أخبرتني الطبيبة غادة ابنة أخي الكبير الناظر نور انه ، لا داعى لبقاء والدها في المستشفى .
_ ولكنه لازال يعانى! !
_ أمراض الشيخوخة ليس لها علاج ، و يمكن متابعة حالته، وتناول بعض العقاقير والحقن الكيماوية فى البيت .
قرر الضابط كمال ، شقيق غادة أن يخرجه إلى بيته، وأن يوقف نزيف المال المتدفق على أسرة ذلك المشفى الاستثمارى . بعد عدة أسابيع تدهورت حالة نور الصحية ...... استدعت الطبيبة غادة ، طبيبا متخصصا فى علاج الاورام ، و قبل ان ينصرف انتحى بها جانبا لبرهة، عادت بعدها حزينة منكسة الرأس . سألها كمال :
_ماذا قال لك ؟
_ الحالة متأخرة جدا والدواء صار ضرره أكثر من نفعه. تراجع كمال خطوة إلى الخلف ، تهاوى على مقعده ،اردفت غادة:
_ لابد أن نخبر أبانا بأنها أيامه الأخيرة. ...عله يستعد نفسيا ...وينهى كل معلقاته بالدنيا ، وربما يوصى بفعل أو بشيء فهذا حقه الأخير علينا .
_ ولكنى لا استطيع مواجهته بهذه الحقيقة المفجعة، لنتركه يحيا أيامه الأخيرة فى سلام ، لا أن نعذبه بانتظار الموت.
_ ولكنك هكذا تخدعه، تعطيه وهما زائفا .
_ الاقسى من الموت نفسه هو انتظاره ، توقع حدوثه بعد لحظة او دقيقة او برهة قصيرة ، هذا شيء فظيع ، كما انه ربما تحدث معجزة لأبينا ويشفى .
_انت هكذا لا تخدع أبانا فقط ، بل تخدع نفسك أيضا ، كيف تكون ضابطا بالقوات المسلحة المصرية و تفكر بهذه الطريقة ؟!
_ الحياة العسكرية تمنح صاحبها الصبر ، والتعامل بحكمة مع كل التحديات بل ومواجهة الموت نفسه عشرات المرات ، قد تعلمنا تحمل الالم ولكنها لا تعلمنا القسوة، و كونى عسكريا لا ينفى انى انسان لديه احاسيس ومشاعر الابن تجاه والده ......إذا كنت مصره على إعلامه بأنه سيموت، إذن أخبريه انت ... البنت سر أبيها ، كما أنك طبيبة وهذه طبيعة عملك !!
صمتت غادة ، لبرهة ثم همست فى أسى :
_ اذا كنت انت لا تستطيع اخباره.... فانا كذلك ايضا .
فجأة وجدت نفسى فى موقف حرج ، بل هو اصعب موقف يمكن أن يتعرض له شخص فى حياته!! أن تخبر أخاك أنه أوشك على الموت، بل إنه بالفعل يموت. عند مدخل باب حجرته تسمرت فى مكانى، وعندما التقت عيناى بعينيه ادركت اننى أحمل ما لا يطيقه بشر ، نظرت إليه طويلا وقد صار جلدا على عظم، ملامحه شاهت ، وشعره الغزير جله سقط ... لقد كنا نحسده على وسامته وجسده الرياضي الذى ظل ممشوقا حتى العام المنصرم . أشار إلى فاقتربت منه ، احتضننى وربت على كتفى. قال لى : انت اخى وصديقى وأقرب الناس إلى قلبى فلماذا لم ارك منذ فترة طويلة؟ تعجبت من كلماته ، فأنا لم أتركه يوما واحدا منذ مرضه، متخليا عن متابعة أعمالى وتجارتى، حتى أبقى بجانبه ، ولكنى ادركت انه حتما قد فقد الكثير من ذاكرته. اخبرنى انه راض عن كل ما فعله بحياته، وكيف ربى و علم ابنه، وابنته وزوجهما، وهما الآن فى احسن المراكز وكيف كافح طيلة حياته العملية كمدرس تابع لوزارة التربية والتعليم ، حتى أصبح ناظرا لواحدة من أفضل مدارس الثانوى فى مصر ، وعلى الرغم من كل المشاكل والمصاعب التى واجهته، فقد عاش حياته بدون أن يظلم أحدا ، أخذت الدنيا منه أشياء كثيرة ووهبته أيضا أشياء أخرى. قلت له : لماذا تذكر لى كل هذا الآن ؟ ولم يجيبنى سوى بابتسامة كبيرة ثم واصل سرد ذكرياته ... سنوات العمل .... مدرسته.. الزملاء. .. الأصدقاء. .. الأقارب. .. . ذكرهم جميعا دون أن يغفل واحدا منهم ، وعندما تعب من الحديث ، انصرفت دون أن أخبره بشيء ، ولم يسألنى ابنه الضابط كمال او حتى ابنته الطبيبة غادة ،عما قلته ، بل تركانى أغادر دون حتى أن يودعنى أيا منهما.
وفى اليوم التالى ذهبت لزيارته ، كان مشغولا بكل من حوله من أبناء واحفاد و أقارب وأصدقاء بل والعديد من الذين تعلموا تحت يديه... الطبيب والمهندس والمحامي وأستاذ الجامعة . كان سعيدا فرحا ، حتى اننى وجدته وقد وضع مفكرة صغيرة اسفل وسادته، كان يسجل بها اسم كل شخص قد عاده فى مرضه، مفتخرا بكل هذا العدد من محبيه وطلبته. الناظر 2 سألني عن حالى فقلت له : تجارتى ناجحة ورصيدى صار كبيرا فى البنك . عبس فى وجهى ثم قال : اين زوجتك. ..اين أولادك ؟ نظرت إليه فى دهشة، فهو يعلم جيدا اننى أرى ان صناعة المال اهم من صناعة اسرة، وان المال هو الذى يستطيع صنع اسرة سعيدة وبدونه فلن يتحقق أى شىء. ومضت سنوات العمر فى صراع العمل والتجارة وجمع المال ، حتى نسيت. ...!! نسيت فكرة الزواج والأبناء وتكوين أسرة. شعرت ببرودة شديدة ،سألت نور
ألا تخشى الموت ؟!
التفت نور إلى ولم ينبس سوى بجملة قصيرة : فى الموت حياة. ... وفى الحياة أيضا موت . مضت عدة ايام وانا على حالى هذا ، فى كل مرة اذهب عازما على اخباره وفى كل مرة ايضا ، احجم . حتى عقدت العزم يوما على أننى فى الغد لابد أن أخبره . وحينما جاء الغد.... لم أستطع ايضا أن أخبره! الناظر نور مات ... مات وهو نائما فى سريره ، والابتسامة ملىء شفتيه . العجيب فى الامر اننى لم أشعر بأى ذنب ، كونى لم أخبره بأنها أيامه الأخيرة، بل اننى كنت قد اتخذت قرارا مصيريا سيغير حياتى كلها رأسا على عقب بعدها شعرت براحة كبيرة ، حتى أن ابتسامتى كانت مبعث دهشة الضابط كمال والطبية غادة وكل الحضور فى مراسم دفن اخى الأكبر الناظر نور .
_ ولكنه لازال يعانى! !
_ أمراض الشيخوخة ليس لها علاج ، و يمكن متابعة حالته، وتناول بعض العقاقير والحقن الكيماوية فى البيت .
قرر الضابط كمال ، شقيق غادة أن يخرجه إلى بيته، وأن يوقف نزيف المال المتدفق على أسرة ذلك المشفى الاستثمارى . بعد عدة أسابيع تدهورت حالة نور الصحية ...... استدعت الطبيبة غادة ، طبيبا متخصصا فى علاج الاورام ، و قبل ان ينصرف انتحى بها جانبا لبرهة، عادت بعدها حزينة منكسة الرأس . سألها كمال :
_ماذا قال لك ؟
_ الحالة متأخرة جدا والدواء صار ضرره أكثر من نفعه. تراجع كمال خطوة إلى الخلف ، تهاوى على مقعده ،اردفت غادة:
_ لابد أن نخبر أبانا بأنها أيامه الأخيرة. ...عله يستعد نفسيا ...وينهى كل معلقاته بالدنيا ، وربما يوصى بفعل أو بشيء فهذا حقه الأخير علينا .
_ ولكنى لا استطيع مواجهته بهذه الحقيقة المفجعة، لنتركه يحيا أيامه الأخيرة فى سلام ، لا أن نعذبه بانتظار الموت.
_ ولكنك هكذا تخدعه، تعطيه وهما زائفا .
_ الاقسى من الموت نفسه هو انتظاره ، توقع حدوثه بعد لحظة او دقيقة او برهة قصيرة ، هذا شيء فظيع ، كما انه ربما تحدث معجزة لأبينا ويشفى .
_انت هكذا لا تخدع أبانا فقط ، بل تخدع نفسك أيضا ، كيف تكون ضابطا بالقوات المسلحة المصرية و تفكر بهذه الطريقة ؟!
_ الحياة العسكرية تمنح صاحبها الصبر ، والتعامل بحكمة مع كل التحديات بل ومواجهة الموت نفسه عشرات المرات ، قد تعلمنا تحمل الالم ولكنها لا تعلمنا القسوة، و كونى عسكريا لا ينفى انى انسان لديه احاسيس ومشاعر الابن تجاه والده ......إذا كنت مصره على إعلامه بأنه سيموت، إذن أخبريه انت ... البنت سر أبيها ، كما أنك طبيبة وهذه طبيعة عملك !!
صمتت غادة ، لبرهة ثم همست فى أسى :
_ اذا كنت انت لا تستطيع اخباره.... فانا كذلك ايضا .
فجأة وجدت نفسى فى موقف حرج ، بل هو اصعب موقف يمكن أن يتعرض له شخص فى حياته!! أن تخبر أخاك أنه أوشك على الموت، بل إنه بالفعل يموت. عند مدخل باب حجرته تسمرت فى مكانى، وعندما التقت عيناى بعينيه ادركت اننى أحمل ما لا يطيقه بشر ، نظرت إليه طويلا وقد صار جلدا على عظم، ملامحه شاهت ، وشعره الغزير جله سقط ... لقد كنا نحسده على وسامته وجسده الرياضي الذى ظل ممشوقا حتى العام المنصرم . أشار إلى فاقتربت منه ، احتضننى وربت على كتفى. قال لى : انت اخى وصديقى وأقرب الناس إلى قلبى فلماذا لم ارك منذ فترة طويلة؟ تعجبت من كلماته ، فأنا لم أتركه يوما واحدا منذ مرضه، متخليا عن متابعة أعمالى وتجارتى، حتى أبقى بجانبه ، ولكنى ادركت انه حتما قد فقد الكثير من ذاكرته. اخبرنى انه راض عن كل ما فعله بحياته، وكيف ربى و علم ابنه، وابنته وزوجهما، وهما الآن فى احسن المراكز وكيف كافح طيلة حياته العملية كمدرس تابع لوزارة التربية والتعليم ، حتى أصبح ناظرا لواحدة من أفضل مدارس الثانوى فى مصر ، وعلى الرغم من كل المشاكل والمصاعب التى واجهته، فقد عاش حياته بدون أن يظلم أحدا ، أخذت الدنيا منه أشياء كثيرة ووهبته أيضا أشياء أخرى. قلت له : لماذا تذكر لى كل هذا الآن ؟ ولم يجيبنى سوى بابتسامة كبيرة ثم واصل سرد ذكرياته ... سنوات العمل .... مدرسته.. الزملاء. .. الأصدقاء. .. الأقارب. .. . ذكرهم جميعا دون أن يغفل واحدا منهم ، وعندما تعب من الحديث ، انصرفت دون أن أخبره بشيء ، ولم يسألنى ابنه الضابط كمال او حتى ابنته الطبيبة غادة ،عما قلته ، بل تركانى أغادر دون حتى أن يودعنى أيا منهما.
وفى اليوم التالى ذهبت لزيارته ، كان مشغولا بكل من حوله من أبناء واحفاد و أقارب وأصدقاء بل والعديد من الذين تعلموا تحت يديه... الطبيب والمهندس والمحامي وأستاذ الجامعة . كان سعيدا فرحا ، حتى اننى وجدته وقد وضع مفكرة صغيرة اسفل وسادته، كان يسجل بها اسم كل شخص قد عاده فى مرضه، مفتخرا بكل هذا العدد من محبيه وطلبته. الناظر 2 سألني عن حالى فقلت له : تجارتى ناجحة ورصيدى صار كبيرا فى البنك . عبس فى وجهى ثم قال : اين زوجتك. ..اين أولادك ؟ نظرت إليه فى دهشة، فهو يعلم جيدا اننى أرى ان صناعة المال اهم من صناعة اسرة، وان المال هو الذى يستطيع صنع اسرة سعيدة وبدونه فلن يتحقق أى شىء. ومضت سنوات العمر فى صراع العمل والتجارة وجمع المال ، حتى نسيت. ...!! نسيت فكرة الزواج والأبناء وتكوين أسرة. شعرت ببرودة شديدة ،سألت نور
ألا تخشى الموت ؟!
التفت نور إلى ولم ينبس سوى بجملة قصيرة : فى الموت حياة. ... وفى الحياة أيضا موت . مضت عدة ايام وانا على حالى هذا ، فى كل مرة اذهب عازما على اخباره وفى كل مرة ايضا ، احجم . حتى عقدت العزم يوما على أننى فى الغد لابد أن أخبره . وحينما جاء الغد.... لم أستطع ايضا أن أخبره! الناظر نور مات ... مات وهو نائما فى سريره ، والابتسامة ملىء شفتيه . العجيب فى الامر اننى لم أشعر بأى ذنب ، كونى لم أخبره بأنها أيامه الأخيرة، بل اننى كنت قد اتخذت قرارا مصيريا سيغير حياتى كلها رأسا على عقب بعدها شعرت براحة كبيرة ، حتى أن ابتسامتى كانت مبعث دهشة الضابط كمال والطبية غادة وكل الحضور فى مراسم دفن اخى الأكبر الناظر نور .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق