⏪⏬
هل سأتمكن من الانتحار اليوم؟
تساءلت في صمت، أثناء وقوفها أمام عتبة الاستوديو. المكان مزدحم هنا، لذلك لابد أن تنهي سيجارتها قبل الدخول. أدخلت رأسها من
الباب المنفرج وبيد مثلجة مرتعشة رفعت السيجارة وسحبت منها نفسًا طويلا. ترى لماذا كل هذا الازدحام؟ هل يحتاج كل فرد من هؤلاء مبلغ المائة وخمسين جنيها لقاء المشاركة في تصوير تلك الأغنية؟ أم أنه الحس الوطني الرائج الآن كرواج الهواتف الذكية والملابس الفسفورية وعُصي تصوير السيلفي؟ أوربما هي مجرد رغبة في الظهور بالتلفاز، على نفس المساحة السحرية التي تظهر فوقها وجوه المشاهير وأنصاف الآلهة.
ارتطم شيء ما بجانبها بقوة؛ فتهاوت السيجارة من بين إصبعيها على الأرض، ثم دُهِسَت تحت قدمين مزينتين بطلاء أظافر أحمر فاقع. كانت امرأة قررت الدخول فدخلت، بل انحشرت من الباب ببساطة وبدون تعقيدات الاستئذان أو الاعتذار أو الاحتكاك البصري بمن تصطدم به. حدجتها الفتاة بنظرة غضب مكتوم وهي تفرك ولاعتها المعدنية وتدسها في جيب بنطالها الجينز القصير. لقد نفدت السجائر على أية حال، والوقت يمر. تلفتت حولها، فلم تجد سوى امرأة في أواخر الأربعينيات تحدق بغرابة في المرأة الأخرى التي قتلت سيجارتها توا بلا رحمة، وعيناها مغرورقتان بالدموع. ربما في يوم آخر كانت ستربت على كتفها وتسألها بحنو عن سبب حزنها، أما اليوم، فلم تعد تمتلك ما تواسي به شخصًا سواها. لا تملك سوى أن تطيل النظر لوجهها الغارق في البؤس والعرق علها تمنحها شيئا من المواساة الصامتة.
لكن السيدة الأربعينية الواقفة على عتبة البكاء، لم تكن ترى أمامها سوى ذات القدمين الملونتين. أسندت جسدها الذي يقارب وزنه المائة وخمسون كيلو جراما إلى الحائط، ثم مسحت العرق المتفصد من جبينها في كم قميصها الحريري. نظرت حولها وكأن وعيها قد حل توا في رأسها بعد أن كان ضائعا في متاهات بعيدة. سألت الفتاة دون أن تنظر لها
“ما هذا المكان يا بنتي؟”
فأشارت الثانية نحو ورقة بيضاء معلقة بجوار الباب..
“مطلوب رجال و نساء وأطفال من كل الأعمار للمشاركة في تصوير فيديو كليب لأغنية (يا مصر يا) للمطرب الكبير هاني. المطلوب وجوه مصرية أصيلة ولا يشترط العمر، المقابل 150 جنيه”
وماهي إلا ثوان حتى دلفتا للأستوديو، تتبع أحدهما الأخرى دون أن تبصرها.
الزحام خانق برغم أجهزة المكيف المشغلة بأقصى طاقتها، والمقاعد قليلة لا تكفي أكثر من ربع عدد الموجودين، وبالرغم من ذلك، كان المقعد بجوار الفتاة خاليا، في اللحظة التي كانت تبحث فيها السيدة الأربعينية عن أي شئ تلقي فوقه جسدها الثقيل المنهك.
وكأن طاقة ما خفية تجمع الحزانى بجوار بعضهم بعضا، لا ليخفف أحدهم حمل الآخر، بل لتتضاعف أحمالهم سويا فيتشاركون لحظة السقوط.
حشرت نفسها بجوارها، ليصير المكان خانقا أكثر مما كان من قبل. الجو حار لدرجة لا تحتمل وبالرغم من ذلك لازالت كفيها المتشبثان بالولاعة مثلجان يرتعشان. أشارت السيدة الأربعينية نحو قاتلة السجائر وبدأت في حديث بدا وكأنه موجها للفتاة المحشورة بجوارها بالرغم من عدم منطقية الأمر
“أترين تلك الفاجرة ذات العباءة السوداء المطرزة، والأظافر المطلية بالأحمر الفاقع؟ لقد جرجرت نفسي لأكثر من نصف ساعة أتبعها في شوارع وسط البلد. كنت متأكدة أني سأكشف في نهاية الطريق عن لقاء بينها وبين الخائن، إلا أني كنت مخطئة، لكن هذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئا، فتلك الفاجرة فاجرة وزوجي الخائن خائن…
أخبريني بما أنك لازلت شابة. كيف لا تتأثر كل الألوان على وجهها بذلك الحر اللاهب؟ كيف لا تذوب وتتساقط من فوقه كما تتساقط الشوكولاتة السائلة من فوق الكعكة؟ لماذا تصبغ شعرها بلون برتقالي أشبه بلون المانجو، وتخرج نصفه من مقدمة غطاء رأسها؟ لماذا تغرق نفسها بتلك الكمية الغريبة من العطر برائحة الحلوى؟ إنه يختلط برائحة عرقها بشكل يثير الغثيان. لماذا تسير بتلك الرقاعة ولا يكف جسدها عن الاهتزاز كقطعة الجيلي؟ أجل إنها تبدو كقطعة جيلي بلون المانجو وبرائحة المانجو والعرق. طبق يثير شهية الرجال وقرفنا نحن”
توقفت عن الكلام للحظات ثم نظرت للفتاة الموشكة على فقدان الوعي. لم تكترث لها وأردفت
“سبحان الله نصيب… لم أكن أعرف إلى أين تنوي الذهاب، وفوجئت هنا أنه موضوع مربح…. مائه وخمسون جنيها يمكن أن يفعلوا الكثير كما تعرفين… سأشتري بهم هدية لأبلة هبة حتى تكف عن مضايقة الولد في المدرسة… يللا الي ييجي منهم أحسن من عينهم… ربما أشتري لها علبة مكياج لتتلون بها كما تحب أن تتلون النساء”
لم تتمكن الفتاة من احتمال المزيد من الثرثرة. كان قلبها يرتجف كعصفور وتتساقط من وجهها قطرات عرق بارد تسبب لها رجفة خفيفة. تنفست بصعوبة ووقفت في مكان بعيد بقدر الإمكان عن السيدة التي تنضح بؤسا وكلاما.
أسندت ظهرها إلى حائط ما وشبكت ذراعيها وهي تفكر. ليس مطلوبا منها سوى أن تبتسم برضا أمام الكاميرا. هكذا قال مساعد المخرج
“وجوه مصرية أصيلة، تنظر بطيبة و تبتسم برضا“
أمر صعب رغم سهولته، فقد صارت شفتيها تحملان الابتسامة كرجل عجوز يحمل الأثقال… رجل عجوز!
كانت تنظر بلا وعي للعجوز الجالس في الركن هناك. وجهه جميل كالشجرة القديمة المغضنة أمام بيت جدتها، وعينيه الضيقتين تحكيان حكاية ما بصوت حنون غير مسموع. غريب أن تتذكر الآن الشجرة القديمة، بما يصاحبها من ذكريات المدرسة الابتدائية. صف العلوم… انبهارها بدرس الخاصية الشعرية للنباتات، وكيف تتحدى المياه الجاذبية الأرضية بداخلها وتصعد لأعلى بدلا من أن تسقط لأسفل. تذكرت كيف صارت بعدها تحتضن الشجرة كلما أحست بالحزن وتبكي بحرقة، حتى تصعد دموعها للأعلى نحو السماء، حتى يراها الله ويعلم ما أصابها.
ترى…هل لازالت دموعها تصعد للسماء الى الآن؟ هل لازال الله يذكرها؟ ترى هل ستذهب للجحيم عندما تنتحر؟ ولكن هل يمكن أن تفلت من الجحيم إن لم تفعل؟ هي لا تظن ذلك. لقد فقدت روحها على الطريق، ولن يكون انتحارها سوى ملاحقة لتلك الروح الضائعة، كطفل يركض خلف فراشة ملونة تطير نحو دغل مظلم، فهل سيعاقبها الله على ذلك؟
لقد أمضت أكثر من عام تدخر بضعة آلاف لقضاء عمرة قبل أن تنفذ مخطط انتحارها!
كانت تنتوي شد رحالها إلى بيت الله، لعله يلقي في صدرها المظلم شئ ما مضئ، لعله يبعث لها رسالة ما قبل الرحيل. قضت أيامها في ترجمة المقالات للصحف، وفي كتابة التقارير، لتعود بعدها وحيدة للشقة المفروشة البائسة حيث تسكن. تنتظر وتطيل الانتظار، وعندما اكتمل المبلغ، استعاره أحد الأصدقاء واختفى.
ترى… هل تلك هي الرسالة؟ هل طردت من رحمته للأبد؟
والآن هي مفلسة ووحيدة وتحتاج لمخطط جديد للرحيل. ستتقاضى المائة وخمسون جنيها وتشتري زجاجة فودكا، ثم تغلق على نفسها غرفتها. ستسكر ثم تقطع شرايينها بأسرع ما يمكن. هكذا سيكون الأمر محتملا.
لقد حان دورها أخيرا. وقف مساعد المخرج قبالتها محدقا في كل جزء منها وهو يلوي شفتيه ويحك ذقنه.
“جميلة… فتاة سمراء جميلة بعينين خضراوين وشعر قصير”
ثم رفع كفه للأعلى وكأنه سيلقي على مسامعها سر كوني مخبوء
“لكني… لا أرى في وجهك مصر… أتفهميني”
استدار للمكتب المجاور له. التقط قلما وكتب على ظهر بطاقة ما رقم هاتف، وبابتسامة خبيثة، ناولها البطاقة وأردف
“هذا هاتفي الخاص… كلميني في أي وقت وسأخبرك عن تجارب آداء أخرى يمكنك أن تجربي حظك فيها”
نظرت طويلا للبطاقة. مدت يدها ببطء نحوها، فوجدتها ترتعش، ورأت صورة البطاقة وكأنها تنمحي شيئا فشيئا من أمامها. هل ستفقد الوعي الآن؟ لا ليس هنا…
جرجرت نفسها بصعوبة متجهة للمقعد حيث كانت تجلس. كادت أن تسقط، إلا أن المرأة الأربعينية احتضنتها بسرعة، وأجلستها مكانها. أسندت رأسها إلى الحائط وحاولت بصعوبة فتح عينيها. رائحة العرق تتغلغل أكثر وأكثر في أنفها فتثير رغبتها في التقيؤ، والأصوات من حولها تزداد إرتفاعا…
وفجأة صدحت السماعات الضخمة في أركان الأستوديو بصوت المطرب النجم هاني. ربما أرادوا أن يندمج الممثلين في أجواء الأغنية ليتحسن آدائهم…
“يا مصر يللا… يللا يللا… يللا يللا… يللا بينا
دي الُفرقة والله… والله والله… والله والله… صعبة علينا
يا مصر ياااااااا
يا مصر يااااااااااا”
“يا بنت الكلب”
قالتها السيدة الأربعينية وهي تراقب امرأة المانجو. كان مساعد المخرج يدس شعرها البرتقالي تحت غطاء رأسها، وهي تضحك برقاعة فاضحة، وبعد أن اختفى شعرها تماما، قال لها بإعجاب
“هكذا أصبح وجه مصري أصيل… برافو”
“يجب أن أرحل”
قالتها الفتاة بصوت هامس وهي تحاول النهوض. يجب أن ترحل، بالرغم من صعوبة الأمر. كان كل شيء يبدو حولها ضبابيا كالحلم. الأجساد المتلاصقة، السيدة الغاضبة، امرأة المانجو، مساعد المخرج، امرأة أنيقة تطوق ابنها بذراعيها في فزع وكأنها تريد أن تحميه من كل هؤلاء الهمج كما تراهم.
“وجوه مصرية أصيلة”
قامت أخيرا وانسلت من بين الجميع، وكان آخر صوت سمعته في المكان، هو صوت السيدة الأربعينية….
“أظن أني سأشتري لنفسي بالمائة وخمسون جنيها صبغة شعر بلون المانجو وعطر برائحة الحلوى!”
----
وهكذا تعاقبت تجارب الأداء، إلى أن انتهى اليوم الشاق، ففي مطلع نهار اليوم التالي سيبدأ التصوير، حيث لا ينبغي أن يستغرق الأمر أكثر من يوم واحد، لظروف إنتاجية سخيفة، وبالتالي على المشاركين أن يتقنوا النظر بطيبة والابتسام برضا بسرعة، فلا وقت للإعادات والتكرار.
تحركت العربة الضخمة فجرا وتوقفت على كوبري قصر النيل. من المفترض أن يكون هذا الوقت من اليوم هادئا، ليتمكن فريق العمل من إنهاء مهمته في أقرب وقت، إلا أن الكوبري على غير العادة كان مزدحما.
“لماذا؟”
سأل المخرج رجال الشرطة المتراصين بجوار بضع سيارات، فأخبره أحدهم أنهم ينتشلون جثة فتاة ألقت بنفسها في النيل!
بداية سيئة ليوم لعين، لكن التصوير لابد وأن يستمر. وقفت سيارة الإنتاج في مكان بعيد نسبيا عن موقع الحادث، ورتب المخرج كل شيء بحيث يقف المؤدي على الجهة المقابلة للشرطة، حيث يظهر خلفه النيل الرائق والكوبري الهادئ فقط. سحب الرجل العجوز ذو الوجه المغضن كالشجرة ووضعه في المكان المطلوب، خلفه النيل وأمامه الكاميرا والمخرج.. وأفراد الشرطة…
وجثة تصعد بهدوء نحو الأعلى.
“وجوه مصرية أصيلة تنظر بطيبة وتبتسم برضا.. 3…2…1… آكشن”
ابتسم العجوز بصعوبة، وكأن شفتاه تحملان الابتسامة كما تحمل أذرع العجائز الأثقال. وانزلقت من عينيه دمعة حارة، لتسقط مباشرةً نحو الأرض،
حيث تسقط الدموع
*قاصة وروائية مصرية، صدر لها روايات “لا تقربي هذه الشجرة” و”الظلام يرى” عن دار الرواق.
*القصة من مجموعة “الموت قبل الأخير” الحائزة على جائزة تويا للإبداع 2019
هل سأتمكن من الانتحار اليوم؟
تساءلت في صمت، أثناء وقوفها أمام عتبة الاستوديو. المكان مزدحم هنا، لذلك لابد أن تنهي سيجارتها قبل الدخول. أدخلت رأسها من
الباب المنفرج وبيد مثلجة مرتعشة رفعت السيجارة وسحبت منها نفسًا طويلا. ترى لماذا كل هذا الازدحام؟ هل يحتاج كل فرد من هؤلاء مبلغ المائة وخمسين جنيها لقاء المشاركة في تصوير تلك الأغنية؟ أم أنه الحس الوطني الرائج الآن كرواج الهواتف الذكية والملابس الفسفورية وعُصي تصوير السيلفي؟ أوربما هي مجرد رغبة في الظهور بالتلفاز، على نفس المساحة السحرية التي تظهر فوقها وجوه المشاهير وأنصاف الآلهة.
ارتطم شيء ما بجانبها بقوة؛ فتهاوت السيجارة من بين إصبعيها على الأرض، ثم دُهِسَت تحت قدمين مزينتين بطلاء أظافر أحمر فاقع. كانت امرأة قررت الدخول فدخلت، بل انحشرت من الباب ببساطة وبدون تعقيدات الاستئذان أو الاعتذار أو الاحتكاك البصري بمن تصطدم به. حدجتها الفتاة بنظرة غضب مكتوم وهي تفرك ولاعتها المعدنية وتدسها في جيب بنطالها الجينز القصير. لقد نفدت السجائر على أية حال، والوقت يمر. تلفتت حولها، فلم تجد سوى امرأة في أواخر الأربعينيات تحدق بغرابة في المرأة الأخرى التي قتلت سيجارتها توا بلا رحمة، وعيناها مغرورقتان بالدموع. ربما في يوم آخر كانت ستربت على كتفها وتسألها بحنو عن سبب حزنها، أما اليوم، فلم تعد تمتلك ما تواسي به شخصًا سواها. لا تملك سوى أن تطيل النظر لوجهها الغارق في البؤس والعرق علها تمنحها شيئا من المواساة الصامتة.
لكن السيدة الأربعينية الواقفة على عتبة البكاء، لم تكن ترى أمامها سوى ذات القدمين الملونتين. أسندت جسدها الذي يقارب وزنه المائة وخمسون كيلو جراما إلى الحائط، ثم مسحت العرق المتفصد من جبينها في كم قميصها الحريري. نظرت حولها وكأن وعيها قد حل توا في رأسها بعد أن كان ضائعا في متاهات بعيدة. سألت الفتاة دون أن تنظر لها
“ما هذا المكان يا بنتي؟”
فأشارت الثانية نحو ورقة بيضاء معلقة بجوار الباب..
“مطلوب رجال و نساء وأطفال من كل الأعمار للمشاركة في تصوير فيديو كليب لأغنية (يا مصر يا) للمطرب الكبير هاني. المطلوب وجوه مصرية أصيلة ولا يشترط العمر، المقابل 150 جنيه”
وماهي إلا ثوان حتى دلفتا للأستوديو، تتبع أحدهما الأخرى دون أن تبصرها.
الزحام خانق برغم أجهزة المكيف المشغلة بأقصى طاقتها، والمقاعد قليلة لا تكفي أكثر من ربع عدد الموجودين، وبالرغم من ذلك، كان المقعد بجوار الفتاة خاليا، في اللحظة التي كانت تبحث فيها السيدة الأربعينية عن أي شئ تلقي فوقه جسدها الثقيل المنهك.
وكأن طاقة ما خفية تجمع الحزانى بجوار بعضهم بعضا، لا ليخفف أحدهم حمل الآخر، بل لتتضاعف أحمالهم سويا فيتشاركون لحظة السقوط.
حشرت نفسها بجوارها، ليصير المكان خانقا أكثر مما كان من قبل. الجو حار لدرجة لا تحتمل وبالرغم من ذلك لازالت كفيها المتشبثان بالولاعة مثلجان يرتعشان. أشارت السيدة الأربعينية نحو قاتلة السجائر وبدأت في حديث بدا وكأنه موجها للفتاة المحشورة بجوارها بالرغم من عدم منطقية الأمر
“أترين تلك الفاجرة ذات العباءة السوداء المطرزة، والأظافر المطلية بالأحمر الفاقع؟ لقد جرجرت نفسي لأكثر من نصف ساعة أتبعها في شوارع وسط البلد. كنت متأكدة أني سأكشف في نهاية الطريق عن لقاء بينها وبين الخائن، إلا أني كنت مخطئة، لكن هذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئا، فتلك الفاجرة فاجرة وزوجي الخائن خائن…
أخبريني بما أنك لازلت شابة. كيف لا تتأثر كل الألوان على وجهها بذلك الحر اللاهب؟ كيف لا تذوب وتتساقط من فوقه كما تتساقط الشوكولاتة السائلة من فوق الكعكة؟ لماذا تصبغ شعرها بلون برتقالي أشبه بلون المانجو، وتخرج نصفه من مقدمة غطاء رأسها؟ لماذا تغرق نفسها بتلك الكمية الغريبة من العطر برائحة الحلوى؟ إنه يختلط برائحة عرقها بشكل يثير الغثيان. لماذا تسير بتلك الرقاعة ولا يكف جسدها عن الاهتزاز كقطعة الجيلي؟ أجل إنها تبدو كقطعة جيلي بلون المانجو وبرائحة المانجو والعرق. طبق يثير شهية الرجال وقرفنا نحن”
توقفت عن الكلام للحظات ثم نظرت للفتاة الموشكة على فقدان الوعي. لم تكترث لها وأردفت
“سبحان الله نصيب… لم أكن أعرف إلى أين تنوي الذهاب، وفوجئت هنا أنه موضوع مربح…. مائه وخمسون جنيها يمكن أن يفعلوا الكثير كما تعرفين… سأشتري بهم هدية لأبلة هبة حتى تكف عن مضايقة الولد في المدرسة… يللا الي ييجي منهم أحسن من عينهم… ربما أشتري لها علبة مكياج لتتلون بها كما تحب أن تتلون النساء”
لم تتمكن الفتاة من احتمال المزيد من الثرثرة. كان قلبها يرتجف كعصفور وتتساقط من وجهها قطرات عرق بارد تسبب لها رجفة خفيفة. تنفست بصعوبة ووقفت في مكان بعيد بقدر الإمكان عن السيدة التي تنضح بؤسا وكلاما.
أسندت ظهرها إلى حائط ما وشبكت ذراعيها وهي تفكر. ليس مطلوبا منها سوى أن تبتسم برضا أمام الكاميرا. هكذا قال مساعد المخرج
“وجوه مصرية أصيلة، تنظر بطيبة و تبتسم برضا“
أمر صعب رغم سهولته، فقد صارت شفتيها تحملان الابتسامة كرجل عجوز يحمل الأثقال… رجل عجوز!
كانت تنظر بلا وعي للعجوز الجالس في الركن هناك. وجهه جميل كالشجرة القديمة المغضنة أمام بيت جدتها، وعينيه الضيقتين تحكيان حكاية ما بصوت حنون غير مسموع. غريب أن تتذكر الآن الشجرة القديمة، بما يصاحبها من ذكريات المدرسة الابتدائية. صف العلوم… انبهارها بدرس الخاصية الشعرية للنباتات، وكيف تتحدى المياه الجاذبية الأرضية بداخلها وتصعد لأعلى بدلا من أن تسقط لأسفل. تذكرت كيف صارت بعدها تحتضن الشجرة كلما أحست بالحزن وتبكي بحرقة، حتى تصعد دموعها للأعلى نحو السماء، حتى يراها الله ويعلم ما أصابها.
ترى…هل لازالت دموعها تصعد للسماء الى الآن؟ هل لازال الله يذكرها؟ ترى هل ستذهب للجحيم عندما تنتحر؟ ولكن هل يمكن أن تفلت من الجحيم إن لم تفعل؟ هي لا تظن ذلك. لقد فقدت روحها على الطريق، ولن يكون انتحارها سوى ملاحقة لتلك الروح الضائعة، كطفل يركض خلف فراشة ملونة تطير نحو دغل مظلم، فهل سيعاقبها الله على ذلك؟
لقد أمضت أكثر من عام تدخر بضعة آلاف لقضاء عمرة قبل أن تنفذ مخطط انتحارها!
كانت تنتوي شد رحالها إلى بيت الله، لعله يلقي في صدرها المظلم شئ ما مضئ، لعله يبعث لها رسالة ما قبل الرحيل. قضت أيامها في ترجمة المقالات للصحف، وفي كتابة التقارير، لتعود بعدها وحيدة للشقة المفروشة البائسة حيث تسكن. تنتظر وتطيل الانتظار، وعندما اكتمل المبلغ، استعاره أحد الأصدقاء واختفى.
ترى… هل تلك هي الرسالة؟ هل طردت من رحمته للأبد؟
والآن هي مفلسة ووحيدة وتحتاج لمخطط جديد للرحيل. ستتقاضى المائة وخمسون جنيها وتشتري زجاجة فودكا، ثم تغلق على نفسها غرفتها. ستسكر ثم تقطع شرايينها بأسرع ما يمكن. هكذا سيكون الأمر محتملا.
لقد حان دورها أخيرا. وقف مساعد المخرج قبالتها محدقا في كل جزء منها وهو يلوي شفتيه ويحك ذقنه.
“جميلة… فتاة سمراء جميلة بعينين خضراوين وشعر قصير”
ثم رفع كفه للأعلى وكأنه سيلقي على مسامعها سر كوني مخبوء
“لكني… لا أرى في وجهك مصر… أتفهميني”
استدار للمكتب المجاور له. التقط قلما وكتب على ظهر بطاقة ما رقم هاتف، وبابتسامة خبيثة، ناولها البطاقة وأردف
“هذا هاتفي الخاص… كلميني في أي وقت وسأخبرك عن تجارب آداء أخرى يمكنك أن تجربي حظك فيها”
نظرت طويلا للبطاقة. مدت يدها ببطء نحوها، فوجدتها ترتعش، ورأت صورة البطاقة وكأنها تنمحي شيئا فشيئا من أمامها. هل ستفقد الوعي الآن؟ لا ليس هنا…
جرجرت نفسها بصعوبة متجهة للمقعد حيث كانت تجلس. كادت أن تسقط، إلا أن المرأة الأربعينية احتضنتها بسرعة، وأجلستها مكانها. أسندت رأسها إلى الحائط وحاولت بصعوبة فتح عينيها. رائحة العرق تتغلغل أكثر وأكثر في أنفها فتثير رغبتها في التقيؤ، والأصوات من حولها تزداد إرتفاعا…
وفجأة صدحت السماعات الضخمة في أركان الأستوديو بصوت المطرب النجم هاني. ربما أرادوا أن يندمج الممثلين في أجواء الأغنية ليتحسن آدائهم…
“يا مصر يللا… يللا يللا… يللا يللا… يللا بينا
دي الُفرقة والله… والله والله… والله والله… صعبة علينا
يا مصر ياااااااا
يا مصر يااااااااااا”
“يا بنت الكلب”
قالتها السيدة الأربعينية وهي تراقب امرأة المانجو. كان مساعد المخرج يدس شعرها البرتقالي تحت غطاء رأسها، وهي تضحك برقاعة فاضحة، وبعد أن اختفى شعرها تماما، قال لها بإعجاب
“هكذا أصبح وجه مصري أصيل… برافو”
“يجب أن أرحل”
قالتها الفتاة بصوت هامس وهي تحاول النهوض. يجب أن ترحل، بالرغم من صعوبة الأمر. كان كل شيء يبدو حولها ضبابيا كالحلم. الأجساد المتلاصقة، السيدة الغاضبة، امرأة المانجو، مساعد المخرج، امرأة أنيقة تطوق ابنها بذراعيها في فزع وكأنها تريد أن تحميه من كل هؤلاء الهمج كما تراهم.
“وجوه مصرية أصيلة”
قامت أخيرا وانسلت من بين الجميع، وكان آخر صوت سمعته في المكان، هو صوت السيدة الأربعينية….
“أظن أني سأشتري لنفسي بالمائة وخمسون جنيها صبغة شعر بلون المانجو وعطر برائحة الحلوى!”
----
وهكذا تعاقبت تجارب الأداء، إلى أن انتهى اليوم الشاق، ففي مطلع نهار اليوم التالي سيبدأ التصوير، حيث لا ينبغي أن يستغرق الأمر أكثر من يوم واحد، لظروف إنتاجية سخيفة، وبالتالي على المشاركين أن يتقنوا النظر بطيبة والابتسام برضا بسرعة، فلا وقت للإعادات والتكرار.
تحركت العربة الضخمة فجرا وتوقفت على كوبري قصر النيل. من المفترض أن يكون هذا الوقت من اليوم هادئا، ليتمكن فريق العمل من إنهاء مهمته في أقرب وقت، إلا أن الكوبري على غير العادة كان مزدحما.
“لماذا؟”
سأل المخرج رجال الشرطة المتراصين بجوار بضع سيارات، فأخبره أحدهم أنهم ينتشلون جثة فتاة ألقت بنفسها في النيل!
بداية سيئة ليوم لعين، لكن التصوير لابد وأن يستمر. وقفت سيارة الإنتاج في مكان بعيد نسبيا عن موقع الحادث، ورتب المخرج كل شيء بحيث يقف المؤدي على الجهة المقابلة للشرطة، حيث يظهر خلفه النيل الرائق والكوبري الهادئ فقط. سحب الرجل العجوز ذو الوجه المغضن كالشجرة ووضعه في المكان المطلوب، خلفه النيل وأمامه الكاميرا والمخرج.. وأفراد الشرطة…
وجثة تصعد بهدوء نحو الأعلى.
“وجوه مصرية أصيلة تنظر بطيبة وتبتسم برضا.. 3…2…1… آكشن”
ابتسم العجوز بصعوبة، وكأن شفتاه تحملان الابتسامة كما تحمل أذرع العجائز الأثقال. وانزلقت من عينيه دمعة حارة، لتسقط مباشرةً نحو الأرض،
حيث تسقط الدموع
-
*ألفت عاطف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ*قاصة وروائية مصرية، صدر لها روايات “لا تقربي هذه الشجرة” و”الظلام يرى” عن دار الرواق.
*القصة من مجموعة “الموت قبل الأخير” الحائزة على جائزة تويا للإبداع 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق