المغارة (1) :
الحُلُـــم
فتحَ عَينَيه ليَجد نفسَه في مَغارةٍ قذِرة ، جُدرانها تنضحُ بالرطوبة و العُفونة ، مياهها آسِنة و هواؤها مُشبَعٌ برائحة الكبريت و جيَف الحشَرات و القوارض الميّتة .
يساكنُهُ المغارةَ قوارضُ مُفترِسة لا يكادُ ينقطع عن سمعِه حسيسُها ، و خفافيشُ مزعجة لا تفتأُ تصطدِمُ به جيئةً و ذهاباً . و يشاركهم السُّكنى ديدان لا يكاد يحصيها ، لكنّه يُحسُّ بها و هي تمشي على جسده و هو نائم آمنةً مطمئنّة كأنها في رحلة استكشاف ، حتى أنّه لم يعُد يبالي بها و لا يكلف نفسَه عَناء ابعادها فقد اعتاد دغدغتَها و حركتها المتثاقلة بأجسادها الرطِبة على جلده المكتظ بالأدران ، و هو الذي لم يعرف الاستحمام يوماً إلا حين يلقي بجسَده في ماء المستنقع الآسن الذي يزيده اتساخاً.
كما كان للعَلَق و البعوض نصيب من دمه ، جعَله فعليّاً يكاد يكون بلا دم.
بدَورها هذه القوارض و الديدان لم تسلَم منه فقد كانت مصدَر قوتِه الرئيس بغياب أي مصدر آخر للغذاء إلا ما ندَر من طحالب و بقايا نباتات يجدها بين الفينة و الأخرى.
اعتاد أن لا يميّز ليلاً عن نهار في هذه المغارة المُظلمة ، لكنّه أحسّ في ذلك اليوم كأنّ سكّيناً غُرِسَت في عَينَيه (مع أنّه لم يعرف السكّين يوماً) ، عَيناه اللتَان كادَتا تفقدان نورَهما لطولِ مكثِهما في الظَلام.
لمّا استفاق من الصدمة الأولى و حاول أن يفتح عَينَيه مجدَّداً كان الألَم موجوداً لكنّه أخفٌ و بدأ يميِّز ما يرى : فقد انفتَحَ ثُقبٌ صغير في سقف المغارةِ المُظلِمة و راح يسلّل منه ضوءُ النهار .
كان شُعاع الضوء المنبَثِق يبدو ساحِراً حرَّكَ في نفسِهِ شغَفاً ليعرِف مصدَر الضوء ، و راحَت مخيَّلَته تنسُجُ له صوَراً مفترَضة عن عالَمٍ سحريّ يضجّ بالضوء و الحياة ، بدأَت الصوَر تتحوّل إلى رؤى و الرؤى تكبُر و ترسُمُ تفاصيلَ أكثر
لم يعُد الأمرُ فضولاً و تخيُّلاً ، فقد بدأ يتحوَّل يوماً بعد يوم إلى حُلمٍ جميل يكبر و يكبر ليصبح في النهاية هدَفاً يستحقُّ السعيَ وراءه.
المغارة (2) :
الخَـــلاص
قرَّر أن يتبَعَ حُلُمَه ، راح يفكّر كيف يمكنه أن يصلَ إلى عالَم الضوء ذاك ...
جمَع الأحجارَ و راكَمَها فوق بعضها البعض ، فلما كثُرَت و صَعُب عليه السيطرةُ علَيها أخذَ يجلب الطين من ضفاف المستنقع و ويخلِّله بين الأحجار لتتماسك. راحَت تلّة الأحجار تكبر و تعلو يوماً بعد يوم حتى صار بإمكانه الوصول إلى الفتحة التي يتسلّلُ منها الضَّوء . راح يبحث بين الأحجار التي تملأ المغارة عن حجَرٍ مدبَّب يصلُح أن يكونَ اسفيناً يدقّه في الفتحةِ ليوسعها ، حين وجدَ ضالَّته و وجدَ حجراً آخَر كبيراً يستطيع أن يدُقّ به الاسفين بدأ عملَه و ابتدأَت مرحلة جديدة نحو الحُلُم ..
كانَ عليه الآن أن يوسِّعَ الفتحة الصغيرة ليستطيع العبور منها إلى الجانب الآخَر .. إلى المستقبَل الذي ينتظره .
أزعجَت أصوات طرَقاته المُتتابعة سُكّانَ المغارة فَهاجوا و ماجوا ، راحَت القوارض تجري بلا هُدى ، و ذرَعَت الخفافيش سماء المغارةِ بأعدادٍ لا متناهية ضاربَةً جسَدَه النحيل في كلّ مرّة ضرَباتٍ و ضرَبات حتّى امتلأ بالجروح و القروح و سالت منه الدماء، لكن هذا كلّه لم يكن يعنيه فقد كان همّه و جهده منصبَّاً على فتحة الأمَل التي يراها في سقف المَغارة.
أخَذت الفتحة تكبر ، و يكبر معها الحلُم. ، و المغارة المظلمة راحت تضيء يوماً إثر يوم.
كان الضوءُ مؤلِماً له بمعنى الكلمة ، فعَيناه الصغيرتان كنقطَتين في وجهه لم تعتادا هذا الكمّ من الضياء و لا هذا الوضوح في الرؤية، لقد أتعبتهما حدّةُ الضوء و تفاصيل الأشياء التي أصبح عليهما مراقبتها بدقّة بعد أن كانت وظيفتهما اعطاء صاحبهما صورةً عامّة و ترك التفاصيل لبقيّة الحواس و الأعضاء .
لا أحَدَ يعلم مَن كان صدمته أكبر : هوَ أَم عيناه اللتان وجدتا أمامهما مَهامّ كثيرة ليُنجزاها ، تفاصيل بلا نهاية ، ألوان لم تعرفاها من قبل ، أطياف من الضوء بدرَجات تفاوُت لم تألفاها ... كان الأمر مُتعِباً لهُما لدرَجةٍ لا تُطاق ، تمنَّيَتا لو كان بإمكانهما الصُّراخ من الألَم و التعَب ، لكن كل ما كان بإمكانِهما عملُه أن تُغمضا الأجفان لأقصى حدّ لتصُدّا أكبر قدر من هجوم الضياء.
أخيراً ، كبُرَت الفتحة حتى صار يستطيع العبور منها ، و الحلم أصبحَ حقيقة ، لكن احساساً عجيباً بالتردُّد كان يمنعه من التسلّق و عبور الفتحة نحو العالَم الجديد ، لعلّه التوجُّس من المقبِل ، أو الخشية من فُقدان العالَم الحالي . لكنّه أخيراً حَسَمَ أمره و قرَّر العبور .
المغارة (3) :
لم يعُــد حلُما
يا له من عالمٍ ساحر ! سماءٌ زرقاء ، هواءٌ عليل يداعب جسَده بلطفٍ و نعومة ، أشجارٌ ضخمة تفوق هامتَه أضعافاً مضاعفة ، جِبالٌ شامخة بها حجارة بعضها أكبر حجماً من مغارته ، أمّا ذلك الجُرم العملاق الذي يتوسّط كبد السماء و الذي يشعّ ضوءاً و نوراً يملأ هذا الفضاء الواسع و الذي لم يعرف كنهه فهو أعجَب ما رآى، هاقد عرَف أخيراً مصدر النور الذي أخرجَه من عالَمه الأوّل و ألقاه ها هنا ،و تلك الأعشاب التي تغطي وجه الأرض بخُضرتها التي تضفي على المشهد تناسقاً عجيباً ، و تلك المخلوقات التي تملأ المكان بعضها يجري و البعض الآخر يمشي و البعض الثالث يزحف ..
لكنّه رغم كل هذا الجمال يحسّ احساساً غريباً من عدم الارتياح لم يعرف سببه ، أَ هو تتابع الليل و النهار بين شدّة الضياء إلى خُفوته ثم الظُّلمة و شدٌتها فبزوغ الضوء من جديد ! أم هو تقلب الطقس بين شدة الحرارة نهاراً ثم الدفء ثم البرودة و شدّتها ! ربّما ذلك العدوّ الخفيّ الذي يداعب جسَدَه بلطفٍ تارةً. و يضربه بقسوةٍ و غِلظةٍ تارةً أخرى ، ذلك العدوّ الذي لم تُبصره عيناه لكنّه يرى جبَروته حين يعصف بالأشجار و الأعشاب فتميل مقاوِمةً ثمّ تنحني مستسلِمةً في النهاية ! أو لعلّها تلك المخلوقات العجيبة التي تملأ المكان بتصرّفاتها المُريبة حتى لم يعُد يعرف العدو منها و الصديق ، لذلك أخذ الحيطةَ منها جميعاً فابتعد عنها اتّقاءاً لشرّها!
أخذ الحنين يزداد بداخله نحو ذلك الماضي السعيد ، ذلك الزمن الجميل ، أيام المغارة حيث الظُّلمة الأليفة التي لا يشوبها ضياء ، و الهواء اللطيف رغم نتانته ، و مخلوقات المغارة التي أنِسَها و خَبِرَ سلوكها حتى أصبح يتنبّأ بتصرفاتها قبل أن تُقدِم عليها ...
آه ، ما أحلى تلك الأيام !
لم يعد شيء مما في هذا العالَم الجديد يستهويه ، لم يعد يكترث لتغريد الطيور و لا حفيف الأشجار ، و لا لذلك الضوء الساطع ، و لا لنجوم السماء ، و لا لتلك المخلوقات الغريبة التي يكرهها .. أصبح كلّ شيء في هذا العالَم الجديد ينفّره منه ، و يجذبه إلى عالمه القديم ، إلى فِردَوسِه المفقود.
نام في مساء ذلك اليوم ملتفِحاً بأوراق الشجَر ليتّقي برد آخر الليل القارس ، راى في نَومه نوراً يشعّ مِن جديد ، ذاته النور القديم الذي أخرجَه من المغارة ، لكنّه في هذه المرٌة كان يصدُر عنها .
مع خيوط الفجر الأولى كانت قدماه تقودانه بلا ارادةٍ منه إلى مصدر النور الذي وافاه في المنام .
عندما سطَعَت شمس ذلك اليوم على الأرجاء لَم تَجِده هناك ، فهو يقبع الآن حيث قادَه حلُمُه الأخير. بعد أن أغلق على نفسه مصدر النور .
ها قد عاد إلى سَكينته الأولى بعد أن أقنع نفسه أنّ حلُمَه الأول كان كابوساً ، و أن الظلام الذي أمضى حياته فيه هو حلُمُه الحقيقي .
*د. طارق حسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق