الكاتبة السودانية ملكة الفاضل |
محمد الحمامصي
تحتفى الكاتبة السودانية ملكة الفاضل عمر الفائزة بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي بالواقع وتستمد منه أفكارها الأساسية لمختلف إبداعاتها سواء في الشعر، أو القصة القصيرة أو الرواية، فرواياتها الثلاثة "الجدران القاسية" و"في مكان ما" وأخيرا الرواية الفائزة "الشاعرة والمغني" تشتبك مع الواقع في أفكارها ورؤاها، لتحمل تجليات تناقضاته وانعكاسها على الإنسان والمكان.تخرجت الفاضل من كلية التربية جامعة الخرطوم؛ ولديها دبلوم عال في الخدمة الاجتماعية وماجستير في الترجمة من المعهد الاسلامي للترجمة، وتعد الآن لأطروحة الدكتوراه. فازت بالعديد من الجوائز في الشعر والقصة والمسرح.
وفي هذا الحوار معها نتعرف تلقي الضوء على جوانب مهمة في تجربتها.
قالت الفاضل "بدأت بالقراءة التي جذبتني إلى عوالم الأدب بأجناسه المختلفة. وكنت وما زلت قارئة نهمة، وكنت محظوظة بدنيا المجلات والروايات ودواوين الشعر التي أتاحتها لي الأسرة، كما أن المدرسة بمراحلها التعليمية المختلفة ساهمت بشكل أو بآخر في تشكيل محاولاتي الأولى بما كانت تتيحه من أمسيات ثقافية ومجلات حائطية ومعارض فنية سنوية ومسابقات في الشعر والقصة القصيرة، وقد نلت بين الحين والآخر جائزة هنا وهناك. ولكن جائزتي الكبرى تمثلت في الصمود والاستمرارية في عالم الأدب. نظمت الشعر بالفصحى والعامية وما زلت أحتفظ بقصائد البدايات، وربما تجد طريقها إلى النشر قريبا.
النشر يمثل حافزا معنويا يشجع المتردد والمتوجس إلى الدفع بما جادت به قريحته وملكاته إلى القراء. نشرت لي جريدة الخرطوم قصتي القصيرة "العريس". ثم قصيدة "يمة" وبعدها توالى النشر في صحف مختلفة. والتحول الحقيقي حدث عندما كتبت روايتي الأولى "الجدران القاسية" التي استغرقت ثلاثة أعوام. ثم رواية "في مكان ما" وأخيرا "الشاعرة والمغني" التي نالت المركز الثالث في مسابقة الطيب صالح للإبداع الكتابي في دورتها الثامنة.
الفكرة الأساسية لرواية "الجدران القاسية" عالجت قضية التعذيب في السجون، وقد أشارت الفاضل إلى أن الفكرة جاءت "كنت في غربة وعندما أعود للوطن كانت تحيط بي حكايات الاعتقال والتعذيب، فترة عجيبة مرت استحوذت فيها أحاديث المعتقلات على نصيب كبير من جلسات الأنس العادية واللقاءات، وكانت الحكايات تجعل الحاكي والمستمع يضحك أو يأسف من شر البلية.
تلك الحكايات وأخرى حدثت لأقارب لي في عهود مختلفة شكلت جل أحداث الرواية. و"الجدران القاسية" تحكي عن معاناة معتقل سياسي، وفكرتها جاءت عندما صدمت بينما أقرأ مجلة المجلة العربية عن مواطن عذب حتى أصيبت ساقه وهددت بالبتر. ذهلت ولم أعد أفكر إلا في هذا الشاب وما حدث له، وكيف ولماذا؟ وأسئلة أخرى طرحتها في مراحل مختلفة من الرواية وضمنتها قصيدة "يمة" التي سبقت الرواية وتقول في مطلعها: "ولدك لا قنع لا راح". ومع ذلك فلا أحسب أن الرواية ترمي إلى تجريم فترة ما أو نظام بعينه، وإنما ممارسة تتكرر على مر العصور، وعلى الرغم من التطور الذي حققته البشرية في نواح مختلفة إلا إن النزعة لإلحاق الأذى الجسماني بالآخرين بمبررات شتى ما زالت هي هي، تتكرر بأشكال مختلفة وتلحق بالجسد والروح جراحا غائرة يصعب مداواتها.
وأضافت الفاضل: لم أتعرض للسجن ولا التعذيب، ولم أخف الفشل أو بالأصح لم أفكر فيه، ولم يكن ضمن هواجسي المعتادة. لقد أعملت ملكة الخيال مع حكايات الواقع ورواياته في كتابة أحداث الرواية، وكل ما كنت أفكر فيه أن تخرج "الجدران القاسية" للناس. وهذا ما حدث ولله الحمد والشكر لأخوة وأخوات ساعدوا وساعدن بتصحيحها وجمعها وبالنصح والتوجيه فيما يتعلق بالجمع والنشر.
وحول روايتها الفائزة بجائزة الطيب صالح "الشاعرة والمغني" والتي تتشكل رؤيتها حول علاقة حب بين شاعرة ومغني، وترصد الواقع الاجتماعي لسكان منطقة مهمشة، أكدت ملكة الفاضل أن "الشاعرة والمغني" يأتي كعنوان يشكل عتبة لأحداث الرواية التي تتمدد وتتطور على نحو لم يكن في حسبان الكاتبة نفسها كما أعتقد.
وقالت: العناوين حسب تجربتي في الشعر والنثر تفرض نفسها وقد يتمرد عليها الكاتب أو الكاتبة ويعمل على تغييرها في النهاية على الرغم من أنه سيظل مرتبكا ازاء العنوان الأول. لم أعد أقيد نفسي بالعنوان، فعنوان روايتي الأولى كان جزءا من فقرة في أحد فصول الرواية. وعنوان روايتي الثانية كان أيضا جزءا من فقرة في منتصف الرواية، وقد أطاح بالعنوان الأول الذي اخترته. كما ذكرت لا أتقيد بالعنوان ولا بالبطولة المطلقة والبطل الواحد أو الشخصية الرئيسية، فلكل شخصية دورها الذي إن طمس تأثرت الرواية وفقدت بعض تماسكها.
ولفتت الفاضل أن تصريحها بأن أعمالها تعتمد على الجمع بين الواقع والخيال لا يعني خشية ردود الفعل، وتجريم الواقع الاجتماعي لأفكار تكشف متناقضاته، وقالت: الواقع محتشد بصور قد يراها البعض نوعا من الخيال. كثير من مشاهد رواياتي رأيتها رأي العين، الخيال يأتي مع بعض التفاصيل الصغيرة ويتمدد بين الأحداث وتسلسلها والأمكنة ووصفها ثم الشخصيات وظروفها. مثلا في في رواية "في مكان ما" كتبت عن أماكن من وحي الخيال وأعطيتها أسماء من عندي، وقد ربط بعض قراء الرواية بينها وبين "دارفور" على الرغم من أنني لم أذهب الى دارفور حتى الآن.
الإشارة الوحيدة كانت بعبارة "في مكان ما من أفريقيا" لأن الرواية تحكي في بعض فصولها عن "الطفل المفقود" الذي ينتزع من بيئته، ويعود إليها غريب اللسان فيما يمثل جزءا من متاعب هذه القارة وربما غيرها. وردا على سؤالك أنا لا أخشى الواقع ولا أعمل على تجريم شخص أو كيان أو نظام، إنما أتناول ممارسة أجدها مستفزة بما يكفي لمعالجتها في رواية.
وكشفت ملكة الفاضل أن دراستها الخدمة الاجتماعية وعلم النفس والتربية وغيرها من الحقول الأكاديمية كان لها أثر في تشكيل رؤيتها، فهذه الدراسات ـ برأيها ـ تضع الأطر المناسبة لما يتلقاه الإنسان وما يمر به من تجارب وأحداث. ربما كان لعبارة للفيلسوف جون ديوي عن العقاب الجسماني، وما إذا كان من حق أي انسان إلحاق الأذى الجسدي بأي إنسان آخر، دور في ثيمة "الجدران القاسية"، ورواية "في مكان ما" تدور أحداثها بين جدران منظمة عالمية ظاهر أجندتها هو العمل على تقليص معاناة الإنسان خاصة في المعسكرات وعبر الأنشطة والمؤتمرات والدعم المادي ثم يكتشف العاملون فيها أنهم ومن يعملون لأجلهم ضحايا أجندة خفية. وبلا شك أن الخدمة الاجتماعية كانت حاضرة في فصول الرواية المختلفة وأيضا الإعلام وفق منظومة الحداثة التي تنتظم العالم أجمع.
وأوضحت الفاضل أنها كتبت الشعر بالفصحى والعامية، وقالت بداياتي كانت مع الشعر ثم القصة القصيرة والمقال فالرواية، قصيدتي "زمان النصر" التي فازت بالمركز الاول لمسابقة مجلة اليونيسف كانت بالفصحى، وقصيدتي "نوافذ النور" الفائزة باحدى جوائز مسابقة كرسي اليونسكو للتصحر بجامعة الخرطوم جاءت بالعامية، وكذلك مسرحية "فاطمة السمحة" التي فازت مؤخرا بجائزة في مسابقة محمود صالح عثمان، ولدي العديد من القصائد بالفصحى والعامية ولكن دعني استعير تعليق أستاذنا الكبير الشاعر فضيلي جماع الذي قرأ مسودة رواية "الجدران القاسية" وأدين له بالفضل في حسم ترددي والدفع بها للنشر، وكان تعليقه أن "هذا أسلوب شاعر". ولم يكن يعرف أنني أقرض الشعر.. فربما يكون لذلك أثره على طريقتي في السرد.
أما المزج بين العامية والفصحى في رواياتي، فدعني أقول لك بأنني في نقطة ما أثناء كتابتي لا أجد غير عبارة بالعامية لتعبر عن ما أريد قوله. ومن السهل حسب تجربتي أن تكتب تلك العبارة بالفصحى، ولكن من الصعب أن تقتنع بأنها العبارة المناسبة أو المطلوبة.
روايتي التي بدأت كتابتها مؤخرا تحتوي على عبارة ربما تؤدي مهمتها خيارات عديدة بالفصحى ولكني لا أجد أفضل من العبارة التي كتبتها بالعامية لتعبر عن الموقف.
وأكدت الفاضل أن الرواية السودانية تمضي الآن حثيثا في ماراثون السرد في العالم العربي، وتسجل حضورا مشهودا أفريقيا وعربيا، ومثلما انطلقت عالميا من قبل بروايات الطيب صالح وقائمة المائة، ها نحن الآن نشاهد الحضور المتوالي لأمير تاج السر في القائمة القصيرة للبوكر العربية وزيادة حمور ومسابقة نجيب محفوظ، وهناك علي الرفاعي وجائزة كتارا، وبشرى الفاضل والبوكر الأفريقية، وبركة ساكن وجائزة فرنسية. وبعيدا عن الجوائز والمسابقات هناك كتاب سودانيون سجلوا حضورا قويا في مجال الرواية ويقودون الطفرة الرائعة التي تشهدها الرواية السودانية، وإذا ما توفرت لأعمالهم الترجمة والإعلام المناسب فهم بلا شك سيضيفون الكثير للمكتبة العالمية.
وقالت إن المشهد الثقافي في السودان يشهد أيضا حركة دوؤبا في إثراء القراءة، وقد شهدت عن كثب جهود نادي الكتاب السوداني بقيادة مشاعر شريف الذي يؤمه قراء وقارئات الرواية محلية وعالمية، ويقرأ كل شهر رواية واحدة ثم يتناولها الأعضاء بالتحليل والنقد والنقاش.
إنه مبادرة جميلة أتمنى وأتوقع لها الاستمرارية والنجاح. حيث جعلت الخرطوم تلتقي بأسماء رائدة في مجال الأدب والسرد، ولكم أسعدني مشهد أحد الشباب وهو يحتفي بالقامة واسيني الاعرج بالتقاط صورة معه أثناء فعاليات الدورة الأخيرة، وشخصيا سعدت بالتعرف على زوجته وهي أيضا من أهل الإبداع إلى جانب أخريات وآخرين من مبدعي العالم العربي.
أتمنى أن نشهد قريبا فعالية تجمعنا بمبدعي أفريقيا والعالم أجمع، فليس مثل الرواية ما يجعلك تتخطى المسافات لتتعرف على الشعوب الأخرى.
وكشفت الفاضل أنها تجد نفسها في الترجمة فهي مجال ممتع وإن لم يخل من مشقة، وقالت "عندما أضع قلم الكتابة ألتقط قلم الترجمة. وما لدي من مؤلفا ت بالتحديد اثنان هما نتاج جهد أكاديمي إذ كان "علم الاسلوب" المترجم إلى العربية هو مشروع بحث الماجستير. والثاني عن دراسات الترجمة وهو حقل جديد ضمن الحقول الأكاديمية الأخرى أعمل عليه ضمن دراسة الدكتوراه التي تأخرت مؤقتا عن إنجازها لظروف عدة. وكلا المشروعين قد يصلح مادة لكتاب ضخم في الترجمة .
ورأت إن الترجمة الجيدة تضع المترجم في مصاف المبدعين. فعملية الترجمة تستدعي إلماما كافيا بلغة النص الأصلي وبيئته وظروفه، ثم الإلمام الكافي باللغة المترجم إليها وثقافة وبيئة الهدف، وبدون ذلك وأكثر سترتكب أكبر خيانة في عالم الترجمة وهي خيانة النص. لذا فالمترجم الحقيقي يظل مطاردا بذلك الهاجس ويعمل على تفاديه ما أمكن. إن الكثير من النصوص التي تمر بك في ترجمة على الشريط على شاشة التلفاز أو في الأسافير وخاصة المعتمدة على الترجمة الآلية ترتكب تلك الخيانة على نحو واضح. لذا فالمترجم الذي وصفه أورتيغا كاست بالشخص "الخجول" يظل مهموما بترجمته، وما إذا كان سينجح فيها بدون أن تحدث خيانة في حق النص الأصلي.
وأشارت الفاضل إلى إن حظوظ الترجمة والمترجمين عموما صارت أكثر رحابة بسبب الطفرة التقنية والإعلامية التي يشهدها العالم أجمع. الآن أصبح الاتصال يتم في لمح البصر والتواصل صار أمرا متيسرا، مما يعني تبادل الخبرات والتجارب وأيضا زيادة الفرص المتاحة على المستوى المادي والمعرفي. وهنالك العديد من المترجمين والمترجمات في السودان ممن حباه الله ملكة الترجمة ويسعى إلى تطويرها بالدراسات الاكاديمية والدورات التدريبية وغيرها. وعالميا هناك من المترجمين من تخصص في ترجمة الروايات العربية مثل البريطاني جوناثان رايت.
محمد الحمامصي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق