⏪⏬
30عاما تغلغلت جذوري في أعماقها وارتوت عروقي بالمياه الدافقة من بين صخورها وانحنى التاريخ على جبهتي يطبع قبلته السرمدية، كأنّه كتب بالخط العريض ذكرى أبدية تظلّ تدقّ أجراس الذاكرة كلّما اشتد النسيان وأشهر شيطانه في وجه الأصالة.
30 عاما أحمل ذاتي الموروثة من أرياف تونس التي أنجبت قضيتي المهاجرة في فيافي الأرض وأصقاعها، وكانت المُصادفة العظيمة التّي خطت ملامح حياتي كأي شاب تونسي تونس يا أمي البعيدة التي أنجبتني بموروث قرطاجي وألقت بجذري الصغير على تلافيف المنافي وأعطتني اسمي الأول واسم أبي وشجرة العائلة الممتدة حتى بدايات الكتابة والتأريخ. ولدت على قارعة الخيمة المنحنية كظهر جدتي على سنابل القمح تلّف منديلها بحزن على وجهها وتبكي لوعة التاريخ.
قبل أعوام عديدة لم أكن أعرف تماما تعريف الأمّ وماهية الأمومة وتفاصيل هذه الكلمة البحر، ولكنّني اليوم وبعد كلّ شهادة أستلمها أستطيع الكتابة بحُرقة وبكلّ ما أوتيت من حنين ولهفة... أي نوع من السيدات تلك الأم الأرض التي منحتني وقوفي كسنبلة قمح جنوبية تصارع الريح بصمت لعقود تحمل حباتها وبنيها بين كفيها، تتلقى حبال المطر المجنون وتستعدّ كامرأة عاشقة بكامل حميميتها وخصوبتها لتعانق شمس الحرية وهي تُدرك أنها لن تكون مُجرّد شمس ربيعية فحسب لكنها شمس تحمل براعم النور وتراتيل الحياة وطباشير ستكتب للزمان مولدا يليق بتاريخ الياسمين.
أمي عائشة سيدة أثقلت حملها وألقتنا بعد التعب وغفلة التاريخ في حضن شقيقتها التوأم تونس وأوصتها بأن تُبقينا على عهد الثورة والأمل وعلى قيد الياسمين، بكل ما أوتيت تونس من شبق ودلال كشرفات منازلها القديمة، في أزقتها رفعت أيديها وتلقفتنا كأرض تنتظر هطولا موسميا في نهاية تشرين، ذلك الشهر الذي ولدت فيه، في عمق العواصف والرياح. أدرك وأنا اليوم على رصيف الحياة في شوارع تونس وعلى بعد آلاف الأميال ومئات الأعمار وملايين الحكايات التي دفنها البحر في قاعه أن تونس لم تكن مجرد سيدة أو خالة التقطت أبناءها فحسب بل كانت آلهة في العطاء مثل بعل حمون وتانيت، عائشة أنجبتني وتونس أرضعتني من رحيق ياسمينها حليبا صافيا، عائشة سمتني وتونس الهبت ملامح الحبر في اسمي، أمي علمتني العودة وتونس ألهبت ذاكرتي...أمي اعتنت بي وتونس جعلتني أقف على أعتابها متغنيا وحالما بغد أفضل.
أمي التي حملت نسلي وتونس حملتني وهنا على وهن وأرضعتني وأطالت فطامي كي يتشبث أكسير الحنين في وجداني، ثم أرخت ستائرها على مقلتي في ليالي البرد وأطلقت نُجومها تضيء سماء صيفي كسهرة حصاد جنوبية فكيف لي أن أنسى ترابها الذي كحّل طفولتي، ومائها الذي صقل طيني ثم قدمتني لنار عشقها وأحرقتني على مهل كارتشاف نساءها لقهوة الصباح على أثير الموسيقى الفيروزية.
وقدمتني للريح بعد أن منحتني الوقوف، ومنحتني هبة للشمس بعد أن كست جسدي بسُمرة ترابها، وأرختني على أرصفة شوارعها أستقبل المطر مثل الإله أشمون القرطاجي الذي يحمل شوكة البرق كرمز لسطوته وقُوّته وتفوّقه على بقية العواصف الطبيعية. ثم ألقت بي من سماء جبالها بعد أن أعطتني درسا في الصعود والهبوط وعلى مقاعدها قرأت تاريخ حنبعل وعليسة وقرطاج.
"تونس يا جرحا بعيد الغور
يا نزفا في جبين الكبرياء
تسدوا اذانهم عن صوت النداء
تونس فاتحة العواصم
تونس اخر قلعة في الحلم تسكنها العزائم
فإذا مالت تونس نحو البحر
فتأكد بأن الطوفان قادم"
*ماهر القدارات الحاج اللطيف
30عاما تغلغلت جذوري في أعماقها وارتوت عروقي بالمياه الدافقة من بين صخورها وانحنى التاريخ على جبهتي يطبع قبلته السرمدية، كأنّه كتب بالخط العريض ذكرى أبدية تظلّ تدقّ أجراس الذاكرة كلّما اشتد النسيان وأشهر شيطانه في وجه الأصالة.
30 عاما أحمل ذاتي الموروثة من أرياف تونس التي أنجبت قضيتي المهاجرة في فيافي الأرض وأصقاعها، وكانت المُصادفة العظيمة التّي خطت ملامح حياتي كأي شاب تونسي تونس يا أمي البعيدة التي أنجبتني بموروث قرطاجي وألقت بجذري الصغير على تلافيف المنافي وأعطتني اسمي الأول واسم أبي وشجرة العائلة الممتدة حتى بدايات الكتابة والتأريخ. ولدت على قارعة الخيمة المنحنية كظهر جدتي على سنابل القمح تلّف منديلها بحزن على وجهها وتبكي لوعة التاريخ.
قبل أعوام عديدة لم أكن أعرف تماما تعريف الأمّ وماهية الأمومة وتفاصيل هذه الكلمة البحر، ولكنّني اليوم وبعد كلّ شهادة أستلمها أستطيع الكتابة بحُرقة وبكلّ ما أوتيت من حنين ولهفة... أي نوع من السيدات تلك الأم الأرض التي منحتني وقوفي كسنبلة قمح جنوبية تصارع الريح بصمت لعقود تحمل حباتها وبنيها بين كفيها، تتلقى حبال المطر المجنون وتستعدّ كامرأة عاشقة بكامل حميميتها وخصوبتها لتعانق شمس الحرية وهي تُدرك أنها لن تكون مُجرّد شمس ربيعية فحسب لكنها شمس تحمل براعم النور وتراتيل الحياة وطباشير ستكتب للزمان مولدا يليق بتاريخ الياسمين.
أمي عائشة سيدة أثقلت حملها وألقتنا بعد التعب وغفلة التاريخ في حضن شقيقتها التوأم تونس وأوصتها بأن تُبقينا على عهد الثورة والأمل وعلى قيد الياسمين، بكل ما أوتيت تونس من شبق ودلال كشرفات منازلها القديمة، في أزقتها رفعت أيديها وتلقفتنا كأرض تنتظر هطولا موسميا في نهاية تشرين، ذلك الشهر الذي ولدت فيه، في عمق العواصف والرياح. أدرك وأنا اليوم على رصيف الحياة في شوارع تونس وعلى بعد آلاف الأميال ومئات الأعمار وملايين الحكايات التي دفنها البحر في قاعه أن تونس لم تكن مجرد سيدة أو خالة التقطت أبناءها فحسب بل كانت آلهة في العطاء مثل بعل حمون وتانيت، عائشة أنجبتني وتونس أرضعتني من رحيق ياسمينها حليبا صافيا، عائشة سمتني وتونس الهبت ملامح الحبر في اسمي، أمي علمتني العودة وتونس ألهبت ذاكرتي...أمي اعتنت بي وتونس جعلتني أقف على أعتابها متغنيا وحالما بغد أفضل.
أمي التي حملت نسلي وتونس حملتني وهنا على وهن وأرضعتني وأطالت فطامي كي يتشبث أكسير الحنين في وجداني، ثم أرخت ستائرها على مقلتي في ليالي البرد وأطلقت نُجومها تضيء سماء صيفي كسهرة حصاد جنوبية فكيف لي أن أنسى ترابها الذي كحّل طفولتي، ومائها الذي صقل طيني ثم قدمتني لنار عشقها وأحرقتني على مهل كارتشاف نساءها لقهوة الصباح على أثير الموسيقى الفيروزية.
وقدمتني للريح بعد أن منحتني الوقوف، ومنحتني هبة للشمس بعد أن كست جسدي بسُمرة ترابها، وأرختني على أرصفة شوارعها أستقبل المطر مثل الإله أشمون القرطاجي الذي يحمل شوكة البرق كرمز لسطوته وقُوّته وتفوّقه على بقية العواصف الطبيعية. ثم ألقت بي من سماء جبالها بعد أن أعطتني درسا في الصعود والهبوط وعلى مقاعدها قرأت تاريخ حنبعل وعليسة وقرطاج.
"تونس يا جرحا بعيد الغور
يا نزفا في جبين الكبرياء
تسدوا اذانهم عن صوت النداء
تونس فاتحة العواصم
تونس اخر قلعة في الحلم تسكنها العزائم
فإذا مالت تونس نحو البحر
فتأكد بأن الطوفان قادم"
*ماهر القدارات الحاج اللطيف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق