أنا أمل، كنت أعيش في عالم الضّياء، ألّم ستائر الأحلام الدافئة و ألاعب خصلات دميتي الجميلة التي تلونت بأطياف الألق، و أخيط من بهجتها حلما أسكن ترانيمه، و أنام على تحف نغماته الهزجة بماء رياحين الضّياء...
كنت أحلم أن أعبر مسالك شغفي، ألامس مرافئ وطني، أشّم عطر البهاء يتدفق و ينفجر كمقطوعات آسرة لكن مرافىء روحي تلوثت
بقنابيل الحناء التي غمرت حنايا تضاريسنا المهشّمة، و روائح العهر تنبعث كلّ مساء من مدن الصّمت...
كانت صديقتي " ضياء" تداعبني كلّ مساء بصوتها الرّنان، تنسيني تعثراتي الحبلى بخبل الإنهزامات و الانكسارات، تنشدني أجمل القصائد اللذّيذة عن الوطن " موطني! موطني!
الجلال و الجمال و السّناء و البهاء في رباك
و الحياة و النجاة و الهناء و الرّجاء في هواك
هل أراك سالما منعمّا و غانما مكرّما
هل أراك في علاك تبلغ السّماك
موطني! موطني!
كانت هذه القصيدة الوطنيّة تختزل مواطن جرحنا، قهرنا، تذكرت أنّ نبوءة الحلم في بلادي لن تلامس طلوع الفتوحات؛ لأّنّها بيعت قبل أن تبعث يقينياتها، كلّ الأحلام في بلادي عاريّة تتماوج أمام شرفات اليقين ثمّ سرعان ما تغازل عباب المستحيل، نحن هنا كفراشات حالمة نخيط من جراح أوردتنا ضوء يرحل بنا إلى مرافئ السّحر، لكن سرعان ما تبتر خيوط حلمنا بجراحات العذابات و الحسرات.
في هذه الأوطان المبتورة بصدأ الهشاشات ضاعت تعاويذ ألقنا بين تراتيب الصّمت و أخاديد الرّحيل لم يبق إلّا الوحل ينسج حاضرنا قتامة و جرحا مهرّبا.
كنّا نعيش في بلداننا العربيّة نفترش مرايا الأرض و ننام على أوتار العشب و حفيف الزّهر المغرّد يغازل عباب عبرات عيوننا التي تستسلم لعطره المترنّم فنكتسي اشراقة سندس متوقد، و الشّمس الحبلى بروائح الاصفرار تشرق بهجتنا، و أغنيات الأصيل تتدفق إلى حنجراتنا فنلتهب أكثر و أكثر و ننحت ضوء شفيفا يأخذنا إلى جنّات الهناءات و الضحكات...
فجأة تقترب غواية الدموع من جفونها فتشتعل أكثر و تتناسل حتى تغمر المكان رذاذا بريئا، تمسح دموعها البهيّة في ألق ثمّ تواصل حديثها: كانت السّعادة نشيد روحي أتوسدّ فرحا و أنا أغتسل بتراب أرضي بين أهلي و أصدقائي، و كانت نسائم الوقت تلاطفنا بين الفينة و الأخرى، نحضن أوراق الشّجر لنخطّ عليها ترانيم صداقتنا.
تسكت لوهلة، و يعمّ الصّمت مدينة أحلام أمل الدافئة، ثمّ تعقب قائلة و هي تسرد لنا تفاصيل ذاكرتها الليّلية: كنت مفتونة بعوالم ألف ليلة و ليلة، ألّم كلّ ليلة حكايات شهرزاد و شهريار و أستلهم من قصّة عشقهما عطر الصبابة و فاكهة الرّغبات و بخور الأمنيات لأصيغ بها وطني الأكبر...
تتساقط الدّموع من جديد كشلّال و تشتعل أكثر مواجع " أمل" لتتصاعد تنهداتها الصّارخة و هي تروي مواطن وجعها، و تشرّح دفاتر خيباتها، قتل وطني أمام عيني يوم ترامى وهم الحكايات جانبا و حلّ ربيع الاحتراق ينزف قهرا في تضاريسنا، و يبثّ صيحات الهواجس التي كانت تستعمرنا منذ وقت تجلّي نهارات الانهزامات.
أضحت حياتنا مثل العبث، نحتلب فيوضات أحزاننا، و قنابيل الألم تغزو سماواتنا، اليتم أضحى شريعة جديدة للأطفال، يوشم على صدورهم، بهجة الحياة غادرتنا، و الأحلام ارتدت رداء الرّحيل، حلمنا العربيّ تناثر كالسّهاد في ليالينا المحترقة. صار القلم أنيس جرحي صرت أكثر توحدّا معه، و صراخ بياض الورق يرهقني بالعثرات، و عبث الكلمات يلتصق في شبق جريح بأنين الحرف المنتشي بجراحات أرخبيل مدامعنا.
عبثا
كنّا هناك
على حافة ذكرياتنا
نتأمّل سنين العمر
و هي تختلس من أمامنا
و تهوى من جسر أمانينا
عبثا
تتملكني رعشة الانهيار و أنا أرى جثث أهالينا و هي تتبعثر أمام مقصلة الحياة، تقطف بهجة حياتهم و العرب يمرّون بين مسافات الأنين يتفرجون على مسلسل الوجع الذّي امتدت حلقاته ترتشف أحداثها من مشاهد الحلم المصلوب على حبل الوريد.
أخذت منّي الحرب أغلى من روحي أحبّتي، أهلي، جوهرة روحي صديقتي "ضياء"...
أخذت منّي مواطن الاحتراق شغفي، حلمي، عذوبة أنوثتي، أغاني سحر وطني، نثرت في دروب ذاكرتي مراعي من تعب الرّوح، و توهجّ شعلة الانكسارات.
نظرت إلى دميتها القزحيّة و حضنتها بدفء متوقد، و أغدقت عليها قبلا زهريّة، و حملت كفن الشّوق و راحت تجوب مواطن الاحتراق التي استسلمت لإغراءات مفاتن الرّحيل. مردّدة آخر ما نثرت على كفّ الجرح.
على شرفات الغروب
المخضّب بالأنين
امتطى البوح
غفوة الرّحيل
و حطّ الغراب الحزين
على مواسم الفتوحات
نواح تهجّد اللّيل
و هشاشات شغف يسيل
على وريد حلم مبتلّ
فاجعة أخاديد الشّوق
الذّي تراخى للأفول
و عثرات فراشات
في رذاذ الزّهر تنسلّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق