ما إن وقف وجهاً لوجه أمام حبيبته بعد انتظار طال سنوات، حتى تذكر الأشهر الأولى لالتحاقه بالجامعة، حين لمحها ذاهبة إلى المدرسة الثانوية برفقة زميلاتها.
وتذكر أيضاً كيف رفرفت روحه وتمايلت عواطفه وارتجفت أوصاله طرباً لرؤيتها، تاركاً العنان لنظره ليسرح حولها منذ أن ظهرت إلى حين غياب طلتها عن أنظاره.
فمنذ ذاك الزمان القريب البعيد، بدأ يراقبها ويتابع أخبارها مع حرصه الشديد على رؤيتها كل يوم، حتى في أيام العطل الرسمية والأعياد، حيث كان يمشي بخطا سريعة أمام دارها حالماً أن يلمحها أو يستنشق عبيرها الهارب من درفتي نافذة غرفتها.
في هذه الليلة التي انتظرها طويلاً وغرق في بحورها مرات ومرات، راح ينظر إلى حبيبته وهي جالسة على طرف السرير بثوب العرس الأبيض، وطهارة الكون وجماله مرسومان على جبينها وتاج العذارى يكللها بهالة قدسية.
في تلك اللحظة انبعثت قوة خفية من داخله وانطلق إلهام صادق يعزف على أوتار روحه، وبدأت صفحات الحياة تتسابق إلى ذاكرته، فهبّ مسرعاً إلى حبيبته ليقبّل جبينها ويديها، وليتجه نحو المكتبة خاطفاً من على رفوفها رزمة من الورق الأبيض، وبأنامله الرقيقة تناول قلمه الوحيد الذي كان قد أضاعه في جوف الصمت المتجذّر في صدره.
في تلك الليلة الغنية بخيراتها، ليلة من ليالي كانون والسماء تمطر بغزارة، ولهب نار المدفأة يبعث الدفء في أركان منزله الريفي، ونور اللهب يتحرك في ظلمة الليل بحرية لايعيقه شيء ولايطفئه زفير، جلس خلف مكتبه ليخط على الورق الأبيض أول فصول كتابه البكر، وكأنه يفي بوعد كان قد قطعه معه منذ زمن طويل، بان ذلك جلياً واضحاً منذ أن رسم بالخط العريض عنوان الكتاب الذي لم يفارق ذاكرته يوماً (بداية طريق النصر – نقطة البداية للنصر القادم).
مضت ساعات طوال وهو جالس في مكانه يكتب بشغف غير مدرك غياب نار المدفأة، ولا صوت المطر الذي غرق في جوف الأرض، ولا آخر جند الليل الذي فرّ هارباً لحظة إطلالة أميرة الصباح على مسرح الكون.
فجأة أحس بثقل خفي يكبل أنامله، وبشياطين البرد تتغلغل في مفاصله وببطء حركة الدم في عروقه وبرجفة قوية تلهو بقدميه.
حينها لملم قواه وهبّ واقفاً ليفتح باب الغرفة المطل على شرفة الدار؛ ليتحسس نسمات الهواء المنعشة الباردة وهي تتسابق على خدود الفجر القادم من جوف الكون، وليرمق حبيبته النائمة فوق الفراش بكامل أناقتها وزينتها، ملتحفة بثوب عذريتها، وأشعة شمس الصباح الوديعة تنساب بلطف عبر النوافذ؛ لتنام على وجه حبيبته فتفيضه نوراً على نور.
حينها هفت روحه إليها، فهمّ يقبّل خديها وجبينها وأناملها وأصابع قدميها، وراح يدمدم بصوت خافت: آه ما أجملك .. آه ما أطهرك .. أنت الملاك القادم لخلاصي من خطيئتي.
ثم تناول شرشفاً مطرزاً صنعته والدته خصيصاً ليوم زفافه، فستر به جسد حبيبته الناعم، وصمته يكلمها : نوماً هنيئاً يا حبيبتي .. سامحيني على فراقك مجدداً .
وهوى بجسده الثقيل على تراب الجنوب يتحسس دمه الدافئ سائراً ببطء وثقة، متغلغلاً بين شقوق الأرض العطشى ليُدفن بين ثنايا ثوبها.
وبتثاقل حرر أصابع يده وغمسها بالدم السائل بقربه وخط على جبين الأرض علامة النصر، ورسم هلالاً ساطعاً يحضن بين جناحيه صليب الخلاص، وشدّ حبيبته إلى صدره، ورفع رأسه مودعاً عروسة الجنوب، مارون الرأس، بآخر رزمة من طيف ناظريه، ونام بعدها غارقاً في أحلامه بين أحضان النصر، وروحه مرفرفة في سماء الجنوب على أجنحة من زغاريد النسوة وبسمات الفرح في يوم زفافه، مسطراً على جبهة الكون ليلة الزفاف "بداية طريق النصر".
جوزيف شماس
وتذكر أيضاً كيف رفرفت روحه وتمايلت عواطفه وارتجفت أوصاله طرباً لرؤيتها، تاركاً العنان لنظره ليسرح حولها منذ أن ظهرت إلى حين غياب طلتها عن أنظاره.
فمنذ ذاك الزمان القريب البعيد، بدأ يراقبها ويتابع أخبارها مع حرصه الشديد على رؤيتها كل يوم، حتى في أيام العطل الرسمية والأعياد، حيث كان يمشي بخطا سريعة أمام دارها حالماً أن يلمحها أو يستنشق عبيرها الهارب من درفتي نافذة غرفتها.
في هذه الليلة التي انتظرها طويلاً وغرق في بحورها مرات ومرات، راح ينظر إلى حبيبته وهي جالسة على طرف السرير بثوب العرس الأبيض، وطهارة الكون وجماله مرسومان على جبينها وتاج العذارى يكللها بهالة قدسية.
في تلك اللحظة انبعثت قوة خفية من داخله وانطلق إلهام صادق يعزف على أوتار روحه، وبدأت صفحات الحياة تتسابق إلى ذاكرته، فهبّ مسرعاً إلى حبيبته ليقبّل جبينها ويديها، وليتجه نحو المكتبة خاطفاً من على رفوفها رزمة من الورق الأبيض، وبأنامله الرقيقة تناول قلمه الوحيد الذي كان قد أضاعه في جوف الصمت المتجذّر في صدره.
في تلك الليلة الغنية بخيراتها، ليلة من ليالي كانون والسماء تمطر بغزارة، ولهب نار المدفأة يبعث الدفء في أركان منزله الريفي، ونور اللهب يتحرك في ظلمة الليل بحرية لايعيقه شيء ولايطفئه زفير، جلس خلف مكتبه ليخط على الورق الأبيض أول فصول كتابه البكر، وكأنه يفي بوعد كان قد قطعه معه منذ زمن طويل، بان ذلك جلياً واضحاً منذ أن رسم بالخط العريض عنوان الكتاب الذي لم يفارق ذاكرته يوماً (بداية طريق النصر – نقطة البداية للنصر القادم).
مضت ساعات طوال وهو جالس في مكانه يكتب بشغف غير مدرك غياب نار المدفأة، ولا صوت المطر الذي غرق في جوف الأرض، ولا آخر جند الليل الذي فرّ هارباً لحظة إطلالة أميرة الصباح على مسرح الكون.
فجأة أحس بثقل خفي يكبل أنامله، وبشياطين البرد تتغلغل في مفاصله وببطء حركة الدم في عروقه وبرجفة قوية تلهو بقدميه.
حينها لملم قواه وهبّ واقفاً ليفتح باب الغرفة المطل على شرفة الدار؛ ليتحسس نسمات الهواء المنعشة الباردة وهي تتسابق على خدود الفجر القادم من جوف الكون، وليرمق حبيبته النائمة فوق الفراش بكامل أناقتها وزينتها، ملتحفة بثوب عذريتها، وأشعة شمس الصباح الوديعة تنساب بلطف عبر النوافذ؛ لتنام على وجه حبيبته فتفيضه نوراً على نور.
حينها هفت روحه إليها، فهمّ يقبّل خديها وجبينها وأناملها وأصابع قدميها، وراح يدمدم بصوت خافت: آه ما أجملك .. آه ما أطهرك .. أنت الملاك القادم لخلاصي من خطيئتي.
ثم تناول شرشفاً مطرزاً صنعته والدته خصيصاً ليوم زفافه، فستر به جسد حبيبته الناعم، وصمته يكلمها : نوماً هنيئاً يا حبيبتي .. سامحيني على فراقك مجدداً .
وهوى بجسده الثقيل على تراب الجنوب يتحسس دمه الدافئ سائراً ببطء وثقة، متغلغلاً بين شقوق الأرض العطشى ليُدفن بين ثنايا ثوبها.
وبتثاقل حرر أصابع يده وغمسها بالدم السائل بقربه وخط على جبين الأرض علامة النصر، ورسم هلالاً ساطعاً يحضن بين جناحيه صليب الخلاص، وشدّ حبيبته إلى صدره، ورفع رأسه مودعاً عروسة الجنوب، مارون الرأس، بآخر رزمة من طيف ناظريه، ونام بعدها غارقاً في أحلامه بين أحضان النصر، وروحه مرفرفة في سماء الجنوب على أجنحة من زغاريد النسوة وبسمات الفرح في يوم زفافه، مسطراً على جبهة الكون ليلة الزفاف "بداية طريق النصر".
جوزيف شماس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق