سيجارتان
الدخان يتمازج في الأعلى، والأعقاب البنية معقوفة في الأسفل وتهرم معًا. كانت مجرد ساحة خلفية للعاملين المدخنين في الشركة. تكهن الاثنان بأن وقت الاستراحة انتهى، حين سبقهما إلى المغادرة زميل آخر. رمت هي بسيجارتها على الأرض، ورمى هو الآخر بسيجارته، ولكن في بقايا شاي في كوب ورقي يحمله في يده. ألقى بالكوب في سلة مهملات، لكي يبدو أكثر تحضرًا، قبل أن يسأل نفسه عن نوعية العطر الذي تضعه سيدة فوضوية إلى هذا الحد، ومع ذلك لم تنل منه رائحة السجائر. فيما تسحق السيجارة بليونة لافتة، ترك كعب حذائها إيقاعًا رشيقًا على البلاط، التقطته غريزة مخبأة في أذنه. صعدت الدرج لتعود لمكتبها، وتبعها فاردًا ظهره كما يفعل المرء ليزيد من طوله، وهو يقدم نفسه للغرباء، لكنه لم يقدم نفسه لها، بل تقدمت يده المحبة وحدها، فسبقته بدون إذن منه، لإزاحة خيط نسيج يتمايل فوق كتفها. التفتتْ بهدوء حينما كانت تصعد الدرج، لترى ما تفعله تلك اليد، في حين اقترب مائلًا برأسه بلطف، ليشرح لها أن خيطًا كان يخدش كمال كتفها. حاول قبل حديثه إليها، أن يقرأ اسمها على البطاقة الذهبية المعلقة فوق صدرها، فهو يعرف أن مناداة الأشخاص بأسمائهم، ترفع من فرص التوافق بين شخصين، لكن نظره الضعيف خذله. كان لايزال يقرب رأسه أكثر ليلتقط الاسم المبدوء بحرف «هــ»، ولهذا الحرف في الأبجدية متاهة فطرية. قلبه الذي بدأ يخفق بشدة لذلك القرب بينهما، جعله يدرك أن الكلام سيكون في تلك اللحظة فائضًا عن الحاجة، لذلك اكتفى بالابتسام والتحديق في وجهها. لا سوء في ابتسامته إلا كونها بدأت تتوارى ببطء، وهو ينقل ثقل جسده من قدم إلى قدم، في حين يتلقى الشتائم من سيدة، كانت تخفي إلى وقت قريب إعجابها به. صعدتِ الدرج بسرعة أكبر متجهة لمكتبها، بعد أن أنهت مهمة إهانته بامتياز.بقي هو عالقًا بها، حتى وقت متأخر من ذلك العام، فقد تورطت ذاكرته بأكثر الحواس حميمية وخطرًا: «الشم، اللمس». تذكر هذا الموقف القديم وهو عائد إلى مكتبه، حاملًا في يده ورقة تُخطر جميع الموظفين بموعد لصيانة شاملة لأجهزة القسم، ومختومة باسم طبع ذات يوم كصورة بلا صوت في عينيه. شرد ذهنه وهو يبدل طريق عودته لمكتبه، بالطريق إلى ساحة المدخنين. كان لا يزال يحدق في الاسم الذي صار وجهًا وعطرًا وشتيمة في تلك الورقة، كما أنه مبدوء بنفس تلك المتاهة التي يعرفها: «هــــ… هديل… هديل إذا!». نطق اسمها مرتين وهو يدخن سيجارة بكف، ويتأمل السيجارة الثانية بين أصابع كفه الأخرى. حمل الاثنتين قليلًا، ثم وضعهما على الرصيف معًا، واحدة نصف مشتعلة، والأخرى لم تبللها شفتاه. جاور بينهما بنقلتين خفيفتين بمقدمة حذائه اللامع، ثم ألصقهما جيدًا ببعضهما. غادر المكان، بينما سيجارة تحاول جاهدة أن تنقل عدوى الاشتعال، إلى السيجارة الأخرى.
عَالمان
تنحني امرأة في شهرها الأخير من الحمل لتقبل جبين والدها، الذي سيُحمل على الأعناق لدفنه بعد ساعات. تظهر على بطنها الملاصقة لكتف والدها حركة طفيفة يصعب تفويتها. هي يد أو قدم تعزلها طبقات من الجلد، ومع ذلك لمست الميت الممدد وكأنما هي الأخرى تودعه… على حافة ذلك السرير، وفي أقرب نقطة التقاء بين عَالمين متناقضين، تَلامَس الجنين والجد لثوان ثم تباعدا.
يد جنين من أكثف عتمةٍ في الكون، تَعودُ إلى سباتها بعد أن امتدت نحو حياة، لم يئن أوان الخروج إليها بعد، وكتف جد يرحل عن حياة ظن أنها لن تكتمل من بعده.
دوائر
كل ما يخطر ببالك وله شكل مستدير، اختبأ كأقدام صغيرة في فراغ تحت البيت:
عقال جدي، مروحة ما زال بإمكانها الدوران، عجلات الدراجات والسيارات التالفة، أغطية قدور الطبخ، حتى أغطية معجون الأسنان التي فُقدت على مر السنين، بكرات خيوط ملونة لم تلحظ أمي غيابها، أسطوانات بح صوتها… حتى صدفية جدي التي كان لها شكل كرة في مؤخرة رأسه، اندست بهدوء داخل ذاك الفراغ. حين اكتملت صفوف الدوائر، مشى البيت أول خطواته في غفلة من الجميع، ولم يتوقف عن الابتعاد. بالكاد شعرتْ به أسرة كانت تتناول عشاءها بصمت، وكنت أنا أحد أفرادها.
وجهان
حلاق يقص شعر طفل يبكي…
هاتف الحلاق مفتوح فوق الطاولة، على نافذة محادثة قديمة. بدا الكلام والصور المرسلة فيها، من طرفه وحده، كحبل مناديل ملونة تخرج من يد ساحر، يقدم عرضًا لجمهور انصرف عنه…
كلاهما كان يبكي، في تلك اللحظة، وأمام نفس المرآة.
هاتف الحلاق مفتوح فوق الطاولة، على نافذة محادثة قديمة. بدا الكلام والصور المرسلة فيها، من طرفه وحده، كحبل مناديل ملونة تخرج من يد ساحر، يقدم عرضًا لجمهور انصرف عنه…
كلاهما كان يبكي، في تلك اللحظة، وأمام نفس المرآة.
هما
من مقعده الأمامي كسائق لـ«أوبر»، بدا في شكله الخارجي كرجل لا يُقهر، وقد أعطته الشمس سببًا إضافيًّا لهذا، حين تسلطت كمصباح ضوء رئيسي على وجه الفتاة التي تجلس مباشرة خلف مقعده، ليحرك كتفه قليلًا باتجاه اليسار، حتى يغطي ظله وجهها؛ لأنه رآها تحاول أن تتفادى الشعاع بإغماض عينيها.
مضت خمس دقائق في ذلك الطريق المزدحم، والنبلُ ظلٌّ صامتٌ وافرٌ يتسرب على وجه الفتاة التي استعادتْ وسع عينيها، في ظل الكتف الرمادية العريضة.
عند مخرجٍ في نهاية الشارع مال السائق بجسده الضخم باتجاه اليمين، وألقى بالشمس في الجهة الأخرى من الشارع.
يستحمُّ في حمامه، وتستحمُّ هي في الحمام الموازي له. لا يفصلهما سوى منور في عمارة، في حين تجمعهما أغنية، تتسلل كل صباح عبر مروحتي شفط في أعلى الجدارين. تُنصتُ لغنائه وتكمل المقطع حين يصمتُ. يتوقف عن الغناء تمامًا حين تصمت، ولا يعود يسمعُ من جهتها إلا وقع الماء على سطح البانيو…
شيء ما في داخله يدفعه إلى الاستناد على الحائط الندِي، وإغماض عينيه مبتسمًا لصوت الماء، الذي يزيح الرغوة عن جسدها، كما يزيح الهواء كتل الغمام.
مضت خمس دقائق في ذلك الطريق المزدحم، والنبلُ ظلٌّ صامتٌ وافرٌ يتسرب على وجه الفتاة التي استعادتْ وسع عينيها، في ظل الكتف الرمادية العريضة.
عند مخرجٍ في نهاية الشارع مال السائق بجسده الضخم باتجاه اليمين، وألقى بالشمس في الجهة الأخرى من الشارع.
رجل وامرأة
يستحمُّ في حمامه، وتستحمُّ هي في الحمام الموازي له. لا يفصلهما سوى منور في عمارة، في حين تجمعهما أغنية، تتسلل كل صباح عبر مروحتي شفط في أعلى الجدارين. تُنصتُ لغنائه وتكمل المقطع حين يصمتُ. يتوقف عن الغناء تمامًا حين تصمت، ولا يعود يسمعُ من جهتها إلا وقع الماء على سطح البانيو…
شيء ما في داخله يدفعه إلى الاستناد على الحائط الندِي، وإغماض عينيه مبتسمًا لصوت الماء، الذي يزيح الرغوة عن جسدها، كما يزيح الهواء كتل الغمام.
-
* فاطمة عبدالحميد
كاتبة سعودية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق