ولو ترى ذا القناع الأملس إذ يزحف ببطء كتمساح ماكر، متمسحًا بوجه صاحبنا المستغرق في النوم، فإذا بالأخير وقد قفز صارخًا من الرّعب، وولى مدبرًا ولم يعقب، ولا زال يهرول حتى بلغ حدود المعسكر المجاور، ولم يمنعه من مواصلة العدْوِ، إلا صوت الحرس المناوب يهدده بإطلاق النار في الحال، إنْ لم يستسلم ويثبت مكانه، ويرفع يديه عاليًا.
في إحدى ليالي أغسطس الملتهبة أوائل السبعينيات، والسماء حالكة الظلمة إلا من بضع نقاط شاحبة متناثرة، لنجوم بعيدة أطلت خافتة على استحياء، فبدت كعيون كائنات فضائية غريبة، تتلصص علينا وترصد حركاتنا استعدادًا لمفاجئتنا بغزو لا قبل لنا به. وكنا قد انتهينا لتونا من خدمتنا الأولى (برنجي)، في معسكرنا الضارب في أعماق الصحراء، وعدنا للملاجئ لنريح أجسادنا المكدودة، من جرّاء الجهد الرهيب المتواصل الذي كابدناه بلا راحة، منذ انبلاج أول خيوط الفجر وحتى انتهاء الثلث الأول من الليل.
كانت أيام حرب، وكنا نبيت ونصحو بالشدَّة (بكامل ملابسنا وأحذيتنا وأسلحتنا)، ولا نبرح أماكننا إلا لقضاء الحاجة، ولا نتحرك إلا في جماعات. جافانا النوم لشدة الحر، وانتشار الحشرات، وضيق المكان، وترقب غدر العدو، بالعدوان في أي ساعة من الليل أو النهار.
كنا تسعة رهط جمعنا ملجأ واحد، من أماكن مختلفة، وأعمار متباينة، وثقافات متفاوتة، صهرتنا الخدمة العسكرية في بوتقة واحدة، وامتدت بنا الصحبة فترة الحرب سنين عددًا، فمنا من يئس من العودة مرة أخرى للحياة المدنية، ومنا مَن ظل يداعبه الأمل بالعودة لإتمام زواج أو استكمال دراسة، متعلقًا بأهداب المُنى، تعلّق الغريق بالقشة.
قررنا قتلَ الوقت بالثرثرة والخوض في أحاديث شتى، وتولى أكبرنا سنًّا وأعلانا رتبة إدارة دفة الحديث، تشعب بنا الكلام مراوحًا بين الجد والهزل، والطرائف والأحاجي، حتى تطرقنا إلى السحر، والكهانة، والعرافة، وحيل الدجّالين والمشعوذين للعب بعقول العوام، والتغرير بهم، مستغلين جهلهم، لفرض سيطرتهم عليهم واستلاب أموالهم.
فجأة سأل أحدنا وعلى وجهه أمارات الجد: ما رأيكم بالأعمال المعقودة على أرجل النمل، وأجنحة البعوض وظهور الضفادع، وتلك المدفونة في تراب المقابر للصرف والعطف والربط والإفقار؟
رد آخر: وأعتى من هذا وأعجب قصص الغيلان والجان والمردة، الذين لهم وجوه حمير وحوافر ماعز، وجنيّ المصباح الهائل، الذي إذا فركته خرج ضاحكًا ضحكة مجلجلة، تكاد تقتلك من الرعب، فلبَّى لك ثلاث أمانيّ لا يزيد عليها، والأرانب التي تظهر للبعض ليلًا، فيحثوها المرء في حجره، حتى إذا بلغ منزله تسربت فلم يجدها شيئًا، وعروس البحر التي تتراءى للبحارة البؤساء، فتغويهم باتباعها مذهولين، والندّاهة التي تقود من تناديه، مسحورًا لبه، فلا يفيق إلا وقد ألقته في اليمّ إلى غير رجعة؟
تولى كبيرنا الرد، ففنّد كل هذه الترهات، وردّها إلى الخيال الواسع، والموروث الشعبي من الخزعبلات، ساخرًا من عقولٍ موغلة في الجهل قد عششت الخرافات فيها وباضت وفرخت، لا زالت تؤمن بها، في زمن قطع العلم فيه أشواطًا، ووصل غيرنا للقمر وحطّ رحاله فوقه، وبدأ يخطط لرحلات منتظمة للفضاء، واستزراع مساحات منه وبناء استراحات ومقابر فيه، وغزا المريخ بالعلم والفكر.
تساءل آخر عن حقيقة مصاصي الدماء، والمستذئبين، والموتى الأحياء (الزومبي)، وكان الرد مباغتًا: أمَّا هذه وإن كانت حقًّا هي الأخرى خيالات، إلا أنّ لها أصلًا علميًّا تستند إليه!
فغر بعضنا أفواههم من الدهشة، وضرب آخرون أكفهم ببعضها تعجبًا، فاسترسل صاحبنا مستطردًا في حماس بالغ: بخلاف أغلب الخفافيش النباتية، عثر العلماء في كهوف كاليفورنيا على نوع من الخفافيش، يمتص دماء ضحاياه ممن يصادفهم من الحيوانات والبشر، ويتغذى عليها. زاد انتباه الجميع، وشخصت الأبصار إليه، وأرهفت الأسماع، فأضاف: كما وجدوا نوعًا من العناكب، يقوم بحقن حشرة الصرصور، بسمّ بطيء المفعول، يقتله على مدى عدة أيام، يكون خلالها الصرصور مشلول التفكير فاقدًا للحس ولكل مظاهر الحياة، إلا من حركة بطيئة غير معتادة، تدفعه غريزة حبّ البقاء للبحث عن الطعام، ثم تضع العنكبوت بيضها في جسد الضحية، فيفقس متزامنًا مع موت الصرصور، ليكون أول وجبة طازجة للصغار، وبالطبع لا يؤثر فيها السم الذي وضعته أمّها.
طال بنا الحديث، وأوشك الليل أن ينصرم، فقمنا ننشد بعض الراحة، استعدادًا ليوم جديد من العمل المضني الشاق. تسلل أحدنا في هدوء تحت جنح الظلام، فعمد إلى قناع الكيما ولبسه، (وهو قناع واقٍ من الغازات، أملس، يغطى الوجه والرأس، وبه خرطوم للتنفس، متصل بأنبوبة أكسجين صغيرة تحمل على الظهر) ثم تمهل الخبيثُ وهو في هيئته الوحشية، حتى إذا تيقن من نوم كبيرنا، وارتفاع غطيطه، مشى على أربع كحيوان خرافي بشع، وراح يتمسح بوجه المسكين، الذي هبَّ مذعورًا في الظلام موليًا الأدبار، دون أن يفكر في الالتفات وراءه، وظل يجري لاهثًا مرعوبًا لا يلوي على شيء، تلاحقه ضحكاتنا العالية، وغمزاتنا الهازئة، التي دفعنا ثمنها غاليًا في طابور الصباح.
أحمد عبد السلام - مصر
في إحدى ليالي أغسطس الملتهبة أوائل السبعينيات، والسماء حالكة الظلمة إلا من بضع نقاط شاحبة متناثرة، لنجوم بعيدة أطلت خافتة على استحياء، فبدت كعيون كائنات فضائية غريبة، تتلصص علينا وترصد حركاتنا استعدادًا لمفاجئتنا بغزو لا قبل لنا به. وكنا قد انتهينا لتونا من خدمتنا الأولى (برنجي)، في معسكرنا الضارب في أعماق الصحراء، وعدنا للملاجئ لنريح أجسادنا المكدودة، من جرّاء الجهد الرهيب المتواصل الذي كابدناه بلا راحة، منذ انبلاج أول خيوط الفجر وحتى انتهاء الثلث الأول من الليل.
كانت أيام حرب، وكنا نبيت ونصحو بالشدَّة (بكامل ملابسنا وأحذيتنا وأسلحتنا)، ولا نبرح أماكننا إلا لقضاء الحاجة، ولا نتحرك إلا في جماعات. جافانا النوم لشدة الحر، وانتشار الحشرات، وضيق المكان، وترقب غدر العدو، بالعدوان في أي ساعة من الليل أو النهار.
كنا تسعة رهط جمعنا ملجأ واحد، من أماكن مختلفة، وأعمار متباينة، وثقافات متفاوتة، صهرتنا الخدمة العسكرية في بوتقة واحدة، وامتدت بنا الصحبة فترة الحرب سنين عددًا، فمنا من يئس من العودة مرة أخرى للحياة المدنية، ومنا مَن ظل يداعبه الأمل بالعودة لإتمام زواج أو استكمال دراسة، متعلقًا بأهداب المُنى، تعلّق الغريق بالقشة.
قررنا قتلَ الوقت بالثرثرة والخوض في أحاديث شتى، وتولى أكبرنا سنًّا وأعلانا رتبة إدارة دفة الحديث، تشعب بنا الكلام مراوحًا بين الجد والهزل، والطرائف والأحاجي، حتى تطرقنا إلى السحر، والكهانة، والعرافة، وحيل الدجّالين والمشعوذين للعب بعقول العوام، والتغرير بهم، مستغلين جهلهم، لفرض سيطرتهم عليهم واستلاب أموالهم.
فجأة سأل أحدنا وعلى وجهه أمارات الجد: ما رأيكم بالأعمال المعقودة على أرجل النمل، وأجنحة البعوض وظهور الضفادع، وتلك المدفونة في تراب المقابر للصرف والعطف والربط والإفقار؟
رد آخر: وأعتى من هذا وأعجب قصص الغيلان والجان والمردة، الذين لهم وجوه حمير وحوافر ماعز، وجنيّ المصباح الهائل، الذي إذا فركته خرج ضاحكًا ضحكة مجلجلة، تكاد تقتلك من الرعب، فلبَّى لك ثلاث أمانيّ لا يزيد عليها، والأرانب التي تظهر للبعض ليلًا، فيحثوها المرء في حجره، حتى إذا بلغ منزله تسربت فلم يجدها شيئًا، وعروس البحر التي تتراءى للبحارة البؤساء، فتغويهم باتباعها مذهولين، والندّاهة التي تقود من تناديه، مسحورًا لبه، فلا يفيق إلا وقد ألقته في اليمّ إلى غير رجعة؟
تولى كبيرنا الرد، ففنّد كل هذه الترهات، وردّها إلى الخيال الواسع، والموروث الشعبي من الخزعبلات، ساخرًا من عقولٍ موغلة في الجهل قد عششت الخرافات فيها وباضت وفرخت، لا زالت تؤمن بها، في زمن قطع العلم فيه أشواطًا، ووصل غيرنا للقمر وحطّ رحاله فوقه، وبدأ يخطط لرحلات منتظمة للفضاء، واستزراع مساحات منه وبناء استراحات ومقابر فيه، وغزا المريخ بالعلم والفكر.
تساءل آخر عن حقيقة مصاصي الدماء، والمستذئبين، والموتى الأحياء (الزومبي)، وكان الرد مباغتًا: أمَّا هذه وإن كانت حقًّا هي الأخرى خيالات، إلا أنّ لها أصلًا علميًّا تستند إليه!
فغر بعضنا أفواههم من الدهشة، وضرب آخرون أكفهم ببعضها تعجبًا، فاسترسل صاحبنا مستطردًا في حماس بالغ: بخلاف أغلب الخفافيش النباتية، عثر العلماء في كهوف كاليفورنيا على نوع من الخفافيش، يمتص دماء ضحاياه ممن يصادفهم من الحيوانات والبشر، ويتغذى عليها. زاد انتباه الجميع، وشخصت الأبصار إليه، وأرهفت الأسماع، فأضاف: كما وجدوا نوعًا من العناكب، يقوم بحقن حشرة الصرصور، بسمّ بطيء المفعول، يقتله على مدى عدة أيام، يكون خلالها الصرصور مشلول التفكير فاقدًا للحس ولكل مظاهر الحياة، إلا من حركة بطيئة غير معتادة، تدفعه غريزة حبّ البقاء للبحث عن الطعام، ثم تضع العنكبوت بيضها في جسد الضحية، فيفقس متزامنًا مع موت الصرصور، ليكون أول وجبة طازجة للصغار، وبالطبع لا يؤثر فيها السم الذي وضعته أمّها.
طال بنا الحديث، وأوشك الليل أن ينصرم، فقمنا ننشد بعض الراحة، استعدادًا ليوم جديد من العمل المضني الشاق. تسلل أحدنا في هدوء تحت جنح الظلام، فعمد إلى قناع الكيما ولبسه، (وهو قناع واقٍ من الغازات، أملس، يغطى الوجه والرأس، وبه خرطوم للتنفس، متصل بأنبوبة أكسجين صغيرة تحمل على الظهر) ثم تمهل الخبيثُ وهو في هيئته الوحشية، حتى إذا تيقن من نوم كبيرنا، وارتفاع غطيطه، مشى على أربع كحيوان خرافي بشع، وراح يتمسح بوجه المسكين، الذي هبَّ مذعورًا في الظلام موليًا الأدبار، دون أن يفكر في الالتفات وراءه، وظل يجري لاهثًا مرعوبًا لا يلوي على شيء، تلاحقه ضحكاتنا العالية، وغمزاتنا الهازئة، التي دفعنا ثمنها غاليًا في طابور الصباح.
أحمد عبد السلام - مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق