1
أرم ذات العماد و صوفية البحث عن المحجوب أو المجهول ، أختلف المفسرون في " أرم ذات العماد" و منهم من قال أنها مدينة أو قوم، و قد أعتمدوا على أسطورة آتية من اليمن شيدها ملك جبار إسمه شداد بن عاد بن عوص وصف بأنه ملك من ملوك قوم عاد من العرب البائده قوم هود الذين أرسل إليهم الله نبي الله هود و رفضوا أن يؤمنوا بما قال لهم هذا النبي الذي أرسل لهم.و رفض الملك الجبار شداد بن عاد الإيمان بالله و بما أتى به نبي الله هود، و علاقة الملك الجبار شداد بنبي الله هود و أرم ذات العماد أن الملك الجبار شداد قال لنبي الله هود:(إن آمنت بإلهك ماذا لي عنده) ، فرد نبي الله هود عليه السلام: تكون مكافئتك الجنة (يعطيك في الآخرة جنة ) ، و عندما سأل الملك شداد نبي الله يهود عن هذه الجنة وصفها له بأنها مدينة مثالية قائلاً : (يعطيك في الآخرة جنة مبنية من ذهب فيها قصور من ذهب عليها غرف من ذهب من فوقها غرف من ذهب ويواقيت ولؤلؤ وأنواع الجواهر) ، فعندما عصي الملك شداد نبي الله هود و رفض أن يطيعه و حاول أن يتمرد و أن يتحدى هذا النبي بأنه قادر على تشيد تلك المدينة التي وصفها النبي قائلاً :(أنا أبني في هذه الدنيا مثل هذه الجنة ولا أحتاج إلى ما تعدني بعد الموت)، و هكذا جمع الملك شداد كل الأحجار الكريمة و النفيسة و الجواهر من ذهب و فضه و شيد بها أرم ذات العماد.
و ذكر المفسرون لمدينة أرم ذات العماد أنه وصفاً كان مبنياً على وصف العاقبة التي ألمت بالملك شداد عاقبة الهلاك و إبادة قومه (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد).
و من كتب التفسير التي نشرت هذه الأسطورة إلى كافة أنواع الكتب الأدبية "كتب العجائب" و "القصص الشعبية" كحيكات "ألف ليلة وليلة" حيث كان وصف المدينة قصير في كتب التفسير و لكن في كتب العجائب القرناطي وصف هذه المدينة و بنيانها قائلاً :(قال كعب الأحبار رضي الله عنه أن الله وصف أمر شداد ألف أمير من جبابرة قوم عاد أن يخرجوا ويطلبوا أرضاً واسعةً كثيرة المياه طيبة الهواء بعيدة من الجبال، ليبني عليها مدينةً من ذهب)، و كعب بن ماتع الحميري هو راوي الإسرائيليات يهودي الأصل أسلم في عهد الرسول.
و لكن ذكر وصف المدينة و بنيانها دون ذكر العقاب و عاقبة الهلاك أو ذكر أي شئ عن خصائص شداد سواء طلبه ألف أمير من جبابرة عاد أن يخرجوا و يبحثوا عن أرض ثمينة تشيد فيها هذه المدينة يدل على أن النصوص بعدت عن ذكر صفات شداد المتعالي المتكبر الجبار و ركزت النصوص على الحاكم الذي أمر ببناء هذه المدينة المثالية فقط .
أرم ذات العماد و النظرة الصوفية في مخيلة جبران خليل جبران أن أغلبية النصوص ذكرت وصف المدينة و بنيانها دون ذكر العقاب و عاقبة الهلاك أو ذكر أي شئ عن خصائص شداد سواء طلبه ألف أمير من جبابرة عاد أن يخرجوا و يبحثوا عن أرض ثمينة تشيد فيها هذه المدينة
مما يدل على أن النصوص بعدت عن ذكر صفات شداد المتعالي المتكبر الجبار و ركزت النصوص على الحاكم الذي أمر ببناء هذه المدينة المثالية فقط و كذلك العناصر التي ذكرت في الكتاب المقدس و تطورات أورشليم الخرافية تلك المدينة كثيرة الماء طيبة الهواء بعيدة عن الجبال.
و عدم ذكر العاقبة و العقاب هي عبارة عن توطئة المراد بها تغير أرم ذات العماد من مدينة مرتبطة بالعقاب و الهلاك و العذاب الذي ألم بالملك الجبار شداد و قومه إلى مدينة مثالية و أعجوبة من عجائب الدنيا، و هكذا يبدأ نص مسرحية جبران خليل جبران و إضافة قائمة شخصيات معينة بالإضافة إلى المكان يجعل من نص مسرحية أرم ذات العماد أطول من النص العادي الذي يكتفي به المخرج أو الكاتب، ثم أن العلاقة بين الجملة و الإخراج في سنة 1883، يجعل من هذا النص مختلف جداً عن نص مسرحي عادي.
علاوة على ذلك فقد جاء إختيار جبران خليل جبران لجميع شخصيات مسرحية أرم ذات العماد بناءاً على إرتباط هذه الشخصيات بحدث و قيم دينية معينة فعلى سبيل المثال :زين العابدين بن علي هو شخصية معروفه عند الشيعة و هو صوفي درويش في الأربعين من عمره، و اختيار جبران خليل جبران لسن الأربعين لأنه عمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، الشخصية الثانية نجيب رحمه و هو مسيحي في الثلاثة و الثلاثين من عمره و هو عمر يسوع المسيح عندما توفي، أما الشخصية الأخرى هي آمنه العلوية و إسمها يذكرنا بإحدى رموز الصوفية "رابعه العدوية" ،و آمنه العلوية هي من طائفة العلويين الشيعة.
أما شخصية زين العابدين بن علي المعروفه لدى الشيعة و إختيار جبران خليل جبران أن يكون عمر هذه الشخصية أربعين سنة سن نبوة الرسول (ص)، و هنا إشارة إلى كتاب جبران خليل جبران "The prophet" النبي ،حيث أن هذا الكتاب يتضمن كلام هذا النبي و الشاعر و الحاضرون الذين يطرحون عليه أسئلة كثيرة حول مواضيع متعددة الزواج، الحب، الأبناء، الملبس ،العطاء.... إلخ، و في الكتاب يقال أن هذا الرجل إسمه المختار المصطفى الشريف (النبي) و أن هذا الرجل أتى من بلاد بعيدة جداً أي أنه "هاجر" مثل هجرة النبي (ص) و وجد نفسه في مدينة اورخاليس و باللغة اليونانية معناه "مدينة"، و بدأ يخاطب الحاضرين في شهر يوليو أي شهر الحصاد حيث تكون المقارنة بين الحصاد الحقيقي و الكلمات و الخطاب الذي سيسمعه منه الحاضرين في مواضيع دنياهم.
ثم أن تموس المذكور إله البعث و القيامة في ديانات الشرق الأدني القديم و جميعها أشارت إلى الولادة و النبوة و البعث.
أضاف إلى أن محاولة جبران خليل جبران في رائعته أرم ذات العماد و اختياره لشخصيات المسرحية من توجهات دينية مختلفة في الشرق الأوسط مسيحيين (نجيب رحمه)،مسلمين شيعة و سنه (زين العابدين، أمنه العلوية... إلخ) كمحاولة للجمع بين هذه الأديان و توحيدها و هي أحدي تعاليم آمنه العلوية المتمثلة في وحدة الجسد و الروح، و وحدة الوجود، و التدين كحالة استبطانية ،و خلود الحياة، و وحدة الأديان.
و من خلال أرم ذات العماد تظهر نظرة التصوف العلوي الشيعي و التصوف المسيحي la mystique chrétienne ، و هذا الفهم ناتج من ميول بعض الأدباء اللبنانين التحرر من "قيود الطائفية" و فلسفة الصعود بالإنسان إلى طور جديد متجه نحو الإنسانية بإعتبارها مسيرة ولادة الإنسان الأسمى على الإنسانية و التطور بالبعد عن التفرقة بأسم الديانات مما جعل بعض الأدباء ينظرون و يكتبون كتب عن القومية العربية و على رأسهم أكبر دعاة القومية نجيب عازوري لبناني الأصل مسيحي ماروني و صاحب كتاب يقظة الأمة العربية Le réveil de la nation arabe ،و القومية العربية عند نجيب عازوري كانت هي نفس النزعة و الميول الذي جعل ميشيل عفلق يشترك في حزب البعث العربي الاشتراكي و يلعب دور كبير في تأسيسه و هو مسيحي من روم ارثوذكس الذي شارك في تأسيس حزب البعث الاشتراكى أحد رؤساء وزراء سوريا الذي تم إغتياله في باريس.
و ما جمع بين هذه الشخصيات هو رفض التفرقة الدينية و الالتفاف حول القومية العربية فكان تأسيس حزب البعث الاشتراكي و جميعهم درسوا و عاشوا في باريس.
في نص أرم ذات العماد حوار بين آمنه العلوية و نجيب و هذا الحوار حول أرم ذات العماد و هو يريد أن يلخص ما سمعه عن أرم ذات العماد حتى يتأكد هل هي (مدينة حقيقة)، أو (مدينة أحلام)، أم (مدينة روحية)، و كيف يمكن للإنسان أن يدخلها عبر المفازات و الصحراء و يصل إليها؟؟؟ ، و هل هي مدينة خيالية؟ أو روحيه لا يمكن للإنسان أن يدخلها إلا من باب الإيمان؟ أم جوار آمنه العلوية (المشبهه برابعه العدوية)؟ ، و أرم ذات العماد هي مدينة حقيقية و روحية في نفس الوقت هي مدينة تدور حول الإنفراد، أي على الإنسان أن يعيش تجربة خاصة تجعله يشعر بالجوع و العطش و الوحده حتى يتمكن الإنسان من الدخول إلى هذه المدينة و الدليل على ذلك ما ورد في الحديث (يدخلها بعض أمتي ).
و من الأشخاص الذين تمكنوا من دخول أرم ذات العماد راعي بحث عن ناقة ضاعت منه فأتبع آثارها في الصحراء حتى ضاع فوجد نفسه في أماكن لا يعرفها و هكذا وجد نفسه أمام سور أرم ذات العماد المدينة الذهبية و أكتشف الشوارع و القصور المبنية من الفضة و الذهب و الجواهر، فأخذ من هذه الجواهر حفنه ثم عاد و خرج إلا أنه ضل و لم يجد طريقه إلى هذه المدينة مرة أخرى، و قيل أن هذه الأحداث وقعت في عصر معاوية بن أبي سفيان فأحضر وهب بن منبه الذي كان عنده معرفه و إلمام كبير بكتب الأوائل و إخباري و قصصي و من أقدم من كتب في الإسلام
و كعب الأحبار صاحب مؤلف الاسرائليات و كان يهوديا ثم أسلم و يعتبر من الكتاب المقربين لمعاوية بن أبي سفيان آنذاك
و بفضلهما عرف المسلمين هذه الأساطير اليمنية فسأل معاوية بن أبي سفيان و قص عليه وهب بن المنبه قصة أرم ذات العماد و أظهر حفنة الجواهر فقيل أنه هو الرجل الذي دخل المدينة، لكن لا نجد ذكر لهذه الحكاية في نص مسرحية أرم ذات العماد لجبران خليل جبران ،و لكن ذكر حديث (يدخلها بعض أمتي) و ربط بين هذا الحديث و بين رحلة آمنه العلوية بين الصحراء هذه الرحلة التي كانت (رحلة طلب) واجهت فيها آلام الجوع و العطش و الوحدة و الآلم الطويل حتى وصلت البادية بعد أن أنتصرت على هذه الصعاب و المحن، فقد قيل أن الجبابرة قد بنوا أرم ذات العماد و لم يحجبوها عن الناس و لكن هذه المدينة بعد أن هلك أهل عاد و أبيدوا بقيت هذه المدينة محجوبه إلى يوم القيامة ،و لذلك قيل أن الضالين الطريق في عدن يرون شعاعاً عبارة عن هاله و كلما حاولوا الإقتراب من هذا الشعاع إبتعد عنهم شيئاً فشئ حتى يضلوا في الصحراء، و أن هذه المدينة باقية لم تحجب عن الناس لكن الناس هم من حجبوا أنفسهم عنها لأن على الإنسان أن يصل مرتبة يتمكن فيها الوصول إلى هذه المدينة و أن يشعل سراجه إلى أن يصل إليها، أي أن على الإنسان أن يسلك طريقاً داخلياً حتى يصل إلى هذه المدينة (أرم ذات العماد) فهي مدينة حقيقية يمكن الوصول إليها لكن عليه أن يسلك طريقها و هذا الطريق هو طريق الإيمان و لكنه إيمان مختلف.
و هذه الكلمات و الأقوال مجتمعة تجعل أن الطريق إلى هذه المدينة هو طريق الصوفية، أي أن على الإنسان أن يصل إلى طريق الصوفية المتمثلة في الفناء و الزهد.
و هذا يجعل من المدينة المحجوبه هي أقرب ما تكون للمدينة السماوية التي شيدها شداد بن عاد و أراد بها شداد أن تصبح الجنة على سطح الأرض، و هذه النزعة الصوفية الموحدة بين الأديان نجدها في مسرحية جبران خليل جبران (أرم ذات العماد) و مسرحيته الأخرى (النبي) The prophet, فهو يريد أن يرسل رساله هي أنه على الإنسانية أن تصل إلى هذا الطريق و الأشخاص المذكورين في هذه المسرحية آمنه العلوية، نجيب رحمه، زين العابدين بن علي، جبران خليل جبران و الشاعر... إلخ هذه الشخصيات تساعد في مهمة الوصول إلى هذا الطريق المؤدي إلى هذه المدينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق