⏪⏬
الملخص: تحاول هذه الدراسة أن تحاور جانبا من فكر تولستوي باعتباره أديبا، فالأديب يشغل مهمة سامية، منها الحفاظ على القيم الإنسانية، والتبشِّير بمعانيها، وتقديم العبر والحكم والمواعظ . فمن خلال المضامين واللغة والصورة يبصِّرنا ويشركنا معه في
مشروع البحث عن معنى الحياة، يجعلنا ننخرط معه طوعا و كرها-انطلاقا من مجموعة من الأفكار التي كان يؤمن بها في زمن الشباب، زمن الانتصارات لنعيد معه ترتيب أفكارنا وقناعاتنا كقراء واعون، حتى خلصنا إلى فهم سر حقيقة الوجود من رحلة البحث عن الذات المطمئنة.
الكلمات الرئيسية: تولستوي، الكاتب الروسي، مفهوم الذات، فلسفة الإيمان، حكمة الموت.
فكر نيكولايا فيتش تولستوي عن الحياة والكون وتوصل إلى أن العلوم والفلسفة لن تجيبه عن معنى حياته إلا بمثل ما قدمه سقراط و شوبنهور وسليمان بوذا. على اعتبار أن الحكماء ينشدون الموت ويسعون إليه لتحرير الجسد من الأوجاع، وشوبنهور الذي يؤمن بقوة الإرادة كمبدأ أساسي في الوجود، فبزوالها تزول كل مظاهر الوجود ويمضي إلى عدم. وبانتهاء إرادتنا تنتهي حياتنا.في حين سليمان يقضي ببطلان كل شيء، فلا فائدة للبشر من تعبهم. توصل تولستوي إلى أن معنى الحياة هو كامن في نهج شريعة الله، وبعد الموت ترحل روح الإنسان إلى عالم الفردوس غير المحدود تاركة الجسد المادي في العالم المحدود.
نبذة عن الكاتب:
هو الروائي، وأيقونة الأدب الروسي نيكولايا فيتش تولستوي، ولد في التاسع من سيبتمبر عام 1928م بروسيا، نشأ وترعرع على حسب عادة المجتمع السائدة. مال إلى الأدب الموسيقى. وتوفي في 20 نونبر1910، ومن أهم أعماله "الحرب والسلام"، "أنا كارينا"، "مملكة الرب داخلك"، "قوة الظلام"، " موت ايفان أليتش"، "الطفولة و الصبا والشباب".
اعتراف تولستوي "صورة كاشفة لجزء من الفضاء الثقافي السائد في روسيا والمستوى الرفيع للفلسفة الروسية، نص قلق يجذٍّر أسئلة إنسانية وجودية، ويبحث في الملكوت عن معنى الحياة، يخبرنا بحكاية حياة منفلتة مأخوذة بشهوة البحث عن الحقيقة ليوقد شغف الإيمان والاعتقاد بعيدا عن العلوم التي لا تملك إجابات خارج تخصصها. هو تخليد للأدب الحاضن لكل المتاهات إلى أن تنجلي الظلمات بالوصول إلى نور الأمان ودعوة إلى البحث المستمر بحثا عن معنى جديدا.
انطلق تولستوي المسيحي الارثودوكسي في رحلة البحث عن الحياة وإدراك معانيها السامية بعيدا عن المصالح الذاتية والوجاهة، بمشاعر متناقضة، بعدما عاش حياته المترفة في عالمه المثالي كما أحب وشاء، بعيدا عن الدين الذي كان يشعر بأنه طقس فارغ من المعنى "فإن المعتقد لا تأثير له في الحياة و لا في علاقات الناس بعضهم مع بعض، ...وكلما تنازع المعتقد و الحياة كانت السيادة للحياة، لأن قوة الأول لا تتعدى المظاهر الخارجية من كيانها[1]" ثم يقول بكل فخر واقتناع " قد طرحت عني الإيمان الذي تعلمته في صباي و ما برحت أؤمن بشيء و لكني لم أقدر أن أوضح ماهيته. قد آمنت بإله، أو بالأحرى لم أنكر وجود إله ولكن لم أقدر أن أوضح شيئا عن هذا الإله الذي لم أنكر وجوده .إنني لم أنكر المسيح و لم أجحد تعاليمه، ولكن الحقيقة التي تدور عليها هذه التعاليم لم أعرف عنها شيئا [2]"
هذا الشاب الثري ذو الحسب والنسب الارستقراطي، الصريح الذكي، وعاشق الأدب، مؤمن بنور المعرفة والحياة ، وليس مثل المتدينين الغليظي الطباع والمرائين والمتطوسين. ولج عالم الكتابة إرضاء لغرور ذاته المتمردة الطموحة المحبة للقوة، ونجح فيها، يقول "وفي هذه المدة بدأت بالكتابة التي لم تحملني عليها سوى غروري و محبتي للربح، والشهرة الكاذبة...نجحت نجاحا باهرا، وكان الناس يقرؤون كتاباتي مادحين شاكرين[3]" ، "لذلك عمدت إلى الكتابة لمجرد الرغبة في تحسين حالتي المادية مغمضا عيني عن البحث عن حقيقة حياتي أو الغاية من الحياة كلها[4] "بل أصبح أشهر المشاهير عندما احتك بكبار كتاب أوروبا الذين علموه أسرار الكتابة ، حيث يمكنه أن يدرس و يعلِّم الناس ما يجهله هو نفسه."وأنا ،الفنان و الشاعر، كتبت وعلمت ما لم تكن لي أقل معرفة به ولكنني كنت أقبض أجرة عن عملي. فاقتنيت لنفسي المنازل الفخمة، وأنفقت الأموال الكثيرة على الولائم، والحفلات الاجتماعية ...[5]" ولكن كل هذه النجاحات لم تجب عن أسئلته الوجودية، فتملكه الشك و أكلته الحيرة، وسيطر عليه القلق، باحثا عن معنى للحياة ،وعن الكمال، " بدأت أشك في عصمة هذه العقيدة، فعمدت أفحصها و أدرسها بأوفر دقة و فطنة و أول ما دفعني إلى الشك أنني رأيت كهان هذه النظرية متخالفين فيما بينهم في فهمها و العمل بها...[6]"
لم يستطع أن يجد معنى للطمأنينة والسكينة اللتان يراهما على وجوه الفقراء- الذين اعتبرهم أيام عنفوان شبابه حيوانات - الذين لا يملكون شيئا من متاع الدنيا ولكنهم مرتاحي البال، هادئة نفوسهم، ولا يفكرون في الانتحار، بل يستقبلون حقيقة الموت بلا وجل، وهو المثقف، الثري غير قادر على أن يستطعم الراحة ولا أن يجد أجوبة لأسئلة بدت له بسيطة وساذجة في الوهلة الأولى.
تولستوي حائر أمام حكمة الموت.
ركز الكاتب في هذا الاعتراف على مصيبة الموت، كظاهرة موجبة للتأمل، فسيْفُها البتار يقطف الأرواح في لحظات مسروقة دون إخبار. ويعدم إنسانية الإنسان بإقباره –مهما علا شأنه –وتقديمه طعاما سائغا للديدان، فهو يؤمن بالموت - والنص مسبوق بإشارات حول النهاية كحقيقة لا مناص منها- ولكنه يسعى إلى مواجهتها بالبحث لها عن معنى ومن يقف وراء هذه الحياة الآيلة للزوال في أي لحظة.
فبعد بشاعة حادثة إعدام الرجل بفرنسا، وما خلَّفه صوت ارتطام رأس المجرم بالصندوق من ارتجاج لأفكاره، وزعزعة لقناعاته "وفي أثناء إقامتي في باريس أظهر لي منظر إعدام أحد المجرمين ضعف اعتقادي الوهمي بالتقدم.... وبعد حادثة مرض الأخ متري المؤمن تعمَّقت جراحه وتفاقمت أوجاعه، فهو لم يستوعب، سبب وجوده ولا سبب موته، لماذا عاش و لماذا مات متألما؟ رغم أنه كان مؤمنا ومتعبدا وفيا للكنيسة، هذه الأخيرة التي أظهرت من الأخطاء و الاختلافات ما دفعه إلى اليقين بضرورة البحث عن جوهر الحياة في متاهات أخرى. كان تولستوي إنسانا مقبلا على الحياة ثم انقلب إلى آخر راغبا عنها بسب عجز العلوم عن مده بجواب عاقل يفسر ماهية الحياة ، إنها ثنائية ضدية منحت "للاعتراف" قوة الصدق، وفتحت باب الشك.
إنَّ المشهدين السابقين عملا على اضطراب إيمانه الثابت بالتقدم و الكمال المرتكزين على الحرية والعقل، ودفعاه إلى التساؤل المستمر عن قيمة نجاحاته. فتأمل حياته الصاخبة وتساءل ماذا بعد تدبير الأملاك ورعاية الأبناء و الحصول على فدادين و أحصنة و الشهرة الأدبية ؟ إن كل ما عاش من أجله بدا له في لحظة بعينها لا شيء ، وطالما هو محكوم بالموت فما فائدة الأسرة و الشهرة والمتاع و المال و العيش؟.
شرع يبحث عن هذه القوة التي سلبته الطمأنينة ودفعته إلى التفكير في الانتحار، "ولم أكن اقدر أن أتخلص من التفكير في أن الوجود كائنا يتنعم على حسابي و يسخر بي وهو يراقب أعمالي،لأنني بعد أن جزت الأربعين، وكدت ابلغ الخمسين من العمر الذي قضيته بالدرس و النمو الفكري و الجسدي، وبعد أن بلغت كمال رشدي، ووصلت إلى قمة إدراك الحياة، أرى نفسي واقفا على رأس جبل المعرفة البشرية فاهما بملء الموضوع انه ليس في الحياة شيء نعيش لأجله و أنه لم يوجد فيها شيء في المستقبل. ولذلك كنت اعتقد أن الذي أوجد هذه الحياة لم يقصد منه سوى السخرية و الهزء بأبنائها[7]." ثم ذكَّر بقصة البئر كدلالة على حقيقة النهاية الحتمية لكل إنسان، مشبها الشجرة بغصن الحياة، والتنين بالقبر، والوحش بالموت، والجرذان الأسود والأبيض بالليل و النهار، والعسل على أوراق الشجرة بملذات الحياة (الأسرة و الكتابة والفنون).
ومع تقدم العمر، ازداد إحساسه بالدنو من هاوية الموت وبالعجز عن إيقاف دائرة الزمن، فتغيرت أحواله وانقلبت موازينه، وما كان مجلبة للسعادة( النجاحات الأدبية و الشهرة والمال...) تحول إلى مجلبة لليأس. وكل ما كان حلوا صار مرّا علقما.
تولستوي و المرض العقلي
يعترف تولستوي بإصابته بالمرض العقلي الناتج عن التعب و التحمل الكبير لأعباء العمل بسلك القضاء والكتابة والمدرسة" فوقعت أخيرا في المرض العقلي" ولم يجد مخرجا من هذا النفق إلا بالزواج وأخذ قسط من الراحة لإعادة بناء الذات بين الطبيعة النقية. هذه السعادة التي لم تدم أكثر من خمس عشرة سنة قضاها في "صناعة الإنشاء و التأليف" و كتابة ما يحبه القراء. ثم عاودته الحيرة واليأس حول معنى الوجود، وما فتئ يكب، والسؤال يستعصي داخله "لماذا تعيش؟ و ما هي الغاية من حياتك[8]؟"
فبدأ يبحث عن سبل لتنظيف أفكاره في مجال الفلسفة و المعرفة، تلك العلوم التي ما فتئت زادته حيرة وشك، فهي دروس لذيذة وشيقة للتأمل، لكنها عاجزة عن تقديم إجابات شافية في مسائل الحياة، يقول تولستوي" وإليك ما يقوله أنصار هذه المعرفة:"نحن لا نقدر أن نقول لك ما أنت، ولا لماذا تعيش في هذا العالم، فأننا لا ندرس مثل هذه المسائل. ولكن إذا أردت أن تعرف شرائع النور، والألفة الكيماوية، ونمو الكائنات العضوية، و اذا رغبت في معرفة الشرائع التي تسود على الأجسام المختلفة، وأشكال هذه الأجسام، وحجمها، وعلاقتها أحدها بالأخر، وإذا أردت أن تعلم شرائع فكرك فنحن قادرون أن نقدم لك أجوبة دقيقة واضحة على كل ذلك[9]" إذن فالعلوم الطبيعية لا تستطيع أن تقدم إجابات خارج مباحثها المادية المجردة، والعلوم النظرية تظهر عظمة الكائن في فكر الإنسان دون أن يتعدى إلى ما وراء الطبيعة والفلسفة، هنا كبرت الهوة وتعمق الشعور بالضياع و التيه ،" على هذا المنوال ضلت بي السبل في المعرفة البشرية، فلم أجد لي ملجأ، لا في نور العلوم الرياضية و الطبيعية، التي كانت سبلها مفتوحة أمامي، و لا في ظلمة الفلسفة، التي كانت تقودني كل خطوة فيها من السيئ إلى الأسوأ ومن المظلم إلى الأكثر ظلاما- إلى أن ثبت لدي أخيرا انه لم يكن ، ولن يكون في الوجود شيء مما أفتش عنه.لأنني عندما تبعت نور العلم، الذي يتوهم الناس قدرته على حل قضايا الحياة، كنت أجد نفسي أبعد كثيرا عن الحقيقة التي أنشدها.وكلما وضحت سماء المعرفة المنبسطة فوقي، وزادت نقاوتها، وتعاظم سحرها و تعمقت في إدراك أسرارها، و الاطلاع على دقائقها، كنت أجدها بعيدة عن قضاء حاجتي، قاصرة عن مجاوبتي على مسائلي[10]."
واقتنع بأن العلوم و الفلسفة لن تجيبه عن معنى حياته إلا بمثل ما قدمه سقراط و شوبنهور وسليمان بوذا. على اعتبار أن الحكماء ينشدون الموت ويسعون إليه لتحرير الجسد من الأوجاع، وشوبنهور الذي يؤمن بقوة الإرادة كمبدأ أساسي في الوجود، فبزوالها تزول كل مظاهر الوجود ويمضي إلى عدم. وبانتهاء إرادتنا تنتهي حياتنا.في حين سليمان يقضي ببطلان كل شيء، فلا فائدة للبشر من تعبهم.
إذن إذا كان العلم بفروعه قاصر عن تفسير معنى الحياة وهو الذي عاش منكرا لكل ما يعارضه أو يختلف معه، وإذا كانت الفلسفة و المعرفة المبنية على الشروحات العقلية غير قادرة على تقديم إجابات شافية على أسئلته، فأين هي الحقيقة؟ وأين توجد حكمة الحياة؟ يقول " أنت كما تسمي حياتك، اتحاد مؤقت من الذرات المختلفة. والحركة المشتركة بين هذه الذرات بعضها مع بعض قد أوجدت ما تسميه حياتك. وهذا التجمع بين الذرات المتألف منه جسدك، تظل له حركته زمنا محدودا، تهدأ حركة هذه الذرات بعده، فتنتهي بهدوئها هذه القوة التي تسميها حياتك، و بانتهائها يقضي على جميع هذه المسائل التي تشغل فكرك اليوم. أنت كتلة متجمعة أجزاؤها المجهولة من حين إلى حين.وهذا التجدد يطلق عليه الناس اسم الحياة. ولكن هذه الكتلة لا تلبث أن تتلاشى، فيبطل تجددها، وتزول معه كل المسائل و الشكوك[11]"
لم يستطع أن يصدق أنه كتلة متجمعة من المجهول، وهو الرجل المغرور بعقله وثروته. ووقف مذهولا أمام هذه الإجابة الصادمة.اصطدم بجدار اللاجواب، ففكر مرة أخرى في خوض طريق جديدة، وهذه المرة لجأ إلى طبقات الناس البسطاء عساه يعثر عندهم على ضالته المنشودة، ذهب إليهم ليكتشف سلاحهم ضد رعب الحياة، فتوصل إلى نتيجة مفادها أن الناس أربعة أصناف.
1- هناك صنف تسلح بالجهل ، وفهم الحياة بعيدا عن شوبنهور و سقراط و سليمان بوذا، وأسطورة البئر لا تعني لهم شيئا.
2- وهناك صنف آخر آثر الهروب إلى الشهوة و التصالح مع الحياة دون التفكير في المستقبل كسبيل كفيل للاستمتاع بها و أغمض العيون عن رؤية وحش الموت." فأذهب كل خبزك بفرح، واشرب خمرك بقلب مسرور..." ص63
3-ثم هناك من لجأ إلى القوة والعزم وذلك بوضع حد لهذه الحياة الشقية بعد معرفة شرها وبطلانها.( حبل حول العنق، أو ماء يغرقون فيه، أو سكين يقطعون به قلوبهم، أو قطار يقفون في طريقه)
4- والصنف الأخير هو صنف الضعفاء، ويتجلى ذلك في المحافظة على الحياة رغم شقائها. والبحث عن وسيلة للترويح عن النفس بعيدا عن القتل، وهذه هي طبقة تولستوي.
تزايد مخاض الكاتب ألما و انكسارا لما يحدث في نفسه من مشاعر متناقضة، فرغم تأييده لفكرة بطلان الحياة ووجوب التخلص منها، إلاَّ انه كان غير قادر أن يكون مثل الفئة الأولى ( المتسلحة بالجهل) لأنه مفكر وعاقل، ولا يمكنه أيضا أن يسير خلف شهواته، فهو يشبه "سيكاموني"، ويعجز أن يكون مثل الطبقة الثالثة وان كان راغبا في الموت. هناك شيئا قويا مجهولا يمنعه من ذلك ويدفعه دفعا للاحتماء بجماعة الفئة الرابعة وإن كان يرفضها فهي الأقرب إلى قلبه.
السر يضيء ألغاز الأسطورة
يغامر مؤلِّف "اعتراف" باستكشاف آفاق رحبة في عالم الإيمان والاعتقاد بقوى غيبية تعجز العلوم عن توضيحها.وينتقل بنا إلى مستويات تارة ضيقة وأخرى رحبة رحابة الفضاء في آن معا لإقناعنا بأن الإيمان، الذي لا سلطان للعقل عليه هو سر إدراك قوة الحياة.
لقد أدرك خطأه و تساءل عن أصل هذا العقل الذي يقوده إلى الجنون، فتوصل بالدرس إلى أنه ثمرة الحياة . إذن كيف يعقل لهذا العقل أن ينكر الحياة التي أثمرته شجرتها" يحدثني عقلي أن الحياة مناقضة للعقل. فإن لم يكن في الوجود شيء أعلى من العقل، والحقيقة أنه ليس في الوجود شيء أسمى من العقل... فالعقل إذن هو الذي خلق لي الحياة. فكيف يستطيع هذا العقل، والحالة هذه أن ينكر وجود الحياة التي أوجدها؟...لو لم تكن لي حياة لما كان لي عقل، ولذلك فإن العقل بحكم الطبع هو ابن الحياة[12]." وتوصل بالبحث أن كل ما على هذه الأرض تحكمه حكمة سامية ، و أن الحالة الفكرية المضطربة التي عاشها زمنا طويلا لم تكن سوى حماقة حياته القاصرة عن اكتشاف قوة عظمى توازي قوة العقل اسمها الشعور بالحياة، وهذه القوة الخفية هي التي حالت بينه وبين الموت.يقول" وهي التي نشلتني من هوة اليأس التي سقطت فيها و عملت أخيرا على تغييرأفكاري بأسرها[13]" .
واكتشف الكاتب أنه من العبث السعي وراء جواب على سؤال لا يميز بين المحدود وغير المحدود، جواب يستخف بعقل ينكر الحياة التي أثمرته، فمع أنه كان يشارك الحكماء رأيهم في لا جدوى الحياة إلا أنه كان مشككا في النتائج التي توصل إليها بالدرس والبحث.فالمعرفة التي يقدمها العقل تنكر معنى الحياة، والمعرفة التي يمنحها الإيمان تنكر العقل، ولكن هذا العقل هو القوة الوحيدة التي تطلب معنى الحياة فكيف يمكن أن يُفهم معنى الحياة بدونه؟ عند هذه النتيجة المتناقضة ظاهريا توقف ليون تولستوي، فما سماه معقولا بدا لا أثر للعقل فيه، وما دعاه غير معقول لم يكن بعيد عن العقل بمقدار ما خطر له. فأيقن أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان مهما خالفت أحكام العقل فهي على الأقل تمتاز بكونها تقدم جوابا لكل سؤال يربط بين المحدود وغير المحدود وبدون هذه العلاقة لا يمكننا الحصول على جواب. وأدرك أن معنى الحياة يوجد بين "الملايين من الأحياء و الأموات الذين بنوا صروح الحياة التي يتمتعون بها وهم فرحين متصالحين مع ذواتهم، فهو والمئات منه لا يستطيعون تأليف الإنسانية، ووقف عند جهله وجهل الفلاسفة الذين تبنى أفكارهم وقيمهم وقدرتهم المحدودة على فهم ما وراء الطبيعة. فهذا الكون لم يخلق عبثا، بل له رب يعتني به وبكل من فيه .وأدرك أنه لكي يستشعر هذا الإيمان يجب أن يمتثل للواجبات المفروضة عليه ويضرب المثل بالمتسول الفقير[14] الذي تم نقله من مفترق الطرق إلى بيت فسيح الأرجاء ليدير الناعورة، ثم تقلد مهام متنوعة في البيت. ثم ضرب مثالا آخر بالعصفور الصغير الذي سقط من أعلى الشجرة، فمن أين أتى هذا العصور ومن يعتني به ويطعمه ويعلمه سر العيش؟ فهو قطعا لم يخلق من عدم، كما أنه لابد أن لوجوده وغيره من المخلوقات غاية عظمى. إذن من يحكم هذا الملكوت؟ ما عادت فلسفة كانط وشوبنهور" ومع أنني كنت واثقا بأن البرهان على وجود الله مستحيل علي لان "كنت" الفيلسوف اظهر لي هذا، و أنا قبلته و تمسكت به.فقد ظللت أسعى و أفتش عن إله، وأؤمل بالبلوغ إلى ضالتي، وكنت في كل أيام شكوكي، عملا بعادة قديمة أخاطب هذا الإله بصلاتي من غير أن أجده[15]" ولا حتى مواقفه من الكنيسة ورهبانها قادرة على الحؤول بينه وبين معرفة الله، و لكن ما نوع الإيمان الذي يسعى إليه؟ إنه يبحث عن إيمان حقيقي كامل وصادق منزه عن سلوكات الرهبان وهذا يوجد عند الفقراء، لأنه مكمل لحياتهم وبدونه لا يجدون معنى لوجودهم على الأرض. فالإيمان يحمل الإنسان على محبة الحياة والمحافظة عليها لأنه هو وحده قوة الحياة وجوهرها ، وشقاء تولستوي كان بسبب دراسة أفكار الذين كانوا في أتعس حالة يجهلون الإجابة عن جدوى عيشهم، وطبيعي جدا أن لا يتوصل إلى نتيجة أخرى غير التي استخلصها.أضف إلى أنه لم يدرس نفسه التي كانت بحاجة إلى مراجعة.
وفي خضم رحلة البحث عن معنى الحياة، اتجه إلى دراسة البوذية والإسلام والمسيحية، وسأل علماء المؤمنين ورجال الدين، و لكن لا أحد منهم استطاع أن يفسر له ما يبحث عنه، فهم أيضا يخافون الموت والمرض و الفقر والشيخوخة، عكس البسطاء. وثبت أن إيمانهم شكل من الأشكال التي يلجؤون إليها لتبرير ذواتهم ورغباتهم تجاه الحياة. كما توصل إلى إيجاد أجوبة لكل أسئلته المؤرقة من قبيل أين الله؟ وكيف يجب أن أعيش؟ وهل في الحياة معنى لا يستطيع الموت أن يذهب به؟ أدرك واقتنع أنه كلما آمن بالله شعر بالحياة، وكل ما أعرض عن هذا الإيمان شعر بالموت "عش لتسعى إلى الله، لان الحياة لا تكون بدون الله، بمثل هذا آمنت أخيرا من أعماق قلبي، فشعرت بقوة الحياة الحقيقية، ولم يفارقني هذا النور الذي أشرق على حياتي حتى اليوم[16]"، عادت له السعادة التي تمتع بها في فجر شبابه حينما قبل معاني الحياة بدون أن يفهمها، ولكن الآن يقبل بها عن معرفة وإدراك صحيح وعقيدة ثابتة.
كانت محصلة تولستوي من الرحلة التي قام بها إلى عالم الآخرين، البسطاء و العاملين سفر مثمر صحح مفاهيمه المغلوطة حول سعادة الحياة ...وقدم لنا خلاصة تاريخ حياة عابثة وماجنة في الصبا، ولكنها موعظة لأولي الأبصار." قد قتلت الكثيرين في الحرب، و بارزت الكثيرين لأفقدهم حياتهم، وخسرت أموالا كثيرة بالمقامرة، وأنفقت الأموال الكثيرة التي وصلت إلى بأعراق الفلاحين، وكنت قاسيا عاتيا في معاملة خدامي، و لم اترك سبيلا من سبل الفسق و الدعارة مع العواهر إلا سلكته، ولم تفتني طريقة من طرق الخداع و المراوغة: كذب وزنا و سرقة و سكر وتمرد وقتل... كل هذا جزء من حياتي في تلك الأيام. فليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم ارتكبها- ولكنني كنت مع كل ذلك مكرما محترما من أبناء عشيرتي كرجل أديب فاضل[17]."
استنتاج البحث:
إنَّ مؤلف "اعتراف" لتولستوي هو درس عظيم للإنسان، هو إعلان لألم" الأنا "المتكبرة العاجزة عن إدراك جوهر الحياة والعيش الهانئ في مقابل "الآخر" الذي يمثله المواطن البسيط والسعيد بحياته الشاقة، هي معادلة غير عادلة من وجهة نظره القاصرة عن الإحساس بسر سعادة هذه الطبقة الكادحة. وهذا ما دفعه إلى التساؤل هل للاعتقاد الديني دور في هذه الطمأنينة؟ وكيف هو هذا الاعتقاد؟ ألم يكن أخاه مؤمنا ومع ذلك عاش حزينا متألما ومات بعد سنة من المعاناة؟ تولستوي هنا يبحث عن نوع خاص من الإيمان.ونحن نقرؤه نشعر معه كما لو أننا نركب أمواج بحر عاصف. بحر لا يستقر ولا يستكين.فمنذ الصفحات الأولى من المؤلف وهو يتخبط بزورقه في يم مترامي الأطراف باحثا عن الحقيقة، معترفا أنه أمضى ثلاثين سنة من عمره دون أن يقدم أي خدمة لغيره ولا حتى لنفسه، عاش مغترا بنفسه بعيدا عن الله، فتعب وضجر وتوصل إلى أن معنى الحياة هو في نهج شريعة الله، وبعد الموت ترحل روح الإنسان إلى عالم الفردوس غير المحدود تاركة الجسد المادي في العالم المحدود.
[1] اعتراف تولستوي ص 11
[2] المؤلف ص 13
[3] المؤلف ص 17
[4] المؤلف ص 26
[5] المؤلف ص 18
[6] المؤلف ص 18
[7] المؤلف ص 33
[8] المؤلف ص 27
[9] المؤلف ص 44
[10] المؤلف ص 50
[11] المؤلف ص 52
[12] المؤلف ص 67
[13] المؤلف ص 72
[14] انظر قصة المتسول الفقير ص 94
[15] المؤلف ص 97
[16] المؤلف ص 100-101
[17] المؤلف ص 16
الملخص: تحاول هذه الدراسة أن تحاور جانبا من فكر تولستوي باعتباره أديبا، فالأديب يشغل مهمة سامية، منها الحفاظ على القيم الإنسانية، والتبشِّير بمعانيها، وتقديم العبر والحكم والمواعظ . فمن خلال المضامين واللغة والصورة يبصِّرنا ويشركنا معه في
مشروع البحث عن معنى الحياة، يجعلنا ننخرط معه طوعا و كرها-انطلاقا من مجموعة من الأفكار التي كان يؤمن بها في زمن الشباب، زمن الانتصارات لنعيد معه ترتيب أفكارنا وقناعاتنا كقراء واعون، حتى خلصنا إلى فهم سر حقيقة الوجود من رحلة البحث عن الذات المطمئنة.
الكلمات الرئيسية: تولستوي، الكاتب الروسي، مفهوم الذات، فلسفة الإيمان، حكمة الموت.
فكر نيكولايا فيتش تولستوي عن الحياة والكون وتوصل إلى أن العلوم والفلسفة لن تجيبه عن معنى حياته إلا بمثل ما قدمه سقراط و شوبنهور وسليمان بوذا. على اعتبار أن الحكماء ينشدون الموت ويسعون إليه لتحرير الجسد من الأوجاع، وشوبنهور الذي يؤمن بقوة الإرادة كمبدأ أساسي في الوجود، فبزوالها تزول كل مظاهر الوجود ويمضي إلى عدم. وبانتهاء إرادتنا تنتهي حياتنا.في حين سليمان يقضي ببطلان كل شيء، فلا فائدة للبشر من تعبهم. توصل تولستوي إلى أن معنى الحياة هو كامن في نهج شريعة الله، وبعد الموت ترحل روح الإنسان إلى عالم الفردوس غير المحدود تاركة الجسد المادي في العالم المحدود.
نبذة عن الكاتب:
هو الروائي، وأيقونة الأدب الروسي نيكولايا فيتش تولستوي، ولد في التاسع من سيبتمبر عام 1928م بروسيا، نشأ وترعرع على حسب عادة المجتمع السائدة. مال إلى الأدب الموسيقى. وتوفي في 20 نونبر1910، ومن أهم أعماله "الحرب والسلام"، "أنا كارينا"، "مملكة الرب داخلك"، "قوة الظلام"، " موت ايفان أليتش"، "الطفولة و الصبا والشباب".
اعتراف تولستوي "صورة كاشفة لجزء من الفضاء الثقافي السائد في روسيا والمستوى الرفيع للفلسفة الروسية، نص قلق يجذٍّر أسئلة إنسانية وجودية، ويبحث في الملكوت عن معنى الحياة، يخبرنا بحكاية حياة منفلتة مأخوذة بشهوة البحث عن الحقيقة ليوقد شغف الإيمان والاعتقاد بعيدا عن العلوم التي لا تملك إجابات خارج تخصصها. هو تخليد للأدب الحاضن لكل المتاهات إلى أن تنجلي الظلمات بالوصول إلى نور الأمان ودعوة إلى البحث المستمر بحثا عن معنى جديدا.
انطلق تولستوي المسيحي الارثودوكسي في رحلة البحث عن الحياة وإدراك معانيها السامية بعيدا عن المصالح الذاتية والوجاهة، بمشاعر متناقضة، بعدما عاش حياته المترفة في عالمه المثالي كما أحب وشاء، بعيدا عن الدين الذي كان يشعر بأنه طقس فارغ من المعنى "فإن المعتقد لا تأثير له في الحياة و لا في علاقات الناس بعضهم مع بعض، ...وكلما تنازع المعتقد و الحياة كانت السيادة للحياة، لأن قوة الأول لا تتعدى المظاهر الخارجية من كيانها[1]" ثم يقول بكل فخر واقتناع " قد طرحت عني الإيمان الذي تعلمته في صباي و ما برحت أؤمن بشيء و لكني لم أقدر أن أوضح ماهيته. قد آمنت بإله، أو بالأحرى لم أنكر وجود إله ولكن لم أقدر أن أوضح شيئا عن هذا الإله الذي لم أنكر وجوده .إنني لم أنكر المسيح و لم أجحد تعاليمه، ولكن الحقيقة التي تدور عليها هذه التعاليم لم أعرف عنها شيئا [2]"
هذا الشاب الثري ذو الحسب والنسب الارستقراطي، الصريح الذكي، وعاشق الأدب، مؤمن بنور المعرفة والحياة ، وليس مثل المتدينين الغليظي الطباع والمرائين والمتطوسين. ولج عالم الكتابة إرضاء لغرور ذاته المتمردة الطموحة المحبة للقوة، ونجح فيها، يقول "وفي هذه المدة بدأت بالكتابة التي لم تحملني عليها سوى غروري و محبتي للربح، والشهرة الكاذبة...نجحت نجاحا باهرا، وكان الناس يقرؤون كتاباتي مادحين شاكرين[3]" ، "لذلك عمدت إلى الكتابة لمجرد الرغبة في تحسين حالتي المادية مغمضا عيني عن البحث عن حقيقة حياتي أو الغاية من الحياة كلها[4] "بل أصبح أشهر المشاهير عندما احتك بكبار كتاب أوروبا الذين علموه أسرار الكتابة ، حيث يمكنه أن يدرس و يعلِّم الناس ما يجهله هو نفسه."وأنا ،الفنان و الشاعر، كتبت وعلمت ما لم تكن لي أقل معرفة به ولكنني كنت أقبض أجرة عن عملي. فاقتنيت لنفسي المنازل الفخمة، وأنفقت الأموال الكثيرة على الولائم، والحفلات الاجتماعية ...[5]" ولكن كل هذه النجاحات لم تجب عن أسئلته الوجودية، فتملكه الشك و أكلته الحيرة، وسيطر عليه القلق، باحثا عن معنى للحياة ،وعن الكمال، " بدأت أشك في عصمة هذه العقيدة، فعمدت أفحصها و أدرسها بأوفر دقة و فطنة و أول ما دفعني إلى الشك أنني رأيت كهان هذه النظرية متخالفين فيما بينهم في فهمها و العمل بها...[6]"
لم يستطع أن يجد معنى للطمأنينة والسكينة اللتان يراهما على وجوه الفقراء- الذين اعتبرهم أيام عنفوان شبابه حيوانات - الذين لا يملكون شيئا من متاع الدنيا ولكنهم مرتاحي البال، هادئة نفوسهم، ولا يفكرون في الانتحار، بل يستقبلون حقيقة الموت بلا وجل، وهو المثقف، الثري غير قادر على أن يستطعم الراحة ولا أن يجد أجوبة لأسئلة بدت له بسيطة وساذجة في الوهلة الأولى.
تولستوي حائر أمام حكمة الموت.
ركز الكاتب في هذا الاعتراف على مصيبة الموت، كظاهرة موجبة للتأمل، فسيْفُها البتار يقطف الأرواح في لحظات مسروقة دون إخبار. ويعدم إنسانية الإنسان بإقباره –مهما علا شأنه –وتقديمه طعاما سائغا للديدان، فهو يؤمن بالموت - والنص مسبوق بإشارات حول النهاية كحقيقة لا مناص منها- ولكنه يسعى إلى مواجهتها بالبحث لها عن معنى ومن يقف وراء هذه الحياة الآيلة للزوال في أي لحظة.
فبعد بشاعة حادثة إعدام الرجل بفرنسا، وما خلَّفه صوت ارتطام رأس المجرم بالصندوق من ارتجاج لأفكاره، وزعزعة لقناعاته "وفي أثناء إقامتي في باريس أظهر لي منظر إعدام أحد المجرمين ضعف اعتقادي الوهمي بالتقدم.... وبعد حادثة مرض الأخ متري المؤمن تعمَّقت جراحه وتفاقمت أوجاعه، فهو لم يستوعب، سبب وجوده ولا سبب موته، لماذا عاش و لماذا مات متألما؟ رغم أنه كان مؤمنا ومتعبدا وفيا للكنيسة، هذه الأخيرة التي أظهرت من الأخطاء و الاختلافات ما دفعه إلى اليقين بضرورة البحث عن جوهر الحياة في متاهات أخرى. كان تولستوي إنسانا مقبلا على الحياة ثم انقلب إلى آخر راغبا عنها بسب عجز العلوم عن مده بجواب عاقل يفسر ماهية الحياة ، إنها ثنائية ضدية منحت "للاعتراف" قوة الصدق، وفتحت باب الشك.
إنَّ المشهدين السابقين عملا على اضطراب إيمانه الثابت بالتقدم و الكمال المرتكزين على الحرية والعقل، ودفعاه إلى التساؤل المستمر عن قيمة نجاحاته. فتأمل حياته الصاخبة وتساءل ماذا بعد تدبير الأملاك ورعاية الأبناء و الحصول على فدادين و أحصنة و الشهرة الأدبية ؟ إن كل ما عاش من أجله بدا له في لحظة بعينها لا شيء ، وطالما هو محكوم بالموت فما فائدة الأسرة و الشهرة والمتاع و المال و العيش؟.
شرع يبحث عن هذه القوة التي سلبته الطمأنينة ودفعته إلى التفكير في الانتحار، "ولم أكن اقدر أن أتخلص من التفكير في أن الوجود كائنا يتنعم على حسابي و يسخر بي وهو يراقب أعمالي،لأنني بعد أن جزت الأربعين، وكدت ابلغ الخمسين من العمر الذي قضيته بالدرس و النمو الفكري و الجسدي، وبعد أن بلغت كمال رشدي، ووصلت إلى قمة إدراك الحياة، أرى نفسي واقفا على رأس جبل المعرفة البشرية فاهما بملء الموضوع انه ليس في الحياة شيء نعيش لأجله و أنه لم يوجد فيها شيء في المستقبل. ولذلك كنت اعتقد أن الذي أوجد هذه الحياة لم يقصد منه سوى السخرية و الهزء بأبنائها[7]." ثم ذكَّر بقصة البئر كدلالة على حقيقة النهاية الحتمية لكل إنسان، مشبها الشجرة بغصن الحياة، والتنين بالقبر، والوحش بالموت، والجرذان الأسود والأبيض بالليل و النهار، والعسل على أوراق الشجرة بملذات الحياة (الأسرة و الكتابة والفنون).
ومع تقدم العمر، ازداد إحساسه بالدنو من هاوية الموت وبالعجز عن إيقاف دائرة الزمن، فتغيرت أحواله وانقلبت موازينه، وما كان مجلبة للسعادة( النجاحات الأدبية و الشهرة والمال...) تحول إلى مجلبة لليأس. وكل ما كان حلوا صار مرّا علقما.
تولستوي و المرض العقلي
يعترف تولستوي بإصابته بالمرض العقلي الناتج عن التعب و التحمل الكبير لأعباء العمل بسلك القضاء والكتابة والمدرسة" فوقعت أخيرا في المرض العقلي" ولم يجد مخرجا من هذا النفق إلا بالزواج وأخذ قسط من الراحة لإعادة بناء الذات بين الطبيعة النقية. هذه السعادة التي لم تدم أكثر من خمس عشرة سنة قضاها في "صناعة الإنشاء و التأليف" و كتابة ما يحبه القراء. ثم عاودته الحيرة واليأس حول معنى الوجود، وما فتئ يكب، والسؤال يستعصي داخله "لماذا تعيش؟ و ما هي الغاية من حياتك[8]؟"
فبدأ يبحث عن سبل لتنظيف أفكاره في مجال الفلسفة و المعرفة، تلك العلوم التي ما فتئت زادته حيرة وشك، فهي دروس لذيذة وشيقة للتأمل، لكنها عاجزة عن تقديم إجابات شافية في مسائل الحياة، يقول تولستوي" وإليك ما يقوله أنصار هذه المعرفة:"نحن لا نقدر أن نقول لك ما أنت، ولا لماذا تعيش في هذا العالم، فأننا لا ندرس مثل هذه المسائل. ولكن إذا أردت أن تعرف شرائع النور، والألفة الكيماوية، ونمو الكائنات العضوية، و اذا رغبت في معرفة الشرائع التي تسود على الأجسام المختلفة، وأشكال هذه الأجسام، وحجمها، وعلاقتها أحدها بالأخر، وإذا أردت أن تعلم شرائع فكرك فنحن قادرون أن نقدم لك أجوبة دقيقة واضحة على كل ذلك[9]" إذن فالعلوم الطبيعية لا تستطيع أن تقدم إجابات خارج مباحثها المادية المجردة، والعلوم النظرية تظهر عظمة الكائن في فكر الإنسان دون أن يتعدى إلى ما وراء الطبيعة والفلسفة، هنا كبرت الهوة وتعمق الشعور بالضياع و التيه ،" على هذا المنوال ضلت بي السبل في المعرفة البشرية، فلم أجد لي ملجأ، لا في نور العلوم الرياضية و الطبيعية، التي كانت سبلها مفتوحة أمامي، و لا في ظلمة الفلسفة، التي كانت تقودني كل خطوة فيها من السيئ إلى الأسوأ ومن المظلم إلى الأكثر ظلاما- إلى أن ثبت لدي أخيرا انه لم يكن ، ولن يكون في الوجود شيء مما أفتش عنه.لأنني عندما تبعت نور العلم، الذي يتوهم الناس قدرته على حل قضايا الحياة، كنت أجد نفسي أبعد كثيرا عن الحقيقة التي أنشدها.وكلما وضحت سماء المعرفة المنبسطة فوقي، وزادت نقاوتها، وتعاظم سحرها و تعمقت في إدراك أسرارها، و الاطلاع على دقائقها، كنت أجدها بعيدة عن قضاء حاجتي، قاصرة عن مجاوبتي على مسائلي[10]."
واقتنع بأن العلوم و الفلسفة لن تجيبه عن معنى حياته إلا بمثل ما قدمه سقراط و شوبنهور وسليمان بوذا. على اعتبار أن الحكماء ينشدون الموت ويسعون إليه لتحرير الجسد من الأوجاع، وشوبنهور الذي يؤمن بقوة الإرادة كمبدأ أساسي في الوجود، فبزوالها تزول كل مظاهر الوجود ويمضي إلى عدم. وبانتهاء إرادتنا تنتهي حياتنا.في حين سليمان يقضي ببطلان كل شيء، فلا فائدة للبشر من تعبهم.
إذن إذا كان العلم بفروعه قاصر عن تفسير معنى الحياة وهو الذي عاش منكرا لكل ما يعارضه أو يختلف معه، وإذا كانت الفلسفة و المعرفة المبنية على الشروحات العقلية غير قادرة على تقديم إجابات شافية على أسئلته، فأين هي الحقيقة؟ وأين توجد حكمة الحياة؟ يقول " أنت كما تسمي حياتك، اتحاد مؤقت من الذرات المختلفة. والحركة المشتركة بين هذه الذرات بعضها مع بعض قد أوجدت ما تسميه حياتك. وهذا التجمع بين الذرات المتألف منه جسدك، تظل له حركته زمنا محدودا، تهدأ حركة هذه الذرات بعده، فتنتهي بهدوئها هذه القوة التي تسميها حياتك، و بانتهائها يقضي على جميع هذه المسائل التي تشغل فكرك اليوم. أنت كتلة متجمعة أجزاؤها المجهولة من حين إلى حين.وهذا التجدد يطلق عليه الناس اسم الحياة. ولكن هذه الكتلة لا تلبث أن تتلاشى، فيبطل تجددها، وتزول معه كل المسائل و الشكوك[11]"
لم يستطع أن يصدق أنه كتلة متجمعة من المجهول، وهو الرجل المغرور بعقله وثروته. ووقف مذهولا أمام هذه الإجابة الصادمة.اصطدم بجدار اللاجواب، ففكر مرة أخرى في خوض طريق جديدة، وهذه المرة لجأ إلى طبقات الناس البسطاء عساه يعثر عندهم على ضالته المنشودة، ذهب إليهم ليكتشف سلاحهم ضد رعب الحياة، فتوصل إلى نتيجة مفادها أن الناس أربعة أصناف.
1- هناك صنف تسلح بالجهل ، وفهم الحياة بعيدا عن شوبنهور و سقراط و سليمان بوذا، وأسطورة البئر لا تعني لهم شيئا.
2- وهناك صنف آخر آثر الهروب إلى الشهوة و التصالح مع الحياة دون التفكير في المستقبل كسبيل كفيل للاستمتاع بها و أغمض العيون عن رؤية وحش الموت." فأذهب كل خبزك بفرح، واشرب خمرك بقلب مسرور..." ص63
3-ثم هناك من لجأ إلى القوة والعزم وذلك بوضع حد لهذه الحياة الشقية بعد معرفة شرها وبطلانها.( حبل حول العنق، أو ماء يغرقون فيه، أو سكين يقطعون به قلوبهم، أو قطار يقفون في طريقه)
4- والصنف الأخير هو صنف الضعفاء، ويتجلى ذلك في المحافظة على الحياة رغم شقائها. والبحث عن وسيلة للترويح عن النفس بعيدا عن القتل، وهذه هي طبقة تولستوي.
تزايد مخاض الكاتب ألما و انكسارا لما يحدث في نفسه من مشاعر متناقضة، فرغم تأييده لفكرة بطلان الحياة ووجوب التخلص منها، إلاَّ انه كان غير قادر أن يكون مثل الفئة الأولى ( المتسلحة بالجهل) لأنه مفكر وعاقل، ولا يمكنه أيضا أن يسير خلف شهواته، فهو يشبه "سيكاموني"، ويعجز أن يكون مثل الطبقة الثالثة وان كان راغبا في الموت. هناك شيئا قويا مجهولا يمنعه من ذلك ويدفعه دفعا للاحتماء بجماعة الفئة الرابعة وإن كان يرفضها فهي الأقرب إلى قلبه.
السر يضيء ألغاز الأسطورة
يغامر مؤلِّف "اعتراف" باستكشاف آفاق رحبة في عالم الإيمان والاعتقاد بقوى غيبية تعجز العلوم عن توضيحها.وينتقل بنا إلى مستويات تارة ضيقة وأخرى رحبة رحابة الفضاء في آن معا لإقناعنا بأن الإيمان، الذي لا سلطان للعقل عليه هو سر إدراك قوة الحياة.
لقد أدرك خطأه و تساءل عن أصل هذا العقل الذي يقوده إلى الجنون، فتوصل بالدرس إلى أنه ثمرة الحياة . إذن كيف يعقل لهذا العقل أن ينكر الحياة التي أثمرته شجرتها" يحدثني عقلي أن الحياة مناقضة للعقل. فإن لم يكن في الوجود شيء أعلى من العقل، والحقيقة أنه ليس في الوجود شيء أسمى من العقل... فالعقل إذن هو الذي خلق لي الحياة. فكيف يستطيع هذا العقل، والحالة هذه أن ينكر وجود الحياة التي أوجدها؟...لو لم تكن لي حياة لما كان لي عقل، ولذلك فإن العقل بحكم الطبع هو ابن الحياة[12]." وتوصل بالبحث أن كل ما على هذه الأرض تحكمه حكمة سامية ، و أن الحالة الفكرية المضطربة التي عاشها زمنا طويلا لم تكن سوى حماقة حياته القاصرة عن اكتشاف قوة عظمى توازي قوة العقل اسمها الشعور بالحياة، وهذه القوة الخفية هي التي حالت بينه وبين الموت.يقول" وهي التي نشلتني من هوة اليأس التي سقطت فيها و عملت أخيرا على تغييرأفكاري بأسرها[13]" .
واكتشف الكاتب أنه من العبث السعي وراء جواب على سؤال لا يميز بين المحدود وغير المحدود، جواب يستخف بعقل ينكر الحياة التي أثمرته، فمع أنه كان يشارك الحكماء رأيهم في لا جدوى الحياة إلا أنه كان مشككا في النتائج التي توصل إليها بالدرس والبحث.فالمعرفة التي يقدمها العقل تنكر معنى الحياة، والمعرفة التي يمنحها الإيمان تنكر العقل، ولكن هذا العقل هو القوة الوحيدة التي تطلب معنى الحياة فكيف يمكن أن يُفهم معنى الحياة بدونه؟ عند هذه النتيجة المتناقضة ظاهريا توقف ليون تولستوي، فما سماه معقولا بدا لا أثر للعقل فيه، وما دعاه غير معقول لم يكن بعيد عن العقل بمقدار ما خطر له. فأيقن أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان مهما خالفت أحكام العقل فهي على الأقل تمتاز بكونها تقدم جوابا لكل سؤال يربط بين المحدود وغير المحدود وبدون هذه العلاقة لا يمكننا الحصول على جواب. وأدرك أن معنى الحياة يوجد بين "الملايين من الأحياء و الأموات الذين بنوا صروح الحياة التي يتمتعون بها وهم فرحين متصالحين مع ذواتهم، فهو والمئات منه لا يستطيعون تأليف الإنسانية، ووقف عند جهله وجهل الفلاسفة الذين تبنى أفكارهم وقيمهم وقدرتهم المحدودة على فهم ما وراء الطبيعة. فهذا الكون لم يخلق عبثا، بل له رب يعتني به وبكل من فيه .وأدرك أنه لكي يستشعر هذا الإيمان يجب أن يمتثل للواجبات المفروضة عليه ويضرب المثل بالمتسول الفقير[14] الذي تم نقله من مفترق الطرق إلى بيت فسيح الأرجاء ليدير الناعورة، ثم تقلد مهام متنوعة في البيت. ثم ضرب مثالا آخر بالعصفور الصغير الذي سقط من أعلى الشجرة، فمن أين أتى هذا العصور ومن يعتني به ويطعمه ويعلمه سر العيش؟ فهو قطعا لم يخلق من عدم، كما أنه لابد أن لوجوده وغيره من المخلوقات غاية عظمى. إذن من يحكم هذا الملكوت؟ ما عادت فلسفة كانط وشوبنهور" ومع أنني كنت واثقا بأن البرهان على وجود الله مستحيل علي لان "كنت" الفيلسوف اظهر لي هذا، و أنا قبلته و تمسكت به.فقد ظللت أسعى و أفتش عن إله، وأؤمل بالبلوغ إلى ضالتي، وكنت في كل أيام شكوكي، عملا بعادة قديمة أخاطب هذا الإله بصلاتي من غير أن أجده[15]" ولا حتى مواقفه من الكنيسة ورهبانها قادرة على الحؤول بينه وبين معرفة الله، و لكن ما نوع الإيمان الذي يسعى إليه؟ إنه يبحث عن إيمان حقيقي كامل وصادق منزه عن سلوكات الرهبان وهذا يوجد عند الفقراء، لأنه مكمل لحياتهم وبدونه لا يجدون معنى لوجودهم على الأرض. فالإيمان يحمل الإنسان على محبة الحياة والمحافظة عليها لأنه هو وحده قوة الحياة وجوهرها ، وشقاء تولستوي كان بسبب دراسة أفكار الذين كانوا في أتعس حالة يجهلون الإجابة عن جدوى عيشهم، وطبيعي جدا أن لا يتوصل إلى نتيجة أخرى غير التي استخلصها.أضف إلى أنه لم يدرس نفسه التي كانت بحاجة إلى مراجعة.
وفي خضم رحلة البحث عن معنى الحياة، اتجه إلى دراسة البوذية والإسلام والمسيحية، وسأل علماء المؤمنين ورجال الدين، و لكن لا أحد منهم استطاع أن يفسر له ما يبحث عنه، فهم أيضا يخافون الموت والمرض و الفقر والشيخوخة، عكس البسطاء. وثبت أن إيمانهم شكل من الأشكال التي يلجؤون إليها لتبرير ذواتهم ورغباتهم تجاه الحياة. كما توصل إلى إيجاد أجوبة لكل أسئلته المؤرقة من قبيل أين الله؟ وكيف يجب أن أعيش؟ وهل في الحياة معنى لا يستطيع الموت أن يذهب به؟ أدرك واقتنع أنه كلما آمن بالله شعر بالحياة، وكل ما أعرض عن هذا الإيمان شعر بالموت "عش لتسعى إلى الله، لان الحياة لا تكون بدون الله، بمثل هذا آمنت أخيرا من أعماق قلبي، فشعرت بقوة الحياة الحقيقية، ولم يفارقني هذا النور الذي أشرق على حياتي حتى اليوم[16]"، عادت له السعادة التي تمتع بها في فجر شبابه حينما قبل معاني الحياة بدون أن يفهمها، ولكن الآن يقبل بها عن معرفة وإدراك صحيح وعقيدة ثابتة.
كانت محصلة تولستوي من الرحلة التي قام بها إلى عالم الآخرين، البسطاء و العاملين سفر مثمر صحح مفاهيمه المغلوطة حول سعادة الحياة ...وقدم لنا خلاصة تاريخ حياة عابثة وماجنة في الصبا، ولكنها موعظة لأولي الأبصار." قد قتلت الكثيرين في الحرب، و بارزت الكثيرين لأفقدهم حياتهم، وخسرت أموالا كثيرة بالمقامرة، وأنفقت الأموال الكثيرة التي وصلت إلى بأعراق الفلاحين، وكنت قاسيا عاتيا في معاملة خدامي، و لم اترك سبيلا من سبل الفسق و الدعارة مع العواهر إلا سلكته، ولم تفتني طريقة من طرق الخداع و المراوغة: كذب وزنا و سرقة و سكر وتمرد وقتل... كل هذا جزء من حياتي في تلك الأيام. فليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم ارتكبها- ولكنني كنت مع كل ذلك مكرما محترما من أبناء عشيرتي كرجل أديب فاضل[17]."
استنتاج البحث:
إنَّ مؤلف "اعتراف" لتولستوي هو درس عظيم للإنسان، هو إعلان لألم" الأنا "المتكبرة العاجزة عن إدراك جوهر الحياة والعيش الهانئ في مقابل "الآخر" الذي يمثله المواطن البسيط والسعيد بحياته الشاقة، هي معادلة غير عادلة من وجهة نظره القاصرة عن الإحساس بسر سعادة هذه الطبقة الكادحة. وهذا ما دفعه إلى التساؤل هل للاعتقاد الديني دور في هذه الطمأنينة؟ وكيف هو هذا الاعتقاد؟ ألم يكن أخاه مؤمنا ومع ذلك عاش حزينا متألما ومات بعد سنة من المعاناة؟ تولستوي هنا يبحث عن نوع خاص من الإيمان.ونحن نقرؤه نشعر معه كما لو أننا نركب أمواج بحر عاصف. بحر لا يستقر ولا يستكين.فمنذ الصفحات الأولى من المؤلف وهو يتخبط بزورقه في يم مترامي الأطراف باحثا عن الحقيقة، معترفا أنه أمضى ثلاثين سنة من عمره دون أن يقدم أي خدمة لغيره ولا حتى لنفسه، عاش مغترا بنفسه بعيدا عن الله، فتعب وضجر وتوصل إلى أن معنى الحياة هو في نهج شريعة الله، وبعد الموت ترحل روح الإنسان إلى عالم الفردوس غير المحدود تاركة الجسد المادي في العالم المحدود.
*لبنى المجيدي
باحثة بكلية علوم التربية العرفان
الرباط- المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- المراجع:
[1] اعتراف تولستوي ص 11
[2] المؤلف ص 13
[3] المؤلف ص 17
[4] المؤلف ص 26
[5] المؤلف ص 18
[6] المؤلف ص 18
[7] المؤلف ص 33
[8] المؤلف ص 27
[9] المؤلف ص 44
[10] المؤلف ص 50
[11] المؤلف ص 52
[12] المؤلف ص 67
[13] المؤلف ص 72
[14] انظر قصة المتسول الفقير ص 94
[15] المؤلف ص 97
[16] المؤلف ص 100-101
[17] المؤلف ص 16
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق