⏪ د . وليد العرفي
لم يسبق لي أن قرأت شيئاً للشاعرة : نجاة الزباير، ولم أعرف من تكون إلا أنني عندما قرأت ومضاتها السبع التي جاءت بعنوان : " أنامل تنوب عني " المرقمة من العدد 1ــ 7 وجدتني مندفعاً إلى كتابة هذه الأسطر التي جاءت انطباعية أفضت بها قراءة اللحظة
واندهاش الفرح بما هو جميل في زمن القبح ، وما هو مفرح في زمن الكآبة والأحزان ؛ فأن تقرأ نصَّاً بهذه الجمالية ، وتتغيا مراميز فتنة من ضياء الكلمة ومرتسمات الحروف ؛فهو أمر باعث على الجمال ، وهو ما يجعل المرء يعيد الأمل في كثير مما تأكد قناعة راسخة ، ويقيناً غير مشكك فيه أن الجماليات في حياتنا تغيب شيئاً فشيئاً ، والكلمة القادرة على إثارة الإحساس الجمالي فيك ميتة أو مصابة بسرطان لا شفاء منه ، وإني إذ أقدر للمجلة الثقافية الجزائرية دورها الريادي في تسليط الضوء على مثل هذه التجارب الجميلة في وطننا العربي ؛ فإنني أبادر إلى القول بأن سباعية الشاعرة : نجاة الزباير قد جذبتني إليها انجذاب الفراش إلى النور ، ولكنه ليس انجذاباً لاحتراق ، وإنما هو انجذاب لائتلاق ، وانجذاب النحل إلى رحيق الزهور التي تتبدّى من خلال تلك التقنية الأسلوبية التي تنمُّ عن شاعرة تتقن لغتها ، وتمتلك مهارة الغوص في الكلمات ؛ لتستنطق ما ورائية الكلمة ، لا الكلمة ذاتها ؛ فنحن لا نجد أنفسنا أمام صورة بلاغية باذخة ، ولا أمام لفظ غائص في معجميات اللغة ، وإنما نحن أمام تشكيل جمالي ينم عن لغة رامزة ، وأنساق لغوية تتماهي بدلالاتها التي تكشف عن صوفية تتلهف إلى ما هو عميق ، وداخلي ، وهي تتغيَّا أبعد ما يمكن أن يؤسس له الإدراك الأولي للقراءة على مستوى التأويل فثمة انكشافات تشف عن إشراقات تجليات صوفية تتناول الآخر من خلال الذات فالحديث عن الذات : (الأنا) في وهي تبدأ المقاطع بفعل سردي حكائي يستعيد الماضي بفعل الحكي : تقول نجاة :
" كنْتُ أمشي تحتَ سماء حلمي
حينَ التقيتُها غاضبةً منّي
فهل هي أنا ؟
قلْتُ بحسنِ ظنّي "
تُبدي الشاعرة تماهيها بين ذاتها وأناتها في النهاية حيث تؤكّد ذلك بقولها :
" تصطادُني كلَّما فاضَ نهري
فأراها تمدُّ لي يداً هيَ يدي
وتخرجُني منّي
كي أسمعَ صوتاً منْ هناكَ
يأتي يُخبرُني عنْها وعنّي
إذنْ هي ليسَتْ غيري
هي أنا !!!
أبحثُ عنها بينَ سطور كوني .
إنها حكاية الاغتراب التي تشعر بها النفس الشاعرة ، وهي حالة ارتحال دائم في البحث عن الذات التي تضيق بمكابدات الواقع ؛ فتنأى عنه إلى فضاءات الحلم وإشراقات الحلم علها تجد في اللغة ما يمكنها من التقاط مصدر للذات ، أو الإطلالة على شرفات أناتها مما لا شك فيه أن في داخل كل شاعر صوفي ، مثلما في قلب كل صوفي شاعر ، ومكمن هذا التلاقي بين الاثنين أنهما يتطلعان إلى عالم يسوده ثالوث القداسة المتمثل في الذات الإلهية ، وهو ثالوث : الخير و الحق والجمال إذ : "التجربة الصوفية والتجربة الفنية منبعان من منبع واحد ، وتلتقيان عند الغاية نفسها ، وهي العودة بالكون إلى صفاته وانسجامه " ، ونشير في هذا السياق إلى أنَّ انجذاب الذات الشاعرة إلى الذات الإلهية ميلٌ فطري ؛ فهو انجذاب الذاتي إلى الموضوعي الذي يسعى إلى ملء فراغ الذاتي بالاكتمال الموضوعي الذي يتجسَّد له في الذات المبدعة للكون كلّه .
ومن هنا فإننا نرى أن طبيعة الحالة وأبعاد الرؤيا التائقة إلى وجود عالم مثال لا يمكن أن يوجد على الأرض وهو ما يشكل أهم عوامل الالتقاء بين كل من الصوفي والشاعر ، كما أنها من المؤشرات الدالة على تقارب كل من المدرستين الرومانسية والرمزية من جهة والصوفية التي تلتقي في كثير من سماتها معهما من جهة أخرى ، كما تفارقهما في الوقت ذاته بكون توجهها نحو الذات الإلهية ، وحقائق الكون المطلقة .
ولا يبتعد الشاعر في مسيرته البحثية عن الصوفي الذي يتطلع إلى الكشف ، فالصوفي يبحث عن الذات الإلهية ، والشاعر يبحث عن ذاته التي يراها حبيسة قطبيها الروح والجسد ، وهو بهذا التوق إلى التعرّف على حقيقته المادية والمعنوية ، إنما يجد نفسه عرَّاف رؤيا ، ورحالة وهو في بحث دائب ، وحركة لا تهدأ , في محاولة الوصول إلى أجوبة الوجود التي يجد نفسه منشغلاَ بتفسير ظواهره ومعرفة كنه الحياة وحقائقها ، وهو ما عبَّرت عنه تجليات الشاعرة: نجاة الزباير السبع في بحثها عن الذات في فسحة الكون .
* د. وليد العرفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يسبق لي أن قرأت شيئاً للشاعرة : نجاة الزباير، ولم أعرف من تكون إلا أنني عندما قرأت ومضاتها السبع التي جاءت بعنوان : " أنامل تنوب عني " المرقمة من العدد 1ــ 7 وجدتني مندفعاً إلى كتابة هذه الأسطر التي جاءت انطباعية أفضت بها قراءة اللحظة
واندهاش الفرح بما هو جميل في زمن القبح ، وما هو مفرح في زمن الكآبة والأحزان ؛ فأن تقرأ نصَّاً بهذه الجمالية ، وتتغيا مراميز فتنة من ضياء الكلمة ومرتسمات الحروف ؛فهو أمر باعث على الجمال ، وهو ما يجعل المرء يعيد الأمل في كثير مما تأكد قناعة راسخة ، ويقيناً غير مشكك فيه أن الجماليات في حياتنا تغيب شيئاً فشيئاً ، والكلمة القادرة على إثارة الإحساس الجمالي فيك ميتة أو مصابة بسرطان لا شفاء منه ، وإني إذ أقدر للمجلة الثقافية الجزائرية دورها الريادي في تسليط الضوء على مثل هذه التجارب الجميلة في وطننا العربي ؛ فإنني أبادر إلى القول بأن سباعية الشاعرة : نجاة الزباير قد جذبتني إليها انجذاب الفراش إلى النور ، ولكنه ليس انجذاباً لاحتراق ، وإنما هو انجذاب لائتلاق ، وانجذاب النحل إلى رحيق الزهور التي تتبدّى من خلال تلك التقنية الأسلوبية التي تنمُّ عن شاعرة تتقن لغتها ، وتمتلك مهارة الغوص في الكلمات ؛ لتستنطق ما ورائية الكلمة ، لا الكلمة ذاتها ؛ فنحن لا نجد أنفسنا أمام صورة بلاغية باذخة ، ولا أمام لفظ غائص في معجميات اللغة ، وإنما نحن أمام تشكيل جمالي ينم عن لغة رامزة ، وأنساق لغوية تتماهي بدلالاتها التي تكشف عن صوفية تتلهف إلى ما هو عميق ، وداخلي ، وهي تتغيَّا أبعد ما يمكن أن يؤسس له الإدراك الأولي للقراءة على مستوى التأويل فثمة انكشافات تشف عن إشراقات تجليات صوفية تتناول الآخر من خلال الذات فالحديث عن الذات : (الأنا) في وهي تبدأ المقاطع بفعل سردي حكائي يستعيد الماضي بفعل الحكي : تقول نجاة :
" كنْتُ أمشي تحتَ سماء حلمي
حينَ التقيتُها غاضبةً منّي
فهل هي أنا ؟
قلْتُ بحسنِ ظنّي "
تُبدي الشاعرة تماهيها بين ذاتها وأناتها في النهاية حيث تؤكّد ذلك بقولها :
" تصطادُني كلَّما فاضَ نهري
فأراها تمدُّ لي يداً هيَ يدي
وتخرجُني منّي
كي أسمعَ صوتاً منْ هناكَ
يأتي يُخبرُني عنْها وعنّي
إذنْ هي ليسَتْ غيري
هي أنا !!!
أبحثُ عنها بينَ سطور كوني .
إنها حكاية الاغتراب التي تشعر بها النفس الشاعرة ، وهي حالة ارتحال دائم في البحث عن الذات التي تضيق بمكابدات الواقع ؛ فتنأى عنه إلى فضاءات الحلم وإشراقات الحلم علها تجد في اللغة ما يمكنها من التقاط مصدر للذات ، أو الإطلالة على شرفات أناتها مما لا شك فيه أن في داخل كل شاعر صوفي ، مثلما في قلب كل صوفي شاعر ، ومكمن هذا التلاقي بين الاثنين أنهما يتطلعان إلى عالم يسوده ثالوث القداسة المتمثل في الذات الإلهية ، وهو ثالوث : الخير و الحق والجمال إذ : "التجربة الصوفية والتجربة الفنية منبعان من منبع واحد ، وتلتقيان عند الغاية نفسها ، وهي العودة بالكون إلى صفاته وانسجامه " ، ونشير في هذا السياق إلى أنَّ انجذاب الذات الشاعرة إلى الذات الإلهية ميلٌ فطري ؛ فهو انجذاب الذاتي إلى الموضوعي الذي يسعى إلى ملء فراغ الذاتي بالاكتمال الموضوعي الذي يتجسَّد له في الذات المبدعة للكون كلّه .
ومن هنا فإننا نرى أن طبيعة الحالة وأبعاد الرؤيا التائقة إلى وجود عالم مثال لا يمكن أن يوجد على الأرض وهو ما يشكل أهم عوامل الالتقاء بين كل من الصوفي والشاعر ، كما أنها من المؤشرات الدالة على تقارب كل من المدرستين الرومانسية والرمزية من جهة والصوفية التي تلتقي في كثير من سماتها معهما من جهة أخرى ، كما تفارقهما في الوقت ذاته بكون توجهها نحو الذات الإلهية ، وحقائق الكون المطلقة .
ولا يبتعد الشاعر في مسيرته البحثية عن الصوفي الذي يتطلع إلى الكشف ، فالصوفي يبحث عن الذات الإلهية ، والشاعر يبحث عن ذاته التي يراها حبيسة قطبيها الروح والجسد ، وهو بهذا التوق إلى التعرّف على حقيقته المادية والمعنوية ، إنما يجد نفسه عرَّاف رؤيا ، ورحالة وهو في بحث دائب ، وحركة لا تهدأ , في محاولة الوصول إلى أجوبة الوجود التي يجد نفسه منشغلاَ بتفسير ظواهره ومعرفة كنه الحياة وحقائقها ، وهو ما عبَّرت عنه تجليات الشاعرة: نجاة الزباير السبع في بحثها عن الذات في فسحة الكون .
* د. وليد العرفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ القصيدة العربية المعاصرة : ــ دراسة تحليلية في البنية الفكرية والفنية ــ د. كاميليا عبد الفتاح ، دار المطبوعات الجامعية ، الإسكندرية.، 2006م ، ص560.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق