18
العزيزة الغالية، أسعدت أوقاتا وتجليا وحبا، أما بعد:
أذكر عندما كنا نناقش اللغة في الرواية مع الدكتور وليد الشرفا، كان صديقنا الشاعر الجميل خالد جمعة حاضرا، قال جملة ربما كشف فيها عن أنني، بحكم تديني، لم أقرأ الفيلسوف نيتشه. إن صديقنا خالدا بالتأكيد يرى أن نيتشة كان ملحدا، ولذا فإنني ما زلت متدينا، ولم يتضعضع إيماني الفطري ما دمت بعيدا عن نيتشه.
ربما كل الفلاسفة كانوا ملحدين، مع أن منهم من قاده البحث إلى الإيمان، فثمة من قال "لو لم يكن الله موجودا لاخترعناه". لم يكن نيتشة غائبا عني بالتأكيد، ولكنني لم أكن قرأت له كتبا، وإن كنت قرأت عنه كثيرا. لقد قرأت كتبا كثيرة في الفلسفة ولم يزعجني ما فيها من إلحاد ونفي للخالق أو "موت له"؛ إذ إنني أدرك على نحو يقيني قاطع أن شطحات الفلاسفة تشبه شطحات الشعراء والمتصوفين والعباقرة والعشاق، كلهم كان باحثا عما يعتقد أنها الحقيقة؛ ليرتاح، وليس ليكون تعبا وقلقا.
إن فكرة الإلحاد بحد ذاتها فكرة ساذجة جدا، ولذلك لم تكن لتؤثر في أفكاري كثيرا أو قليلا. فما يضير الخالق أن ينفي وجوده فيلسوف أو شاعر أو عبقري؛ هي أزمة فكر بلا شك، فلا أحد منهم يريد أن ينفي الخالق اعتباطا، وإنما لم يهده تفكيره إليه، بحكم عوامل عدة.
المهم يا عزيزتي، تعرفت إلى نيتشه أخيرا، وعلى كتابه المربك "هكذا تكلم زردشت". بدا نيتشه في الكتاب قلقا ما بين الإلحاد المطلق والإيمان اليقيني. متذبذبا بين "الكفر" و"الإيمان"، لكنه بلا شك كان باحثا عن الحقيقة.
لا بد من الشك أولا للوصول إلى اليقين، هذا هو المبدأ الفلسفي العام الذي ينسب إلى ديكارت، وأحسن استخدامه والتعبير عنه، وإن كان علماء الكلام من فلاسفة المسلمين قد انتهجوه في أبحاثهم العقدية، فجاءوا بمبدأ "التخلية قبل التحلية". لقد سار طه حسين على المنوال ذاته في دراسته "في الشعر الجاهلي"، أراد الشك من أجل الإثبات، ولكنه شك ولم يثبت شيئا، ولعل خطأ طه حسين هو أنه نقل المبدأ الفلسفي من بحث الألوهية إلى مجال الشعر، فثمة فارق كبير بين الحقلين، ومن هنا كانت السقطات التي وقع فيها الكتاب. أحببت كتاب طه حسين، وقرأته في طبعته الأولى غير المعدلة بنهم وسعادة كبيرة، ولم أر فيه ما يدعو إلى التكفير. لماذا تراجع طه حسين عن بعض أفكاره؟ إنها معضلة فلسفية وفكرية أن يتراجع الكاتب عن أفكاره أو أن يتخلى عنها أو يعدل فيها.
كتاب "هكذا تكلم زردشت" جعلني أسأل نفسي أسئلة كثيرة: هل يجب علينا أن نقرأ الفلسفة؟ وهل لا توجد فلسفة إلا في كتب الفلاسفة؟ ولماذا نحشر الفلاسفة في خانة الملحدين فنخاف منهم؟ ولماذا يلجأ الفلاسفة إلى التعقيد؟ ماذا عليهم لو طرحوا أفكارهم بسهولة ويسر؟ ربما نحن مفتونون بالتعقيد، ونبحث عنه، وبقدر ما تكون معقدا في لغتك تقترب من الجمال والفلسفة، فالغموض حارس الذائقة العنيد، وإلا فأنت بسيط وساذج. ننفر من البساطة التي هي أعظم كلمة في معجم الفلسفة الكبير المتضخم. رواية "عالم صوفي" تقوم على الفلسفة وتعالج فكرة وجود إله، ولكنها عرضت الفكرة بقالب روائي جميل، غير معقد. الفيلسوف الفرنسي "لوك فيري" في كتابه "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة"، يرى أن الفلاسفة عقدوا الفلسفة في اجتراحهم لغة معقدة غير مفهومة إلا من النخبة.
الفلسفة موجودة في كل شيء؛ أن تقول: "إن الحياة حلوة" هي فلسفة، وأن تقول: "لا إله إلا الله" فلسفة، وأن تقول: "الجمال نسبي" فلسفة، كما يمكنك أن تقول هذه المعاني كلها بألفاظ معقدة. من يدرك حكمة الحياة قد أدرك كنه الفلسفة، إذ لم تأت الفلسفة إلا لجعل الحياة أكثر فهما.
الجميلة الرائعة:
لم أشعر أنني كنت بحاجة لقراءة نيتشه إلا "من باب العلم بالشي ولا الجهل به"، فوراء كل تلك الغمغمات اللفظية واقع أجلى وأعظم من كل ما يقوله الفلاسفة والمفكرون، ولعل الحياة أبسط مما يتصورون، وربما هي أعقد مما نفكر فيها بسذاجة.
أتعرفين ما هو أكثر أمر يقلقني في تفكير هؤلاء المثقفين؟ هو أنه يجب عليك أن تقرأ لنيتشه وديكارت وكانت وهيكل وماركس وهيدجر وروسو، وأراهم مفتونين حد العظم بما يقول هؤلاء دون أن يكونوا قادرين على شرح أفكارهم أو هضمها. ثمة فرق بين أن تقرأ لتعي وتناقش، وبين أن تقرأ لتنقاد، مثقفونا في الغالب، يقرأون لينقادوا، وليس ليفكروا وينتجوا جديدا. انتهت عندهم الثقافة مظهرا محصورا في "نيتشه وفيروز وشرب النبيذ والعرق، والعلاقات المفتوحة مع النساء"، وإذا لم تكن من مرتادي البارات فأنت لا تستحق لقب "مثقف"، وستكون غريبا موحشا في جلساتهم البائسة. هكذا ينتهي نيتشه في عقول المثقفين دون أن يفكروا فيما بعد نيتشه. فكرة راودتني منذ فترة وهي الموازنة بين نوعين من الكتاب، الكتاب التأصليين والكتاب التناصيين، إنه لأمر محزن أن تدركي أن أغلب كتابنا الكبار هم كتاب تناصيون، وليسوا تأصيليين. إنها حالة سقم كبير في إنتاج المعرفة.
أرجو أن تكون فكرتي قد اتضحت بعيدا عن غمغمات الفلاسفة، متمنيا ألا يفهمني أحد خطأ، أو تأويلا عبثيا. دمت أجمل من الجمال، وأعمق من الفلسفة، أيتها الهادية إلى متون الفلسفة الروحية الجميلة.
أحبك هكذا دون فلسفة زائدة عن حد القلب المفتون فيك عشقا.
فراس حج محمد
العزيزة الغالية، أسعدت أوقاتا وتجليا وحبا، أما بعد:
أذكر عندما كنا نناقش اللغة في الرواية مع الدكتور وليد الشرفا، كان صديقنا الشاعر الجميل خالد جمعة حاضرا، قال جملة ربما كشف فيها عن أنني، بحكم تديني، لم أقرأ الفيلسوف نيتشه. إن صديقنا خالدا بالتأكيد يرى أن نيتشة كان ملحدا، ولذا فإنني ما زلت متدينا، ولم يتضعضع إيماني الفطري ما دمت بعيدا عن نيتشه.
ربما كل الفلاسفة كانوا ملحدين، مع أن منهم من قاده البحث إلى الإيمان، فثمة من قال "لو لم يكن الله موجودا لاخترعناه". لم يكن نيتشة غائبا عني بالتأكيد، ولكنني لم أكن قرأت له كتبا، وإن كنت قرأت عنه كثيرا. لقد قرأت كتبا كثيرة في الفلسفة ولم يزعجني ما فيها من إلحاد ونفي للخالق أو "موت له"؛ إذ إنني أدرك على نحو يقيني قاطع أن شطحات الفلاسفة تشبه شطحات الشعراء والمتصوفين والعباقرة والعشاق، كلهم كان باحثا عما يعتقد أنها الحقيقة؛ ليرتاح، وليس ليكون تعبا وقلقا.
إن فكرة الإلحاد بحد ذاتها فكرة ساذجة جدا، ولذلك لم تكن لتؤثر في أفكاري كثيرا أو قليلا. فما يضير الخالق أن ينفي وجوده فيلسوف أو شاعر أو عبقري؛ هي أزمة فكر بلا شك، فلا أحد منهم يريد أن ينفي الخالق اعتباطا، وإنما لم يهده تفكيره إليه، بحكم عوامل عدة.
المهم يا عزيزتي، تعرفت إلى نيتشه أخيرا، وعلى كتابه المربك "هكذا تكلم زردشت". بدا نيتشه في الكتاب قلقا ما بين الإلحاد المطلق والإيمان اليقيني. متذبذبا بين "الكفر" و"الإيمان"، لكنه بلا شك كان باحثا عن الحقيقة.
لا بد من الشك أولا للوصول إلى اليقين، هذا هو المبدأ الفلسفي العام الذي ينسب إلى ديكارت، وأحسن استخدامه والتعبير عنه، وإن كان علماء الكلام من فلاسفة المسلمين قد انتهجوه في أبحاثهم العقدية، فجاءوا بمبدأ "التخلية قبل التحلية". لقد سار طه حسين على المنوال ذاته في دراسته "في الشعر الجاهلي"، أراد الشك من أجل الإثبات، ولكنه شك ولم يثبت شيئا، ولعل خطأ طه حسين هو أنه نقل المبدأ الفلسفي من بحث الألوهية إلى مجال الشعر، فثمة فارق كبير بين الحقلين، ومن هنا كانت السقطات التي وقع فيها الكتاب. أحببت كتاب طه حسين، وقرأته في طبعته الأولى غير المعدلة بنهم وسعادة كبيرة، ولم أر فيه ما يدعو إلى التكفير. لماذا تراجع طه حسين عن بعض أفكاره؟ إنها معضلة فلسفية وفكرية أن يتراجع الكاتب عن أفكاره أو أن يتخلى عنها أو يعدل فيها.
كتاب "هكذا تكلم زردشت" جعلني أسأل نفسي أسئلة كثيرة: هل يجب علينا أن نقرأ الفلسفة؟ وهل لا توجد فلسفة إلا في كتب الفلاسفة؟ ولماذا نحشر الفلاسفة في خانة الملحدين فنخاف منهم؟ ولماذا يلجأ الفلاسفة إلى التعقيد؟ ماذا عليهم لو طرحوا أفكارهم بسهولة ويسر؟ ربما نحن مفتونون بالتعقيد، ونبحث عنه، وبقدر ما تكون معقدا في لغتك تقترب من الجمال والفلسفة، فالغموض حارس الذائقة العنيد، وإلا فأنت بسيط وساذج. ننفر من البساطة التي هي أعظم كلمة في معجم الفلسفة الكبير المتضخم. رواية "عالم صوفي" تقوم على الفلسفة وتعالج فكرة وجود إله، ولكنها عرضت الفكرة بقالب روائي جميل، غير معقد. الفيلسوف الفرنسي "لوك فيري" في كتابه "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة"، يرى أن الفلاسفة عقدوا الفلسفة في اجتراحهم لغة معقدة غير مفهومة إلا من النخبة.
الفلسفة موجودة في كل شيء؛ أن تقول: "إن الحياة حلوة" هي فلسفة، وأن تقول: "لا إله إلا الله" فلسفة، وأن تقول: "الجمال نسبي" فلسفة، كما يمكنك أن تقول هذه المعاني كلها بألفاظ معقدة. من يدرك حكمة الحياة قد أدرك كنه الفلسفة، إذ لم تأت الفلسفة إلا لجعل الحياة أكثر فهما.
الجميلة الرائعة:
لم أشعر أنني كنت بحاجة لقراءة نيتشه إلا "من باب العلم بالشي ولا الجهل به"، فوراء كل تلك الغمغمات اللفظية واقع أجلى وأعظم من كل ما يقوله الفلاسفة والمفكرون، ولعل الحياة أبسط مما يتصورون، وربما هي أعقد مما نفكر فيها بسذاجة.
أتعرفين ما هو أكثر أمر يقلقني في تفكير هؤلاء المثقفين؟ هو أنه يجب عليك أن تقرأ لنيتشه وديكارت وكانت وهيكل وماركس وهيدجر وروسو، وأراهم مفتونين حد العظم بما يقول هؤلاء دون أن يكونوا قادرين على شرح أفكارهم أو هضمها. ثمة فرق بين أن تقرأ لتعي وتناقش، وبين أن تقرأ لتنقاد، مثقفونا في الغالب، يقرأون لينقادوا، وليس ليفكروا وينتجوا جديدا. انتهت عندهم الثقافة مظهرا محصورا في "نيتشه وفيروز وشرب النبيذ والعرق، والعلاقات المفتوحة مع النساء"، وإذا لم تكن من مرتادي البارات فأنت لا تستحق لقب "مثقف"، وستكون غريبا موحشا في جلساتهم البائسة. هكذا ينتهي نيتشه في عقول المثقفين دون أن يفكروا فيما بعد نيتشه. فكرة راودتني منذ فترة وهي الموازنة بين نوعين من الكتاب، الكتاب التأصليين والكتاب التناصيين، إنه لأمر محزن أن تدركي أن أغلب كتابنا الكبار هم كتاب تناصيون، وليسوا تأصيليين. إنها حالة سقم كبير في إنتاج المعرفة.
أرجو أن تكون فكرتي قد اتضحت بعيدا عن غمغمات الفلاسفة، متمنيا ألا يفهمني أحد خطأ، أو تأويلا عبثيا. دمت أجمل من الجمال، وأعمق من الفلسفة، أيتها الهادية إلى متون الفلسفة الروحية الجميلة.
أحبك هكذا دون فلسفة زائدة عن حد القلب المفتون فيك عشقا.
فراس حج محمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق