توطئة لابد منها:
وتأسيسا على ما سبق، لقد تناولت الشعرية مجموعة من القضايا الأدبية الكبرى التي يمكن حصرها فيما يلي:
المطلب الأول: قضية الأدبية وعلم الأدب
يعد رومان جاكبسون، أو ياكبسون (R.Jakobson)، من الشكلانيين الأوائل الذين أرسوا دعائم الشعرية، أو ما يسمى بعلم الأدب، أو من الذين ساهموا في تطوير نظرية الأدب على أسس علمية وموضوعية، بحصر موضوع علم الأدب في دراسة الأدبية (La littérarité). ويعني هذا أن علم الأدب، أو ما يسمى أيضا بالبويطيقا أو الإنشائية (Poétique)، يدرس ما يجعل الأدب أدبا. أي: التركيز على وظيفة الأدب التي تتأسس على الوظيفة الجمالية أو الشعرية، بإسقاط المحور الاستبدالي على المحور التركيبي، أو الجمع بين الانتقاء الدلالي والعلاقات النحوية. ويعني هذا أيضا أن الأدب يتكون من مواد دلالية وعلاقات نحوية وتركيبية، أو الجمع بين الدلالة والنحو ضمن علاقات الغياب (الدلالة) من جهة، وعلاقات الحضور (التركيب) من جهة أخرى.
المطلب الثاني: اللغة والنظام التواصلي
يستند التواصل اللساني - حسب رومان جاكبسون - إلى ستة عناصر أساسية[1] هي: المرسل، والمرسل إليه، والرسالة، والقناة، والمرجع، و السنن/ اللغة.
وللتوضيح أكثر، نقول: يرسل المرسل رسالة إلى المرسل إليه؛ حيث تتضمن هذه الرسالة موضوعا أو مرجعا معينا، وتكتب هذه الرسالة بلغة يفهمها كل من المرسل والمتلقي. ولكل رسالة قناة حافظة كالظرف بالنسبة للرسالة الورقية، والأسلاك الموصلة بالنسبة للهاتف والكهرباء، والأنابيب بالنسبة للماء، واللغة بالنسبة لمعاني النص الإبداعي...
ويعني هذا كله أن اللغة ذات بعد لساني وظيفي، و لها ستة عناصر، وست وظائف: المرسل ووظيفته تعبيرية أو انفعالية، والمرسل إليه ووظيفته تأثيرية أو انتباهية، والرسالة ووظيفتها جمالية أو شعرية، والمرجع ووظيفته مرجعية، والقناة ووظيفتها حفاظية، والسنن ووظيفته الوصف الميتالغوي. وقد انطلق جاكبسون من مسلمة جوهرية ألا وهي أن التواصل هو الوظيفة الأساسية للغة. ومن هنا، فللغة ستة عناصر أساسية، ولكل عنصر وظيفة ما:
وقد تأثر رومان جاكبسون بأعمال فرديناند دوسوسير(Ferdinand De Saussure )، والفيلسوف المنطقي اللغوي جون أوسطين(John L. Austin).
وعليه، يبدو أن كثيرا من النصوص والخطابات والصور والمكالمات الهاتفية عبارة عن رسائل يرسلها المرسل إلى مرسل إليه؛ حيث يحول المتكلم رسالته إلى نسيج من الانفعالات والمشاعر والأحاسيس الذاتية، ويستخدم في ذلك ضمير المتكلم. ومن ثم، يتخذ المرسل بعدا ذاتيا قوامه التعبيرية الانفعالية. بمعنى أن الوظيفة الانفعالية التعبيرية هي التي تحدد العلائق الموجودة بين المرسل والرسالة. وتحمل هذه الوظيفة، في طياتها، انفعالات ذاتية، وتتضمن قيما ومواقف عاطفية ومشاعر وإحساسات، يسقطها المتكلم على موضوع الرسالة المرجعي.
أما المرسل إليه، فهو المخاطَب الذي توجه إليه رسائل المتكلم بضمير المخاطب بغية إقناعه، أو التأثير فيه، أو إثارة انتباهه إيجابا وسلبا. ومن هنا، فإن الوظيفة التأثيرية هي التي تقوم على تحديد العلاقات الموجودة بين المرسل والمتلقي، بتحريض المتلقي، وإثارة انتباهه، وإيقاظه عبر آليتي الترغيب والترهيب، وهذه الوظيفة ذاتية بامتياز، ما دامت قائمة على الإقناع والتأثير.
إذاً، يتحول الخطاب اللفظي أو غير اللفظي إلى رسالة، وهذه الرسالة يتبادلها المرسل والمرسل إليه، فيسهمان في تحقيق التواصل المعرفي والجمالي، وهذه الرسالة مسننة بشفرة لغوية، يفككها المستقبِل، ويؤولها بلغته الواصفة. وتتجسد هذه الرسالة ذات الوظيفة الشعرية أو الجمالية في إسقاط المحور الاستبدالي على المحور التأليفي، أو إسقاط محور الدلالة على محور التركيب والنحو انزياحا. ويعني هذا أن الوظيفة الجمالية هي التي تحدد العلائق الموجودة بين الرسالة وذاتها، وتتحقق هذه الوظيفة في أثناء إسقاط المحور الاختياري على المحور التركيبي، وكذلك عندما يتحقق الانتهاك والانزياح المقصود بشكل من الأشكال.
كما تهدف الرسالة، عبر وسيط القناة، إلى الحفاظ على التواصل، وعدم انقطاعه: (آلو .. آلو... هل تسمعني جيدا؟)؛ أي: تهدف وظيفة القناة إلى تأكيد التواصل، واستمرارية الإبلاغ، وتثبيته أو إيقافه، والحفاظ على نبرة الحديث والكلام المتبادل بين الطرفين. وللغة كذلك وظيفة مرجعية، ترتكز على موضوع الرسالة باعتباره مرجعا وواقعا وسياقا أساسيا، تحيل عليه تلك الرسالة. وهذه الوظيفة في الحقيقة موضوعية، لا وجود للذاتية فيها؛ نظرا لوجود الملاحظة الواقعية، والنقل الصحيح، والانعكاس المباشر...
وثمة وظيفة أخرى مرتبطة بالسنن، وتسمى بالوظيفة الواصفة أو الوظيفة الميتالغوية القائمة على الشرح والوصف والتفسير والتأويل، وتهدف إلى تفكيك الشفرة اللغوية بعد تسنينها من قبل المرسل. والهدف من السنن هو وصف الرسالة لغويا، وتأويلها وشرحها وفهمها، مع الاستعانة بالمعجم أو القواعد اللغوية والنحوية المشتركة بين المتكلم والمرسل إليه.
المطلب الثالث: قضية الأجناس الأدبية
لقد اهتمت الشعرية الغربية منذ القديم - وما تزال- بمسألة الأجناس الأدبية. وقد ميز أفلاطون، في جمهوريته، بين السرد والحوار[2]،أو بين الحكي القصصي والحكي المسرحي؛ حيث يشتمل الأول على السرد والحوار، ويتضمن الثاني الحوار فقط. فالملحمة تمثل النمط الأول، والمسرحية المأساوية والهزلية تمثل النمط الثاني، على أن هناك نمطا ثالثا يشتمل على السرد فقط، وهو المدائح.[3]
ويعد أرسطو، في كتابه ) فن الشعر)، المنظر الأول للأجناس الأدبية دون منازع، فقد قعدها وصنفها بطريقة علمية قائمة على الوصف، بتحديد السمات والمكونات.ولقد قسم الأدب إلى ثلاثة أقسام: الأدب الغنائي، والأدب الملحمي، والأدب الدرامي[4].
وتبعا لذلك، فلقد صارت قضية التجنيس في العصر الحديث من أعوص القضايا التي ناقشتها نظرية الأدب والتصورات البنيوية والسيميائية وما بعد البنيوية؛ لما لها من دور فعال في فهم آليات النص الأدبي، وتفسير آلياته الإجرائية قصد محاصرة النوع،وتقنين الجنس دلالة، وبناء، ووظيفة.
ولقد أشار تودوروف(Todorov)إلى أن مسألة الأجناس"من المشاكل الأولى للبويطيقا منذ القديم حتى الآن، فتحديد الأجناس وتعدادها ورصد العلائق المشتركة بينها لم يتوقف عن فتح باب الجدال. وتعتبر هذه المسألة حاليا متصلة بشكل عام بالنمذجة البنيوية للخطابات؛ حيث لايعتبر الخطاب الأدبي غير حالة نوعية"[5].
ويؤكد العالم الألماني كارل فيتور(KARL Viëtor ) أن "الأجناس الأدبية هي إنتاجات فنية؛ لأن أصلها التاريخي من أغمض الأمور.[6]"
ولقد عرفت عملية تجنيس النص الأدبي امتدادات تاريخية وفنية وجمالية. وقد عرفت أيضا تطورات على مستوى التصور النظري والممارسة التطبيقية منذ شعرية أرسطو وأفلاطون، مرورا بتصورات برونوتيير[7]، وهيجل، وجورج لوكاش، وصولا إلى تصورات ميخائيل باختين، وكريزينسكي، وفراي، وتودوروف، وهامبورغر كيت، وأوستين وارين، وروني ويليك، وماري شايفر، وفيتور، وجيرار جنيت، وغيرهم...
كما انتقل الجنس الأدبي من مرحلة الصفاء والنقاء النوعي مع الشعرية اليونانية إلى مرحلة وحدة الأجناس الأدبية مع الرومانسية. وبعد ذلك، انتقل إلى مرحلة الاختلاط والتهجين والتلاقح مع نظرية باختين. و بكل اختصار،انتقلت عملية التجنيس من مرحلة الانغلاق والثبات والاستقرار إلى مرحلة الانفتاح والتكون والتغير. ومن هنا، يؤكد تزفيطان تودوروف(T .TODOTOV) أن التأملات حول الأجناس الأدبية قد كثرت، فهي" قديمة قدم نظرية الأدب، ومادام كتاب أرسطو في الشعر يصف الخصائص النوعية للملحمة والتراجيديا. فقد ظهرت منذ ذلك الوقت مؤلفات ذات طبيعة متنوعة احتذت حذو أرسطو. لكن هذا النوع من الدراسات لم يحقق تقاليده الخاصة إلا ابتداء من عصر النهضة، حيث تتابعت الكتابات حول قواعد التراجيديا والكوميديا والملحمة والرواية، ومختلف الأجناس الغنائية، وارتبط ازدهار هذا الخطاب، بكل تأكيد، ببنيات إيديولوجية سائدة، وبالفكر المتبنى عن الجنس الأدبي في ذلك العصر. أعني كونه قاعدة محددة لاينبغي خرقها. صحيح أن الأجناس الأدبية كانت تنتمي إلى الأدب (أو إلى القصيدة أو إلى الفنون الجميلة)، ولكنها كانت تعتبر وحدة من مستوى أدنى تنتج عن تقطيع، بإمكاننا أن نقاربه بموضوعات نظرية الأدب السابقة، ولكنها مع ذلك متميزة عنها. ففي حين، إن الرمز أو التمثيل أو الأسلوب المجازي عبارة عن خصائص مجردة للخطاب الأدبي (حيث يكون استيعابها نتيجة ذلك أكبر من الأدب وحده)، فإن الأجناس الأدبية كانت تنتج عن نوع آخر من التحليل، إنه الأدب في أجزائه"[8].
ولقد استعير مفهوم الجنس والنوع من العلوم الطبيعية، ويرجع الفضل في ذلك إلى العالم الروسي فلاديمير بروب (V.Propp) رائد التحليل البنيوي المورفولوجي للسرد، وقد استفاد كثيرا من وصفات علم النبات وعلم الحيوان.
ولقد ثار موريس بلانشو(M. BLANCHOT ) على نظرية الأجناس الأدبية، مثلما ثار عليها عالم فن الجمال الإيطالي كروشيه في دعوته إلى التخلص من مفهوم الجنس ونفيه. وهكذا، كتب بلانشو في أواخر منتصف القرن العشرين قائلا:" لم يعد هناك كتاب ينتمي إلى جنس. كل كتاب يرجع إلى الأدب الواحد... ومن ثم، فهو بعيد عن الأجناس وخارج خانات النثر والشعر والرواية والشهادة... يأبى أن ينتظم تحت كل هذا، أو يثبت له مكانه، ويحدد شكله..."[9].
وينادي رولان بارت كذلك إلى إلغاء الحدود الموجودة بين الأجناس الأدبية، وتعويض الجنس الأدبي أو الأثر الأدبي بالكتابة أو النص. وبما أن النص يتحكم فيه مبدأ التناص، واستنساخ الأقوال، وإعادة الأفكار، و تعدد المراجع الإحالية التي تعلن موت المؤلف، فلا داعي للحديث عن الجنس الأدبي ونقائه وصفائه، مادام النص، من جهة أخرى، جماع نصوص متداخلة، وملتقى خطابات متنوعة ومختلفة من حيث التجنيس والتصنيف.
ويعني هذا أن الكتابة الأدبية - حسب بارت-هي خلخلة لمعيار التجنيس، وانتهاك لترتيب الأنواع، وانزياح عن قواعد تصنيف الأنماط. وفي هذا، يقول رولان بارت:"إن النص لاينحصر في الأدب الجيد . إنه لايدخل ضمن تراتب، ولا حتى ضمن مجرد تقسيم للأجناس. ما يحدده على العكس من ذلك هو قدرته على خلخلة التصنيفات القديمة.[10]"
ويلاحظ اليوم أن الكتابات الإبداعية المعاصرة، سواء في الثقافة الغربية أم في الثقافة العربية، قد بدأت - فعلا- في خلخلة الجنس الأدبي، وتحطيم معاييره النوعية، ونسف مقوماته النمطية، باسم الحداثة، والتجريب، والتأصيل، والتأسيس. فأصبحنا - اليوم - نتحدث عن القصيدة النثرية التي يتقاطع فيها الشعر والنثر، والقصيدة الشذرية التي يتقاطع فيها الشعر مع الفلسفة، والقصيدة الدرامية التي ينصهر فيها الشعر والحوار المسرحي معا. كما أصبحت الرواية فضاء تخييليا لتلاقح النصوص، وتداخل الخطابات والأجناس تناصا وتهجينا. دون أن ننسى المسرح الذي أصبح أب الفنون والأجناس الأدبية بامتياز.
وعليه، فسؤال الأجناس الأدبية قديم قدم الأدب نفسه،فلقد نشأ في حضن الأدب ليجيب بدوره عن أسئلته تجنيسا وتنويعا وتصنيفا[11]. ولقد ارتبط فعل التجنيس بملاحظة النصوص الأدبية، والبحث عن أوجه التشابه والاختلاف بينها، فقادهم هذا العمل إلى التجريد والتنظير والمقارنة بين الظواهر النصية تنميطا وتجنيسا وتنويعا. ومن ثم، فلقد انتقل الجنس الأدبي من مرحلة النظرية إلى مرحلة التقنين المؤسساتي.ومن هذه اللحظة بالذات، بدأت الإنسانية في تنظيم ذاكرتها، وترتيب أدواتها المعرفية والعلمية والإبداعية إن نظرية، وإن تطبيقا.
بيد أن الوعي بالأجناس، بشكل نظري وعلمي مقنن، قد بدأ مع ظهور كتاب(الشعرية) لأرسطو الذي قسم الأجناس الأدبية إلى شعر، وملحمة، ودراما[12]؛ وإن كان أفلاطون بدوره قد اهتم بنظرية الأجناس الأدبية في كتابه(الجمهورية)، حين ميز بين السرد والحوار[13].
وإذا كانت النظرية الكلاسيكية تفصل بين الأجناس الأدبية، فإن الرومانسية قد وحدت بينها ضمن نظرية الأدب.وبعد ذلك، أخذت نظرية الأجناس الأدبية طابعها الأكاديمي والجامعي مع نظريات الأدب في القرن العشرين، وبالضبط مع تصورات الشكلانية الروسية، والبنيوية الفرنسية، والنقد الجديد(New criticism)، والسيميائيات...
بيد أنه مع ظهور نظريات ما بعد الحداثة، في الفترة الممتدة بين سنوات السبعين والتسعين من القرن الماضي، انبثقت مجموعة من المذاهب والتيارات الفكرية والأدبية ثائرة على نظرية الأجناس الأدبية تفكيكا وتقويضا وتشتيتا، مع مجموعة من الأسماء الغربية، مثل:جاك ديريدا، ورولان بارت، وموريس بلانشو، وجوليا كريستيفا... وهكذا، يقول موريس بلانشو: " إن الأدب لايقبل التفرقة بين الأنواع، ويرمي إلى تحطيم الحدود"[14].
ويعني هذا أنه مازال مرتبطا بمجموعة يينا الألمانية كما في القرن الثامن عشر الميلادي. وهناك من يرى أن النص الأدبي يجب، بالإضافة إلى التحرر من الأجناس والأنواع، أن يسعى إلى تضمين النظرية التي أنجته، وينبغي أن تتجه العناية كل العناية نحو عملية الإنتاج نفسها[15]، فإننا مرة أخرى نردد ماجاءت به جماعة ييينا الرومانسية التي كانت تدعو إلى وحدة الأجناس الأدبية والفنية[16].
ومن جهة أخرى، يلاحظ أن أهم ما انشغلت به نظرية الأجناس الأدبية هو التقسيم الثلاثي: الغنائية، والملحمية، والدرامية، باعتبارها إشكالية أرقت الكثير من الباحثين والدارسين الغربيين، فهل هي ثنائية أم ثلاثية؟ لأن جيرار جنيت في كتابه(جامع النص) قد شكك في هذا التقسيم الثلاثي بقوله:" ليس النص هو موضوع الشعرية، بل جامع النص.أي: مجموعة الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة. ونذكر من بين هذه الأنواع: أصناف الخطابات، وصيغ التعبير، والأجناس الأدبية. ولقد اجتهدت الشعرية الغربية منذ أرسطو في أن تشكل من هذه الأنواع نظاما موحدا قابلا للإحاطة بكامل الحقل الأدبي.ولم تتم تلك الجهود من غير التباسات، أهمها: التقسيم الثلاثي المعترف به منذ القرن الثامن عشر، والذي أسند خطأ لأرسطو نفسه، وهو تقسيم الحقل الأدبي إلى ثلاثة أنماط أساسية صنفت تحتها جميع الأجناس والأنواع الأدبية:الغنائي، والملحمي، والدرامي.
ولقد سعيت إلى تفكيك هذه الثلاثية المزعجة بأن أعددت رسم تكونها التدريجي، وميزت، بما أمكنني من الدقة، الأنماط المتعلقة بجامع النص، التي تتداخل فيها. ولا يعدو مسعاي أن يكون محاولة لفتح الطريق، ولو بصيغة تهكمية، أمام نظرية عامة ومحتملة للأشكال الأدبية."[17]
وهذا ما تنبه إليه أيضا رونيه ويليك حينما قال :" تعتبر التقسيمات الثلاثية في تاريخ الأنواع الأدبية من أهم التقسيمات. ولقد حاولت الآنسة آيرينه بهونز أن تبين في أطروحتها الموثقة (علم تصنيف الشعر) (1940م) أن الثالوث ماهو إلا نتيجة للتفكير النظري في القرن الثامن عشر. واعتبرت كتاب شارل باتو (الفنون الجميلة من خلال مبدإ واحد) (1746م) هو الوثيقة الأساسية التي تتبعت تسرب أفكارها إلى كتابات النقاد الألمان المتأخرين والصيغ التي اتخذتها عندهم. ويضم كتابها أمثلة عديدة على التقسيمات الثلاثية التي استعملت في القرون السابقة استعمالا كثيرا ماكان عابرا."[18]
وعليه، فلقد أصبحت نظرية الأجناس الأدبية - اليوم - جزءا لايتجزأ من نظرية الأدب، بل أصبحت من أهم المستندات النظرية والتطبيقية التي يرتكز عليها النقد الأدبي في تعامله مع النصوص والآثار الأدبية والفنية . ومن ثم، لايمكن الاستغناء عنها إطلاقا في عملية التصنيف، والتعيين، والقراءة، والتقويم، والتأويل، والتوجيه.
ولقد اهتمت النظرية البنيوية كثيرا بعملية التجنيس الأدبي، وخاصة مع رواد الشعرية البنيوية، كتودوروف، ورولان بارت، وجيرار جنيت، وشولز، وكلود بريمون، ونورثروب فراي في كتابه (تشريح النقد) (1957م)، وأندري جول في كتابه (الأشكال الثابتة) (1930م)، وغيرهم...
وهكذا، فلقد درس تودوروف الأدب الفانطاستيكي دراسة تجنيسية بنيوية، تهدف إلى استكشاف مكوناته البنيوية الثابتة، كما يتجلى ذلك واضحا في كتابيه(مدخل إلى الأدب العجائبي) (1970م)[19]، و(أجناس الخطاب) (1978م)[20]. وتبعا لذلك، يميز تدوروف بين الأجناس الأدبية التي تنقسم إلى أجناس تاريخية وأجناس نظرية. فالأجناس التاريخية هي النصوص المنتجة عبر الحقب التاريخية. أما النصوص النظرية، فهي تلك التصورات الإدراكية التي ارتبطت بالنصوص والخطابات النصية تنظيرا وتقعيدا، كما فعل أرسطو وغيره، ضمن ما يسمى بشعرية الأجناس الأدبية ومنطقها. ومن هنا، تنتقل عملية التجنيس من مرحلة التجلي والممارسة النصية إلى مرحلة الإدراك النظري والتصنيفي.إذاً، فالعلاقة استلزامية وتكاملية بين ماهو تطبيقي وماهو نظري.
أما جيرار جنيت، في كتابه (جامع النص)(Introduction à l'achtexte)، فقد أعاد تصنيف الأجناس الأدبية مرة أخرى، وانتقد الثلاثية المنسوبة خطأ إلى أفلاطون وأرسطو. وقد ذهب جنيت إلى أن موضوع الشعرية ليس هو النص، بل هو جامع النص، أو ما يسمى كذلك بنظرية الأجناس الأدبية. وفي هذا الصدد، يقول جنيت:" ليس النص هو موضوع الشعرية، بل جامع النص.أي: مجموعة الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة. ونذكر من بين هذه الأنواع: أصناف الخطابات، وصيغ التعبير، والأجناس الأدبية. ولقد اجتهدت الشعرية الغربية منذ أرسطو في أن تشكل من هذه الأنواع نظاما موحدا قابلا للإحاطة بكامل الحقل الأدبي.ولم تتم تلك الجهود من غير التباسات، أهمها التقسيم الثلاثي المعترف به منذ القرن الثامن عشر، والذي أسند خطأ لأرسطو نفسه، وهو تقسيم الحقل الأدبي إلى ثلاثة أنماط أساسية صنفت تحتها جميع الأجناس والأنواع الأدبية:الغنائي، والملحمي، والدرامي.
ولقد سعيت إلى تفكيك هذه الثلاثية المزعجة بأن أعددت رسم تكونها التدريجي، وميزت، بما أمكنني من الدقة، الأنماط المتعلقة بجامع النص، التي تتداخل فيها. ولا يعدو مسعاي أن يكون محاولة لفتح الطريق، ولو بصيغة تهكمية، أمام نظرية عامة ومحتملة للأشكال الأدبية."[21]
ومن جهة أخرى، يميز فيليب هامون بين المكون السردي والمكون الوصفي؛ إذ لم يعد الوصف تابعا للسرد كما كان شائعا، بل أصبح الوصف عند هامون مكونا مستقلا.
وهكذا، يتبين لنا أن الجنس الأدبي هو مؤسسة ثابتة بقوانينها ومكوناتها النظرية والتطبيقية؛ حيث يتعارف عليها الناس إلى أن يصبح الجنس قاعدة معيارية في تعرف النصوص والخطابات والأشكال، والتمييز بينها تجنيسا وتنويعا وتنميطا. ويتحدد الجنس الأدبي أيضا بوجود قواسم مشتركة أو مختلفة بين مجموعة من النصوص، على أساس أنها بنيات ثابتة متكررة ومتواترة من جهة، أو بنيات متغيرة ومتحولة من جهة أخرى. وهذا ما يجعل تلك النصوص والخطابات تصنف داخل صيغة قولية أو جنس أو نوع أو نمط أدبي معين. لكن عناصر الاختلاف الثانوية لا تؤثر، بحال من الأحوال، في الجنس الأدبي؛ لأن المهم هو ما يتضمنه من عناصر أساسية قارة وثابتة، وكلما انتهك جنس أدبي، ظهر على إثره جنس أدبي آخر توالدا وتناسلا وانبثاقا. ويعني هذا أن الجنس الأدبي خاضع لمجموعة من المعايير والمؤشرات المحددة، وخاصة المكونات الثابتة، والسمات المتغيرة.
وإذا كانت القرون الأدبية، قبل القرن العشرين، تؤمن بنظرية الأجناس الأدبية تمثلا وانضباطا وفصلا، فلقد أصبحت الأجناس الأدبية متداخلة ومختلطة بعد منتصف القرن الماضي؛ حيث يصعب الحديث عن جنس أدبي معين.لذا، وجدنا جماعة تيل كيل(Tél Quel) - مثلا- تثور على هذه النظرية بشكل جذري، رافضة عملية التصنيف، ومستبدلة الجنس الأدبي بالعمل أو الأثر الأدبي أو الكتاب. وفي هذا السياق، يقول رينيه ويليك:" لاتحتل نظرية الأنواع الأدبية مكان الصدارة في الدراسات الأدبية في هذا القرن. والسبب الواضح لذلك هو أن التمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا. فالحدود بينها تعبر باستمرار، والأنواع تخلط أو تمزج، والقديم منها يترك أو يحور، وتخلق أنواع جديدة أخرى إلى حد صار معها المفهوم نفسه موضع شك."[22]
ويعني هذا كله أن الشعرية قد أعطت اهتماما كبيرا لنظرية الأجناس الأدبية في نقائها الكلاسيكي، ووحدتها الرومانسية، وتهجينها البوليفوني، وانتفائها مع رواد مابعد الحداثة.
المطلب الرابع: الشعرية وعلاقتها باللسانيات
يتبنى رومان جاكبسون منهجا علميا وصفيا في دراسة الأنواع والأجناس الأدبية، بالتعامل مع الأثر الأدبي على أنه مادة وبناء وشكل وقيمة مهيمنة. وبذلك، فلقد تمثل المقاربة البنيوية الشكلانية في دراسة النصوص الأدبية، بتفكيكها وتركيبها اعتمادا على المستويات اللسانية: الصوتية، والتركيبية، والدلالية، والبلاغية. ومن ثم، فلقد كان رومان جاكبسون أول من طبق المقاربة الشعرية أو البنيوية اللسانية على الشعر عندما حلل مع كلود ليفي شتراوس قصيدة القطط (Les Chats) لشارل بودلير سنة 1962م[23]. وقد درسها الاثنان دراسة داخلية مغلقة، في إطار نسق كلي من الشبكات البنيوية المتفاعلة بغية البحث عن دلالة البناء. وقد انصب هذا العمل التشريحي على مقاربة القصيدة تفكيكا وتركيبا، بالاعتماد على اللسانيات البنيوية في استقراء المعطيات الصوتية، والصرفية، والإيقاعية، والتركيبية، والبلاغية.
كما تمثل رومان جاكبسون منهجية تواصلية وظيفية في دراسة اللغة ونظامها التواصلي، ودراسة الفونيمات اللغوية باستقراء سماتها المميزة، في إطار نحو كلي كوني على غرار النحو الكلي لنوام شومسكي (Chomsky) .
ومن هنا، يتضح لنا أن رومان جاكبسون من أهم الشكلانيين الروس الذين خاضوا في الشعرية انطلاقا من مقاربة بنيوية لسانية. ويعد أيضا من مؤسسي نظرية الأدب على أسس علمية موضوعية، بالاسترشاد باللسانيات بصفة عامة، والاستفادة من نظرياتها تصورا وتطبيقا من جهة أخرى.
و يكفيه فخرا أنه من المؤسسين الفعليين للشعرية/ الإنشائية، ومن اللسانيين الأوائل الذين أرسوا دعائم النحو الكلي، وخاصة في مجال الفونولوجيا. علاوة على ذلك، فهو صاحب نظرية السمات المميزة في دراسة الفونيمات. ولا ننسى جهوده الجبارة كذلك في مجال الأفازيا[24]، ودراسة الاستعارة والكناية، وتصنيف الأجناس والأنواع الأدبية وفق القيمة المهيمنة.
وأهم ما يمتاز به رومان جاكبسون أنه قد أرسى لبنات علم التواصل وفق الأنظمة اللسانية، على أساس أن اللغة الإنسانية لها وظيفة أساسية تتمثل في التواصل، وتستند إلى ست عناصر، وست وظائف أساسية تابعة لها.
المطلب الخامس: الشعرية وعلاقتها بالبلاغة
من الصعب فصل الشعرية عن البلاغة للعلاقة الوثيقة والوطيدة بينهما؛ لأن الشعرية تتكئ على البلاغة على مستوى التحليل والتفكيك والتركيب، وتستعمل آلياتها النظرية والتطبيقية في استقراء النصوص وتشريحها واستجلائها واستكشافها.ومن ثم، تعنى الشعرية بالصور الشعرية والسردية والفنية، وتدرسها وفق بناها الصرفية، والصوتية، والإيقاعية، والتركيبية، والدلالية . كما تهتم أيضا بعلم البديع وعلم المعاني على حد سواء من منظور لساني جديد.
ومن يتأمل كتابات الشعريين كيوري لوتمان (Y.Lotman)، وكبيدي فاركا (A.Kebidi-Varga)[25]، وجون كوهن (John Cohen) [26]، ورومان جاكبسون(R.Jakobson)، وجيرار جنيت(G.Genette)...، فقد اهتموا بشعرية البلاغة، بالتركيز على التكرار، والتوازي، والمشابهة، والمجاورة، والغموض، والانزياح، والحجاج...
المطلب السادس: القيمة المهيمنة
يرى رومان جاكبسون أن البحث الشكلاني قد مر بثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى هي مرحلة تحليل الخصائص الصوتية للأثر الأدبي. في حين، اهتمت المرحلة الثانية بمشاكل الدلالة في إطار نظرية الشعر. وارتكزت المرحلة الثالثة على إدماج الصوت والمعنى في رحم الكل غير المنقسم. وفي هذه المرحلة بالذات، انتشر مفهوم القيمة المهيمنة (La valeur dominante) بشكل إجرائي واسع[27]. ويقصد بهذا المفهوم ذلك العنصر البؤري "للأثر الأدبي: إنها تحكم، وتحدد وتغير العناصر الأخرى، كما أنها تتضمن تلاحم البنية."[28]
بمعنى أن القيمة المهيمنة هي التي تحدد الأجناس الأدبية، و"تكسب الأثر نوعية. فالخاصية النوعية للغة الشعرية هي، بداهة، خطاطتها العروضية. أي: شكلها كشعر. إن هذا القول يمكن أن يظهر كتحصيل حاصل: فالشعر هو شعر، ومع ذلك فيجب للحقيقة التالية ألاَّ تغيب عن بالنا: وهي أن عنصرا لسانيا نوعيا يهيمن على الأثر في مجموعه (كليته)؛ إنه يعمل بشكل قسري، لا رادّ له، ممارِسا بصورة مباشرة تأثيره على العناصر الأخرى. لكن الشعر بدوره ليس مفهوما بسيطا، وليس وحدة غير منقسمة؛ بل هو، في ذاته، نظام من القيم، وككل نظام قيم فهو يتوفر على سلمية خاصة لقيمه العليا والدنيا، وبين هذه القيم قيمة رئيسية، هي المهيمنة، بدورها (في إطار حقبة أدبية معينة، واتجاه فني معين) لا يمكن للشعر أن يفهم أو يحاكم باعتباره شعرا."[29]
والمقصود بهذا أن الشعر قد يتحدد بالوزن، أو بالصورة، أو بالنبر، أو بالتوازي، أو بالتكرار أو بخاصية بنيوية ما... وتختلف هذه القيم المهيمنة من حقبة إلى أخرى. و"إنه من الممكن بحث وجود قيمة مهيمنة ليس فقط في الأثر الأدبي لفنان مفرد، ولا في الأصل الشعري أو في مجموع أصول مدرسة شعرية، ولكن، أيضا، في فن حقبة معينة، باعتبارها كلا واحدا."[30]
وللتمثيل، فقد كانت الفنون البصرية، في عصر النهضة، هي المهيمنة. في حين، كانت الموسيقا هي المهيمنة في العصر الرومانسي. أما الفن اللفظي، فقد كان مهيمنا في فترة الجمالية الواقعية[31].
ومن باب التوضيح أكثر، فإن نصا ما قد تغلب عليه وظيفة معينة دون أخرى، فكل الوظائف التي حددناها سالفا متمازجة؛ إذ قد نعاينها مختلطة بنسب متفاوتة في رسالة واحدة؛ حيث تكون الوظيفة الواحدة منها غالبة على الوظائف الأخرى حسب نمط الاتصال. ومن هنا، تهيمن الوظيفة الجمالية الشعرية على الشعر الغنائي. في حين، تهيمن الوظيفة التأثيرية على الخطبة، وتهيمن الوظيفة الميتالغوية على النقد الأدبي، وتغلب الوظيفة المرجعية على النصوص التاريخية، وتهيمن الوظيفة الانفعالية على النصوص الشعرية الرومانسية، وتغلب الوظيفة الحفاظية على المكالمات الهاتفية.
وعليه، فقد كانت "للأبحاث حول القيمة المهيمنة نتائج مهمة فيما يتعلق بالمفهوم الشكلاني للتطور الأدبي. ففي تطور شكل إنشائي، لا يتعلق الأمر كليا بزوال بعض العناصر وانبعاث عناصر أخرى، بقدر ما يتعلق بانزلاق في العلاقات المتبادلة بين مختلف عناصر النظام، بعبارة أخرى: بتبدُّل في المهيمنة. إن العناصر التي كانت في الأصل ثانوية، في إطار مجموع معين من القواعد الإنشائية العامة، أو بالأحرى الخاصة في مجموع القواعد الصالحة لنوع إنشائي معين، تغدو، على العكس، أساسية وفي المقام الأول. وخلافا لذلك، فالعناصر التي كانت، في الأصل، مهيمنة لا تعود لها سوى أهمية صغرى؛ فتغدو اختيارية."[32]
وعلى العموم، تبقى القيمة المهيمنة معيارا شكليا جوهريا للتمييز بين الأجناس والأنواع الأدبية، ويستخدم أيضا للتفريق بين الأنساق الشكلية الأدبية، ويستعمل كذلك لتفريد النصوص وتمييزها عن بعضها البعض.
الخاتمة:
وخلاصة القول، لقد تناولت الشعرية قضايا أدبية ونقدية متنوعة كقضية التجنيس الأدبي، وقضية القيمة المهيمنة، وقضية تحليل النصوص والخطابات وفق مستوياتها اللسانية، وقضية الأدبية، وقضية التواصل اللساني، وقضية شكل المضمون، وقضية عناصر اللغة ووظائفها، وقضية نظرية الأدب، وقضية علم الأدب، وقضية المكونات والسمات، وقضية علاقة الشعرية بالبلاغة، والأسلوبية، والسيميوطيقا...
د. جميل حمداوي
[1] - JAKOBSON, R : Essais de linguistique générale, Paris, Éditions de Minuit, 1963.
[2] - أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة ودراسة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1974م،صص:267-270.
[3] - حميد لحمداني: (السرد والحوار)، مجلة دراسات سيميائية وأدبية ولسانية، المغرب، العدد 3، السنة 1988،ص:148.
[4] - جيرار جنيت: مدخل لجامع النص، ترجمة عبد الرحمن أيوب،دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى،1985،ص:5.
[5] - T .TODOTOV et DUCROT : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. ED, SEUIL, PARIS 1972, p : 193.
[6] - G.GENETTE :(introduction à l’Architexte). IN: théorie des genres. Points, pp : 13.
[7] - أرجع برنوتيير تغيرات الجنس الأدبي وتحولاته النوعية، في كتابه(تطور الأجناس الأدبية في تاريخ الأدب)،إلى عوامل ذاتية وموضوعية، كالوراثة، والجنس، وشخصية المبدع، ومؤثرات البيئات الجغرافية والاجتماعية والتاريخية.
[8] - تزفيطان تودوروف: الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دارتوبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1987،ص:3.
[9]-BLANCHOT, M : le livre à venir, PAIS, GALLIMARD, 1959, pp : 243-244.
[10] - رولان بارت: درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى،1986، ص:61.
[11] - J.M.Caluwl:(Les genres littéraires), Méthodes du Texte, Ouvrage dirigé par: Maurice Delcroix et Fernand Hallyn,Duclot,Paris,1987,p:148.
[12] - أرسطو: فن الشعر، ترجمة: إبراهيم حمادة، مكتبة المسرح، رقم:3، مركز الشارقة للإبداع الفكري، بدون تاريخ للطبع.
[13] - أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1974م، صص:267-270.
[14] - Blanchot(M): Le livre à venir, Paris, Gallimard, collection Idées, p164.
[15] - Lacoue-Labarthe(Ph) et Nancy (J.L): L'absolu littéraire, Paris, Ed.Du Seuil, 1978.P:275.
[16] - عبد الفتاح كليطو: الأدب والغرابة، دار الطليعة، بيروت، لبنان،الطبعة الثانية، 1983م، ص:19.
[17] - جيرار جنيت: جامع النص، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1985م، صفحة المقدمة.
[18] - رينيه ويليك: مفاهيم نقدية، عالم المعرفة، ترجمة: د.محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد:110، السنة 1987م، ص:390.
[19] - تزفيتان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة: الصديق بوعلام، دار الكلام، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1993م.
[20] -Todorov: Les genres de discours. Seuil. Paris.1978.
[21] - جيرار جنيت: جامع النص، صفحة المقدمة.
[22] - رونيه ويليك: مفاهيم نقدية، ص:376.
[23] -C. Lévi-Strauss et R. Jakobson : («Les Chats" de Charles Baudelaire), L'Homme, revue française d'anthropologie, t. II, n° 1, 1962.pp:5-21.
[24] -R. Jakobson : (Deux aspects du langage et deux types d’aphasie), in R. Jakobson, Essais de linguistique générale, t. I, op.cit.
[25] -kébidi-Varga :Les constantes du poème: À la recherche d'une poétique dialectique. Den Haag: Van Goor. 1963 ; Rhétorique et littérature: Études de structures classiques. Paris; Bruxelles: Didier. 1970 ; Discours, récit, image. Bruxelles: Madarga. 1989. Les poétiques du classicisme. Paris: Aux amateurs de livres. 1990.
[26] -Jean Cohen: Structure du langage poétique (Champs, Flammarion, 1966, réédition 2009.
[27] - رومان جاكبسون: (القيمة المهيمنة)، نظرية المنهج الشكلي، ترجمة: إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1982م، ص:81.
[28] - رومان جاكبسون: (القيمة المهيمنة)، نظرية المنهج الشكلي، ص:81.
[29] - رومان جاكبسون: (القيمة المهيمنة)، ص:81.
[30] - رومان جاكبسون: نفسه، ص:82.
[31] - رومان جاكبسون: نفسه، ص:82-83.
[32] - رومان جاكبسون: نفسه، ص:84-85.
لقد تناولت الشعرية، في تطورها التاريخي، مجموعة من القضايا العويصة كقضية التجنيس الأدبي، وقضية محاكاة الطبيعة، أو محاكاة النماذج، وقضية اللغة الشعرية، وقضية تركيب السرد وتأليفه، وقضية المنظور السردي، وقضية الزمنية السردية، وقضية الصورة البلاغية، وقضية الأسلوب، وقضية الإيقاع، وقضية علاقة الشعرية بالبلاغة، وقضية الشخصية السردية، وقضية الفضاء السردي، وقضية الوظائف والتيمات والموضوعات، وقضية تقطيع النصوص والخطابات إلى وحدات ومتواليات ومقاطع، وسجلات الكلام...
ومن جهة أخرى، ركزت شعرية المسرح على مجموعة من القضايا الرئيسة كقضية التمسرح، وقضية الصراع الدرامي، وقضية الحوار المسرحي، وقضية الإرشادات المسرحية، وقضية الفضاء الدرامي، وقضية الشخصيات الدرامية، وقضية السينوغرافيا، وقضية الديكور، وقضية تلقي الفرجة، وقضية الدراماتورجيا، وقضية الإخراج، وقضية التمثيل، وقضية الإضاءة، وقضية الإكسسوارات، إلخ...
ومن جهة أخرى، ركزت شعرية المسرح على مجموعة من القضايا الرئيسة كقضية التمسرح، وقضية الصراع الدرامي، وقضية الحوار المسرحي، وقضية الإرشادات المسرحية، وقضية الفضاء الدرامي، وقضية الشخصيات الدرامية، وقضية السينوغرافيا، وقضية الديكور، وقضية تلقي الفرجة، وقضية الدراماتورجيا، وقضية الإخراج، وقضية التمثيل، وقضية الإضاءة، وقضية الإكسسوارات، إلخ...
شعرية الشعر | شعرية السرد | شعرية المسرح |
المستوى الصوتي- والمستوى الإيقاعي والتنغيمي- والمستوى الصرفي- والمستوى التركيبي- والمستوى البلاغي- والمستوى الدلالي والمعجمي- والمستوى الأسلوبي- ومستوى التجنيس... | مستوى التقطيع إلى وحدات ومتواليات ومقاطع- مستوى الوظائف والحوافز- مستوى الشخصيات والعوامل- مستوى الفضاء الزمكاني- مستوى الوصف-مستوى المنظور السردي- مستوى الزمن السردي- مستوى الصيغة- مستوى اللغة... | مستوى الأحداث الدرامية- مستوى المناظر واللوحات والمشاهد- مستوى التمثيل- مستوى الصراع الدرامي- مستوى الفضاء الدرامي- مستوى الإرشادات المسرحية- مستوى اللغة والحوار-مستوى الديكور-مستوى السينوغرافيا- مستوى الإخراج- مستوى الدراماتورجيا- مستوى الإنارة- مستوى الإكسسوارات-مستوى الموسيقا والتصويت... |
وتأسيسا على ما سبق، لقد تناولت الشعرية مجموعة من القضايا الأدبية الكبرى التي يمكن حصرها فيما يلي:
المطلب الأول: قضية الأدبية وعلم الأدب
يعد رومان جاكبسون، أو ياكبسون (R.Jakobson)، من الشكلانيين الأوائل الذين أرسوا دعائم الشعرية، أو ما يسمى بعلم الأدب، أو من الذين ساهموا في تطوير نظرية الأدب على أسس علمية وموضوعية، بحصر موضوع علم الأدب في دراسة الأدبية (La littérarité). ويعني هذا أن علم الأدب، أو ما يسمى أيضا بالبويطيقا أو الإنشائية (Poétique)، يدرس ما يجعل الأدب أدبا. أي: التركيز على وظيفة الأدب التي تتأسس على الوظيفة الجمالية أو الشعرية، بإسقاط المحور الاستبدالي على المحور التركيبي، أو الجمع بين الانتقاء الدلالي والعلاقات النحوية. ويعني هذا أيضا أن الأدب يتكون من مواد دلالية وعلاقات نحوية وتركيبية، أو الجمع بين الدلالة والنحو ضمن علاقات الغياب (الدلالة) من جهة، وعلاقات الحضور (التركيب) من جهة أخرى.
المطلب الثاني: اللغة والنظام التواصلي
يستند التواصل اللساني - حسب رومان جاكبسون - إلى ستة عناصر أساسية[1] هي: المرسل، والمرسل إليه، والرسالة، والقناة، والمرجع، و السنن/ اللغة.
وللتوضيح أكثر، نقول: يرسل المرسل رسالة إلى المرسل إليه؛ حيث تتضمن هذه الرسالة موضوعا أو مرجعا معينا، وتكتب هذه الرسالة بلغة يفهمها كل من المرسل والمتلقي. ولكل رسالة قناة حافظة كالظرف بالنسبة للرسالة الورقية، والأسلاك الموصلة بالنسبة للهاتف والكهرباء، والأنابيب بالنسبة للماء، واللغة بالنسبة لمعاني النص الإبداعي...
ويعني هذا كله أن اللغة ذات بعد لساني وظيفي، و لها ستة عناصر، وست وظائف: المرسل ووظيفته تعبيرية أو انفعالية، والمرسل إليه ووظيفته تأثيرية أو انتباهية، والرسالة ووظيفتها جمالية أو شعرية، والمرجع ووظيفته مرجعية، والقناة ووظيفتها حفاظية، والسنن ووظيفته الوصف الميتالغوي. وقد انطلق جاكبسون من مسلمة جوهرية ألا وهي أن التواصل هو الوظيفة الأساسية للغة. ومن هنا، فللغة ستة عناصر أساسية، ولكل عنصر وظيفة ما:
عناصر التواصل ووظائف اللغة
أرقام العناصر والوظائف
|
عناصر التواصل
|
مصدر التواصل
|
الوظيفة
|
1
|
المرسل
|
الرسالة
|
انفعالية
|
2
|
الرسالة
|
الرسالة
|
شعرية
|
3
|
المرسل إليه
|
الرسالة
|
تأثيرية
|
4
|
القناة
|
الرسالة
|
حفاظية وتواصلية
|
5
|
المرجع
|
الرسالة
|
مرجعية
|
6
|
السنن
|
الرسالة
|
الواصفة
|
وقد تأثر رومان جاكبسون بأعمال فرديناند دوسوسير(Ferdinand De Saussure )، والفيلسوف المنطقي اللغوي جون أوسطين(John L. Austin).
وعليه، يبدو أن كثيرا من النصوص والخطابات والصور والمكالمات الهاتفية عبارة عن رسائل يرسلها المرسل إلى مرسل إليه؛ حيث يحول المتكلم رسالته إلى نسيج من الانفعالات والمشاعر والأحاسيس الذاتية، ويستخدم في ذلك ضمير المتكلم. ومن ثم، يتخذ المرسل بعدا ذاتيا قوامه التعبيرية الانفعالية. بمعنى أن الوظيفة الانفعالية التعبيرية هي التي تحدد العلائق الموجودة بين المرسل والرسالة. وتحمل هذه الوظيفة، في طياتها، انفعالات ذاتية، وتتضمن قيما ومواقف عاطفية ومشاعر وإحساسات، يسقطها المتكلم على موضوع الرسالة المرجعي.
أما المرسل إليه، فهو المخاطَب الذي توجه إليه رسائل المتكلم بضمير المخاطب بغية إقناعه، أو التأثير فيه، أو إثارة انتباهه إيجابا وسلبا. ومن هنا، فإن الوظيفة التأثيرية هي التي تقوم على تحديد العلاقات الموجودة بين المرسل والمتلقي، بتحريض المتلقي، وإثارة انتباهه، وإيقاظه عبر آليتي الترغيب والترهيب، وهذه الوظيفة ذاتية بامتياز، ما دامت قائمة على الإقناع والتأثير.
إذاً، يتحول الخطاب اللفظي أو غير اللفظي إلى رسالة، وهذه الرسالة يتبادلها المرسل والمرسل إليه، فيسهمان في تحقيق التواصل المعرفي والجمالي، وهذه الرسالة مسننة بشفرة لغوية، يفككها المستقبِل، ويؤولها بلغته الواصفة. وتتجسد هذه الرسالة ذات الوظيفة الشعرية أو الجمالية في إسقاط المحور الاستبدالي على المحور التأليفي، أو إسقاط محور الدلالة على محور التركيب والنحو انزياحا. ويعني هذا أن الوظيفة الجمالية هي التي تحدد العلائق الموجودة بين الرسالة وذاتها، وتتحقق هذه الوظيفة في أثناء إسقاط المحور الاختياري على المحور التركيبي، وكذلك عندما يتحقق الانتهاك والانزياح المقصود بشكل من الأشكال.
كما تهدف الرسالة، عبر وسيط القناة، إلى الحفاظ على التواصل، وعدم انقطاعه: (آلو .. آلو... هل تسمعني جيدا؟)؛ أي: تهدف وظيفة القناة إلى تأكيد التواصل، واستمرارية الإبلاغ، وتثبيته أو إيقافه، والحفاظ على نبرة الحديث والكلام المتبادل بين الطرفين. وللغة كذلك وظيفة مرجعية، ترتكز على موضوع الرسالة باعتباره مرجعا وواقعا وسياقا أساسيا، تحيل عليه تلك الرسالة. وهذه الوظيفة في الحقيقة موضوعية، لا وجود للذاتية فيها؛ نظرا لوجود الملاحظة الواقعية، والنقل الصحيح، والانعكاس المباشر...
وثمة وظيفة أخرى مرتبطة بالسنن، وتسمى بالوظيفة الواصفة أو الوظيفة الميتالغوية القائمة على الشرح والوصف والتفسير والتأويل، وتهدف إلى تفكيك الشفرة اللغوية بعد تسنينها من قبل المرسل. والهدف من السنن هو وصف الرسالة لغويا، وتأويلها وشرحها وفهمها، مع الاستعانة بالمعجم أو القواعد اللغوية والنحوية المشتركة بين المتكلم والمرسل إليه.
المطلب الثالث: قضية الأجناس الأدبية
لقد اهتمت الشعرية الغربية منذ القديم - وما تزال- بمسألة الأجناس الأدبية. وقد ميز أفلاطون، في جمهوريته، بين السرد والحوار[2]،أو بين الحكي القصصي والحكي المسرحي؛ حيث يشتمل الأول على السرد والحوار، ويتضمن الثاني الحوار فقط. فالملحمة تمثل النمط الأول، والمسرحية المأساوية والهزلية تمثل النمط الثاني، على أن هناك نمطا ثالثا يشتمل على السرد فقط، وهو المدائح.[3]
ويعد أرسطو، في كتابه ) فن الشعر)، المنظر الأول للأجناس الأدبية دون منازع، فقد قعدها وصنفها بطريقة علمية قائمة على الوصف، بتحديد السمات والمكونات.ولقد قسم الأدب إلى ثلاثة أقسام: الأدب الغنائي، والأدب الملحمي، والأدب الدرامي[4].
وتبعا لذلك، فلقد صارت قضية التجنيس في العصر الحديث من أعوص القضايا التي ناقشتها نظرية الأدب والتصورات البنيوية والسيميائية وما بعد البنيوية؛ لما لها من دور فعال في فهم آليات النص الأدبي، وتفسير آلياته الإجرائية قصد محاصرة النوع،وتقنين الجنس دلالة، وبناء، ووظيفة.
ولقد أشار تودوروف(Todorov)إلى أن مسألة الأجناس"من المشاكل الأولى للبويطيقا منذ القديم حتى الآن، فتحديد الأجناس وتعدادها ورصد العلائق المشتركة بينها لم يتوقف عن فتح باب الجدال. وتعتبر هذه المسألة حاليا متصلة بشكل عام بالنمذجة البنيوية للخطابات؛ حيث لايعتبر الخطاب الأدبي غير حالة نوعية"[5].
ويؤكد العالم الألماني كارل فيتور(KARL Viëtor ) أن "الأجناس الأدبية هي إنتاجات فنية؛ لأن أصلها التاريخي من أغمض الأمور.[6]"
ولقد عرفت عملية تجنيس النص الأدبي امتدادات تاريخية وفنية وجمالية. وقد عرفت أيضا تطورات على مستوى التصور النظري والممارسة التطبيقية منذ شعرية أرسطو وأفلاطون، مرورا بتصورات برونوتيير[7]، وهيجل، وجورج لوكاش، وصولا إلى تصورات ميخائيل باختين، وكريزينسكي، وفراي، وتودوروف، وهامبورغر كيت، وأوستين وارين، وروني ويليك، وماري شايفر، وفيتور، وجيرار جنيت، وغيرهم...
كما انتقل الجنس الأدبي من مرحلة الصفاء والنقاء النوعي مع الشعرية اليونانية إلى مرحلة وحدة الأجناس الأدبية مع الرومانسية. وبعد ذلك، انتقل إلى مرحلة الاختلاط والتهجين والتلاقح مع نظرية باختين. و بكل اختصار،انتقلت عملية التجنيس من مرحلة الانغلاق والثبات والاستقرار إلى مرحلة الانفتاح والتكون والتغير. ومن هنا، يؤكد تزفيطان تودوروف(T .TODOTOV) أن التأملات حول الأجناس الأدبية قد كثرت، فهي" قديمة قدم نظرية الأدب، ومادام كتاب أرسطو في الشعر يصف الخصائص النوعية للملحمة والتراجيديا. فقد ظهرت منذ ذلك الوقت مؤلفات ذات طبيعة متنوعة احتذت حذو أرسطو. لكن هذا النوع من الدراسات لم يحقق تقاليده الخاصة إلا ابتداء من عصر النهضة، حيث تتابعت الكتابات حول قواعد التراجيديا والكوميديا والملحمة والرواية، ومختلف الأجناس الغنائية، وارتبط ازدهار هذا الخطاب، بكل تأكيد، ببنيات إيديولوجية سائدة، وبالفكر المتبنى عن الجنس الأدبي في ذلك العصر. أعني كونه قاعدة محددة لاينبغي خرقها. صحيح أن الأجناس الأدبية كانت تنتمي إلى الأدب (أو إلى القصيدة أو إلى الفنون الجميلة)، ولكنها كانت تعتبر وحدة من مستوى أدنى تنتج عن تقطيع، بإمكاننا أن نقاربه بموضوعات نظرية الأدب السابقة، ولكنها مع ذلك متميزة عنها. ففي حين، إن الرمز أو التمثيل أو الأسلوب المجازي عبارة عن خصائص مجردة للخطاب الأدبي (حيث يكون استيعابها نتيجة ذلك أكبر من الأدب وحده)، فإن الأجناس الأدبية كانت تنتج عن نوع آخر من التحليل، إنه الأدب في أجزائه"[8].
ولقد استعير مفهوم الجنس والنوع من العلوم الطبيعية، ويرجع الفضل في ذلك إلى العالم الروسي فلاديمير بروب (V.Propp) رائد التحليل البنيوي المورفولوجي للسرد، وقد استفاد كثيرا من وصفات علم النبات وعلم الحيوان.
ولقد ثار موريس بلانشو(M. BLANCHOT ) على نظرية الأجناس الأدبية، مثلما ثار عليها عالم فن الجمال الإيطالي كروشيه في دعوته إلى التخلص من مفهوم الجنس ونفيه. وهكذا، كتب بلانشو في أواخر منتصف القرن العشرين قائلا:" لم يعد هناك كتاب ينتمي إلى جنس. كل كتاب يرجع إلى الأدب الواحد... ومن ثم، فهو بعيد عن الأجناس وخارج خانات النثر والشعر والرواية والشهادة... يأبى أن ينتظم تحت كل هذا، أو يثبت له مكانه، ويحدد شكله..."[9].
وينادي رولان بارت كذلك إلى إلغاء الحدود الموجودة بين الأجناس الأدبية، وتعويض الجنس الأدبي أو الأثر الأدبي بالكتابة أو النص. وبما أن النص يتحكم فيه مبدأ التناص، واستنساخ الأقوال، وإعادة الأفكار، و تعدد المراجع الإحالية التي تعلن موت المؤلف، فلا داعي للحديث عن الجنس الأدبي ونقائه وصفائه، مادام النص، من جهة أخرى، جماع نصوص متداخلة، وملتقى خطابات متنوعة ومختلفة من حيث التجنيس والتصنيف.
ويعني هذا أن الكتابة الأدبية - حسب بارت-هي خلخلة لمعيار التجنيس، وانتهاك لترتيب الأنواع، وانزياح عن قواعد تصنيف الأنماط. وفي هذا، يقول رولان بارت:"إن النص لاينحصر في الأدب الجيد . إنه لايدخل ضمن تراتب، ولا حتى ضمن مجرد تقسيم للأجناس. ما يحدده على العكس من ذلك هو قدرته على خلخلة التصنيفات القديمة.[10]"
ويلاحظ اليوم أن الكتابات الإبداعية المعاصرة، سواء في الثقافة الغربية أم في الثقافة العربية، قد بدأت - فعلا- في خلخلة الجنس الأدبي، وتحطيم معاييره النوعية، ونسف مقوماته النمطية، باسم الحداثة، والتجريب، والتأصيل، والتأسيس. فأصبحنا - اليوم - نتحدث عن القصيدة النثرية التي يتقاطع فيها الشعر والنثر، والقصيدة الشذرية التي يتقاطع فيها الشعر مع الفلسفة، والقصيدة الدرامية التي ينصهر فيها الشعر والحوار المسرحي معا. كما أصبحت الرواية فضاء تخييليا لتلاقح النصوص، وتداخل الخطابات والأجناس تناصا وتهجينا. دون أن ننسى المسرح الذي أصبح أب الفنون والأجناس الأدبية بامتياز.
وعليه، فسؤال الأجناس الأدبية قديم قدم الأدب نفسه،فلقد نشأ في حضن الأدب ليجيب بدوره عن أسئلته تجنيسا وتنويعا وتصنيفا[11]. ولقد ارتبط فعل التجنيس بملاحظة النصوص الأدبية، والبحث عن أوجه التشابه والاختلاف بينها، فقادهم هذا العمل إلى التجريد والتنظير والمقارنة بين الظواهر النصية تنميطا وتجنيسا وتنويعا. ومن ثم، فلقد انتقل الجنس الأدبي من مرحلة النظرية إلى مرحلة التقنين المؤسساتي.ومن هذه اللحظة بالذات، بدأت الإنسانية في تنظيم ذاكرتها، وترتيب أدواتها المعرفية والعلمية والإبداعية إن نظرية، وإن تطبيقا.
بيد أن الوعي بالأجناس، بشكل نظري وعلمي مقنن، قد بدأ مع ظهور كتاب(الشعرية) لأرسطو الذي قسم الأجناس الأدبية إلى شعر، وملحمة، ودراما[12]؛ وإن كان أفلاطون بدوره قد اهتم بنظرية الأجناس الأدبية في كتابه(الجمهورية)، حين ميز بين السرد والحوار[13].
وإذا كانت النظرية الكلاسيكية تفصل بين الأجناس الأدبية، فإن الرومانسية قد وحدت بينها ضمن نظرية الأدب.وبعد ذلك، أخذت نظرية الأجناس الأدبية طابعها الأكاديمي والجامعي مع نظريات الأدب في القرن العشرين، وبالضبط مع تصورات الشكلانية الروسية، والبنيوية الفرنسية، والنقد الجديد(New criticism)، والسيميائيات...
بيد أنه مع ظهور نظريات ما بعد الحداثة، في الفترة الممتدة بين سنوات السبعين والتسعين من القرن الماضي، انبثقت مجموعة من المذاهب والتيارات الفكرية والأدبية ثائرة على نظرية الأجناس الأدبية تفكيكا وتقويضا وتشتيتا، مع مجموعة من الأسماء الغربية، مثل:جاك ديريدا، ورولان بارت، وموريس بلانشو، وجوليا كريستيفا... وهكذا، يقول موريس بلانشو: " إن الأدب لايقبل التفرقة بين الأنواع، ويرمي إلى تحطيم الحدود"[14].
ويعني هذا أنه مازال مرتبطا بمجموعة يينا الألمانية كما في القرن الثامن عشر الميلادي. وهناك من يرى أن النص الأدبي يجب، بالإضافة إلى التحرر من الأجناس والأنواع، أن يسعى إلى تضمين النظرية التي أنجته، وينبغي أن تتجه العناية كل العناية نحو عملية الإنتاج نفسها[15]، فإننا مرة أخرى نردد ماجاءت به جماعة ييينا الرومانسية التي كانت تدعو إلى وحدة الأجناس الأدبية والفنية[16].
ومن جهة أخرى، يلاحظ أن أهم ما انشغلت به نظرية الأجناس الأدبية هو التقسيم الثلاثي: الغنائية، والملحمية، والدرامية، باعتبارها إشكالية أرقت الكثير من الباحثين والدارسين الغربيين، فهل هي ثنائية أم ثلاثية؟ لأن جيرار جنيت في كتابه(جامع النص) قد شكك في هذا التقسيم الثلاثي بقوله:" ليس النص هو موضوع الشعرية، بل جامع النص.أي: مجموعة الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة. ونذكر من بين هذه الأنواع: أصناف الخطابات، وصيغ التعبير، والأجناس الأدبية. ولقد اجتهدت الشعرية الغربية منذ أرسطو في أن تشكل من هذه الأنواع نظاما موحدا قابلا للإحاطة بكامل الحقل الأدبي.ولم تتم تلك الجهود من غير التباسات، أهمها: التقسيم الثلاثي المعترف به منذ القرن الثامن عشر، والذي أسند خطأ لأرسطو نفسه، وهو تقسيم الحقل الأدبي إلى ثلاثة أنماط أساسية صنفت تحتها جميع الأجناس والأنواع الأدبية:الغنائي، والملحمي، والدرامي.
ولقد سعيت إلى تفكيك هذه الثلاثية المزعجة بأن أعددت رسم تكونها التدريجي، وميزت، بما أمكنني من الدقة، الأنماط المتعلقة بجامع النص، التي تتداخل فيها. ولا يعدو مسعاي أن يكون محاولة لفتح الطريق، ولو بصيغة تهكمية، أمام نظرية عامة ومحتملة للأشكال الأدبية."[17]
وهذا ما تنبه إليه أيضا رونيه ويليك حينما قال :" تعتبر التقسيمات الثلاثية في تاريخ الأنواع الأدبية من أهم التقسيمات. ولقد حاولت الآنسة آيرينه بهونز أن تبين في أطروحتها الموثقة (علم تصنيف الشعر) (1940م) أن الثالوث ماهو إلا نتيجة للتفكير النظري في القرن الثامن عشر. واعتبرت كتاب شارل باتو (الفنون الجميلة من خلال مبدإ واحد) (1746م) هو الوثيقة الأساسية التي تتبعت تسرب أفكارها إلى كتابات النقاد الألمان المتأخرين والصيغ التي اتخذتها عندهم. ويضم كتابها أمثلة عديدة على التقسيمات الثلاثية التي استعملت في القرون السابقة استعمالا كثيرا ماكان عابرا."[18]
وعليه، فلقد أصبحت نظرية الأجناس الأدبية - اليوم - جزءا لايتجزأ من نظرية الأدب، بل أصبحت من أهم المستندات النظرية والتطبيقية التي يرتكز عليها النقد الأدبي في تعامله مع النصوص والآثار الأدبية والفنية . ومن ثم، لايمكن الاستغناء عنها إطلاقا في عملية التصنيف، والتعيين، والقراءة، والتقويم، والتأويل، والتوجيه.
ولقد اهتمت النظرية البنيوية كثيرا بعملية التجنيس الأدبي، وخاصة مع رواد الشعرية البنيوية، كتودوروف، ورولان بارت، وجيرار جنيت، وشولز، وكلود بريمون، ونورثروب فراي في كتابه (تشريح النقد) (1957م)، وأندري جول في كتابه (الأشكال الثابتة) (1930م)، وغيرهم...
وهكذا، فلقد درس تودوروف الأدب الفانطاستيكي دراسة تجنيسية بنيوية، تهدف إلى استكشاف مكوناته البنيوية الثابتة، كما يتجلى ذلك واضحا في كتابيه(مدخل إلى الأدب العجائبي) (1970م)[19]، و(أجناس الخطاب) (1978م)[20]. وتبعا لذلك، يميز تدوروف بين الأجناس الأدبية التي تنقسم إلى أجناس تاريخية وأجناس نظرية. فالأجناس التاريخية هي النصوص المنتجة عبر الحقب التاريخية. أما النصوص النظرية، فهي تلك التصورات الإدراكية التي ارتبطت بالنصوص والخطابات النصية تنظيرا وتقعيدا، كما فعل أرسطو وغيره، ضمن ما يسمى بشعرية الأجناس الأدبية ومنطقها. ومن هنا، تنتقل عملية التجنيس من مرحلة التجلي والممارسة النصية إلى مرحلة الإدراك النظري والتصنيفي.إذاً، فالعلاقة استلزامية وتكاملية بين ماهو تطبيقي وماهو نظري.
أما جيرار جنيت، في كتابه (جامع النص)(Introduction à l'achtexte)، فقد أعاد تصنيف الأجناس الأدبية مرة أخرى، وانتقد الثلاثية المنسوبة خطأ إلى أفلاطون وأرسطو. وقد ذهب جنيت إلى أن موضوع الشعرية ليس هو النص، بل هو جامع النص، أو ما يسمى كذلك بنظرية الأجناس الأدبية. وفي هذا الصدد، يقول جنيت:" ليس النص هو موضوع الشعرية، بل جامع النص.أي: مجموعة الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة. ونذكر من بين هذه الأنواع: أصناف الخطابات، وصيغ التعبير، والأجناس الأدبية. ولقد اجتهدت الشعرية الغربية منذ أرسطو في أن تشكل من هذه الأنواع نظاما موحدا قابلا للإحاطة بكامل الحقل الأدبي.ولم تتم تلك الجهود من غير التباسات، أهمها التقسيم الثلاثي المعترف به منذ القرن الثامن عشر، والذي أسند خطأ لأرسطو نفسه، وهو تقسيم الحقل الأدبي إلى ثلاثة أنماط أساسية صنفت تحتها جميع الأجناس والأنواع الأدبية:الغنائي، والملحمي، والدرامي.
ولقد سعيت إلى تفكيك هذه الثلاثية المزعجة بأن أعددت رسم تكونها التدريجي، وميزت، بما أمكنني من الدقة، الأنماط المتعلقة بجامع النص، التي تتداخل فيها. ولا يعدو مسعاي أن يكون محاولة لفتح الطريق، ولو بصيغة تهكمية، أمام نظرية عامة ومحتملة للأشكال الأدبية."[21]
ومن جهة أخرى، يميز فيليب هامون بين المكون السردي والمكون الوصفي؛ إذ لم يعد الوصف تابعا للسرد كما كان شائعا، بل أصبح الوصف عند هامون مكونا مستقلا.
وهكذا، يتبين لنا أن الجنس الأدبي هو مؤسسة ثابتة بقوانينها ومكوناتها النظرية والتطبيقية؛ حيث يتعارف عليها الناس إلى أن يصبح الجنس قاعدة معيارية في تعرف النصوص والخطابات والأشكال، والتمييز بينها تجنيسا وتنويعا وتنميطا. ويتحدد الجنس الأدبي أيضا بوجود قواسم مشتركة أو مختلفة بين مجموعة من النصوص، على أساس أنها بنيات ثابتة متكررة ومتواترة من جهة، أو بنيات متغيرة ومتحولة من جهة أخرى. وهذا ما يجعل تلك النصوص والخطابات تصنف داخل صيغة قولية أو جنس أو نوع أو نمط أدبي معين. لكن عناصر الاختلاف الثانوية لا تؤثر، بحال من الأحوال، في الجنس الأدبي؛ لأن المهم هو ما يتضمنه من عناصر أساسية قارة وثابتة، وكلما انتهك جنس أدبي، ظهر على إثره جنس أدبي آخر توالدا وتناسلا وانبثاقا. ويعني هذا أن الجنس الأدبي خاضع لمجموعة من المعايير والمؤشرات المحددة، وخاصة المكونات الثابتة، والسمات المتغيرة.
وإذا كانت القرون الأدبية، قبل القرن العشرين، تؤمن بنظرية الأجناس الأدبية تمثلا وانضباطا وفصلا، فلقد أصبحت الأجناس الأدبية متداخلة ومختلطة بعد منتصف القرن الماضي؛ حيث يصعب الحديث عن جنس أدبي معين.لذا، وجدنا جماعة تيل كيل(Tél Quel) - مثلا- تثور على هذه النظرية بشكل جذري، رافضة عملية التصنيف، ومستبدلة الجنس الأدبي بالعمل أو الأثر الأدبي أو الكتاب. وفي هذا السياق، يقول رينيه ويليك:" لاتحتل نظرية الأنواع الأدبية مكان الصدارة في الدراسات الأدبية في هذا القرن. والسبب الواضح لذلك هو أن التمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا. فالحدود بينها تعبر باستمرار، والأنواع تخلط أو تمزج، والقديم منها يترك أو يحور، وتخلق أنواع جديدة أخرى إلى حد صار معها المفهوم نفسه موضع شك."[22]
ويعني هذا كله أن الشعرية قد أعطت اهتماما كبيرا لنظرية الأجناس الأدبية في نقائها الكلاسيكي، ووحدتها الرومانسية، وتهجينها البوليفوني، وانتفائها مع رواد مابعد الحداثة.
المطلب الرابع: الشعرية وعلاقتها باللسانيات
يتبنى رومان جاكبسون منهجا علميا وصفيا في دراسة الأنواع والأجناس الأدبية، بالتعامل مع الأثر الأدبي على أنه مادة وبناء وشكل وقيمة مهيمنة. وبذلك، فلقد تمثل المقاربة البنيوية الشكلانية في دراسة النصوص الأدبية، بتفكيكها وتركيبها اعتمادا على المستويات اللسانية: الصوتية، والتركيبية، والدلالية، والبلاغية. ومن ثم، فلقد كان رومان جاكبسون أول من طبق المقاربة الشعرية أو البنيوية اللسانية على الشعر عندما حلل مع كلود ليفي شتراوس قصيدة القطط (Les Chats) لشارل بودلير سنة 1962م[23]. وقد درسها الاثنان دراسة داخلية مغلقة، في إطار نسق كلي من الشبكات البنيوية المتفاعلة بغية البحث عن دلالة البناء. وقد انصب هذا العمل التشريحي على مقاربة القصيدة تفكيكا وتركيبا، بالاعتماد على اللسانيات البنيوية في استقراء المعطيات الصوتية، والصرفية، والإيقاعية، والتركيبية، والبلاغية.
كما تمثل رومان جاكبسون منهجية تواصلية وظيفية في دراسة اللغة ونظامها التواصلي، ودراسة الفونيمات اللغوية باستقراء سماتها المميزة، في إطار نحو كلي كوني على غرار النحو الكلي لنوام شومسكي (Chomsky) .
ومن هنا، يتضح لنا أن رومان جاكبسون من أهم الشكلانيين الروس الذين خاضوا في الشعرية انطلاقا من مقاربة بنيوية لسانية. ويعد أيضا من مؤسسي نظرية الأدب على أسس علمية موضوعية، بالاسترشاد باللسانيات بصفة عامة، والاستفادة من نظرياتها تصورا وتطبيقا من جهة أخرى.
و يكفيه فخرا أنه من المؤسسين الفعليين للشعرية/ الإنشائية، ومن اللسانيين الأوائل الذين أرسوا دعائم النحو الكلي، وخاصة في مجال الفونولوجيا. علاوة على ذلك، فهو صاحب نظرية السمات المميزة في دراسة الفونيمات. ولا ننسى جهوده الجبارة كذلك في مجال الأفازيا[24]، ودراسة الاستعارة والكناية، وتصنيف الأجناس والأنواع الأدبية وفق القيمة المهيمنة.
وأهم ما يمتاز به رومان جاكبسون أنه قد أرسى لبنات علم التواصل وفق الأنظمة اللسانية، على أساس أن اللغة الإنسانية لها وظيفة أساسية تتمثل في التواصل، وتستند إلى ست عناصر، وست وظائف أساسية تابعة لها.
المطلب الخامس: الشعرية وعلاقتها بالبلاغة
من الصعب فصل الشعرية عن البلاغة للعلاقة الوثيقة والوطيدة بينهما؛ لأن الشعرية تتكئ على البلاغة على مستوى التحليل والتفكيك والتركيب، وتستعمل آلياتها النظرية والتطبيقية في استقراء النصوص وتشريحها واستجلائها واستكشافها.ومن ثم، تعنى الشعرية بالصور الشعرية والسردية والفنية، وتدرسها وفق بناها الصرفية، والصوتية، والإيقاعية، والتركيبية، والدلالية . كما تهتم أيضا بعلم البديع وعلم المعاني على حد سواء من منظور لساني جديد.
ومن يتأمل كتابات الشعريين كيوري لوتمان (Y.Lotman)، وكبيدي فاركا (A.Kebidi-Varga)[25]، وجون كوهن (John Cohen) [26]، ورومان جاكبسون(R.Jakobson)، وجيرار جنيت(G.Genette)...، فقد اهتموا بشعرية البلاغة، بالتركيز على التكرار، والتوازي، والمشابهة، والمجاورة، والغموض، والانزياح، والحجاج...
المطلب السادس: القيمة المهيمنة
يرى رومان جاكبسون أن البحث الشكلاني قد مر بثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى هي مرحلة تحليل الخصائص الصوتية للأثر الأدبي. في حين، اهتمت المرحلة الثانية بمشاكل الدلالة في إطار نظرية الشعر. وارتكزت المرحلة الثالثة على إدماج الصوت والمعنى في رحم الكل غير المنقسم. وفي هذه المرحلة بالذات، انتشر مفهوم القيمة المهيمنة (La valeur dominante) بشكل إجرائي واسع[27]. ويقصد بهذا المفهوم ذلك العنصر البؤري "للأثر الأدبي: إنها تحكم، وتحدد وتغير العناصر الأخرى، كما أنها تتضمن تلاحم البنية."[28]
بمعنى أن القيمة المهيمنة هي التي تحدد الأجناس الأدبية، و"تكسب الأثر نوعية. فالخاصية النوعية للغة الشعرية هي، بداهة، خطاطتها العروضية. أي: شكلها كشعر. إن هذا القول يمكن أن يظهر كتحصيل حاصل: فالشعر هو شعر، ومع ذلك فيجب للحقيقة التالية ألاَّ تغيب عن بالنا: وهي أن عنصرا لسانيا نوعيا يهيمن على الأثر في مجموعه (كليته)؛ إنه يعمل بشكل قسري، لا رادّ له، ممارِسا بصورة مباشرة تأثيره على العناصر الأخرى. لكن الشعر بدوره ليس مفهوما بسيطا، وليس وحدة غير منقسمة؛ بل هو، في ذاته، نظام من القيم، وككل نظام قيم فهو يتوفر على سلمية خاصة لقيمه العليا والدنيا، وبين هذه القيم قيمة رئيسية، هي المهيمنة، بدورها (في إطار حقبة أدبية معينة، واتجاه فني معين) لا يمكن للشعر أن يفهم أو يحاكم باعتباره شعرا."[29]
والمقصود بهذا أن الشعر قد يتحدد بالوزن، أو بالصورة، أو بالنبر، أو بالتوازي، أو بالتكرار أو بخاصية بنيوية ما... وتختلف هذه القيم المهيمنة من حقبة إلى أخرى. و"إنه من الممكن بحث وجود قيمة مهيمنة ليس فقط في الأثر الأدبي لفنان مفرد، ولا في الأصل الشعري أو في مجموع أصول مدرسة شعرية، ولكن، أيضا، في فن حقبة معينة، باعتبارها كلا واحدا."[30]
وللتمثيل، فقد كانت الفنون البصرية، في عصر النهضة، هي المهيمنة. في حين، كانت الموسيقا هي المهيمنة في العصر الرومانسي. أما الفن اللفظي، فقد كان مهيمنا في فترة الجمالية الواقعية[31].
ومن باب التوضيح أكثر، فإن نصا ما قد تغلب عليه وظيفة معينة دون أخرى، فكل الوظائف التي حددناها سالفا متمازجة؛ إذ قد نعاينها مختلطة بنسب متفاوتة في رسالة واحدة؛ حيث تكون الوظيفة الواحدة منها غالبة على الوظائف الأخرى حسب نمط الاتصال. ومن هنا، تهيمن الوظيفة الجمالية الشعرية على الشعر الغنائي. في حين، تهيمن الوظيفة التأثيرية على الخطبة، وتهيمن الوظيفة الميتالغوية على النقد الأدبي، وتغلب الوظيفة المرجعية على النصوص التاريخية، وتهيمن الوظيفة الانفعالية على النصوص الشعرية الرومانسية، وتغلب الوظيفة الحفاظية على المكالمات الهاتفية.
وعليه، فقد كانت "للأبحاث حول القيمة المهيمنة نتائج مهمة فيما يتعلق بالمفهوم الشكلاني للتطور الأدبي. ففي تطور شكل إنشائي، لا يتعلق الأمر كليا بزوال بعض العناصر وانبعاث عناصر أخرى، بقدر ما يتعلق بانزلاق في العلاقات المتبادلة بين مختلف عناصر النظام، بعبارة أخرى: بتبدُّل في المهيمنة. إن العناصر التي كانت في الأصل ثانوية، في إطار مجموع معين من القواعد الإنشائية العامة، أو بالأحرى الخاصة في مجموع القواعد الصالحة لنوع إنشائي معين، تغدو، على العكس، أساسية وفي المقام الأول. وخلافا لذلك، فالعناصر التي كانت، في الأصل، مهيمنة لا تعود لها سوى أهمية صغرى؛ فتغدو اختيارية."[32]
وعلى العموم، تبقى القيمة المهيمنة معيارا شكليا جوهريا للتمييز بين الأجناس والأنواع الأدبية، ويستخدم أيضا للتفريق بين الأنساق الشكلية الأدبية، ويستعمل كذلك لتفريد النصوص وتمييزها عن بعضها البعض.
الخاتمة:
وخلاصة القول، لقد تناولت الشعرية قضايا أدبية ونقدية متنوعة كقضية التجنيس الأدبي، وقضية القيمة المهيمنة، وقضية تحليل النصوص والخطابات وفق مستوياتها اللسانية، وقضية الأدبية، وقضية التواصل اللساني، وقضية شكل المضمون، وقضية عناصر اللغة ووظائفها، وقضية نظرية الأدب، وقضية علم الأدب، وقضية المكونات والسمات، وقضية علاقة الشعرية بالبلاغة، والأسلوبية، والسيميوطيقا...
د. جميل حمداوي
...............................
[1] - JAKOBSON, R : Essais de linguistique générale, Paris, Éditions de Minuit, 1963.
[2] - أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة ودراسة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1974م،صص:267-270.
[3] - حميد لحمداني: (السرد والحوار)، مجلة دراسات سيميائية وأدبية ولسانية، المغرب، العدد 3، السنة 1988،ص:148.
[4] - جيرار جنيت: مدخل لجامع النص، ترجمة عبد الرحمن أيوب،دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى،1985،ص:5.
[5] - T .TODOTOV et DUCROT : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. ED, SEUIL, PARIS 1972, p : 193.
[6] - G.GENETTE :(introduction à l’Architexte). IN: théorie des genres. Points, pp : 13.
[7] - أرجع برنوتيير تغيرات الجنس الأدبي وتحولاته النوعية، في كتابه(تطور الأجناس الأدبية في تاريخ الأدب)،إلى عوامل ذاتية وموضوعية، كالوراثة، والجنس، وشخصية المبدع، ومؤثرات البيئات الجغرافية والاجتماعية والتاريخية.
[8] - تزفيطان تودوروف: الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دارتوبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1987،ص:3.
[9]-BLANCHOT, M : le livre à venir, PAIS, GALLIMARD, 1959, pp : 243-244.
[10] - رولان بارت: درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى،1986، ص:61.
[11] - J.M.Caluwl:(Les genres littéraires), Méthodes du Texte, Ouvrage dirigé par: Maurice Delcroix et Fernand Hallyn,Duclot,Paris,1987,p:148.
[12] - أرسطو: فن الشعر، ترجمة: إبراهيم حمادة، مكتبة المسرح، رقم:3، مركز الشارقة للإبداع الفكري، بدون تاريخ للطبع.
[13] - أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1974م، صص:267-270.
[14] - Blanchot(M): Le livre à venir, Paris, Gallimard, collection Idées, p164.
[15] - Lacoue-Labarthe(Ph) et Nancy (J.L): L'absolu littéraire, Paris, Ed.Du Seuil, 1978.P:275.
[16] - عبد الفتاح كليطو: الأدب والغرابة، دار الطليعة، بيروت، لبنان،الطبعة الثانية، 1983م، ص:19.
[17] - جيرار جنيت: جامع النص، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1985م، صفحة المقدمة.
[18] - رينيه ويليك: مفاهيم نقدية، عالم المعرفة، ترجمة: د.محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد:110، السنة 1987م، ص:390.
[19] - تزفيتان تودوروف: مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة: الصديق بوعلام، دار الكلام، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1993م.
[20] -Todorov: Les genres de discours. Seuil. Paris.1978.
[21] - جيرار جنيت: جامع النص، صفحة المقدمة.
[22] - رونيه ويليك: مفاهيم نقدية، ص:376.
[23] -C. Lévi-Strauss et R. Jakobson : («Les Chats" de Charles Baudelaire), L'Homme, revue française d'anthropologie, t. II, n° 1, 1962.pp:5-21.
[24] -R. Jakobson : (Deux aspects du langage et deux types d’aphasie), in R. Jakobson, Essais de linguistique générale, t. I, op.cit.
[25] -kébidi-Varga :Les constantes du poème: À la recherche d'une poétique dialectique. Den Haag: Van Goor. 1963 ; Rhétorique et littérature: Études de structures classiques. Paris; Bruxelles: Didier. 1970 ; Discours, récit, image. Bruxelles: Madarga. 1989. Les poétiques du classicisme. Paris: Aux amateurs de livres. 1990.
[26] -Jean Cohen: Structure du langage poétique (Champs, Flammarion, 1966, réédition 2009.
[27] - رومان جاكبسون: (القيمة المهيمنة)، نظرية المنهج الشكلي، ترجمة: إبراهيم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1982م، ص:81.
[28] - رومان جاكبسون: (القيمة المهيمنة)، نظرية المنهج الشكلي، ص:81.
[29] - رومان جاكبسون: (القيمة المهيمنة)، ص:81.
[30] - رومان جاكبسون: نفسه، ص:82.
[31] - رومان جاكبسون: نفسه، ص:82-83.
[32] - رومان جاكبسون: نفسه، ص:84-85.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق