رزان القرواني
لم يضع الدكتور وليد سراقبي كتابه ( في الهوية اللغوية وتحدياتها) بين يدي القرّاء إلا تعبيراً عن مدى أهمية اللغة، هذه اللغة التي لطالما نفتخر ونعتز بها كونها أولاً لغة القرآن الكريم وكونها ثانية لغة الثقافة والحضارة والتاريخ، ولغتنا الأم فاللغة أداة تواصل الفرد مع العالم المحيط به، ووسيلة تعبير عن المشا عر والأحاسيس والأفكار ومقوم من أهم مقوّمات الوجود الإنساني عامة، والوجود القومي خاصة.
وعندما رأى الدكتور سراقبي بأن اللغة تتعرض في هذا العصر إلى الكثير من الخصوم الذين ينازعونها ويعملون على إزالتها من الساحة العلمية والثقافية في الإعلام والتعليم وسائر المخاطبات و المكاتبات ، عمد إلى تقسيم كتابه إلى خمسة فصول ضم كل فصل مقوماً مهماً من مقومات وجود هذه الأمة، ساعياً إلى بيان جملة التحديات التي واجهت هذه اللغة منذ القدم حتى الساعة ..
هذه التحديات وزعها على عدد من الفصول ، حيث خصص للفصل الأول البحث في مفهوم النظام الدولي الجديد وموقفه من اللغة، وفي الفصل الثاني درس العلاقة بين الاستشراق واللغة العربية في محاولة لبيان موقف الاستشراق من لغتنا العربية، كذلك خصص في الفصل الثالث تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وأما الفصل الرابع فتحدث عن اللغة العربية وتحديات الإعلام والإعلان، وكانت نهاية بحثه في الفصل الخامس الترجمة المشوّهة والمصطلح اللساني وسأكتفي بذكر ما أتى به د. السراقبي نحو الهوية اللغوية، وبعد قراءتي للفصل الأول عن الهوية اللغوية استطعت أن ألخصه بكلمتين : هويتي لغتي...
إن اللغة ذات أهمية كبرى فهي أداة تعبير وإفصاح ووسيلة تفكير، ومصدر ألفة اجتماعية إنسانية بين الناطقين لها، فهم يولدون حاملين نظاماً لغوياً يتهدَّون بقواعده ويستوعبون معطيات المجتمع الذي فتحوا أعينهم بين ظهرانيه.
أما الهوية تعني الخصوصية والفردية والتميز بخصائص جوهرية تميز واحداً عن غيره من أفراد مجتمعه وتسمه بصفات معينة تجعله ينحصر في بعدين: عام وخاص.
والهوية تعبير عن الوجود الإنساني لفريق من الناس في أرض معينة وهذا التعبير يحمل السمات التفصيلية لهذه الـ(هو) الفردية والجماعية في ائتلافها واختلافها، ولكنها في النتيجة تصدر عن تراث واحد ينتمي إليها في شتى شؤون الحياة والدين واللغة والقيم والعادات والتقاليد والثقافة.
إن اللغة هي السياج الأهم الذي يوحد الأمة الناطقة بها، ويعمل على حماية المجتمع من عوامل الانحلال والذوبان، لأنها ((بمثابة مستودع لكل ما للشعب من ذخائر الفكر والتقاليد والفلسفة والدين، إن قلب الشعب ينبض في لغته، إن روح الشعب تكمن في لغة الآباء والأجداد، إنها المدخل إلى وحدة الثقافة ووحدة الفكر والثقافة والفكر هما العاملان اللذان يمليان على المرء مواقفه)).
إن إهمالنا للغة العربية الفصيحة اجتثاث لشخصيتها من مسارها التاريخي، ومن ثقافة مجتمعنا، فتغدو هذه الشخصية دون هوية ويضيع طابعها، وتمحى ملامحها...
وللغتنا العربية من المقومات والخصائص ما لانجده عند غيرها من اللغات التي نحترمها جميعاً، ولعل من أهم هذه المزايا:
البعد الديني للعربية، فهي لغة القرآن الكريم الذي حملها عبر أربعة عشر قرناً من الزمان ، ووقف بها سداً منيعاً أمام كل الحملات الشعوبية التي عصفت بمنطقتنا العربية بدءاً من التعجيم فالتتريك فالفرنسة.
الوضوح والسهولة
الحيوية والمرونة والتطور والطواعية.
الغنى المفرداتي والتراكيبي.
القابلية للتطوير عبر وسائل كثيرة منها: الاشتقاق، المجاز، التعريب.
التنظيم: فهي لغة جامعة مانعة، غانية بنفسها، لا تحتاج إلى قواعد من اللغات الأخرى.
الإيجاز والاقتصاد.
إن لغة تحمل مثل هذه المزايا، وتختص بمثل هذه الخصائص لا أجد من الغرابة أن تكون مصدراً للتعبير عن الهوية بكل المعاني المحتملة لهذه الكلمة، وأن تكون مصدر اعتزاز من نطق بها حتى غدت وسيلة تفكيره وتعبيره، على ما نجده عند البيروني (ت 440هـ) الذي قال: ((والهجو بالعربية أحب إليّ من المدح بالفارسية) وهذا الفراهي الهندي (ت 1349هـ) يكتب كتبه باللغة العربية مع إجادته غيرها من اللغات وعندما سئل عن سر ذلك الاختيار قال:
((أردت لكتبي الخلود)) وهذا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (ت 1962) يقول:
اللغة العربية لغة وعي وشهادة، وينبغي إنقاذها سليمة بأي ثمن للتأثير في اللغة الدولية المستقبلية، وإنّ في اللفظ العربي جرساً موسيقياً لا أجده في لغتي الفرنسية).
وإن لغة لها مثل هذه الخصائص لا غرابة في أن تتعرض إلى تحديات كثيرة عبر تاريخها الطويل داخلياً وخارجياً، ولا غرابة أن تصمد في وجه كل هذه التحديات فتكتب لها الغلبة.
وإذا تركنا الحديث عن هجمات المغول والتتار وما أثخنوا به جسد الأمة العربية وفكرها ولغتها من جراح يوم ألقوا بحصاد فكرها في ماء دجلة فاسوّد النهر على مدى أربعين يوماً وما تمخضت عنه حملة نابليون بونابرت، ثم حملة التتريك، ثم حملات الدولة الاستعمارية فرنسا وغيرها من الدول، ثم محاولات المستشرقين وغيرهم وذيولهم من أبناء العروبة أمثال سلامة موسى، وعبد العزيز فهمي، وأنيس فريحة، وسعيد عقل، وغيرهم، وجدنا أن تحديات أخرى في عصرنا الحالي تعمل جاهدة على إزاحة العربية ومحو أهم مميز لشخصيتنا العربية بحجج هي أوهى من بيت العنكبوت، وفي مقدور الدارس أن يقسم هذه التحديات قسمين رئيسين هما:
الأسباب الداخلية.
الأسباب الخارجية.
وتتمثل الأسباب الداخلية فيما يأتي:
البيئة اللغوية الملوثة: المدرسة وهي البيئة التي تسهم في تنشئة الجيل يفترض أن تكون نواة للغة فصيحة، لكن الأمل شيء والواقع شيء آخر.
الإعلام: وهو صاحب الإسهام الأكبر في نشر الوعي اللغوي والملكة اللغوية ويأتي التلفاز في رأس هرم وسائل الإعلام، فالتلفاز يؤدي وظيفة نيابة عن أبوي الطفل، فدوره دور الملقن في اللغة ويؤثر في البيئة الثقافية، لأنه يؤدي دور راوي اللغة الموثوق به.
الإعلان: وهو رديف الإعلام، بل هو إعلام بشكل آخر يقوم على صياغة لغوية معينة بهدف اقتصادي في الغالب أو ثقافي أو اجتماعي في المراتب التالية.
التغريب: هي دعوة قديمة بدأها(ولكوكس) عام 1892 م يوم ألقى خطاباً في نادي الأزبكية بالقاهرة عنوانه (لمَ لمْ توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن)وجعل السرّ في هذا التخلف اللغة العربية، لذلك دعا إلى اتخاذ لغة إقليمية على غرار ما قامت به بريطانيا بالنسبة إلى اللغة اللاتينية، ثم دعا(ويلمور) سنة 1902 م إلى لغة خاصة بالمصريين واقترح كتابتها بالأحرف اللاتينية ودعا ماسينيون إلى الكتابة باللغة اللاتينية، وتابعه المستشرق م. كولان الذي دعا إلى إشاعة العامية في بلاد المغرب العربي.
ثم جاءت ذيول هؤلاء المستشرقين تسعى إلى النيل من مكانة اللغة العربية والحط من قدرها ، فكان من هذه الذيول لطفي السيد، وسلامة موسى، وعبد العزيز فهمي ومارون غصن فكانوا يدعون إلى استخدام العامية نطقاً وكتابة والاستعانة بالحروف اللاتينية.
وقد قال د. عبد الكريم خليفة:( إنّ بعض أساتذة مادة الرياضيات في جامعة إربد ترجموا الكتب المختصة في هذه المادة والمقرّرة على الطلاب في السنة الأولى وأخذوا يلقون منها دروسهم عليهم، فكان نجاحهم باهراً لأن استيعابهم لهذه المادة كان قويّاً جداً ، ولكن الغريب في الأمر أن عميد تلك الكلية قد تغيّر وجيء بعميد آخر، فأمر بأن تلغى تلك الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، وأن توضع مكانها كتب باللغة الأجنبية، ولا تسل عما حدث من ارتباك في نفوس الطلاب، وفي هذا دلالة على أنّ هناك من يسعى لإبعاد اللغة العربية عن التعليم الجامعي، وهو أمر لا يجوز السكوت عنه))
وقد اجتمع دعاة التغريب على جملة أمور منها:
قصور اللغة العربية عن استيعاب القضايا العلمية والمعطيات الحضارية الحديثة المتجددة، لذا وصموا اللغة العربية بأنها لغة دينية أدبية.
عدم مواءمة رسم الحرف العربي للحياة الحديثة.
جمود الألفاظ في معانيها.
الشح في المحتوى الرقمي
صعوبة تعلم الأجيال الجديدة لها.
عدم قدرتها على الدخول إلى نظم المعلومات.
عدم توفر الأدوات المعلوماتية الملائمة للبحث.
وفي الرد على ذلك نقول: (إن أية لغة لن يكون لها نصيب من التطور مادام أصحابها غير منتجين للحضارة، ولن تكون اللغة حيّة مالم يحرص أصحابها على الحياة، ولا تكون قادرة على الوفاء باحتياجات العصر مالم يرتفع أصحابها إلى مستوى العصر ثقافاً وسلوكاً ، أخذاً وعطاء).
فأما التحديات الخارجية ، فهي موزعة على الأنواع الآتية:
العولمة واللغة: إن من جملة مفرزات النظام الدولي الجديد العولمة الثقافية.
فعولمة الثقافة تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: الثقافة الواحدة، واللغة الواحدة
وثقافة عالمية في المضمون والأعراف والتقاليد والنظرة إلى الوجود.
هذه الثقافة العالمية الواحدة ما هي إلا غزو فكري يريد السيادة على الثقافات المحلية واللغات المحلية ووأدها.
وعولمة اللغة مظهر من مظاهر العولمة بشكل عام، والمراد بذلك القضاء على الكيانات اللغوية الأخرى ، وفرض لغة واحدة هي لغة الثقافة والعلم، ونعني بها اللغة الإنكليزية ولا يعني ذلك أننا نقف في وجه تعلم اللغة الثانية، فتعلمها ضرورة لا غنى عنها فهي وسيلة تواصل علمي عالمي من جهة، وأداة توسيع الأفق المعرفي من جهة ثانية، لكن (من الشطط الكبير أن نفرض على أبنائنا تعلم اللغة الإنكليزية منذ نعومة أظفارهم إن الأجدر بالطفل الصغير أن تخصص سنواته الدراسية الأولى لإجادة لغته العربية والارتباط بثقافته، وتنمية المحبة لها من خلال الولاء لوطنه وتراثه وأمته وأن يستغل كامل وقته من أجل أن يلمّ بالمهارات الأساسية، ومنها النطق بلسان عربي فصيح، والتعبير بفكر متناسق واضح، لا أن يتلجلج لسانه بالرطانات، ويشوش لسانه بالانتماء لعدة لغات).
إلغاء تدريس العربية والاستعاضة عنها بتدريس اللهجات المحلية، فقد ألغت فرنسا تعليم اللغة العربية لغة ثانية وأحلت مكانها العاميات المحلية، كالمصرية والمشرقية والمغربية وأقامت كلية للغة الأمازيغية.
تقسيم الوطن العربي إلى خارطات لغوية، وتقسيم القطر الواحد إلى أطالس لغوية.
أعلنت منظمة اليونيسكو أن الحقوق اللغوية تنحصر في الآتي:
الحق في لغة الأم لافي اللغة الأم .
الحق في لغة التواصل الاجتماعي مهما كانت.
ج- الحق في لغة المعرفة.
وتفسير هذا المجمل يكون على النحو الآتي:
لغة الأم هي العامية.
لغة التواصل هي العامية أيضاً.
لغة المعرفة، الإنكليزية، ثم الفرنسية، فالألمانية، فالإسبانية.
وفي سبيل مواجهة تلك التحديات لا بد من اتخاذ الإجراءات الآتية:
تعزيز روح الانتماء الوطني (المواطنة) وتعزيز الشعور بمكانة اللغة العربية لغة قومية ورمزاً للهوية للأمة العربية وعنواناً لشخصيتها من جهة أخرى.
الانفتاح الإيجابي على الثقافات الأخرى انفتاحاً قائماً على العقلنة والمحافظة على الهوية الأصلية.
العمل على سدّ الفجوة الرقمية بين لغتنا العربية والشابكة، وذلك بالعمل على جعل اللغة العربية لغة معتمدة فعالة في لغة الشابكة لأن مواقع العربية على الشابكة لا تزيد على 1%ونسبة مستخدمي الشابكة, من العرب لا تزيد على ( 1،4%) و80% من المواقع المتوفرة على الشابكة كتبت باللغة الإنكليزية.
تعزيز الشغف بالقراءة الحرة بالنسبة إلى الناشئة، لإكسابهم مهارات التعلم
الذاتي ، ففي العالم يقرأ الفرد الواحد 35 كتاباً في السنة، وهناك 40 كتاباً يطبع في السنة الواحدة للفرد الواحد.
إقصاء العامية في المجالات التعليمية كافة، والتزام المدرس باللغة العربية السليمة، لأن ذلك يعمل على إكساب الطفل الملكة اللغوية ومحاسبة الطالب على أخطائه اللغوية وتشذيب إجاباته للحؤول دون ترسيخ الخطأ على ألسنة الطلاب.
في بريطانيا أصدر المجلس القومي لمدرس اللغة الإنكليزية قراراً يقضي بأن يكون مدرس المواد غير اللغوية كالرياضيات والفيزياء مدرساً للغة الأم.
الإعداد الجيد لمعلمي اللغة بشكل خاص، ذلك أنّ الطالب لا بد أن يحاكي أستاذه فيتمثل لغته.
تحسين مستوى الأداء اللغوي، وتنمية الوعي بخطر عولمة اللغة الأجنبية على حساب اللغة العربية ، لما فيها من استلاب للثقافة والحضارة العربيتين.
إذن ... لنحافظ على لغتنا الفصيحة فهي إلى جانب كونها أداة تفكير ووسيلة تعبير وأداة تواصل هي :
جامعة شملنا، وأساس قوميتنا والرابطة التي تجمع بين أبناء أمتنا... وذاكرة الأمة ومستودع تراثها، وجسرها للعبور من الماضي إلى الحاضر أو من الحاضر إلى المستقبل، وهي قلعتنا الحصينة للذود عن هويتنا وذاتيتنا الثقافية ووحدتنا القومية... أسهمت في مسيرة الحضارة البشرية أيما إسهام، فكانت لغة العلم والثقافية.
رزان القرواني
لم يضع الدكتور وليد سراقبي كتابه ( في الهوية اللغوية وتحدياتها) بين يدي القرّاء إلا تعبيراً عن مدى أهمية اللغة، هذه اللغة التي لطالما نفتخر ونعتز بها كونها أولاً لغة القرآن الكريم وكونها ثانية لغة الثقافة والحضارة والتاريخ، ولغتنا الأم فاللغة أداة تواصل الفرد مع العالم المحيط به، ووسيلة تعبير عن المشا عر والأحاسيس والأفكار ومقوم من أهم مقوّمات الوجود الإنساني عامة، والوجود القومي خاصة.
وعندما رأى الدكتور سراقبي بأن اللغة تتعرض في هذا العصر إلى الكثير من الخصوم الذين ينازعونها ويعملون على إزالتها من الساحة العلمية والثقافية في الإعلام والتعليم وسائر المخاطبات و المكاتبات ، عمد إلى تقسيم كتابه إلى خمسة فصول ضم كل فصل مقوماً مهماً من مقومات وجود هذه الأمة، ساعياً إلى بيان جملة التحديات التي واجهت هذه اللغة منذ القدم حتى الساعة ..
هذه التحديات وزعها على عدد من الفصول ، حيث خصص للفصل الأول البحث في مفهوم النظام الدولي الجديد وموقفه من اللغة، وفي الفصل الثاني درس العلاقة بين الاستشراق واللغة العربية في محاولة لبيان موقف الاستشراق من لغتنا العربية، كذلك خصص في الفصل الثالث تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وأما الفصل الرابع فتحدث عن اللغة العربية وتحديات الإعلام والإعلان، وكانت نهاية بحثه في الفصل الخامس الترجمة المشوّهة والمصطلح اللساني وسأكتفي بذكر ما أتى به د. السراقبي نحو الهوية اللغوية، وبعد قراءتي للفصل الأول عن الهوية اللغوية استطعت أن ألخصه بكلمتين : هويتي لغتي...
إن اللغة ذات أهمية كبرى فهي أداة تعبير وإفصاح ووسيلة تفكير، ومصدر ألفة اجتماعية إنسانية بين الناطقين لها، فهم يولدون حاملين نظاماً لغوياً يتهدَّون بقواعده ويستوعبون معطيات المجتمع الذي فتحوا أعينهم بين ظهرانيه.
أما الهوية تعني الخصوصية والفردية والتميز بخصائص جوهرية تميز واحداً عن غيره من أفراد مجتمعه وتسمه بصفات معينة تجعله ينحصر في بعدين: عام وخاص.
والهوية تعبير عن الوجود الإنساني لفريق من الناس في أرض معينة وهذا التعبير يحمل السمات التفصيلية لهذه الـ(هو) الفردية والجماعية في ائتلافها واختلافها، ولكنها في النتيجة تصدر عن تراث واحد ينتمي إليها في شتى شؤون الحياة والدين واللغة والقيم والعادات والتقاليد والثقافة.
إن اللغة هي السياج الأهم الذي يوحد الأمة الناطقة بها، ويعمل على حماية المجتمع من عوامل الانحلال والذوبان، لأنها ((بمثابة مستودع لكل ما للشعب من ذخائر الفكر والتقاليد والفلسفة والدين، إن قلب الشعب ينبض في لغته، إن روح الشعب تكمن في لغة الآباء والأجداد، إنها المدخل إلى وحدة الثقافة ووحدة الفكر والثقافة والفكر هما العاملان اللذان يمليان على المرء مواقفه)).
إن إهمالنا للغة العربية الفصيحة اجتثاث لشخصيتها من مسارها التاريخي، ومن ثقافة مجتمعنا، فتغدو هذه الشخصية دون هوية ويضيع طابعها، وتمحى ملامحها...
وللغتنا العربية من المقومات والخصائص ما لانجده عند غيرها من اللغات التي نحترمها جميعاً، ولعل من أهم هذه المزايا:
البعد الديني للعربية، فهي لغة القرآن الكريم الذي حملها عبر أربعة عشر قرناً من الزمان ، ووقف بها سداً منيعاً أمام كل الحملات الشعوبية التي عصفت بمنطقتنا العربية بدءاً من التعجيم فالتتريك فالفرنسة.
الوضوح والسهولة
الحيوية والمرونة والتطور والطواعية.
الغنى المفرداتي والتراكيبي.
القابلية للتطوير عبر وسائل كثيرة منها: الاشتقاق، المجاز، التعريب.
التنظيم: فهي لغة جامعة مانعة، غانية بنفسها، لا تحتاج إلى قواعد من اللغات الأخرى.
الإيجاز والاقتصاد.
إن لغة تحمل مثل هذه المزايا، وتختص بمثل هذه الخصائص لا أجد من الغرابة أن تكون مصدراً للتعبير عن الهوية بكل المعاني المحتملة لهذه الكلمة، وأن تكون مصدر اعتزاز من نطق بها حتى غدت وسيلة تفكيره وتعبيره، على ما نجده عند البيروني (ت 440هـ) الذي قال: ((والهجو بالعربية أحب إليّ من المدح بالفارسية) وهذا الفراهي الهندي (ت 1349هـ) يكتب كتبه باللغة العربية مع إجادته غيرها من اللغات وعندما سئل عن سر ذلك الاختيار قال:
((أردت لكتبي الخلود)) وهذا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (ت 1962) يقول:
اللغة العربية لغة وعي وشهادة، وينبغي إنقاذها سليمة بأي ثمن للتأثير في اللغة الدولية المستقبلية، وإنّ في اللفظ العربي جرساً موسيقياً لا أجده في لغتي الفرنسية).
وإن لغة لها مثل هذه الخصائص لا غرابة في أن تتعرض إلى تحديات كثيرة عبر تاريخها الطويل داخلياً وخارجياً، ولا غرابة أن تصمد في وجه كل هذه التحديات فتكتب لها الغلبة.
وإذا تركنا الحديث عن هجمات المغول والتتار وما أثخنوا به جسد الأمة العربية وفكرها ولغتها من جراح يوم ألقوا بحصاد فكرها في ماء دجلة فاسوّد النهر على مدى أربعين يوماً وما تمخضت عنه حملة نابليون بونابرت، ثم حملة التتريك، ثم حملات الدولة الاستعمارية فرنسا وغيرها من الدول، ثم محاولات المستشرقين وغيرهم وذيولهم من أبناء العروبة أمثال سلامة موسى، وعبد العزيز فهمي، وأنيس فريحة، وسعيد عقل، وغيرهم، وجدنا أن تحديات أخرى في عصرنا الحالي تعمل جاهدة على إزاحة العربية ومحو أهم مميز لشخصيتنا العربية بحجج هي أوهى من بيت العنكبوت، وفي مقدور الدارس أن يقسم هذه التحديات قسمين رئيسين هما:
الأسباب الداخلية.
الأسباب الخارجية.
وتتمثل الأسباب الداخلية فيما يأتي:
البيئة اللغوية الملوثة: المدرسة وهي البيئة التي تسهم في تنشئة الجيل يفترض أن تكون نواة للغة فصيحة، لكن الأمل شيء والواقع شيء آخر.
الإعلام: وهو صاحب الإسهام الأكبر في نشر الوعي اللغوي والملكة اللغوية ويأتي التلفاز في رأس هرم وسائل الإعلام، فالتلفاز يؤدي وظيفة نيابة عن أبوي الطفل، فدوره دور الملقن في اللغة ويؤثر في البيئة الثقافية، لأنه يؤدي دور راوي اللغة الموثوق به.
الإعلان: وهو رديف الإعلام، بل هو إعلام بشكل آخر يقوم على صياغة لغوية معينة بهدف اقتصادي في الغالب أو ثقافي أو اجتماعي في المراتب التالية.
التغريب: هي دعوة قديمة بدأها(ولكوكس) عام 1892 م يوم ألقى خطاباً في نادي الأزبكية بالقاهرة عنوانه (لمَ لمْ توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن)وجعل السرّ في هذا التخلف اللغة العربية، لذلك دعا إلى اتخاذ لغة إقليمية على غرار ما قامت به بريطانيا بالنسبة إلى اللغة اللاتينية، ثم دعا(ويلمور) سنة 1902 م إلى لغة خاصة بالمصريين واقترح كتابتها بالأحرف اللاتينية ودعا ماسينيون إلى الكتابة باللغة اللاتينية، وتابعه المستشرق م. كولان الذي دعا إلى إشاعة العامية في بلاد المغرب العربي.
ثم جاءت ذيول هؤلاء المستشرقين تسعى إلى النيل من مكانة اللغة العربية والحط من قدرها ، فكان من هذه الذيول لطفي السيد، وسلامة موسى، وعبد العزيز فهمي ومارون غصن فكانوا يدعون إلى استخدام العامية نطقاً وكتابة والاستعانة بالحروف اللاتينية.
وقد قال د. عبد الكريم خليفة:( إنّ بعض أساتذة مادة الرياضيات في جامعة إربد ترجموا الكتب المختصة في هذه المادة والمقرّرة على الطلاب في السنة الأولى وأخذوا يلقون منها دروسهم عليهم، فكان نجاحهم باهراً لأن استيعابهم لهذه المادة كان قويّاً جداً ، ولكن الغريب في الأمر أن عميد تلك الكلية قد تغيّر وجيء بعميد آخر، فأمر بأن تلغى تلك الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، وأن توضع مكانها كتب باللغة الأجنبية، ولا تسل عما حدث من ارتباك في نفوس الطلاب، وفي هذا دلالة على أنّ هناك من يسعى لإبعاد اللغة العربية عن التعليم الجامعي، وهو أمر لا يجوز السكوت عنه))
وقد اجتمع دعاة التغريب على جملة أمور منها:
قصور اللغة العربية عن استيعاب القضايا العلمية والمعطيات الحضارية الحديثة المتجددة، لذا وصموا اللغة العربية بأنها لغة دينية أدبية.
عدم مواءمة رسم الحرف العربي للحياة الحديثة.
جمود الألفاظ في معانيها.
الشح في المحتوى الرقمي
صعوبة تعلم الأجيال الجديدة لها.
عدم قدرتها على الدخول إلى نظم المعلومات.
عدم توفر الأدوات المعلوماتية الملائمة للبحث.
وفي الرد على ذلك نقول: (إن أية لغة لن يكون لها نصيب من التطور مادام أصحابها غير منتجين للحضارة، ولن تكون اللغة حيّة مالم يحرص أصحابها على الحياة، ولا تكون قادرة على الوفاء باحتياجات العصر مالم يرتفع أصحابها إلى مستوى العصر ثقافاً وسلوكاً ، أخذاً وعطاء).
فأما التحديات الخارجية ، فهي موزعة على الأنواع الآتية:
العولمة واللغة: إن من جملة مفرزات النظام الدولي الجديد العولمة الثقافية.
فعولمة الثقافة تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: الثقافة الواحدة، واللغة الواحدة
وثقافة عالمية في المضمون والأعراف والتقاليد والنظرة إلى الوجود.
هذه الثقافة العالمية الواحدة ما هي إلا غزو فكري يريد السيادة على الثقافات المحلية واللغات المحلية ووأدها.
وعولمة اللغة مظهر من مظاهر العولمة بشكل عام، والمراد بذلك القضاء على الكيانات اللغوية الأخرى ، وفرض لغة واحدة هي لغة الثقافة والعلم، ونعني بها اللغة الإنكليزية ولا يعني ذلك أننا نقف في وجه تعلم اللغة الثانية، فتعلمها ضرورة لا غنى عنها فهي وسيلة تواصل علمي عالمي من جهة، وأداة توسيع الأفق المعرفي من جهة ثانية، لكن (من الشطط الكبير أن نفرض على أبنائنا تعلم اللغة الإنكليزية منذ نعومة أظفارهم إن الأجدر بالطفل الصغير أن تخصص سنواته الدراسية الأولى لإجادة لغته العربية والارتباط بثقافته، وتنمية المحبة لها من خلال الولاء لوطنه وتراثه وأمته وأن يستغل كامل وقته من أجل أن يلمّ بالمهارات الأساسية، ومنها النطق بلسان عربي فصيح، والتعبير بفكر متناسق واضح، لا أن يتلجلج لسانه بالرطانات، ويشوش لسانه بالانتماء لعدة لغات).
إلغاء تدريس العربية والاستعاضة عنها بتدريس اللهجات المحلية، فقد ألغت فرنسا تعليم اللغة العربية لغة ثانية وأحلت مكانها العاميات المحلية، كالمصرية والمشرقية والمغربية وأقامت كلية للغة الأمازيغية.
تقسيم الوطن العربي إلى خارطات لغوية، وتقسيم القطر الواحد إلى أطالس لغوية.
أعلنت منظمة اليونيسكو أن الحقوق اللغوية تنحصر في الآتي:
الحق في لغة الأم لافي اللغة الأم .
الحق في لغة التواصل الاجتماعي مهما كانت.
ج- الحق في لغة المعرفة.
وتفسير هذا المجمل يكون على النحو الآتي:
لغة الأم هي العامية.
لغة التواصل هي العامية أيضاً.
لغة المعرفة، الإنكليزية، ثم الفرنسية، فالألمانية، فالإسبانية.
وفي سبيل مواجهة تلك التحديات لا بد من اتخاذ الإجراءات الآتية:
تعزيز روح الانتماء الوطني (المواطنة) وتعزيز الشعور بمكانة اللغة العربية لغة قومية ورمزاً للهوية للأمة العربية وعنواناً لشخصيتها من جهة أخرى.
الانفتاح الإيجابي على الثقافات الأخرى انفتاحاً قائماً على العقلنة والمحافظة على الهوية الأصلية.
العمل على سدّ الفجوة الرقمية بين لغتنا العربية والشابكة، وذلك بالعمل على جعل اللغة العربية لغة معتمدة فعالة في لغة الشابكة لأن مواقع العربية على الشابكة لا تزيد على 1%ونسبة مستخدمي الشابكة, من العرب لا تزيد على ( 1،4%) و80% من المواقع المتوفرة على الشابكة كتبت باللغة الإنكليزية.
تعزيز الشغف بالقراءة الحرة بالنسبة إلى الناشئة، لإكسابهم مهارات التعلم
الذاتي ، ففي العالم يقرأ الفرد الواحد 35 كتاباً في السنة، وهناك 40 كتاباً يطبع في السنة الواحدة للفرد الواحد.
إقصاء العامية في المجالات التعليمية كافة، والتزام المدرس باللغة العربية السليمة، لأن ذلك يعمل على إكساب الطفل الملكة اللغوية ومحاسبة الطالب على أخطائه اللغوية وتشذيب إجاباته للحؤول دون ترسيخ الخطأ على ألسنة الطلاب.
في بريطانيا أصدر المجلس القومي لمدرس اللغة الإنكليزية قراراً يقضي بأن يكون مدرس المواد غير اللغوية كالرياضيات والفيزياء مدرساً للغة الأم.
الإعداد الجيد لمعلمي اللغة بشكل خاص، ذلك أنّ الطالب لا بد أن يحاكي أستاذه فيتمثل لغته.
تحسين مستوى الأداء اللغوي، وتنمية الوعي بخطر عولمة اللغة الأجنبية على حساب اللغة العربية ، لما فيها من استلاب للثقافة والحضارة العربيتين.
إذن ... لنحافظ على لغتنا الفصيحة فهي إلى جانب كونها أداة تفكير ووسيلة تعبير وأداة تواصل هي :
جامعة شملنا، وأساس قوميتنا والرابطة التي تجمع بين أبناء أمتنا... وذاكرة الأمة ومستودع تراثها، وجسرها للعبور من الماضي إلى الحاضر أو من الحاضر إلى المستقبل، وهي قلعتنا الحصينة للذود عن هويتنا وذاتيتنا الثقافية ووحدتنا القومية... أسهمت في مسيرة الحضارة البشرية أيما إسهام، فكانت لغة العلم والثقافية.
رزان القرواني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق