اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

الحركات النقدية إبان الحداثة وما بعد الحداثة: نظرة في سياق تشكل النقد الثقافي | حسين البعطاوي ـ المغرب

إن أهم ما يمكن ملاحظته على الدراسات النقدية المعاصرة بتوجهاتها الفكرية والنقدية، ظهور فكر نقدي يعرف بالحداثة أو ما بعد الحداثية postmodernity and postmodernism في العقود الأخيرة من القرن العشرين، بحيث برزت اتجاهات نقدية حداثية، كان من بين أسسها ميلها وتجاوزها للعنصر الشعري الجمالي في النص الأدبي والنظر إلى ذلك النص في ضوء الثقافة التي أنتجته.
ويمثل النقد الثقافي واحدا من هذه الاتجاهات النقدية الحداثية الجديدة الذي يهدف و يتغيا البحث في الأنساق الفكرية المترسبة، إنه بتعبير أرثر أيزابرجر نشاط وليس مجالا معرفيا خاصا بذاته، تتداخل وتترابط مهماته، متجاوزة ومتعددة، وبمقدور
نقاده أن يأتون من مجالات متعددة ومختلفة، مستخدمين أفكارا ومفاهيم متنوعة، كما أنه في استطاعته أيضا أن يشمل نظرية الأدب والجمال والنقد، والتفكير الفلسفي وتحليل الوسائط والنقد الثقافي الشعبي، فضلا عن تفسيره لنظريات ومجالات علم العلامات، ونظرية التحليل النفسي والنظرية الماركسية والاجتماعية والأنتربولوجية...[]، و قبل أن نركن إلى موضوع الدراسة والتحليل في هذه الورقة وهو محاولة إبراز أهم الأسس الفلسفية والاجتماعية والثقافية التي أدت لبزوغ هذا النوع النقدي الجديد، لا ضير أن نقف على مصطلح الحداثة أو ما بعد الحداثة التي أشرنا إليه آنفا والذي جاء منشغلا ومرتبطا بنقد ما بعد الحداثة عموما والنقد الثقافي خصوصا.
الحداثة و ما بعد الحداثة/ ما بعد الصحوة وسؤال الهوية
لعله من المجحف تحديد فترة زمنية بعينها تؤرخ لما يعرف بالحداثة أو ما بعد الحداثة، سؤال لطالما أرّق بال المهتمين والمنشغلين بحقل هذا الأخير، وإذا كان هذا حال التأريخ فإن حال المفهوم والتعريف يكاد لا تمسك مآربه.
و يعتبر مصطلح الحداثة من أهم المصطلحات العلمية والثقافية التي استطاعت أن تعطي لنفسها مكانة مهمة في الفلسفة، والفكر السياسي وعلم الاجتماع، بل إن الأمر أصبح متجاوزا اليوم لينغمس هذا الأخير في مجال الأدب والشعر والمسرح والفنون التشكيلية وغيرها...
و بوقوفنا على تعريف هذا الأخير فنحن ملزمون أولا وقبل كل شيء بتحديد ماهية الحداثة، ذلك أن ثمة فاصلا يجمع بين الحداثة وما بعد الحداثة. كيف ذلك...؟ للإجابة على سؤال معنى الحداثة ننطلق من تحديد محمد سبيلا لهذا الأخير. لقد حد محمد سبيلا الحداثة على أنها'' هي ظهور ملامح المجتمع الحديث، المتميز بدرجة معينة من التقنية والعقلانية والتعدد والتفتح''[] ، وبالنظر إلى تاريخية المصطلح وسياق ظهوره نجد أن ظهوره حصيلة عصر النهضة الأوروبية الذي جعل الانسان محورا وقطبا للاهتمام، جاعلا فكرة أصالته و محوريته استقلاله عن الله والوحي الإلهي، واعتباره بمثابة الجوهر والروح للاتجاهات الحداثوية[].
يقر محمد سبيلا أن مصطلح الحداثة اقترن بادئ ذي بدء بظهور الطبقة البورجوازية بالعالم الغربي الحديث، في إطار ما يسمى بالنهضة الغربية أو الأوروبية، تلك النهضة التي جعلت المجتمعات المتطورة صناعية تحقق مستوى عاليا من التطور، مما مكنها بالتالي ودفعها إلى غزو وترويض المجتمعات الأخرى (المستعمرة)، فأدى حينها إلى صدمة الحداثة وبخاصة لدى الدول التي تلقت نتائجها من دون أن تكون سبيلا فاعلا فيها ولم تخض غمارها. إنها أي ــ الحداثة ـ خلخلة للموروث الثقافي وثورة تخرج هذه المجتمعات من دائرة التكرار والاجترار والمراوحة، وتفجر دينامية التحول مما ينتج عنها اهتزاز في القيم والعادات والهويات، إنها تنفي وتقطع حصيلة الاستمرار والاتصال.
وهناك مذهب ثان يذهب إلى أن أصل الحداثة له جذور دينية '' استعملت كلمة / حديث / للمرة الأولى في أواخر القرن الخامس لفصل الحاضر المسيحي، الذي كان قد صار للتو رسميا، عن الماضي الروماني الوثني(...) فقد اعتبر الناس أنفسهم حديثين في زمن شارلمان، في القرن الثاني عشر وفي زمن التنوير، إذا في كل حين نشأ فيه في أوربا وعي حقبة جديدة عبر علاقات متجددة مع العصور القديمة، وكانت العصور القديمة تعتبر في تلك الأثناء مثالا معياريا ينصح بالاحتذاء به، وقد استمر ذلك حتى صراع الحداثيين المشهور مع القدماء، أي الصراع مع اتباع الذوق الكلاسيكي السائد في فرنسا في أواخر القرن السابع عشر، ولا يتم التحرر من السحر الذي مارسته آثار العالم القديم الكلاسيكية على روح الحداثيين في كل من الحقبات المذكورة (...) فجعلت الحداثة الكلاسيكية آنذاك نقيض الرومانطيقي، فتحرر الوعي من الروابط التاريخية ''[]. هكذا إذن يتبين أن صلة مصطلح الحداثة له جذور دينية بالأساس ناتج عن ثورة وفصل للحاضر الذي هو / المسيحية / عن الماضي الروماني الوثني. ونتج المصطلح أيضا نتيجة صراع بين من رأوا في العصور القديمة لأروبا عصرا مثاليا ومعياريا وجب الاقتداء والاحتذاء به.
واضح إذن أن مصطلح الحداثة إنما نشأ نتيجة الثورة و الصراع بين القديم والجديد، إنه صراع بين زمنين اثنين، بين قطب يرى في القديم آية مثالية، وآخر يصارع القديم من أجل المواكبة والاستمرارية والثورة على القيم العقائدية. و مع مطلع السبعينيات سيق مصطلح آخر / جديد new أو معاصر contemporary / ليدل على الحداثة واستعمله ستيفن ساندر في كتابه'' كفاح الاتجاهات الحديثة '' في عام 1963 '' للتفرقة بين جماعة من أدباء الحداثة كانوا يلتزمون بالجديد وينأون عن الماضي، وبين جماعة أخرى من المحدثين ممن ينطبقون عليهم عنوان كتابه. ويطلق كيرمود على هذه الجماعة اسم الحداثة السلفية''() ومهما يكن فإن المتأمل في تعريف الحداثة يجد صعوبة بالغة في تحديد تعريف خاص بها، وإذا كانت الحداثة كما أشرنا سالفا بأنها حقبة تاريخية، ابتدأت بدول أوربا وانتقلت إلى باقي دول العالم، بدءا من القرن السادس عشر بفضل حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني ( مارتن لوثر ) التي شهدتا دول أوربا، وحركة التنوير والثورة الفرنسية 1789م، تلتها الثورة الصناعية فالثورة التكنولوجية، إلى الثورة المعلوماتية والتقنية. فإن هناك من يذهب منحى آخر ويجعل الحداثة مرادفة للفن الحديث في هذا المقام يقول سندر:'' إن الفن الحديث يعكس الوعي بموقف حديث لا سابقة له في شكله أو لغته ''[].
ويبدو بودلير وهو يعرف الحداثة بقوله:'' الحداثة هي الانتقالي، العابر، الجائز، وهي نصف الفن الذي يشكل الأزلي اللا متغير نصفه الآخر''[]، تتقاطع عنده الحداثة مع الزمن والأزل، ويزاوج بين الراهن والأزلي حتى وإن كان '' لا يحتفظ منطقيا إلا بالأزلي، طالما أن الراهن لحظة من لحظة الماضي''[]، وعلى هذا الأساس نجد بودلير يثني على البورجوازية ويمجدها باعتبارها صانعة الانسان والفن أولا وصانعة التاريخ الحديث ثانيا عبر التأسيس للصناعة والاقتصاد والسياسة، إن هذا التمجيد للبورجوازية باعتبارها صانعة الحداثة نابع من كونها ـ أي البورجوازية ـ أنجزت تقدم الإنسان اللامحدود، وما يتسم به من روح إبداعية ورؤية شمولية يجعلها تقبل على الفن وتقدم له وسائل النمو والارتقاء'' أنتم الأكثرية من حيث العدد والذكاء، وبالتالي فأنتم السلطة وهذا عدل (...) لقد اندمج بعضكم ببعض، لقد أسستم شركات، لقد حصلتم على قروض، وكله مرتبط بتحقيق فكرة المستقبل بأشكالها المتباينة كلها، السياسية منها والصناعية والفنية''[]، كل هذا مكن بودلير من الحديث عن الفنان واعتبره هو ذلك المنغرس والمنغمس في الحياة اليومية الحديثة، يقيم في بيت الجمهور المتزاحم، ويبني عوالم الفنان بمواد الحياة الحديثة.
على العموم إن الحداثة لا تولد من عدم لأنها وبكل بساطة في حاجة حقا لكل ما يسبقها حتى تتميز عن كل ما يسبقها، ولذلك فهي تضطر لكي تعدم كل ما سبقها، أو لنقل على الأقل إنها تمارس الوقف وإيقاف صيرورة الأحداث. إنها بعبارة أخرى البدء من ذاتها، بنت ساعتها، تلوي الأحداث وتدمر حركيتها وتوقف جريانها الهيراقليطي، قد تكون خروجا عن القاعدة في بعض الأحيان لكنها ليست خروجا عنها.[]
وإذا كان يصعب تحديد مفهوم جامع شامل للحداثة فإنه يمكن حسب الدكتور محمد سبيلا تحديد بعض مظاهرها وتجلياتها كما يمكن تحديد عتباتها، ومن هذه المظاهر التي وقف عندها: المظهر الأول والمتمثل عنده في المظهر الاقتصادي، والذي يتجلى في التصنيع التدريجي والمكننة يؤدي فيه إلى ارتفاع في مستوى التقنية والانتاج ، وعتبة هذا المظهر تتحدد في الانتقال من الاقتصاد المنزلي اكتفاء ذاتي إلى اقتصاد إنتاجي رأسمالي مرتبط بالسوق، انتقال تدريجي من الانتاجية اليدوية إلى إنتاجية تقنية، ومن إنتاج اكتفائي إلى إنتاج استهلاكي وتسويق واسع. وبالموازاة مع هذا يأتي هذا التحول مصاحبا للانتقال من الطاقة اليدوية والحيوانية، إلى استعمال أوسع للطاقة الهوائية والمائية منها إلى الطاقة الاحترافية فالطاقة الكهربائية ومشتقاتها وصولا إلى الطاقة النووية والذرية[]. أما المظهر الثاني عنده فيتمثل في ذلك التحول من الاقتصاد الذاتي إلى الاقتصاد الصناعي الرأسمالي، سيتحول معه الاقتصاد اقتصادا كونيا مرتبط بقطاع من قطاعات الحياة له أهمية قصوى في تحديد وتلوين مناحي الحياة الاجتماعية كافة، والذهاب لاعتباره عاملا أساسيا وحاسما في الحياة الإنسانية.'' فالمجتمع الحديث هو أساسا مجتمع إقتصادي، أي أن الاقتصاد يلعب فيه دور المحدد الرئيسي لمناحي الحياة الفكرية كافة ''[] ، ويبقى المظهر الثالث المظهر السياسي هو الآخر يرصد الحداثة ومتمما لها الأمر هنا يتعلق بالتحول والانتقال التدريجي في كيفية احتكار الانسان للسلطة من التركيز على العصبيات القبلية والدموية والاقليمية والعشائرية إلى التكتل الطبقي التدريجي، فأفسح المجال معه لظهور تنميطات سياسية جديدة قوامها الإيديولوجية والتركيز على القرب الطبقي وظهور أحزاب سياسية، فتم معها فك الارتباط بين المقدس والسياسي، فكانت الحداثة في الفكر السياسي وأفكاره مجرد إيديولوجيات ووجهة نظر خاصة بفئة خاصة. زيادة على المظهر السياسي ينضاف المظهر الرابع : الاجتماعي الذي يتميز بنمو الحركة الاجتماعية في مستويات الجسم الاجتماعي كافة وتغير على مستوى أنماط السلوك والقيم والعادات الساكنة المتناقلة والثابتة. وهناك مظهر خامس قد جعله محمد سبيلا أكثر مستويات الحداثة بطئا، وهذا النوع بدأ بالأساس بالإحلال التدريجي لمبدأ المعقولية في ميدان الطبيعة، بالتطور التدريجي للفيزياء والكشف عن قوانينها المختلفة، لتعم بعد ذلك العلوم الانسانية، وما شهدته العلوم الانسانية والاجتماعية من ثورات فكرية ما هو إلا إدخال وإبراز لمبدأ الحتمية والنسبية لفهم الانسان أولا والمجتمع ثانيا ويفهم من خلاله التاريخ في ضوئه.
لكن محمد سبيلا يذهب في آخر المطاف إلى اختزال هذه المظاهر وعلى اختلافها وتدرجها إلى عنصرين اثنين : الحداثة المادية'' وتعني التحسنات التي تلحق الإطار الخارجي للوجود الانساني ''[]، والحداثة الفكرية '' وتعني الرؤية والمناهج والمواقف الذهنية التي تهيئ تعقلا يزداد تطابقه بالتدريج مع الواقع''[]. وترتبط الحداثة حسب آرثر أيزربرغ في مجال الفنون التشكيلية إلى أعمال فنانين من أمثال بابلو بيكاسو pablo picasso وهنري ماتيسhenti matiss وجورج براك georges braquec، وبحركات فنية مثل المستقبلية والدادية والسيريالية وفي الموسيقى ارتبطت بأعمال مؤلفين موسيقيين أمثال بيلا بارتوك وإجور استرافونسكي وأرنولد شوينبرج، فأحدثوا بأعمالهم حركة حداثية في الفنون التعبيرية. أما في مجال الكتابات الأدبية فقد ارتبطت الحداثة بأعمال توماس مان وجيمس جويس وإليوت ولويجي برانديلوا وفرانز كافكا ومارسيل بروست، وروبرت ميوسل ووليم فوكنرو.
هكذا إذن وبعد البحث في جذور الحداثة بوصفها حقيقةً تاريخية ثقافية، نأتي الآن للبحث عن مصطلح متمم بني أركانه على سابقه إنه مصطلح ما بعد الحداثة.
لم يكن مصطلح ما بعد الحداثة أحسن حالا من سابقه في التعريف به وتحديد ماهيته، تعددت وتشعبت تعاريفه لكن أغلبها تلتقي في أنها تمرد على الماضي والتاريخ'' لا تعريف للحداثوي، بل إن من طبيعة هذا التعريف أنه يفترض اندلاع النقائض وحضور التهديمي والتنقيصي في حيز واحد ومواقفه ومراتبه(...) إن الحداثوي / ما بعد الحداثة / على عكس التراث يسبق مصانع الموضة بطرح الموضة، المختلفة إنه عدو حقيقي متقدم يسير بحذائه موازيا له دائما ومهمته أن يكذبه ''[] ، ويشار إلى أن أول استعمال لهذا المصطلح بدأ في الثمانينيات من القرن العشرين في عدة ميادين وفروع للمعرفة كالفنون والآداب والموسيقى والتكنولوجيا، وهو مصطلح يدل على'' مجموعة من المواقف التاريخية والاجتماعية ويدل على تشكل اجتماعي كامل، ولكنه مع مرور الوقت أصبح مفهوما في النقد الأدبي ويشير إلى ميزات جديدة في الابداع الأدبي، وهذا المسمى هو امتداد طبيعي للحداثة ''[] ، ولم يهتد أحد إلى الآن لتحديد مصدر هذا المصطلح، وقد اعتبر الدكتور عبد الله الغدامي أن إرجاع هذا المصطلح منهم من يرجعه إلى المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي سنة 1954م ، وبين من يربطه بالشاعر والناقد الأمريكي تشارلس أولسون في الخمسينيات الميلادية، وهناك من يحيله إلى ناقد الثقافة ليزي فيدلر ويحدد زمانها بعام 1965م، كما أن هناك من يرجعه إلى قبل هذه التواريخ، والحديث هنا عن استعمال جون واتكنز تشامبان لمصطلح الرسم ما بعد الحداثي 1670م، وظهوره عند رودولف بانفتز عام 1917[].
إن الحديث عن ما بعد الحداثة لا ينفصل عن الحداثة، ذلك أن ما بعد الحداثة قد شيدت أركان برجها على أكتاف الحداثة، و لولى الحداثة لما عرف هذا الأخير وما أمكن تداول ما بعد الحداثة، ترتبط ارتباطا وثيقا بها سواء عن طريق معرفة الشيء بنقيضه أو بواسطة إدراك الشيء بشبيهه، '' فإذا كانت ما بعد الحداثة هي الاعتقاد باستحالة تأصيل أي معرفة أكانت دينية أم علمية، فإن الحداثة هي على العكس من ذلك، أي أنها ليست سوى الإيمان بإمكانية تأصيل المعارف، وهكذا فإن وضع ما بعد الحداثة يتصف بعدم التأصيل، أي بعدم الاعتراف بأن هناك قيما ثابتة، وعلى هذا الأساس يلاحظ العلماء أن من صفات مذهب ما بعد الحداثة، الذاتية والتفكيكية، والتعددية والاختلاف، والعشوائية''[]
علاوة على ما تقدم ذكره فإن لفكر ما بعد الحداثة مميزات وخصائص في ميدان النقد والإبداع الأدبي من أهمها:
ــ التركيز على الناحية الانطباعية والذاتية في الابداع الأدبي، فانصب الاهتمام على كيف ترى الأمور وتقرأ وتدرك، وليس كما كان الأمر عليه في السابق على ما أو ماذا يدرك الحديث هنا عن المناهج الشكلية، فنشأ على إثرها تيار فكري يسمى بتيار الوعي.
ــ الابتعاد في السرد القصصي عن الأطر التقليدية، كالالتزام بمواقف أخلاقية معينة، أو الاعتماد الموضوعية في تناول الأحداث عبر استخدام ضمير الغائب العالم بكل شيء.
ــ لا حدود فاصلة بين الأجناس الأدبية المختلفة، ولم تعد واضحة المعالم كما كانت عليه في السابق، وهذا مطلب ومطمع الطابع النثري في الشعر الحديث والذي كان من أبرز رواده ت ـ س إليوت .
ــ التركيز في العمل الأدبي على المقطوعات التي تبدو غير متكاملة ولا حدود للترابط بينها فلا وحدة عضوية بين الأعمال الأدبية.
ــ وضوح الوعي على الذات في الأعمال الفنية والأدبية، وما ميز هذه الابداعات من ناحية البناء الفني لأنها حاولت الكشف عن خبايا النفس ومكنوناتها.

ــ الاتجاه إلى رفض تقسيم الأدب إلى أدب رفيع وأدب شائع أو وضيع لأن الأدب مهما كان فإن مبدعه يستعمل كل ما هو متاح لديه من وسائل.[].
وربطا منا لما بعد الحداثة بالتيار الفكري والنقدي في مجال الأدب ألفنا أن هذه الأخيرة إنما جات كذلك مرادفة لحركة معرفية جديدة بعدية، قامت على أنقاض حركة حداثية قبلية سميت بالبنيوية، فكان لذلك الانقلاب بيان لحركة نقدية سميت ما بعد البنيوية، والتي شكلت في مفهومها مقاربة نظرية وموضوعا مشتركا مع مفهوم ما بعد الحداثة، إذ يقول يوسف وغليسي في هذا الصدد:'' كان ذلك مطية لقيام حركة معرفية جديدة على أنقاضها، سميت ( ما بعد البنيوية ) وقد تلتبس ب ما بعد الحداثة، فتترادفان أمام مفهوم واحد، ويغدو التمييز بينهما أمر من الصعوبة بمكان''[]
وعلى هذا الأساس برز مع نهاية القرن العشرين في الساحة النقدية الأدبية توجه نقدي ومعرفي، داعيا ومتجاوزا النقد الأدبي القديم وعلى رأسهم الجمالية، توجه ما بعد حداثوي، لاشك أن الحديث ها هنا عن النقد الثقافي ذلك التوجه النقدي الذي جعل من صلب اهتمامه الأنساق الثقافية الثاوية والمضمرة خلف البناء اللغوي، الأمر الذي دفع به إلى التقاطع مع معارف إنسانية مجاورة لعل من أبرزها: علم الجمال والتحليلين الفلسفي والنفسي والنظرية الماركسية و الأنتربولوجيا وعلم الاجتماع وعلم العلامات...
و لهذا ستسعى الدراسة ها هنا إلى مناقشة أبرز سياقات ظهور هذا النقد الجديد باحثة في تاريخ نشأته و راصدة كذلك أهم الروافد المعرفية التي أسهمت في تشكيل صرحه العلمي.
العرب و الحداثة الأدبية أية تمثلات...؟
ثمة جدل فكري واسع حول ارتباط الصحوة بالأدب بين الأوساط الثقافية العربية في الآونة الأخيرة بين متصد لها وبين داعم و مناهض، ومن بين التوجهات الأدبية التي طالها الجدل قضية الشعر الجديث والشعر القديم، فلم تعد الحداثة حبيسة البيئة الثقافية الغربية، بل ذاعت وراجت وامتدت لتشمل بيئات غير بيئتها. فبين القديم والحديث صراع أزلي منذ القدم، ولتمثيل هذا الصراع ننطلق من الآراء التي مثلها عبد الله الغدامي في كتابه الموقف من الحداثة مسائل أخرى:
ينطلق عبد الله الغدامي ولإثارته قضية الحداثة بوجهها العام من أربع زوايا بين ممن هو حداثي عمودي في تفكيره، وبين من هو حداثي في هواه وعقله، وبين من هو ألسني في عقله وممارسته لقراءة النصوص فيشرح اللغة ويذهب بها نحو آفاق أبعد، وصنف آخر انطباعي في الممارسة قوامه في ذلك انشراح نفسه فيفسر الأدب من خلالها، وهذه النقاط الأربع من أبرز النقاط المكونة للخريطة الثقافية بالمملكة العربية السعودية.
أنصار الفكر العمودي يتجهون إلى قتل كل من عادهم واختلفوا معهم، لا يسعون وراء الحوار والمناقشة، وإنما يسعون إلى محاربة الوجود، وهم بهذا يهدمون خارطة لثقافتنا، زاعمين أن الحداثة والمحدثين يهدمون التاريخ ويتنكرون له، وهي فكرة مضللة حسب الغدامي لأن أبرز الشعراء الحداثيين يحفظون من قصائد التراث ما ممكنهم أن يكبروا بها ويجلونها، فأعانتهم بالتالي من التعبير عن إنسانياتهم من خلال اللغة'' ومن هنا فإنني أبدأ بإسقاط تهمة معاداة الحداثيين للتراث، وأرجو أن يسقطها النقاد في بلادنا من مقالاتهم''[]،
أما الألسنيون فأصحاب هذا التوجه والغدامي واحد منهم، فهم يتميزون بمنهجية واضحة في التفكير عمادهم في ذلك أن قيمة الشيء تتحدد في الوظيفة التي يحتلها وليس في ذاتها، في علاقة الجزء بالكل، فيعطي للجزء قيمته وهي قيمة نسبية، مما يكسبها مزايا لم تكن في الجزء وإنما في تظافر الاجزاء بعضها ببعض، عندها صار للألسني إمكانية وقدرة على الانفتاح على الآخرين والتآخي معهم إيمانا منهم بأن قيمة الفرد ليست جوهرية ( احتكارية )، وإنما هي قيمة وظيفية تنمو بتعالق الفرد بالكل. والآخرون هم أجزاء نتعاضد معهم لبناء الخريطة أو الهرم.
أما من اختار لنفسه مذهب الانطباعية في النقد فهم حسب الغدامدي كُثُر في النقد الحديث، لكنه بالمقابل يسجل عليهم ملاحظات تتمثل عندهم بالأساس في عدم قيام منهجهم على أساس علمي محدد وواضح بل وحتى على اصطلاحات مفاهيمية واضحة، وعليه فإن ممارستهم النقدية لا ترقى لأن تكون ممارسة علمية، تظل ممارسة ثقافية لا علمية. الملاحظة الثانية التي سجلت على أنصار هذا التوجه تتجلى ما تولدت عن هذه الممارسة النقدية الغير المنهجية والغير العلمية من توجهات نقدية بسبب فتح باب النقد أمام كل من هب ودب فصار النقد عندهم غير قادر على حماية نفسه، بسبب انعدام شروط الحماية فيه وهو اختفاء المنهج والمصطلح. فصار النقد الانطباعي معهم ثقافة عامة يسقطون الكلام على أي نص مستنطقا إياه ظلما وإكراها، وليس بما يشير إليه النص في دلالته.
وينهي الغدامي قوله على هذا بأن ما مثلاه مناصرو النقد الانطباعي فإن نقدهم يدخل ضمن علم المضمون، خلافا للتوجه الألسني الذي رأى فيهم أنهم يمثلون علم الأدب، وهو حوار بين قطبين مختلفين في التوجه أحدهما أدبي أدبي والآخر مضموني معنوي، سبيله إلى هذا كله الحوار الذي به تتلاقح العقول مما يعطي للثقافة أبعادا شتى'' ولهذا فإنني أرحب بالاختلاف وأستبشر به، لأنه هو الذي يعطي فعاليتنا الثقافية حركتها وتفاعلها، وبدون الحوار مع الأطراف الأخرى تصاب بركتنا بالأسن والعفن، وما حذرت منه هو نقيض الحوار وهو محاولة إسكات الاخرين واعتقاد أن ما لدينا صحيح، أما الذي عند غيرنا فخطأ، هذه هي صفة الجاهلين...''[].
ويسهب الغدامي في القول منتصرا ومدافعا دفاعا مستميثا عن الحداثة الأدبية بالعالم العربي معتبرا أن حال تقهقر الأمة وانكماش فكرها هو نتاج وتعطيل لحاسة الابداع لأفرادها آيتهم في ذلك لا حاجة لمعرفة الآخر وإحساسهم بالكمال المطلق، فيبقى الفكر معلقا بحضارة الماضي وبما جناه الأسلاف من أمجاد فيرددون ويجترون أفكارهم. فكما أن الحياة تتجدد فالأدب مطالب بأن يتمثل هو الآخر لفعل التجديد وهو علامة من علامة تحضر الأمة، فيكفي أن تتجدد القصيدة العربية ولا ينبغي أن نخضع لترداد الكلام القديم. مشيرا في الوقت ذاته إلى أن دعاة الحداثة والصحوة والتجديد للأدب هم أناس تحركهم الفطرة البشرية يؤمنون بالنقص والقصور المعرفي ولا يجدون أمامهم الجواب الشافي الكافي، أما الذين يقفون موقف المعارض للتجديد فإنهم يحاربون هذه الميزة الانسانية.
ولتمثيل حقيقة معارضة هؤلاء لعنصر التجديد في الأدب فقد انطلق الغدامي مدارسته لهذه الأخيرة من ثلاث جوانب نقدية أساسية: الجانب الأول الموقف النقدي يتأسس عنده على وجود نظرية أدبية تستند إلى أسس علمية مدعمة بالبراهين، وموثقة بالعلم الصحيح وهو شرط أساس لكي يخرج الناقد من نظرته الانطباعية لكون التذوق وحده ليس معيارا نقديا وأداة موثوقة في ذاتها، لأنه خاضع لتقلبات الحالة الانسانية. و على هذا الأساس جاء موقفهم النقدي من التجديد غير محقق ليس في قصورهم العلمية والمعرفية فحسب وإنما أيضا لاستحالة عقلية وهي معارضة التجديد الدائم للحياة.
هذا المذهب ( النقد الانطباعي الرافض للتجديد/ الصحوة/ الحداثة )، كان وراء معارضته للشعر الحر اليوم منطلقا في معارضته يقول الغدامي من موقف انطباعي لا حجة ولا سند معرفي يقوم عليها، وقد جعلها على فئتين اثنتين '' وهم فئتان: فئة طيبة القلب، فصاروا يخافون على اللغة العربية من نسمة الريح تجرحها، فصاروا يكدسون عليها أطمار التاريخ كي يحفظوها من غوائل الايام، وفئة أخرى أخذ منهم الغرور مأخذه فظنوا أن التمسك بالقديم ــ الشعر القديم ــ هو العلم، وأن الذي يحيد عن جادة الآباء ما حاد إلا جهلا منه بتلك الجادة أو عجزا عن السير فيها، وأبت عليهم نفوسهم إلا الاحتجاب بغطاء الجهل فلم يعرفوا أن من كتب الجديد ما كتبه إلا بعد أن سبر أغوار القديم كالسياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور. ومنهم من كان هو بالقديم ألصق وبه أعرق وعرف واشتهر بالقديم قبل الجديد مثل نزار قباني وسليمان العيسى...''[] . هذه المعارضة للحداثة الشعرية جعلت أنصار النقد الانطباعي يقفون في موقف مضطرب علتهم في ذلك أن موجة الجديد أو الحديث خطر على اللغة العربية وتنكر لها و تهديد. آخذين في الحسبان دائما الوزن العروضي للشعر، وجاعلين من تعريف قدامة بن جعفر علة هذا (( الشعر كلام موزون مقفى يدل على معنى)) على اعتبار أن الشعر هو القافية والوزن والعروض. ومن أسباب المغالطة التي وقع عندها أيضا معارضو الحداثة في الشعر يقر عبد الله الغدامي أنهم يقولون بأن الشعر الحر جاء من البلاد التي دخلها الاستعمار.
أما الاتجاه الثاني الذي وقف عنده الغدامي يتمثل في قصور المعرفة لدى مناوئي التجديد، ويتجلى بعدم فهمهم للجديد بما هو جديد'' وكان الصولي قد أشار إلى شيء من ذلك في كتابه عن أبي تمام وحدد أسباب النفور من الجديد أحدهما هو عدم قدرتهم على فهم الجديد (...) أما شعر المحدثين فلم يذلل لهم فصعب أمره عليهم ''[] ، ومن مظاهر قصور المعرفة عندهم أيضا الخلط بين الأصناف المتباينة في الشعر الحديث، فلم يفرقوا بين الشعر المرسل، والشعر الحر، والشعر المنثور، وقصيدة النثر فجميع هذه الأجناس تدخل عندهم في باب الشعر الحر، وهي مرفوضة عندهم. ''وما موقفهم من الشعر الحديث إلا لأنه مخالف للمعهود مما ألفوا من شعر توارثوه عمن سبقهم فهو يختلف في موسيقاه وفي أفكاره وفي صوره مما جعلهم يعجزون عن فهمه وكان الاولى بهم أن يسعوا إلى دراسته وتعلمه''[]، و يتسائل الغدامي على إثر هذا ومادامت العلوم الانسانية والطبيعية قد شقت طريق صعودها في هذا العصر فلم نطلب من الشعر أن يتقاعس ويظل حبيس التاريخ ومنطويا على نفسه...؟ ومن يدعي هذا فهو يحكم على الشعر بالموت والفناء.
ولم يقف معادو الحداثة الشعرية بالعالم العربي يقول عبد الله الغدامي عند حدود فقط امتعاضهم من تنكر شعراء الحداثة للتاريخ وإنما ذهبوا أبعد من ذلك فاعتبروا أن من استفاد من التجارب الشعرية غير العربية تنكر واغتراب للتراث والتاريخ العربي.
أما الاتجاه الثالث الذي يتأسس عليه موقف المعارضين يتمثل في عدم فهمهم لوظيفة اللغة في الشعر، معتبرين أن اللغة في الشعر مجرد نظم فني للكلمات والجمل حسب تفعيلات عروض الخليل، شرطهم في ذلك مطابقة اللغة لكل المواصفات النحوية والبلاغية والذوقية المتعارف عليها، وكل خروج عن هذا يعد تهديدا للغة لأن ذلك يحدث زعزعة في اللغة المتعارف عليها.'' وما الشعر في جوهره إلا فن لغوي، بمعنى أنه صياغة فنية خاصة للغة، يكون الشاعر فيها هو الصائغ، وتزداد قيمة القصيدة كفن لغوي بمقدار حصافة الشاعر ومهارته في قولبة اللغة على نهج إبداعي متميز بحيث يرتفع عن مستوى التراكيب الجاهزة، ويتجاوز القوالب المعدة سلفا، وإلا أصبح ناظما لا شاعرا''[]. مؤكدا أن هذه الحقيقة قد أدركها الجاحظ وتنبه إليها قبل ذلك حين تعريفه للشعر تحت هذا المسمى.
فوظيفة لغة الشعر لا تتحدد في النظم الفني للكلمات والجمل، إنها صورة لموقف الانسان من الحياة وهذا هو دور الشعر في اتحاد تام بين اللغة والشعر، على أن الفصل بينهما بجعل اللغة سابقة على وجود الشعر لكون اللغة لها أحكام وقوانين خاصة هو جهل لوظيفة الشعر.
ويتضح في النهاية أن أسباب معارضة هؤلاء للحداثة حسب الغدامي نابع من ثلاثة أسباب:
ـ عدم وجود موقف نقدي لهم
ـ عدم فهمهم لفلسفة التجديد
ـ ضيق حدود نظرتهم في فهم اللغة.

النقد الثقافي إطلالة على النشأة
إن ما بات يعرف اليوم بالنقد الثقافي، ليمثل أحدث ما أفرزته الساحة النقدية الغربية في ميدان رصد النشاط الإنساني ووصفه ونقده. وهذا المفرز المفهومي، شأنه شأن كل ما وصل من إفرازات نقدية غربية سابقة يكتنفه بعض الغموض وتعلوه الضبابية. بالعودة إلى نشأته نجد أن ظهور هذا المنهج يعود إلى أوربا حسب تقدير بعض الباحثين إلى القرن الثامن عشر[]، لكنه مع مجيئ النصف الثاني من القرن العشرين أخذ يتشكل ويكسب بعض السمات على المستويين المعرفي والمنهجي، وإذا كان لكل منهج نقدي له خاصيته وأسسه الفلسفية التي يتكأ عليها فإننا مع هذا الأخير نكاد لا نستقر على نسق بعينه، إنه ينهال على المعارف والعلوم من كل أبوابها، قوامه في ذلك التركيز على الأنساق الثقافية التي تكسر مركزية النص، فصار يأخذ منه ما يتحقق وما ينكشف فيه من أنظمة ثقافية،'' فالنص والتاريخ منسوجان ومدمجان معا كجزء من عملية واحدة، والدراسات الثقافية تركز على أن أهمية الثقافة تأتي من حقيقة أن الثقافة تعين على تشكيل وتنميط التاريخ ''[]، فالثقافة للنقد الثقافي صفة ملازمة له، لذلك توسعت مساحة ونشاط ميدانه الإنساني في المجتمعات كافة أينما وجدت سواء أكانت بدائية أم متحضرة ، وهو لا يقف عند حدود النتاجات الإنسانية الفكرية بل يتعداها إلى نتاجاته المادية. فالنقد الثقافي موضوعه المقروء والمسموع والمشاهد، فهو يبحث في النصوص اللغوية كما يبحث في اللوحة، والمنحوتات، والموسيقى، والدراما والسينما والإعلانات وغيرها من النشاطات الأخرى. '' إنه نشاط وليس مجالا معرفيا خاصا بذاته (...) ولذلك فمعظم نقاد الثقافة يأتون من مجالات مختلفة ويستخدمون أفكارا ومفاهيم متنوعة وبمقدور النقد الثقافي أن يشمل نظرية الأدب والجمال والنقد، وأيضا التفكير الفلسفي وتحليل الوسائط والنقد الثقافي الشعبي، وبمقدوره أيضا أن يفسر نظريات ومجالات علم العلامات ونظرية التحليل النفسي والنظرية الماركسية والنظرية الاجتماعية والأنثروبولوجيا ودراسات الاتصال، وبحث في وسائل الاعلام والوسائل الأخرى المتنوعة التي تميز المجتمع والثقافة المعاصرة''[] .
وعودة للبحث عن نشأة هذا المفهوم يرد سعد البازعي رأيا يؤكد فيه على وجود إحدى الاشارات المبكرة والمهمة إلى النقد الثقافي وردت في مقالة شهيرة للمفكر الألماني اليهودي تيودور أدورنو تعود إلى 1949تحت عنوان (النقد الثقافي والمجتمع )، وفي هذا المقال هجوم على ذلك اللون من النشاط، الذي يربطه الكاتب بالثقافة الأوروبية عند نهاية القرن التاسع عشر، نقد يمثل فيه نقدا ذارعا إلى البورجوازية بكون الثقافة الممثلة عندهم بعيدة عن الروح الحقيقية للنقد وما فيها من نزوع للسلطة، ونفس الدلالة يقر سعد البازعي وجدت كإشارة عند يورغن هابرماس، الفيلسوف الألماني وزميل أدورنو في مدرسة فرانكفورت في النصف الأول من القرن العشرين في كتاب له بعنوان : المحافظون الجدد، النقد الثقافي والحوار التاريخي، ومن الأعمال أيضا التي اهتمت بهذا الأخير دراسة للمؤرخ الأمريكي هيدن وايت في مقالة له بعنوان: بلاغيات الخطاب مقالات في النقد الثقافي. هذا أما العمل الأكثر اتصالا بموضوع النقد الثقافي يذكر صاحب الكتاب لكونه اعتبر دراسته في هذا المجال أكثر منهجية واصطلاجية ( كلاسيكيات النقد الثقافي 1990م ).
فضلا عن ما قلناه وعلى الرغم من ظهور هذه النتف والأعمال النقدية التي اهتمت بالنقد القافي إلا أن ظهوره الفعلي والحقيقي لم يتحقق إلا في السنوات الأخيرة من القرن العشرين1985م بالولايات المتحدة الأمريكية، مستفيدا بذلك من البنيوية اللسانية، والأنتربولوجيا والتفكيكية، والحركة النسوية، ولم ينطلق النقد الثقافي يقول جميل حمداوي إلا بظهور مجلة النقد الثقافي[] التي كانت تصدر في جامعة مينيسوتا في شتى المجالات الثقافية، ولم يتبلور النقد الثقافي منهجيا إلا مع فليتش فكان أول من أطلق مصطلح النقد الثقافي على نظرية الأدب لما بعد الحداثة، واهتم بدراسة الخطاب على ضوء التاريخ والسوسيولوجيا والسياسة والمؤسساتية، ويتعامل فليتش مع النصوص والخطابات ليس من زاوية جمالية فحسب، بل يتعامل معها من خلال رؤية ثقافية تستكشف ما هو غير جمالي وغير مؤسساتي باحثا في الرؤية الثقافية عماده في ذلك التأويل والتفكيك واستقراء التاريخ.
ويؤكد آرثر إيزا برجر أن مصطلح الدراسات الثقافية باعتباره سيتولد عنه النقد الثقافي قد شرع وبرز بمركز برمنجهام عام1981م بنشر صحيفة أوراق عمل في الدراسات الثقافية، والتي تناولت وسائل الاعلام والثقافة الشعبية والثقافات الدنيا والمسائل الايديولوجية والأدب وعلم العلامات والمسائل المرتبطة بالجنوسة ( الذكورة والأنوثة ) والحركات الاجتماعية والحياة اليومية، وموضوعات أخرى متنوعة، فاعتبر أن تأسيس هذه الصحيفة كانت أمرا مثيرا وممتعا، فعبر القائمون على هذه المجلة واتخذوا من الثقافة الشعبية ووسائل الاعلام مأخذ الجد. وبالتالي يمكن القول أن نشأة النقد الثقافي إنما جاء ليجيب على الأسئلة التالية والتي تمخضت عن المناهج النقدية السابقة: سؤال النسق بديلا عن سؤال النص، سؤال المضمر بديلا عن سؤال الدال، سؤال الاستهلال الجماهيري بديلا عن سؤال النخبة المبدعة( صاجب النص )، وسؤال عن تأثير الحركة الفعلية، وهل هي للنص الجمالي المؤسساتي، أم لنصوص أخرى لا يعترف بها، والتي تعتبر المشكلة للأنساق الثقافية العامة[] ، فكل هذه الأسئلة لم يكن النقد الأدبي ما قبل البنيوي/ ما قبل الحداثة يعرها أي اهتمام ولم يكن يقف عليها، وإنما نشأ النقد الثقافي إلا رادا الاعتبار للجانب الثقافي الذي أهمل فيما قبله.
وفي ما يلي عرض لأهم الأماكن التي جاء منها أغلب نقاد النقد الثقافي، والملفت للنظر في قائمة أغلب هؤلاء النقاد أنهم لم يكونوا وليدي النقد الثقافي وإنما هم نقاد بنيوية وما بعد بنيوية، بل و حتى قبل ذلك بكثير، فشكلت دراسات هؤلاء أثرا بالغا على الدراسات الثقافية[]

النقد الثقافي: الأسس و الروافد
لكل علم أسطورته الخاصة به، ولكل منهج نقدي أدبي مرجعياته الفلسفية والاجتماعية والنظرية التي يقف عليها من أجل بناء برجه العاجي، فكما أن لا علم يولد من فراغ فإنه لا منهج بدون روافد ينهال منها في سبيل تشكيل صرحه العلمي. وإذا كان الأمر كذلك فما أهم المرجعيات الفكرية للنقد الثقافي...؟ ومن أين استمدها...؟ وكيف تعامل معها...؟.
يستمد النقد الثقافي معارفه وآلياته ومقولاته من علوم متعددة، لا يجعل لنفسه علما محددا بعينه، ينهال من كل العلوم، وهو إذ يتعامل مع النص الأدبي يضعه داخل السياق السياسي من ناحية، وداخل سياق القارئ أو الناقد من ناحية ثانية. ولذلك وُصف على أنه نشاط وليس مجالا معرفيا خاصا بذاته، ومهمته في الدراسة تبدو متداخلة ومترابطة ومتجاورة نوعا ما، وأغلب نقاده ليسوا تخصص النقد الثقافي وإنما يأتون من مجالات متعددة، وهم إذ ينتقدون لا ينتقدون من دون وجهة نظر'' فإن ثمة علاقة لهم بجماعات أو اتجاهات مثل الاتجاه النسوي، أو الماركسي أو الفرويدي أو اليونجي أو المحافظ، أو الشواذ أو السحاقية أو الاتجاه الفوضوي أو الراديكالي، أو يرتبط بعلم العلامات أو المذهب الاجتماعي أو الانتربولوجي أو يرتبط بمزيج من كل ما سبق، ولذا فإن النقد الثقافي يتأسس دائما على منظور ما، يرى الناقد من خلاله الاشياء حيث الناقد يعتقد بتفسير أفضل للقضايا[]، كيف ذلك...؟ في ما يلي عرض لأهم هذه التوجهات.
النقد النسوي/ النسائي
ظلت سيطرة العنصر الذكوري وهيمنته على مختلف المجالات، سبيلا في انتفاضة العنصر النسوي والمطالبة بتحررها من الهيمنة الذكورية، وقد ظهر هذا النقد بأوربا في الستينات من القرن العشرين، معتمدا بالأساس على حركات تحرير المرأة والمطالبة بحقوقها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في ظل سيطرة الرجل، وقد تزعمت هذا الحراك فرجينيا وولف وسيمون دي بو فوار في فرنسا'' أما و م أ البلد الجديد، فقد كانت فيه النساء أكثر حرية مما في أوربا، وقد شاركت مجموعة من النساء في لندن في مؤتمر دولي مناهض للرق، وعند عودتهن إلى أمريكا صرن يربطن بين المعارك في سبيل تحرر السود والمعارك في سبيل تحرر المرأة، وهكذا برز في الحركة النسوية العديد من المعاملات، يؤكدن تمسكهن بالمبادئ الاشتراكية، وأشهر الأمثلة على ذلك يتمثل في لويزا ميشيل المعلمة التي كانت تقف من حيث الوضع الاجتماعي على جسر ما بين المرأة العاملة والمرأة البورجوازية ''[] ، وأمام هذا الجو إذن صار للمرأة دورها الريادي في اتخاذ القرارات وإسقاط عن نفسها مغالطة النقص البيولوجي الذي لازمها، فتعلمت ودخلت غمار الأدب والفكر وصارت تناقش أفكارها جنبا إلى جنب الرجل، متحدية بذلك أكبر الصور الثقافية والشعبية والمقولات الفكرية التي ذهبت في جعل المرأة أساسا بيولوجيا فقط'' يعد نيتشه صورة للفكر والثقافة المتشعبة القائلة باستصغار كل ما هو أنثوي، ويحاول تحليل الطبيعة الأنثوية في كتاباته، حيث يرى بأن المرأة لا تحب الرجل في ذاته، بل تحب الأمومة فهو وسيلة والغاية هو الحصول على الطفل، معناه أن حل اللغز هو أن تصير المرأة أما، فهو يعمل على حصر العملية الأنثوية في المهمة البيولوجية ''[] ، و من الواضح جدا إذن أن هضم حقوق العنصر النسوي الذي لازمهن لسنين والتعسف الذي طالهن قد دفع بمجموعة من الناقدات إلى الدعوة ل '' إنصاف المرأة وجعلها على وعي بحيل الكاتب الرجل خاصة فيما يتعلق بالموروث الثقافي الأدبي، وإبراز الكيفية التي بها يتم تهميش المرأة ثقافيا لأسباب طبيعية بيولوجية ''[] ، فكان الهدف إذن من وراء هذا النقد هو إعادة فتح وتنظيم وتوسعة الموروث الأدبي حسب العرف التقليدي إلى ثقافة أنثوية يستوعب إنتاجات مختلف النسوة، يسابق الزمن ويزاحم الأدب الذكوري. وعلى إثره بزغ جنس إبداعي سيسمى بالإبداع النسوي.
وإذا كان من قول يمكن قوله في جانب استلهام النقد الثقافي لرؤى النقد النسوي في الجانب التأسيسي لهذا الأخير، فيمكن الوقوف على الكيفية التي يدرس بها تشكل صور المرأة في الأدب عموما ووسائل الاعلام خصوصا، أو ما يعرف بوسائل الاعلام الجماهيرية، وبدور المرأة في النصوص الدرامية وحضور جسدها واستغلالها الجنسي، واهتمامه أيضا بالمسائل التي ترتبط بالنظرة الذكورية في النصوص والبحث في مرجعياتها الثقافية اُلمشكّلة داخل النص من قيم ومعتقدات موجهة للمرأة بالدرجة الأولى. عملا بأن مبدأ مدارسة المناهج السابقة لهذه الظواهر داخل النص الأدبي إنما كانت تشوبها الذكورية في التحليل، وهو نوع سيبقي الحال على ما هو عليه بسيطرة الرجل على المرأة، والمهمة لن توكل إلى أي منهج نقدي آخر سوى للنقد الثقافي الذي باستطاعته أن يخلخل المرجعيات الثقافية دون الانحياز لطرف.
التحليل النفسي
من أهم ما يستثمره النقد الثقافي من التحليل النفسي أو المنهج النفسي هو الكيفية التي يتمكن منها من تفسير وفهم النصوص بأساليب لا يمكن تحقيقها من خلال المنظورات الاخرى'' ويرجع هذا الأمر لأن نظرية التحليل النفسي تمكننا جزئيا من فهم مناطقنا النفسية العاطفية والحدسية واللاعقلية والمخفية والمكبوتة والمتخفية فهذه هي المناطق التي يتصل بها الفنانون المبدعون ويهتمون بها، وبدون نظرية التحليل النفسي لن يستطيعوا الوصول إلى التحليل أو الفهم''[].
وبناء على هذا الرافد كان ما يسمى'' بالنقد الثقافي النفسي حيث راح فرويد ينظر في المضامين الاجتماعية والطبقية والسياسية، وعلاقاتها بالحياة النفسية محاولا ترميم تلك العلاقات من أجل خلق التوازن بين تلك المضامين والنفس الانسانية من خلال النبش في المنطقة المظلمة التي أسماها اللاوعي، والتي تحتوي الرغبة المكبوتة التي تحاول الخروج والافصاح عن نفسها فتعترضها الأنا، فينشأ الصراع بين الوعي واللاوعي ويتطور ليتحول إلى أعراض مرضية عقلية أو نفسية وهنا يأتي دور التحليل النفسي ممثلا في الطرح وغيره من أدوات التحليل النفسي وآلياته''[]، ومن المفاهيم الأخرى التي وقف عندها النقد الثقافي واستثمرها في تحليل النصوص مفهوم اللاوعي ( الهو ) وهو يشمل الأفكار الأكثر أهمية والتي تحتويها النفس البشرية وفق مستويات مختلفة من الادراك والوعي و الوعي المسبق واللاوعي، أما المفهوم الثاني الذي يقف عنده النقد الثقافي الهو أو اللاشعور ويمثل هذا المفهوم في التحليل النفسي الضمير والمعتقدات الأخلاقية، في حين يبقى لمفهوم الأنا والذي يعد وسيطا بين الشخص والواقع هو الآخر له حضور في هذا المقام ممثلا باستيعاب الواقع والتكيف معه عبر الأنا و الأنا الأعلى. ناهيك عن مفهوم عقد أوديب التي تعد في نظر التحليل النفسي وفرويد على وجه الخصوص من صلب الاضطرابات العصبية وتؤثر في الطريقة والأسلوب التي ننمو بها.
التاريخانية الجديدة
تُعَدُّ التاريخانيَّة الجديدة من أهم نظريات الأدب التي ظهرَت في مدَّة ما بعد الحداثة، ما بين1970 و1990م، وتَهدف التاريخانية الجديدة إلى فَهْم العمل، أو الأثر الأدبي ضمْن سياقه التاريخي، مع التركيز على التاريخ الأدبي والثقافي، والانفتاح أيضًا على تاريخ الأفكار، ومن هنا فقد ارتَبَطت التاريخانيَّة الجديدة بمفهوم التاريخ والتطوُّر التاريخي والثقافي، وقراءة النصوص والخطابات التاريخيَّة في ضوء مقاربة تاريخانيَّة جديدة، وهي تُعنى باستكشاف الأَنساق الثقافيَّة المُضمرة، وانتقاد المؤسَّسات السياسيَّة المُهيمنة، وتَقويض المقولات المركزيَّة السائدة، أمَّا التاريخانية الجديدة في تعامُلها المنهجي، فتَتَّكِئ على البحث الموضوعي، مع الاستعانة بالثقافة، والمجتمع، والسياسة، والأنتروبولوجيا، والفلسفة، والاقتصاد، ويعني هذا أنَّ التاريخانية الجديدة قد ظهَرت كردِّ فعلٍ على التاريخانية القديمة التي ظهَرت في القرن التاسع عشر، وكانت تاريخانيَّة ذاتية وأيديولوجية تُعنى بالمؤسَّسات الثقافية السائدة. وقد'' أفاد النقد الثقافي من التاريخانية الجديدة / الماركسية الجديدة خصوصا في جانبها الاجتماعي، وتوجهاتها الادبية التي تربط الأدب بالمجتمع، ومطلقاتها في التفسير المادي التاريخي من مثل: البنية التحتية والفوقية والبورجوازية والطبقة والاغتراب والفاشية والسلفية، وثقافة الاستهلاك والايديولوجية والامبريالية الثقافية والهيمنة والاستنساخ الآلي والثقافة السياسية، وغير ذلك مما طوره النقد الثقافي متأثرا بالماركسية الجديدة ومذهبها الجمالي''[]، وتنبني التاريخانية الجديدة على مجموعة من المبادئ النظرية، والمرتكزات المنهجية، والمفاهيم التطبيقية من أهمها: ربط النص بالسياق التاريخي والثقافي، على اعتبار ان النص أو الخطاب الذي ينتجه الأديب من منظور التاريخانية الجديدة عبارة عن شبكة من الانساق الثقافية والتاريخية المضمرة، اللاتجانس التاريخي إذا كان النص نصا متجانسا يتسم بالعضوية الكلية وتسلسل الأحداث فإن التاريخانية الجديدة تعتبر النص الأدبي عبارة عن بنية مفككة، النص والقارئ والمؤلف والشخصيات عوالم تتأثر بإيديولوجيات العصر.

السيميائيات والتأويل
تأتي السيموطيقا أو علم العلامات بوصفها العلم المشترك، فالتحليل النفسي يعتمد كلية على رصد علامات خاصة بالنفس الانسانية، والأمر نفسه يتحقق عبر عمل الباحث في أنظمة المجتمع وظواهره، إذ لا بد له من أن يستفيد من معطيات علم العلامات ويركز علم العلامات على كيفية تقديم الناس للمعاني في استخدامهم للغة وفي سلوكهم( كلغة الجسد وتعبيرات الوجه )وسيحاول الجميع أن يقدم معنى من السلوك الانساني في حياتنا اليومية، وفي القصص التي نقرأها وفي الافلام والعروض التلفزيونية، وفي الحفلات الراقصة التي نحضرها، وفي الاحداث الرياضية التي نشاهدها أو نشترك فيها، ويعد البشر حيوانات مخلقة للمعاني ومفسرة لها، فمهما كنا فنحن نرسل رسالات ونتلقى ونفسر رسالات الآخرين، فما تقوم به علم العلامات والاشارات هو تزويدنا بأساليب أكثر تعقيدا وتنقيحا لتفسير هذه الرسالات وإرسالها، وهي تزودنا على وجه الخصوص بطرق لتحليل النصوص في الثقافات، لذا لا يبتعد النقد الثقافي عن السيموطيقا من حيث أنها تكاد تكون المجال الأوسع أو العمود الأساسي الذي يقف عنده النقد الثقافي[] وبخاصة أن الثقافة من منظور السيميائيات مجموعة من الأنظمة السيموطيقية الخاصة المتدرجة، أو يمكن اعتبارها كما من النصوص التي ترتبط بسلسلة من الوظائف.
وعليه فإن مهمة نقاد النقد الثقافي من خلال هذا الأخير تعمل بادئ ذي بدء على '' فك شفرات النصوص لأنواع عديدة في نطاقات وسياقات مختلفة الكلمات والصور والأغراض والأعمال الادبية والشبه أدبية والطقوس الاجتماعية وإعداد الأطعمة والتنشئة الاجتماعية للأطفال ومجالات أخرى عديدة''[]، وتتأثر الثقافة والنقد الثقافي في جانب المعنى عبر الدلالة والمفهوم الضمني للعلامات وذلك عبر وضع العلامة تحت ظلها الثقافي والأسطوري والتعامل معها على أساس تاريخي ثقافي ومحاولة فك شفراتها، ويعد رولان بارت أحد المهتمين بهذا الجنس من خلال كتابه الأساطير باحثا في عدد من التسميات والمدلولات الثقافية لبعض من الظواهر اليومية في فرنسا مثل المصارعة ولحم الإستيك والبطاطس الشيبسي والدمى ورقصات الإثارة الجنسية، هدفه من وراء كل هذا هو محاولة أخذ عالم الواقعيات التي لا معنى لها وتقديم المدلولات المرتبطة بها.
علم الاجتماع
يقوم المنظور الاجتماعي بتزويدنا بعدد من الأدوات لتحليل النصوص، ولدراسة تأثيرات هذه النصوص على الناس والمجتمع بصفة عامة، ويدعم المنظور الاجتماعي مفهوما عن الاعمال الفنية بجميع أنواعها التي تلعبها في المجتمع ومحاولة تزويد النقاد الثقافيين بعدد من المفاهيم ذات أهمية كبرى في تنفيذ دراساتهم[]، ومن ثمة ظهر ما يطلق عليه بالنقد الثقافي الاجتماعي/ النقد السوسيوثقافي / بحيث '' كان نقاد العلامات الاجتماعية الذي أنجزه كارل ماركس يقوم على افتراض أن القيم الثقافية نفسها إنما تكون أكثر فهما وأشد تأثيرا من خلال العلاقة بفكرة الطبيعة الاجتماعية للحياة الانسانية، بحيث كان يفترض كارل ماركس أن ثمة بنى محجوبة ولا واعية يحاول كل مجتمع أن يحتفظ بها في داخل سياساته، وأن يبقيها معممة بين ثنايا آلياته، وبخاصة المجتمعات الرأسمالية والصناعية، فهي تبقي هذه البنى محتجبة حتى تتمكن من أن تعيد إنتاج ذواتها، وأن تصبح قادرة على إبقاء واستمرار أدواتها المتمثلة في النزعة الاستهلاكية واستغلال الانسان واستيلاب قيم الانسان فيه ''[] ، في هذا التوجه النقدي يتجه أنصاره إلى الربط بين النص والسياق، حجتهم في ذلك أن النص أقوال تعبر عن مصالح وأغراض إجتماعية وثقافية وحضارية من حيت قيمتها التبادلية بين الشعوب، وهو ما حذا بهم إلى الاهتمام به ووصفوه وحاولوا تفسيره في سياقه اللغوي الجمالي الثقافي الاجتماعي، ويسعون في نهاية المطاف إلى إيجاد طريقة الربط بين بنية النص وبنية الثقافة. ولذلك فالمنخرط في الدراسات السوسيونقدية مطالب بالانخراط عبر طريقتين اثنتين متباينتين: أولها أن يقرر الدارس ألا يهتم إلا بالعناصر الخارجية عن النص الأدبي، وموقف المؤلف داخل المجتمع الذي يمثله سيمكنه من تبنيه لموقف متميز، وثانيها أن ينظر إلى البنية النصية على أنها تتوسط البنى الاجتماعية/ الثقافية، فتنفتح عليها وتدمجها في نسقها الخاص، بمعنى آخر تحليل المجتمعات وتحولاته التاريخية داخل النص.

أقول عائدا لبدء
عموما لقد شكلا قطبا الحداثة وما بعد الحداثة/ ما بعد البنيوية بكل تجلياتهما وإسهاماتهما حدثا بارزا في إعادة تشكيل الوعي الانساني عبر خلخلة العديد من المفاهيم والمسلمات المترسبة في تشكلاته المعرفية، هذا الدافع كان له الوقع على الاتجاهات النقدية الأدبية، فلم تبقى الحداثة حبيسة جدران النهضة الاقتصادية والتكنولوجية والتقنية وإنما تعدتها لتشمل هذه الأخيرة، فما كان إلا أن يبرز منهج نقدي يرفض المعيارية الأدبية ويحاربها، ومبعدا المتلقي عن التفكير في أعمال محددة لكونها أفضل الاعمال التي أنتجتها ثقافة معينة إيمانا منه أن لا وجود لنص نخبوي، عماده في ذلك نشاط الدراسات النقدية ومستفيدا مما جات به المدارس النقدية التي سبقته كالاجتماعية والنفسية والتاريخية والنصية والتأويلية وغيرها. وموجها رمحه صوب الثقافة الراقية عوض الاشتغال على النص وليس سواه. لكن الاشكالية الكبرى و الاطار المخجل الذي ظل لازما لبروز هذا الاتجاه النقدي الجديد وفي مدارسته للنصوص الأدبية هل مات النقد الأدبي القديم ليحل محله النقد الثقافي...؟ ولماذا النقد الثقافي...؟ وهل هو بديل عن النقد الأدبي...؟ وأين يكمن عيب المناهج النقدية القديمة لكي نبحث عن بديل له...؟ أوليس النقد الثقافي مجرد تسمية حديثة لوظيفة قديمة...؟ وهل تقاعدت العلوم...؟ يسائلنا عبد الله الغدامي.


 حسين البعطاوي
الرتبة: طالب باحث تخصص البلاغة وتحليل الخطاب ( المغرب )
الهاتف: 212651992260+
البريد الالكتروني:etudient.houssine.elbouataoui@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع
آرثر أيزابرجر، النقد الثقافي تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية، تر و تق وفاء إبراهيم ورمضان بسطاويسي، منشورات المجلس الأعلى للثقافة القاهرة الطبعة الأولى2003 العدد 603 محمد سبيلا، مدارات الحداثة الشبكة العربية للأبحاث والنشر الطبعة الأولى2009
الحداثة وما بعد الحداثة في اللغة والمعنى والاصطلاح، إعداد وتقديم هيأة التحرير مجلة الاستغراب العدد الأول السنة الأولى خريف 2015
بيتر بروكر، الحداثة وما بعد الحداثة، ترجمة عبد الوهاب علوب، مراجعة جابر عصفور منشورات المجمع الثقافي الطبعة الأولى 1995
فيصل الدراج، الحداثة وحيدة أم متعددة ضمن كتاب ما بعد الحداثة تحديدات، إعداد وتقديم محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر المغرب الطبعة الأولى 2007
مطاع صفدي، نقد العقل الغربي الحداثة ما بعد الحداثة، مركز الانماء القومي لبنان 1990
معتصم توفيق الخضر، ما بعد الحداثة في النقد الغربي الحديث، مجلة ينابيع العدد الثالث
ميجان الرويلي و سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي إضاءة لأكثر من سبعين تيارا ومصطلحا نقديا معاصرا، المركز الثقافي العربي الطبعة الثالثة 2000
يوسف وغليسي، إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي الجديد، دار العربية للعلوم ناشرون الجزائر2008 ط1
عبد الله الغدامي، الموقف من الحداثة ومسائل أخرى، دون دار النشر ( نسخة إلكترونية عن موقع الدكتور عبد الله الغامدي ) الطبعة الثانية 1991
عبد الله الغدامي، النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية المركز الثقافي العربي البيضاء الطبعة الثالثة 2005

جميل حمداوي النقد الثقافي بين المطرقة والسندانhttp://www.diwanalarab.com/spip.php?article31174
عبد الله الغدامي، عبد النبي أصطيف، نقد ثقافي أم نقد أدبي؟ دار الفكر المعاصر دمشق سوريا، الطبعة الأولى سنة2004م
القائمة التالية استقيناها عن كتاب النقد الثقافي تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية لأرثر أيزا برجر
حفناوي بعلي، مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن، منشورات الاختلاف الدار العربية للعلوم الطبعة الأولى2007م
مصطفى الضبع، أسئلة النقد الثقافي، مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم، المنيا 23ـ26 دجنبر 2003

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...