبيد – الذين سكنوا تلك المنطقة منذ ما بعد العصر البرونزي، نجد أن طراز بناء المنازل هو نفسه الذي وجد في سيالك، خصوصا أن المواد المستعملة في بناء هذه المنازل لا توجد إلا في جنوب وادي الرافدين في المستنقعات وهما القصب والبردي.. وهما نباتان لا يمكن أن ينموا في مرتفعات إيران الصخرية والصحراوية. وأرجح الظن في اعتقادنا أن العبيديين هاجروا إلى مرتفعات إيران القريبة منهم بسبب الفيضانات السنوية التي كانت تهدد حياتهم ومزروعاتهم ونقلوا معهم تقاليدهم في بناء المنازل. وبما أن مرحلة العبيد استمرت 400 سنة وهي الفترة ذاتها التي انحسرت فيها مياه الفيضان عن جنوب وادي الرافدين، فإن الأقوام التي هاجرت بسبب الفيضان عادت مرة أخرى إلى موطنها الأصلي متأثرة ببعض التقاليد الموجودة في مرتفعات إيران.
وإذا كانت حفريات العبيد قد كشفت عن ثلاث مراحل سبقت تاريخ الأسرات في سومر هي العبيد والوركاء وجمدة نصر، فإن الحفريات تؤكد بما لا يقبل الشك أن العبيديين هم السكان الأوائل لجنوب وادي الرافدين. ولكن الذي يعنينا هو المرحلة الحضارية الثانية- الوركاء- وهو موقع بلدة من أقدم المدن السومرية (أوروك) أريخ في التورات مدينة الملك العظيم كلكامش.. تقول الموسوعة "وهي أكثر تقدما من آثار سكان المستنقعات الأوائل في العبيد توحي بحلول جنس أجنبي من أقوام جبلية جاءت من الأناضول وتفرقت شمالا وجنوبا في بلاد الرافدين" 4. تقول الموسوعة- توحي- بحلول جنس أجنبي من دون أن تقدم دليلا ماديا ملموسا عن قدوم جنس آخر له آثاره ومقتنياته وتراثه وتتجاهل أن يكون سكان العبيد الأوائل قد عاشوا ازدهارا اقتصاديا كبيرا بعد انحسار الفيضان وبتأثير هذا الازدهار انتعشت الحياة الدينية والاجتماعية للسكان فطوروا بناء المعابد وأنظمة الري للتخلص من فيضان دجلة والفرات الذي يسبق فترة الحصاد فأنتجوا بذلك حضارة الوركاء.
ثم إن الأقوام التي نزحت من الأناضول هي أقوام هندو- أوروبية ولا يوجد أي مصدر تاريخي يقول بوجود مثل هذه الأقوام كما يشير إلى ذلك الأستاذ علي الشوك "السومريون ليسوا أكراداً... وليس ثمة ما يشير في أي مصدر من المصادر التاريخية إلى أن الأكراد استوطنوا كردستان الحالية قبل سبعة آلاف سنة.. لأن الأقوام الهندو – أوروبية لم يكن لها وجود أو ذكر في الشرق الأوسط برمته في تلك المرحلة" 5.
تبقى لدينا حلقة مفقودة لم يهتم كثيرا الباحثون والعلماء في دراستها هي فترة الطوفان الذي حصل في أور والذي فقدت بسببه آثار الأسرتين السومريتين الأولى والثانية. فالآثار التي تركتها الأسرة الثالثة لا يمكن أن تكون قد أنتجت من فراغ، ولا بد أن تكون هناك حضارة سابقة لها قام الطوفان بتدميرها كليا، خصوصا أن الحضارة السومرية الأولى قامت على الطين والقصب وهما مادتان لا يمكن أن تصمدا بوجه الفيضان الذي حصل. تقول الموسوعة "يبدأ الثبت التاريخي السومري بالأسرة الثالثة بعد الطوفان وهي الأسرة المعروفة باسم أسرة أور الأولى. ويؤيد صحة هذه الرواية لوح مكتوب وجد في أحد الأساسات في أور ويبين أن أول ملوك هذه الأسرة كان ملكا يدعى ميساني = باد حوالي 2900 ق. م وفي هذا العصر كانت أور العاصمة المزدهرة في جنوب وادي الرافدين" 6.
استنتاجات
نستنتج من كل ما تقدم التالي:
1- أن السومريين لم يقدموا من مرتفعات إيران بدليل أن الحضارة التي قامت في سيالك الثالثة بداية الألف الثالث قبل الميلاد كانت دخيلة ومتأثرة تأثرا قويا ببلاد ما بين النهرين، مما يدل على أن السومريين سبقوا الإيرانيين بحوالي 1000 سنة بداية الألف الرابع ق.م.
2- أن نمط بناء المنازل الذي وجد في سيالك الثالثة هو النمط ذاته الذي استخدمه العبيديون قبل ستة آلاف سنة في جنوب العراق.
3- وأن المادة المستخدمة في بناء العشش هي القصب والبردي ولا يوجد هذان النباتان في المرتفعات الإيرانية، حيث يستحيل أن ينمو القصب والبردي في المناطق الصخرية أو الصحراوية.
4- بما أن المصادر التاريخية لم تشر مطلقا إلى وجود أقوام هندو – أوروبية في الشرق الأوسط فإنه من العسير القول إن أصل السومريين ينحدر من أصل هندو – أوروبي. والرأي الراجح هنا هو أن الأسرتين السومريتين الأولى والثانية هاجرتا من جنوب العراق إلى المناطق المرتفعة القريبة بسبب الفيضان وعادتا بعد انحساره أي بعد 400 سنة. والمشكلة الجوهرية في هذا الصدد هي أن الفيضان لم يبق على أي أثر للأسرتين مما يجعل من العسير ربط العبيديين بالأسرة الثالثة مباشرة، على الرغم من التشابه الكبير بين العبيديين والأسرة الثالثة فيما يتعلق بأدوات الصيد والزراعة والعبادات. وبالعودة إلى الموسوعة فإنها تقول "وفي كل مدونة تاريخية سومرية كان أول حادث له الأهمية القصوى هو الطوفان. وقد قسم هذا الحادث قائمة الملوك السومرية إلى قسمين ينتهي أولهما بالطوفان" 7.
ماذا نستنتج من هذا النص؟ تقول الموسوعة إن كل مدونة تاريخية سومرية كانت تشير إلى الطوفان كحادث له أهمية قصوى وأنه قسم قائمة الملوك إلى قسمين ينتهي أولهما بالطوفان.. فكم ملكا كان في القسم الأول من القائمة؟ وكم سنة حكم كل منهم؟ إن مراجعة دقيقة ومتأنية لمرحلة الطوفان يمكن أن تكشف الحلقة المفقودة من تراث الأسرتين السومريتين الأولى والثانية واللتين تعدان الامتداد التاريخي الصحيح لسكان المستنقعات – العبيديين – وليس من المستبعد أن يكون السومريون أبناء أو أحفادا للعبيديين السكان الأوائل لجنوب وادي الرافدين.
المؤلف يصر على نظرية
الأصل الغربي للمندائية
بعد هذه الجولة الطويلة نسبيا في تقصي الأصول السومرية نعود إلى كتاب "أصول الصابئة المندائيين" وبالتحديد إلى الفصل الثاني (المندائية والدين البابلي).
يعقد المؤلف مقارنة بين الديانة والأساطير البابلية والمندائية فيجد أنها واحدة ومتشابهة تماما فيتساءل مندهشا "يثار هنا تساؤل مشروع: هل كان المندائيون قد تأثروا بشكل مباشر بأفكار الجماعات البابلية التي كانت تجاورهم، أو أن يكونوا هم ذاتهم من بقايا البابليين وطوروا معتقداتهم من خلال تفاعلهم مع الجماعات اليهودية والفارسية وغيرها التي كانت تعيش جوارهم"؟. لا أعرف بالضبط ما الذي يقصده المؤلف بالجماعات البابلية؟ هل يريد بذلك أن يختزل حضارة بابل العظيمة إلى شرذمة من الجماعات المتناثرة هنا وهناك مثلا؟
وتزداد دهشته وهو يستعرض الأسطورة المندائية التي تتحدث عن العالم السفلي "فعدا عن التكرار الشائع في تراتيلهم الشعرية والذي ساروا فيه على غرار الأدب البابلي، فإن هناك جوانب عديدة تثير انتباها خاصا تتعلق بعراقية البيئة التي تدور فيها الأحداث التي توردها كتبهم" (وفي كتاب دردشة د يهيا – تعاليم يحيى – يشار إلى صيد السمك على الضوء، وهي طريقة معروفة في صيد السمك في أهوار العراق في موسم صيد الزرة).
إن كل هذه الشواهد والمعطيات المادية والتاريخية لا تشجع المؤلف على القول بالأصل الرافديني للمندائيين، لا بل إنه يصر على نظرية الأصل الغربي للمندائية: "يظل هناك تحفظ معين يحسن أن نختتم به هذا الفصل هو أن الجماعات البابلية وغير البابلية التي أسكنها ملوك آشور وبختصر في فلسطين والسامريون كما يذهب بعض الباحثين من هؤلاء، وكذلك اليهود الذين عادوا من سبي بابل أيام كورش إلى فلسطين، ربما يكونون قد حملوا معهم الأساطير والمعتقدات البابلية. فهل برزت المندائية هناك كما تذهب نظرية الأصل الغربي للمندائية"؟
يبقى أن نقول إن المندائيين الذين عاشوا ألفي سنة في ميسان وحدها كانوا يكتبون اسم المدينة مُجزأ هكذا: مي- وتعني بالمندائية الماء- وشان- وتعني القصي إشارة إلى وجودها في أقصى الجنوب الرافديني، ويكتب الاسم بالطريقة نفسها باللغة السريانية، أما بالعبرية فيكتب ميشين وبالفارسية ميشيون وبالعربية ميسان.
والملاحظة الأخيرة التي نود طرحها في نهاية المطاف هي أن الصابئة المندائيين كانوا يكتبون اسم مدينة أورشليم مجزأ أيضا هكذا: أور- شليم. فهل هناك علاقة من نوع ما بين مدينة أور الرافدية وبين أورشليم الفلسطينية- القدس؟
صلاح حسن
هوامش:
ـــــــــــــ
1- الموسوعة العالمية للآثار. إشراف ليونارد كوتريل. تأليف 48 عالما أثريا. الهيئة المصرية للكتاب 1977. موضوعة إيران ص 231.
2- المصدر السابق نفسه ص 499
3- المصدر السابق ص 231
4- المصدر السابق ص 499
5- السومريون ليسوا أكراداً، علي الشوك، جريدة الحياة
6- الموسوعة العالمية للآثار ص 500.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق