وسط الرجال رأيتك ، بقامتك الفارعة ، لم يتغيّر فيك شيءٌ ، الشّفق الأحمر على خدّيك يتضاحك ، وعيناك السوداوان ، هما ذاتهما ، أعرف بريقهما ، رغم احتجابهما خلف نظّارةٍ سميكةٍ ، وصوتك يا إلهي..؟؟!! هو ذاته ، مازالت رائحة الطفولة تسكنه ، رغم بحّة الرجولة التي تعطّره.
كنت مرتبكةً ، عكسك تماماً ، رحتَ تحدجني بعينيك بثباتٍ.
تعمّدتَ أن تطيل النظر إليّ ، لم تعبأ بنظرات من حولك ، وتأويلاتها ..
كاشفتْنا موكب الأضواء يا بن عمّي ، تلاصقتْ خطواتك قربي ، عقدتْ الدهشة ألسنتنا ، لففت عباءتي أتوارى بها ، ورحت أشدّ طرحتي ، أخبئ بها شعري المصبوغ بلون خيوط الشمس ،المسافر مع الفرح الغامر .
حمدتُ الله أنّ إتقان الألوان على وجهي ، قد خبّأ وجعي خلفها.
الموكب يستعدّ للانطلاق ، وقلبي توقّف عند محطّتي الأولى معك .
تهاطلتْ أمطار عمري ، وأثلجتْ ، ولم أنسَ قطرات المطر التي اختبأت منها خلفك ، تدثّرني بسترتك الدافئة التي حملتْ رائحة يفاعتك ، تطعمني ما حشرته على عجلٍ، من قطع حلوى في أجيابها .
والقمر يرمقنا ضاحكاً ، ويختبئ خلف الغيوم ، ليُغفِل عينه الأخرى عنّا .
أتذكر ذلك اليوم يا بن عمّي ؟؟!!عندما وصلنا الدار ، فرأينا ستائر الفرح قد تمزّقتْ ، فنشجتْ ألوانها؟؟!!
وعلى الأعتاب كانتْ جدّتنا تذرف الدمع ، لألمٍ يصدّع ثدييها اللذين أرضعتْ بهما أولادها المتفرّقين، المتنازعين على تركة أبيهم.
لم نفهم حينها ما الذي يجري ؟ لم نفقه سبباً لطلقات رصاص الحدود ، بين الأرض الواحدة للأشقّاء، كنّا خارج صحراء الداحس والغبراء.
وقتلونا يا بن عمّي، ونثروا على شواهدنا عتمات قلوبهم ، وزرعوا الأسلاك الشّائكة في الشريان الواحد فنزف الموت من جدرانه، وتقطّع الجذر ، وتهتّكتْ الأغصان ، وفروعها.
قلوبنا البكر ...كم حاولتْ أن تتشبّث بلون العشب السندسيّ، وقاومت احتراق أزهارها ؟؟!!
لم تستطع رياحيننا الغضّة، أن تقف في وجه رماحهم المصوّبة نحو نحورهم ، تناوشها ، وكنا بعضهم.
لم أعرف ما فعلت بنا الأيام ، إلا عندما استفقتُ على يد أمّي ، تجرّني من شعري ، تسحبني عن النافذة التي وقف تحتها حصانك الأبيض ، وأنت تُزفّ إلى غيري .
طوفان من الدمع بيني وبينك ، لم أزلْ أحسّ بملوحته، حتى هذه اللحظة.
كأنّك تقول لي : لا تكترثي لما ترينه من صخبٍ ، سأعانقها برائحتك أنت .
ومن يومها ....غاب القمر عن حياتي ، يا بن عمّي ، لم يزرني ،وأنا أقطع المراحل التعليميّة ، الواحدة تلو الأخرى ، بنجاحٍ أبلهَ.
حتى وأنا أغيّر فساتين عرسي المبهرة ،الباذخة، وسط ذهول وثرثرة النساء ، كان صليل الأساور المحتشدة في زنديّ ، هو ظاهر لوحتي ، وأنت في عاشر أبعادها .
لم يزرني ، وأنا أنسج الدهشة الكاذبة في عمري ، كما أتقن نسج الصوف الذي أحيك معه ،نبضي الخامد ، وحكايا قلبي.
أتمدّد كبياض الثلج ، وصقيعه ، أمام مخلوقٍ غريبٍ ، غمس أصابعه في جسدي الرابض باستكانةٍ ، يواري نزفه.
أنثر فرحي المفقود مروجاً من الأزهار، على وريقاتي التي نبتت في رحم خلاياي ، مخالطةً دمي.
وأعلّم عصافير الرياض ، كيف يبسم النشيد ، ويحوّل الدمعة إلى إدمان حلمٍ لا يموت !!!
أعلّمهم كيف نحبّ أوطاننا ، ونمسح عنها نزفاً صنعناه بأيدينا.
فهكذا العشق في مشرقنا ، إنه الندم الخانق على عشقٍ بعناه ،اغتلناه ، ثم بكيناه على حائطٍ ، نبحث عنه فلا نجده.
وعلى جدران داري ، أعلّق كلّ يومٍ مرثاة أنثرها بين الزوايا ، حتى صارتْ غابات أحزانٍ، أنبتت فوقها طيور البكاء ، وأعشاشها.
سافرتَ بعيداً يا بن عمّي ..أبعد ممّا تصوّرت يوماً ، ولكنك غرست عطر دمك في قلبي ، زرعت السواقي ، والمطر ، ورائحة سترتك مازالتْ تسكن أنفي ، وطعم حلواك ، هو الأشهى في فمي.
وأقمتُ أنا على الضفّة الأخرى من النهر الذي كان يسقينا معاً .
وماتت الجدّة، وهي تحتبس في قبرها عبرات أقوى من البوح، وتساقطتْ أوراق الشجرة الكبيرة تباعاً ، وتناثرتْ أرزاق الإرث ، تبعثرتْ : مشاريعَ بناء ، وحدائق ماسٍ، وقصوراً ، وأرصدة ،
وسجوناً حبستْ فيها طفولتنا في أقفاصها ...
وبقيتُ ...أنا ...وأنت ..لحناً اكتمل وضاع صداه، عشقاً..لا يباعُ ، ولايُشرى ، وغير قابلٍ للمساومة، أو المقايضة ، وبقيتُ من بعدك أنثى بربريّة العشق ، مبتورة العمر .
أعرف أنك لم تنسني ، أقرأ هذه العبارة الآن في عينيك ، سمعتُ همسك :
ــــ لقد خبّأتكِ في طيّات الرّوح ، كأميرة الحكايا ، أحوم حول قصرك ، أحرسك بقلقي عليك ،أعاقر حبي الطاهر لك ، أشرب نخب الفراق بكأسٍ تزدحم فيه أطيافك ، أعطافك ، جدائلك، ألامس فيه مرمريّة أصابعك ، التي تهرب مني دائماً في وجلٍ.
طال الكلام بيننا ، وراشقتنا الذكريات برذاذ نجواها ، وهاجتْ قلوبنا ، وتمرّدتْ على أقفاصها ، وكادتْ تفضحنا حكايانا النائمة بهجوعها القسريّ.
تعطّل الموكب، الأبواق تعلو.
أردتُ أن تودّعني ، دون أن ترى ذبولي ، أن تستبقيني طفلةً في صدرك، لامستُ غرّة شعري بأطراف أصابعي ، أمسّدها ، كما كنتُ أفعل أمامك في صغري ،عندما يربكني وداعك خلف الباب،
احتبستُ عضلات جسمي المكتنز عند البطن، ومشيتُ بخفّةٍ كغزالةٍ رشيقةٍ ، أخبّئ وهني ، وأبسم في وجهك بخفرٍ ، أخبّئ شفتيّ الذابلتين ، الباهتتين ، خلف الطلاء.
الأبواق تعلو ، والطبول تواصل قرعها ، مختلطة مع الأهازيج ، والدبكات ، ولعلعة الرصاص..
الموكب يحمحم ...
أحد الشّبّان يناديني : العريس يا خالة يبحث عن أمه ، يستعجلك ،يسأل عنك .
وأخذت موقعي قربه ، أشبكتُ أصابعي بأصابعه، ألتمس قمراً جديداً في عمري ، أحاول بوجع مزمنٍ ، مستفيضٍ ،يشوبه الفرح المنشود ، أن أستعيض به، عن قمري الذي غاب معك............. يا بن عمّي ...
كنت مرتبكةً ، عكسك تماماً ، رحتَ تحدجني بعينيك بثباتٍ.
تعمّدتَ أن تطيل النظر إليّ ، لم تعبأ بنظرات من حولك ، وتأويلاتها ..
كاشفتْنا موكب الأضواء يا بن عمّي ، تلاصقتْ خطواتك قربي ، عقدتْ الدهشة ألسنتنا ، لففت عباءتي أتوارى بها ، ورحت أشدّ طرحتي ، أخبئ بها شعري المصبوغ بلون خيوط الشمس ،المسافر مع الفرح الغامر .
حمدتُ الله أنّ إتقان الألوان على وجهي ، قد خبّأ وجعي خلفها.
الموكب يستعدّ للانطلاق ، وقلبي توقّف عند محطّتي الأولى معك .
تهاطلتْ أمطار عمري ، وأثلجتْ ، ولم أنسَ قطرات المطر التي اختبأت منها خلفك ، تدثّرني بسترتك الدافئة التي حملتْ رائحة يفاعتك ، تطعمني ما حشرته على عجلٍ، من قطع حلوى في أجيابها .
والقمر يرمقنا ضاحكاً ، ويختبئ خلف الغيوم ، ليُغفِل عينه الأخرى عنّا .
أتذكر ذلك اليوم يا بن عمّي ؟؟!!عندما وصلنا الدار ، فرأينا ستائر الفرح قد تمزّقتْ ، فنشجتْ ألوانها؟؟!!
وعلى الأعتاب كانتْ جدّتنا تذرف الدمع ، لألمٍ يصدّع ثدييها اللذين أرضعتْ بهما أولادها المتفرّقين، المتنازعين على تركة أبيهم.
لم نفهم حينها ما الذي يجري ؟ لم نفقه سبباً لطلقات رصاص الحدود ، بين الأرض الواحدة للأشقّاء، كنّا خارج صحراء الداحس والغبراء.
وقتلونا يا بن عمّي، ونثروا على شواهدنا عتمات قلوبهم ، وزرعوا الأسلاك الشّائكة في الشريان الواحد فنزف الموت من جدرانه، وتقطّع الجذر ، وتهتّكتْ الأغصان ، وفروعها.
قلوبنا البكر ...كم حاولتْ أن تتشبّث بلون العشب السندسيّ، وقاومت احتراق أزهارها ؟؟!!
لم تستطع رياحيننا الغضّة، أن تقف في وجه رماحهم المصوّبة نحو نحورهم ، تناوشها ، وكنا بعضهم.
لم أعرف ما فعلت بنا الأيام ، إلا عندما استفقتُ على يد أمّي ، تجرّني من شعري ، تسحبني عن النافذة التي وقف تحتها حصانك الأبيض ، وأنت تُزفّ إلى غيري .
طوفان من الدمع بيني وبينك ، لم أزلْ أحسّ بملوحته، حتى هذه اللحظة.
كأنّك تقول لي : لا تكترثي لما ترينه من صخبٍ ، سأعانقها برائحتك أنت .
ومن يومها ....غاب القمر عن حياتي ، يا بن عمّي ، لم يزرني ،وأنا أقطع المراحل التعليميّة ، الواحدة تلو الأخرى ، بنجاحٍ أبلهَ.
حتى وأنا أغيّر فساتين عرسي المبهرة ،الباذخة، وسط ذهول وثرثرة النساء ، كان صليل الأساور المحتشدة في زنديّ ، هو ظاهر لوحتي ، وأنت في عاشر أبعادها .
لم يزرني ، وأنا أنسج الدهشة الكاذبة في عمري ، كما أتقن نسج الصوف الذي أحيك معه ،نبضي الخامد ، وحكايا قلبي.
أتمدّد كبياض الثلج ، وصقيعه ، أمام مخلوقٍ غريبٍ ، غمس أصابعه في جسدي الرابض باستكانةٍ ، يواري نزفه.
أنثر فرحي المفقود مروجاً من الأزهار، على وريقاتي التي نبتت في رحم خلاياي ، مخالطةً دمي.
وأعلّم عصافير الرياض ، كيف يبسم النشيد ، ويحوّل الدمعة إلى إدمان حلمٍ لا يموت !!!
أعلّمهم كيف نحبّ أوطاننا ، ونمسح عنها نزفاً صنعناه بأيدينا.
فهكذا العشق في مشرقنا ، إنه الندم الخانق على عشقٍ بعناه ،اغتلناه ، ثم بكيناه على حائطٍ ، نبحث عنه فلا نجده.
وعلى جدران داري ، أعلّق كلّ يومٍ مرثاة أنثرها بين الزوايا ، حتى صارتْ غابات أحزانٍ، أنبتت فوقها طيور البكاء ، وأعشاشها.
سافرتَ بعيداً يا بن عمّي ..أبعد ممّا تصوّرت يوماً ، ولكنك غرست عطر دمك في قلبي ، زرعت السواقي ، والمطر ، ورائحة سترتك مازالتْ تسكن أنفي ، وطعم حلواك ، هو الأشهى في فمي.
وأقمتُ أنا على الضفّة الأخرى من النهر الذي كان يسقينا معاً .
وماتت الجدّة، وهي تحتبس في قبرها عبرات أقوى من البوح، وتساقطتْ أوراق الشجرة الكبيرة تباعاً ، وتناثرتْ أرزاق الإرث ، تبعثرتْ : مشاريعَ بناء ، وحدائق ماسٍ، وقصوراً ، وأرصدة ،
وسجوناً حبستْ فيها طفولتنا في أقفاصها ...
وبقيتُ ...أنا ...وأنت ..لحناً اكتمل وضاع صداه، عشقاً..لا يباعُ ، ولايُشرى ، وغير قابلٍ للمساومة، أو المقايضة ، وبقيتُ من بعدك أنثى بربريّة العشق ، مبتورة العمر .
أعرف أنك لم تنسني ، أقرأ هذه العبارة الآن في عينيك ، سمعتُ همسك :
ــــ لقد خبّأتكِ في طيّات الرّوح ، كأميرة الحكايا ، أحوم حول قصرك ، أحرسك بقلقي عليك ،أعاقر حبي الطاهر لك ، أشرب نخب الفراق بكأسٍ تزدحم فيه أطيافك ، أعطافك ، جدائلك، ألامس فيه مرمريّة أصابعك ، التي تهرب مني دائماً في وجلٍ.
طال الكلام بيننا ، وراشقتنا الذكريات برذاذ نجواها ، وهاجتْ قلوبنا ، وتمرّدتْ على أقفاصها ، وكادتْ تفضحنا حكايانا النائمة بهجوعها القسريّ.
تعطّل الموكب، الأبواق تعلو.
أردتُ أن تودّعني ، دون أن ترى ذبولي ، أن تستبقيني طفلةً في صدرك، لامستُ غرّة شعري بأطراف أصابعي ، أمسّدها ، كما كنتُ أفعل أمامك في صغري ،عندما يربكني وداعك خلف الباب،
احتبستُ عضلات جسمي المكتنز عند البطن، ومشيتُ بخفّةٍ كغزالةٍ رشيقةٍ ، أخبّئ وهني ، وأبسم في وجهك بخفرٍ ، أخبّئ شفتيّ الذابلتين ، الباهتتين ، خلف الطلاء.
الأبواق تعلو ، والطبول تواصل قرعها ، مختلطة مع الأهازيج ، والدبكات ، ولعلعة الرصاص..
الموكب يحمحم ...
أحد الشّبّان يناديني : العريس يا خالة يبحث عن أمه ، يستعجلك ،يسأل عنك .
وأخذت موقعي قربه ، أشبكتُ أصابعي بأصابعه، ألتمس قمراً جديداً في عمري ، أحاول بوجع مزمنٍ ، مستفيضٍ ،يشوبه الفرح المنشود ، أن أستعيض به، عن قمري الذي غاب معك............. يا بن عمّي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق