عمر شبانة
الرواية الجديدة للكاتب الفلسطينيّ/ السوريّ تيسير خلف ذات العنوان الغريب والغرائبي "عصافير داروين"، العنوان مرتبط بمسألة النشوء والتطور ونظرية داروين الشهيرة التي ارتبطت بالعصافير ومناقيرها، تأخذنا إلى التاريخ، وإلى ما يشبه الرواية الوثائقية، خصوصًا لجهة استحضار الكثير من الشخصيات "الحقيقيّة"، من حقبة تعود إلى أواخر سنوات حكم الإمبراطورية العثمانية، أيّام السلطان عبد الحميد، ومحاولاته إثبات وجود هذه
الإمبراطورية التي تتمدّد على ثلاث قارّات، لكنّ مظاهر الضعف والتفكّك تظهر في ملامحها، ومن خلال مظاهر بسيطة، اقتصادية واحتفالية يتناولها الروائيّ هنا.
المناسبة هي مشاركة "الدولة العليّة" في معرض يقام في شيكاغو، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، مشاركة يريدها السلطان جديرة بـ"عظمة" الإمبراطورية وإنجازاتها، فيكلّف كاتبه ثريا باشا بالتحضير لهذه المشاركة "اقبلوا الدعوة، وانتظروا أوامري لتشكيل لجان التنفيذ!"، وتوضع الخطط واللجان التنفيذية مستعينة بكفاءات وإمكانيّات وشخصيّات من تركيا وسورية وبيروت وفلسطين، ولكن قبل ذلك دعونا نقف مع داروين وعصافيره. إنه عالم جديد على الرواية العربية!
الجبنة السويسرية
تنفتح الرواية على البروفيسور الأميركي فريدريك وارد بوتنام، وهو شخص حادّ الطبع والمزاج والرأي والموقف والسلوك، نلتقيه وهو "يتأمل بدهشة ممزوجة بالإعجاب؛ المناقير المتباينة للعصافير الخمسة التي أرسلها صديقه البروفيسور جورج باور من أرخبيل غالاباغوس المقابل لسواحل الإكوادور.."، فهو عالم الطبيعيّات والأنثروبولوجي والميثولوجيا المهجوس بتطور "النوع" البشري، وبالطيور والأسماك وصاحب نظرية يعتقد فيها ويجادل- في هذه الرواية- بأنّ أرقى ما وصل إليه الإنسان هو الجبنة السويسرية!
يحضر البروفيسور هنا بوصفه أحد المُبرمجين في معرض شيكاغو، ضمن تخصصه في عالم الجنس البشري والأعراق. وستكون له معاركه مع عدد من المولَجين بتنظيم المعرض. لكنه، ومن خلال الشعوب المشاركة في المعرض، سيحاول تأليف كتاب عن الأعراق والأنواع والسلالات، وينتهي به المطاف ليقرر الكتابة عن "شعب الرب" وعن موسى في مطلع كتابه المصوَّر! وبخصوص عصافيره الخمسة، فهي لم يبقَ له منها سوى واحد، هو ذو المنقار الأقوى الذي تمكّن من التكيّف مع كل أنواع الأطعمة، فيما نفقت تلك التي لم تستطع التكيّف.
حرملك وسلاملك
في حريم السلطان "الحرملك"، كما في بيت التحية والسلام "السلاملك"، وفي أرجاء الإمبراطورية، تُجرى الاستعدادات للحدث العظيم، بعد اعتماد الخطط من قبل السلطان. وهنا سنواجه مجموعة من الشخصيّات الأساسية في الرواية، وكلّها تحاول الصعود بأيّ ثمن. شخصيات ذات وجود حقيقي في التاريخ والثقافة، كما هو حال الصحافيّ خليل سركيس (ربّما كان هو خليل خطّار سركيس، صاحب مجلة "لسان الحال")، ونجيب سرسق، والمسرحيّ أبو خليل القباني، وإن كانت مساحته في الرواية ضئيلة، وربما كان من بينها شخصية مثل راجي الصقلي (ابن أبي شبلي النصراوي)، المهجوس بعالم المسرح والتمثيل، وقد كان له لقاء مع القبّاني، وسليم جاويش، (من نخبة أدباء دمشق، ومن الأثرياء المولَعين بهذه الرياضة (الخيول)، ويقال إنه كان يستطيع تبديل ثيابه وهو واقف على ظهر جواد يجري بأقصى سرعته).
وهناك الشخصيات التي تنتمي إلى عالم المتخيّل، وهي كثيرة ويصعب حصرها، لكن يمكن تمييز بعضها، من خلال حجم وأهميّة حضورها في الرواية، مثل شخصية الفارس وسائس الخيول السوري حسن الرمّاح "أحد مجانين الخيل في البلاد (الذي) يُطعم خيوله شعيرًا محمّصًا بسمن عربي". وهو صاحب حكايات الخيل وسلالاتها، مثل "كحيلة العجوز"، والأفراس الخمس ذات العيون الكُحل، التي اصطفاها الملك النعمان من بين خيول العرب، ومنها ولدت جميع السلالات التي نعرفها اليوم: البيض، والمعنقات، والدعج، والسعد، والبتر، والجرز، والتياس، والجلف، والمخلديات، والنوفليات..الخ. وصاحب الفرس نجمة، والحصان الدُبران، المرتبطين بالأفلاك السماوية.
مرمَح الخيول في شيكاغو
يهيئ تيسير خلف مسرح "مرمح الخيول" في شيكاغو، و"يؤثّثه" بما يلزم وما يكفي لتدور فيه حوادث مشاركة تركيا في المعرض الشهير، من شخوص وكل ما يلزم لعروض مسرحيّته عن داحس والغبراء، بكل ما تتطلبه من خيول وسيوف ومبارزات ورقص وغناء، مستعينًا بمئات من الممثلين والممثلات والخيل، بمن في ذلك فرسان محترفون لأداء حركات مثيرة، جاء بهم راجي من فلسطين وسورية ولبنان، بعد اختبارات دقيقة لأصول الخيل العربية وسلالاتها.
ويضع تيسير خلف قرّاءه في أجواء صراعات وخلافات حادّة، صراعات تنشب على أساس المصلحة الخاصة، بين أعضاء اللجنة الموكّلة بتنفيذ برنامج الاحتفالية التي تستمرّ شهورًا، ونقف على حالات من النصب والاحتيال من قبل شخصيّات أمريكيّة مسؤولة، بما فيها محامون وقضاة وشرطة، كلّ يحاول الحصول على نصيبه من "الكعكة"، ومع الخلافات نرى القتل والنهب والحرائق، ونرى الخيل تنفق والممثلين في حلات بؤس وجوع وتشرّد، إلى أن تنتهي الرواية بعاصفة ثلجية يقع ضحيتها مجموعة من "المشرّدين بلا بيوت (Homeless)، بمن فيهم السوريّ حسن الذي رفض العودة إلى بلاده من دون فرسه (نجمة) التي يعشقها.
ذلك كلّه، وهو غيض من فيض من حوادث الرواية ذات الحبكة القريبة من البوليسيّة، هو من الملامح الأساسية للمجتمع الأمريكي في ذلك الحين، من جهة، كما أنّها من ملامح تفكّك السلطة الحاكمة في تركيا ورموزها ورجالاتها. ولأن خطاب السلطان عبد الحميد و"أزلامه" كان يصرّ على ادّعاء البقاء، والعيش بعقلية الانتصارات وأوهامها، فقد بدا "فريق" عمل المعرض، في صراعاته وخلافاته، وكأنه يجسّد المهزلة التي تعيشها تلك السلطة، وأنّها لم تعد قادرة على العيش والاستمرار و"البقاء" في ظل صعود قوى جديدة في العالم، عالم يؤكد أن "البقاء للأقوى"، وهذه هي أمريكا تصنع قوّتها باستقطاب العالم بحضاراته إلى معرضها.
عوالم جديدة يرسمها المؤلف على مهل، حاشدًا مادة تاريخية ووثائقية، يشير إليها في هوامش نهاية الرواية، متوقّفًا عند ظواهر في المجتمع التركي، ومبرزًا الفوارق بينه وبين المجتمعات الحديثة، كما هو الحال في ما يخصّ التخلّف في النظر إلى المرأة وحضورها ودورها، والإشارات إلى احتلال الماسونيّة مراكز مهمّة في السلطة العثمانية، حيث نقرأ "جميع الذين وقّعوا عقود الامتيازات في الدائرة العثمانية ماسونيّون". مثلما تتطرق الرواية إلى "عروض الغرب الأميركي المتوحش التي كان يقدّمها في أوروبا منذ أربع سنوات، أسطورة رعاة البقر، العقيد بوفالو بل كودي".
حكايات ومعارف
ويفتح الأبواب على الحكايات والمعارف، فيجعلنا نطلّ على أيّام فلسطينية، من خلال راجي الذي يتحدث عن عرس شقيقه شِبلي، على نحو أسطوريّ، هذا العرس الذي تحوّل إلى حديث الناس في فلسطين لسنوات طويلة، وكيف "سار موكب العروس بصحبة ألف فارس على خيولهم المطهّمة، من ميناء حيفا إلى سور عكا وهم يهزجون ويلعبون بالسيوف والبنادق؟ وكيف اجتمع الناس من المدينة والأرياف البعيدة لمشاهدة لعبة رمي الجريد التي نصبت مضاربها وراياتها قرب السور".
وفي مقابل حكاية حرب داحس والغبراء، التي هي محور مركزيّ في الرواية، يضع الروائيّ على لسان شخصية أمريكية (أرندل) تفاصيل "حرب الوردتين"، بين أسرة لانكاستر التي كان شعارها وردة حمراء، وأسرة يورك التي كان شعارها وردة بيضاء، وهي الحرب التي تواصلت لثلاثة عقود متوالية! وكأنّما ليقول إنه ليس العرب وحدهم من خاضوا حروبًا طويلة، بل إن الغرب أيضًا قد شهد مثل هذه الحروب الطويلة الدامية.
كما يفتح بابًا على رؤية فولتير إلى الحضارة ومنتجاتها، وإلى الإنسان والقيم، حيث تردّد إحدى الشخصيات عبارة أن "الكآبة سمة حضارتنا، والسعادة سمة الحياة البدائية"، فتردّ شخصية أخرى "أنت تكرّر كلام اللاهوتيين"، وما معناه هي "مقولة لاهوتية تؤدي إلى نتيجة تقول إن ذلك استدعى إرسال الأنبياء.. أنت تكرر عبارات اللاهوتيين من دون أن تعي أبعادها..". وتكمل "إنّ ما يثير الحزن في نفس فيرتر، يا دكتور غيلمان، هو تغيّر العالم من حوله، لقد حمل ذاتًا تبحث عن الاستقرار والسكينة في هذا العالم الموغل في أنانيّته وانتهازية وجشعه".
هي رواية مفعمة بالحيوية، ذات لغة جميلة في بساطتها وقدرتها على الترميز والإشارة والتلميح حينًا، والتصريح والوصف المباشر حينًا، واستغلال الوقائع والأسطورة والخرافة في كثير من الأحيان.
عمر شبانة
ضفة ثالثة
الرواية الجديدة للكاتب الفلسطينيّ/ السوريّ تيسير خلف ذات العنوان الغريب والغرائبي "عصافير داروين"، العنوان مرتبط بمسألة النشوء والتطور ونظرية داروين الشهيرة التي ارتبطت بالعصافير ومناقيرها، تأخذنا إلى التاريخ، وإلى ما يشبه الرواية الوثائقية، خصوصًا لجهة استحضار الكثير من الشخصيات "الحقيقيّة"، من حقبة تعود إلى أواخر سنوات حكم الإمبراطورية العثمانية، أيّام السلطان عبد الحميد، ومحاولاته إثبات وجود هذه
الإمبراطورية التي تتمدّد على ثلاث قارّات، لكنّ مظاهر الضعف والتفكّك تظهر في ملامحها، ومن خلال مظاهر بسيطة، اقتصادية واحتفالية يتناولها الروائيّ هنا.
المناسبة هي مشاركة "الدولة العليّة" في معرض يقام في شيكاغو، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، مشاركة يريدها السلطان جديرة بـ"عظمة" الإمبراطورية وإنجازاتها، فيكلّف كاتبه ثريا باشا بالتحضير لهذه المشاركة "اقبلوا الدعوة، وانتظروا أوامري لتشكيل لجان التنفيذ!"، وتوضع الخطط واللجان التنفيذية مستعينة بكفاءات وإمكانيّات وشخصيّات من تركيا وسورية وبيروت وفلسطين، ولكن قبل ذلك دعونا نقف مع داروين وعصافيره. إنه عالم جديد على الرواية العربية!
الجبنة السويسرية
تنفتح الرواية على البروفيسور الأميركي فريدريك وارد بوتنام، وهو شخص حادّ الطبع والمزاج والرأي والموقف والسلوك، نلتقيه وهو "يتأمل بدهشة ممزوجة بالإعجاب؛ المناقير المتباينة للعصافير الخمسة التي أرسلها صديقه البروفيسور جورج باور من أرخبيل غالاباغوس المقابل لسواحل الإكوادور.."، فهو عالم الطبيعيّات والأنثروبولوجي والميثولوجيا المهجوس بتطور "النوع" البشري، وبالطيور والأسماك وصاحب نظرية يعتقد فيها ويجادل- في هذه الرواية- بأنّ أرقى ما وصل إليه الإنسان هو الجبنة السويسرية!
يحضر البروفيسور هنا بوصفه أحد المُبرمجين في معرض شيكاغو، ضمن تخصصه في عالم الجنس البشري والأعراق. وستكون له معاركه مع عدد من المولَجين بتنظيم المعرض. لكنه، ومن خلال الشعوب المشاركة في المعرض، سيحاول تأليف كتاب عن الأعراق والأنواع والسلالات، وينتهي به المطاف ليقرر الكتابة عن "شعب الرب" وعن موسى في مطلع كتابه المصوَّر! وبخصوص عصافيره الخمسة، فهي لم يبقَ له منها سوى واحد، هو ذو المنقار الأقوى الذي تمكّن من التكيّف مع كل أنواع الأطعمة، فيما نفقت تلك التي لم تستطع التكيّف.
حرملك وسلاملك
في حريم السلطان "الحرملك"، كما في بيت التحية والسلام "السلاملك"، وفي أرجاء الإمبراطورية، تُجرى الاستعدادات للحدث العظيم، بعد اعتماد الخطط من قبل السلطان. وهنا سنواجه مجموعة من الشخصيّات الأساسية في الرواية، وكلّها تحاول الصعود بأيّ ثمن. شخصيات ذات وجود حقيقي في التاريخ والثقافة، كما هو حال الصحافيّ خليل سركيس (ربّما كان هو خليل خطّار سركيس، صاحب مجلة "لسان الحال")، ونجيب سرسق، والمسرحيّ أبو خليل القباني، وإن كانت مساحته في الرواية ضئيلة، وربما كان من بينها شخصية مثل راجي الصقلي (ابن أبي شبلي النصراوي)، المهجوس بعالم المسرح والتمثيل، وقد كان له لقاء مع القبّاني، وسليم جاويش، (من نخبة أدباء دمشق، ومن الأثرياء المولَعين بهذه الرياضة (الخيول)، ويقال إنه كان يستطيع تبديل ثيابه وهو واقف على ظهر جواد يجري بأقصى سرعته).
وهناك الشخصيات التي تنتمي إلى عالم المتخيّل، وهي كثيرة ويصعب حصرها، لكن يمكن تمييز بعضها، من خلال حجم وأهميّة حضورها في الرواية، مثل شخصية الفارس وسائس الخيول السوري حسن الرمّاح "أحد مجانين الخيل في البلاد (الذي) يُطعم خيوله شعيرًا محمّصًا بسمن عربي". وهو صاحب حكايات الخيل وسلالاتها، مثل "كحيلة العجوز"، والأفراس الخمس ذات العيون الكُحل، التي اصطفاها الملك النعمان من بين خيول العرب، ومنها ولدت جميع السلالات التي نعرفها اليوم: البيض، والمعنقات، والدعج، والسعد، والبتر، والجرز، والتياس، والجلف، والمخلديات، والنوفليات..الخ. وصاحب الفرس نجمة، والحصان الدُبران، المرتبطين بالأفلاك السماوية.
مرمَح الخيول في شيكاغو
يهيئ تيسير خلف مسرح "مرمح الخيول" في شيكاغو، و"يؤثّثه" بما يلزم وما يكفي لتدور فيه حوادث مشاركة تركيا في المعرض الشهير، من شخوص وكل ما يلزم لعروض مسرحيّته عن داحس والغبراء، بكل ما تتطلبه من خيول وسيوف ومبارزات ورقص وغناء، مستعينًا بمئات من الممثلين والممثلات والخيل، بمن في ذلك فرسان محترفون لأداء حركات مثيرة، جاء بهم راجي من فلسطين وسورية ولبنان، بعد اختبارات دقيقة لأصول الخيل العربية وسلالاتها.
ويضع تيسير خلف قرّاءه في أجواء صراعات وخلافات حادّة، صراعات تنشب على أساس المصلحة الخاصة، بين أعضاء اللجنة الموكّلة بتنفيذ برنامج الاحتفالية التي تستمرّ شهورًا، ونقف على حالات من النصب والاحتيال من قبل شخصيّات أمريكيّة مسؤولة، بما فيها محامون وقضاة وشرطة، كلّ يحاول الحصول على نصيبه من "الكعكة"، ومع الخلافات نرى القتل والنهب والحرائق، ونرى الخيل تنفق والممثلين في حلات بؤس وجوع وتشرّد، إلى أن تنتهي الرواية بعاصفة ثلجية يقع ضحيتها مجموعة من "المشرّدين بلا بيوت (Homeless)، بمن فيهم السوريّ حسن الذي رفض العودة إلى بلاده من دون فرسه (نجمة) التي يعشقها.
ذلك كلّه، وهو غيض من فيض من حوادث الرواية ذات الحبكة القريبة من البوليسيّة، هو من الملامح الأساسية للمجتمع الأمريكي في ذلك الحين، من جهة، كما أنّها من ملامح تفكّك السلطة الحاكمة في تركيا ورموزها ورجالاتها. ولأن خطاب السلطان عبد الحميد و"أزلامه" كان يصرّ على ادّعاء البقاء، والعيش بعقلية الانتصارات وأوهامها، فقد بدا "فريق" عمل المعرض، في صراعاته وخلافاته، وكأنه يجسّد المهزلة التي تعيشها تلك السلطة، وأنّها لم تعد قادرة على العيش والاستمرار و"البقاء" في ظل صعود قوى جديدة في العالم، عالم يؤكد أن "البقاء للأقوى"، وهذه هي أمريكا تصنع قوّتها باستقطاب العالم بحضاراته إلى معرضها.
عوالم جديدة يرسمها المؤلف على مهل، حاشدًا مادة تاريخية ووثائقية، يشير إليها في هوامش نهاية الرواية، متوقّفًا عند ظواهر في المجتمع التركي، ومبرزًا الفوارق بينه وبين المجتمعات الحديثة، كما هو الحال في ما يخصّ التخلّف في النظر إلى المرأة وحضورها ودورها، والإشارات إلى احتلال الماسونيّة مراكز مهمّة في السلطة العثمانية، حيث نقرأ "جميع الذين وقّعوا عقود الامتيازات في الدائرة العثمانية ماسونيّون". مثلما تتطرق الرواية إلى "عروض الغرب الأميركي المتوحش التي كان يقدّمها في أوروبا منذ أربع سنوات، أسطورة رعاة البقر، العقيد بوفالو بل كودي".
حكايات ومعارف
ويفتح الأبواب على الحكايات والمعارف، فيجعلنا نطلّ على أيّام فلسطينية، من خلال راجي الذي يتحدث عن عرس شقيقه شِبلي، على نحو أسطوريّ، هذا العرس الذي تحوّل إلى حديث الناس في فلسطين لسنوات طويلة، وكيف "سار موكب العروس بصحبة ألف فارس على خيولهم المطهّمة، من ميناء حيفا إلى سور عكا وهم يهزجون ويلعبون بالسيوف والبنادق؟ وكيف اجتمع الناس من المدينة والأرياف البعيدة لمشاهدة لعبة رمي الجريد التي نصبت مضاربها وراياتها قرب السور".
وفي مقابل حكاية حرب داحس والغبراء، التي هي محور مركزيّ في الرواية، يضع الروائيّ على لسان شخصية أمريكية (أرندل) تفاصيل "حرب الوردتين"، بين أسرة لانكاستر التي كان شعارها وردة حمراء، وأسرة يورك التي كان شعارها وردة بيضاء، وهي الحرب التي تواصلت لثلاثة عقود متوالية! وكأنّما ليقول إنه ليس العرب وحدهم من خاضوا حروبًا طويلة، بل إن الغرب أيضًا قد شهد مثل هذه الحروب الطويلة الدامية.
كما يفتح بابًا على رؤية فولتير إلى الحضارة ومنتجاتها، وإلى الإنسان والقيم، حيث تردّد إحدى الشخصيات عبارة أن "الكآبة سمة حضارتنا، والسعادة سمة الحياة البدائية"، فتردّ شخصية أخرى "أنت تكرّر كلام اللاهوتيين"، وما معناه هي "مقولة لاهوتية تؤدي إلى نتيجة تقول إن ذلك استدعى إرسال الأنبياء.. أنت تكرر عبارات اللاهوتيين من دون أن تعي أبعادها..". وتكمل "إنّ ما يثير الحزن في نفس فيرتر، يا دكتور غيلمان، هو تغيّر العالم من حوله، لقد حمل ذاتًا تبحث عن الاستقرار والسكينة في هذا العالم الموغل في أنانيّته وانتهازية وجشعه".
هي رواية مفعمة بالحيوية، ذات لغة جميلة في بساطتها وقدرتها على الترميز والإشارة والتلميح حينًا، والتصريح والوصف المباشر حينًا، واستغلال الوقائع والأسطورة والخرافة في كثير من الأحيان.
عمر شبانة
ضفة ثالثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق