⏪⏬بقلم: نصير احمد الريماوي
قصائده لوحات فنية زاخرة ومطرّزة بأغنيات المقاومة، و لجفرا الحنين المتصاعد للحرية والاستقلال، وللحجارة الآتية بالدولة
شعره وطني ملتزم وثروة قومية وإنسانية
كان في زيارة لبلدة بيت ريما خلال شهر آب عام 2009 لأول مرة بعد الهجرة للمشاركة في انتخابات المجلس الثوري لحركة التحرير الوطني فتح، وحينها تم تنظيم احتفال كبير في ساحة مدرسة بنات بني زيد الأساسية تخلله فقرات لفرقة الفنون الشعبية، وإلقاء شعر على المسرح من قبله أسعد الحضور حيث غنّى لبلدة بيت ريما في قصيدته وعبّر فيها عن مدى الحنين والشوق والارتباط بها وعن الأماكن التي ارتبطت طفولته بها، بعد أن تجول فيها والتقى الأهل، وعانق جبالها وبساتينها وأحياءها واستراح على ضفاف ينابيعها الطبيعية كأنه لقاء العشاق بعد طول غياب..
في أول دخوله ساحة المدرسة التي كانت تعج بالحضور تصافحنا معا بحرارة وتعانقنا وتبادلنا الكتب فأهداني هذا الديوان "صباح العشق يا جفرا" الذي يعتبر ديوانه السابع بين صدور العديد له من الدواوين الشعرية منها: يا ابنة الكرمل في عام 1978، أنغام فوق سجن الكبت 1979، يا كرم الزيتون الأخضر1981، موال من وراء الغربة1984، هلّت من صبرا عشتار 1984، لافتات على سياج الضوء 1988، صباح العشق يا جفرا 1999، على قمة الميجنا 2001 ، القدس أم اللوحات الكنعانية 2011 اشتعالات جلجامش في بيت العزاء الفتحاوي 2011 ، بيت ريما توزع ورد الأهِلّة 2011 لوحات كنعانية2012، بالإضافة إلى ديوانين تحت الطبع وهما، وَرْدُ الغَضَب و آلاء الشهداء. وكان ينشر شعره سابقا في مجلات: فلسطين الثورة، وفلسطين المحتلة، والكرمل، والجذور.
يتكون ديوان "صباح العشق يا جفرا" من (128) صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على(25) قصيدة مستوحاة من واقع حياة شعبنا ومواقف الحياة، وتبرز في طياتها العديد من المضامين، والهموم، والآلام، والأحلام، والقيم النبيلة، وتسلط الضوء على مدى تأثير ظلم الاحتلال الصهيوني البغيض والحرمان على مجتمعنا الرازح تحت نيره. هذا الديوان صادر عن الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين فرع السعودية بالتعاون مع دار الكرمل للنشر والتوزيع بعمان، ومُزيّن بلوحة غلاف للفنان محمد حجازي.
وقد أهدى هذا الديوان إلى بلدة بيت ريما وشهدائها الأبرار ما قبل النكبة، وأثناء النكسة، وأثناء كفاح منظمة التحرير الفلسطينية، ومرورا بالانتفاضة الأولى، ولتينها، وزيتونها الشامخ، وسنابلها، وكروم دواليها، والحجل في روابيها....
تعتبر قصائد الشاعر "أحمد الريماوي" أغنيات تتوهج بالحرارة والصدق والرصانة، وتتسع لتضم رموزا أخرى مرتبطة بجفرا وتداعياتها، كالميجنا، والبيادر، والحنون، والزعتر، والشومر، والمواويل، ودبكات العشاق، وتُثري المكتبات العربية والفلسطينية، وتضيف إلى التراث الفكري الإنساني، كما أن شعره تعبير عن الثورة والبطولة والتضحية والجهاد في سبيل الحرية والاستقلال.
إن إنتاج "د. أحمد الريماوي" الشِّعري هو من الشِّعر الوطني المقاوم و يعتبر ثروة قومية وإنسانية لأنه يصّور وجدان أفراد شعبنا وآمالهم وآلامهم ومعاناتهم وتطلعاتهم المستقبلية نحو الحرية والاستقلال.
لقد وجدت نفسي عاجزا عن الكتابة حول هذه القامة الشّعرية الطويلة وإنتاجها الأدبي ، والتاريخي الغزير والواسع واللافت والمؤثر وإعطائها حقها كما يجب، نظرا لتنوع كتاباته وكثرتها الأمر الذي حدا بالباحثين، والنُّقاد، والكُتّاب، والدّارسين إلى تناول إنتاجه المختلف وقاموا بتأليف العديد من الكتب والدراسات النقدية، مثل: " ذاكرة الحزن في شعر أحمد الريماوي" للدكتور كامل السوافيري، و" وهج القصيد" للدكتور أحمد موسى الخطيب، و" صورة الأرض في شعر أحمد الريماوي" للدكتور أحمد موسى الخطيب. وهو بحث مُحكّم نشر في كتاب "ظواهر حديثة في شعر المقاومة من التّناص إلى التصوير التمثيلي" للدكتور محمد صالح الشنطي، وكذلك "القصيدة المهاجرة" أيضا للدكتور محمد صالح الشنطي ، و "المفردة في شعر أحمد الريماوي" للشاعر عيسى القطاوي ، و" الأسطورة في شعر أحمد الريماوي" إيمان غرغور، و " دراسات في شعر أحمد الريماوي" علي أبو دياب وهو كتاب قيد الطبع ، وغيرها العديد من القراءات النقدية المتنوعة التي تسلّط الضّوء على دُرر وجواهر دواوينه الشعرية الوطنية الملتزمة.
سرعان ما يجد القارئ-منذ الوهلة الأولى من قراءته للمجموعة- أن أسلوب شاعرنا "د.أحمد الريماوي" ممتع وله نكهة خاصة يتميز بها عن أمثاله من الكتَّاب بحيث رسم له طريقاً فريداً ومستقلاً عكس شخصيته الإبداعية وموهبته يستمتع القارئ بها أيما استمتاع أثناء تجواله في بستان المجموعة الأدبي.
لذلك ليس غريبا أن يأتي عنوان المجموعة "صباح العشق يا جفرا" مثيراً، ومؤثرا، وجاذباً، ولافتا وبهذه الرمزية والغموض المتعمّد في المعنى الذي يدفع عقل القارئ للبحث عن خفاياه وعما يتوارى خلفه من مقاصد.
قصة الـ"جفرا" هي حكاية من عشرات الحكايات التي صنعت وبلورت التراث الفلسطيني, والتي تركت بصمتها في الحياة الثقافية الفلسطينية، واتسعت جفرا يوما بعد يوم لتصبح رمزا لفلسطين بعامة، وللمرأة الفلسطينية، وللأرض الفلسطينية و لمعاناة الإنسان الفلسطيني والوطن، وقد تغنّت بها حروف العديد من الشعراء والزّجالين، واختزلت معاني الوطن، واللجوء، والحب، والألم ، كما يوجد هناك نتاج أدبي واسع جسّد جفرا الحنين المتصاعد للحرية والاستقلال وبناء الدولة الآتية لا محالة.
"الجفرا" لم يكن اسما بطبيعة الحال، وإنما لقب أطلقه الشاعر "أحمد عبد العزيز علي الحسن" على حبيبته تشبيها لها بابنة الشّاة، وكانت سمراء اللون، ذات ملامح ناعمة، وكان "أحمد عزيز" ابن عمها ويحترف قول العتابا، والزّجل، وتقدم لخطبتها، وتمت الموافقة، وتزوجا فعلا وهي في سن الـ16سنة تقريبا، أما هو فكان عمره حوالي الـ20 سنة.
إلا أنهما لم يتوفقا في زواجهما بعد مرور أسبوع واحد فقط، فأرادت أمها أن يتم الطّلاق وطُلقت فعلا. لم يكن هذا الطّلاق أمرا سهلا فقد قامت "جفرا" بالهروب وهو يلاحقها حتى استقرت في بيت أهلها. وبعد محاولات كثيرة لإرجاعها إلى بيت زوجها إلا أنها باءت بالفشل.
بعد ذلك بفترة تزوجت الجفرا من ابن خالتها. عندما قطع "أحمد عزيز " أي أمل في رجوع جفرا إليه شعر بمرارة شديدة لحبه الشديد لها، وكانت تخرج مع الأهالي متوجهة لعين الماء، فكان يقول فيها شعرا كلما رآها وهي في طريقها للسقاية من عين الماء، حاملة جرة من فخار:
جفرا يا هالربع نزلت على العين جرتها فضة وذهب وحملتها للزين
جفرا يا هالربع ريتك تقبرينــي وتدعسي على قبري يطلع ميرامية
وظل "أحمد عزيز" متشبثا بالجفرا في قصائده وعتاباه، وجمعها في كتاب أسماه كتاب "الجفرا".
وقد لقب الشاعر نفسه بـ"راعي الجفرا"، وذكر الشاعر عز الدين مناصرة:" بأن الأغنية ولدت حوالي عام 1939، وأصبحت نمطا غنائيا مستقلا في الأربعينات، وانتشرت في كافة أنحاء فلسطين ثم وصلت بعد عام 1948 إلى الأردن ولبنان وسوريا".
من الملاحظ أن بناء القصيدة لدى" الريماوي" يمتاز بالتماسك، والترابط، والجزالة، وقوة التأثير، و يعتبر نصه الشّعري جسداً حياً ونابضا و مليئا بالصور الشّعرية: من تشبيه، واستعارة، وكناية، ورمزية، ومجاز بوظائفها ودلالاتها الجمالية، والتعبيرية، والإيحائية، والامتاعية المعبّرة عن واقعنا المؤلم وعن آمالنا وتطلعاتنا نحو الحرية والانعتاق من نير الاحتلال الجاثم على صدورنا، كما هناك توافق أصوات الشّعر وموسيقاه مع الصور والمعاني والمواقف. مضاف إلى ذلك استخدامه للجناس الذي أعطى جرساً موسيقياً يثير النفس وتطرب له الأذن ويُثير الذهن لما ينطوي عليه من مفاجأة تقوى المعنى وعن طريق الاختلاف في المعنى، وكذلك استخدامه للتورية التي عملت على جذب الانتباه و إيقاظ الشعور و إثارة الذهن ونقل إحساس الأديب بمهارة فريدة.
لقد جعل الشاعر قلمه يتكلم باحترافية وأوراقه تسمع لنبض إحساسه وما يجول في خاطره لدرجة أن مجموعته الشّعرية هذه أضحت ممتعة، ومهمومة بالغربة وبهموم البشر، وبتجربته الشّخصية لكنها تحمل روح التحدي، وإن إبداع الروح العاشقة للحرّيّة هو الإبداع الأكثر هيمنة على المجموعة.
لم يقف الشاعر الكبير عند هذا الحد فحسب، بل نجد أنه يتمتع أيضا بأسلوب مميز في قدرته الفائقة على تصوير أفكاره وعواطفه بتعبير فني، وصياغة الألفاظ والعبارات الملائمة للمعاني. ومن بين المميزات الفريدة في أسلوبه - يكتشف القارئ- أنه يؤدي الخيال والتصوير ببساطة وبمهارة عالية إذا استدعى ذلك، وكذلك التعبير عن الفكرة بالبيان والوضوح مباشرة أحيانا .
وفي مشهد لافت آخر لاحظت أن شاعرنا الفطن برع في تركيزه على العنصر الإنساني في مجموعته الشّعرية لدرجة أنه استثمره استثمارا جيداً بحيث استطاع من خلاله النفاذ إلى قلب وعقل كل قارئ أثناء معالجته لمواضيع انتزعها من واقعنا المأساوي، وجمهورنا الفلسطيني أينما وجد، وقدم من خلالها صورا فنية معبرة جدا عكست الواقع القاسي المعاش على أكمل وجه، وأبكت العيون والقلوب من تأثيرها العاطفي، كما شدّني تركيزه على اللمسة الإنسانية المؤثرة وكيف خلق منها صورا فنية جمالية راقية سلّطت الضوء على قسوة الحياة تحت الاحتلال الذي يقف حائلا أمام طموحاتنا، الإنسانية، والاجتماعية، والسياسية..الخ.
إن أسلوب" د. أحمد الريماوي" الشّعري الباهر الذي لجأ إليه شاعرنا المميز يتضح في استخدامه للأفعال المصورة للحدث استخداما منطقيا منظما زمنيا، واستطاع بشدة حساسيته الواضحة في نصوصه الشّعرية من ملاحظة مشاعر الناس وعواطفهم،
كما تمكن بخبرته من استبطان واكتشاف أهواء الناس وما يتبعها من الهمس النفسي الذي صوَّره ورسم اتجاهاته بكفاءة عالية، ولا أغالي إذا قلت إن القيمة العاطفية التي شحن بها جمله سَمَت بمستواه الفني وجعلته راقيا.
من المتعارف عليه أن كثرة إطلاع، ومعاناة الكاتب أحيانا يعملان على خلق المهارة الأدبية في صياغة أبياته الشّعريّة، وأن صياغة الجملة التصويرية ،وكذلك الأبيات المعبرة عن العواطف الصادقة وتضمينها أفعال الحواس يمنحها رقة الهمس الإنساني، ويجعل قيمتها الجمالية فعالة ومؤثرة، ، وهذا ما ركز عليه شاعرنا "د. أحمد الريماوي " في مجموعته آنفة الذكر.
أغراض ومصادر شعره وشاعريّته، و الظروف الموضوعية والذَّاتية التي لعبت دوراً في صقل شخصيته
لقد اتّجه الشعر اتّجاهاً وطنيا مع بداية الاحتلال الصهيوني لوطننا فلسطين، فبداية الاحتلال كانت تعني بداية المقاومة ليس بالكلام فحسب، بل و بالفعل وبكل الأساليب الممكنة. وصار الشعر حافلا بالعطاء، و نوعا من أنواع التحدّي والمقاومة للاحتلال لفضحه ووصفه الأعمال الوحشية التي يمارسها من قتل وتدمير قرى وتهجير ونفي واقتلاع الشجر..الخ.
لهذا لعبت مأساة شعبنا وما زالت تلعب دورا مهما ومُؤثّرا وملهما في صقل مواهب الشّعراء وتنميتها، فَقد ازدادت بعد حياة المهجر بعيدا عن الوطن الأم، وهذا كان حافزاً كبيراً جداً للاستمرار في قول الشعر وغزارة إنتاجه ليشكل بذلك سلاحا مقاوما إلى جانب البندقية الفلسطينية ورافدا لها في تعبئة الجماهير وتبصيرهم.
تُعتبر الظروف والبيئة التي عاشها الشاعر من أكبر المؤثرات التي أدّت به إلى قول الشعر منذ نعومة أظفاره، حيث عاش مرارة النكبة الأولى، وكذلك عاش النكسة الثانية، واحتلال الكيان الصهيوني لباقي فلسطين، وكذلك انطلاقة حركة فتح ومنظمة التحرير وبدء المقاومة الفلسطينية.
ثمّة ظروف وعوامل موضوعية وذاتية لعبت دوراً مهما في حياة شاعرنا الكبير" د. أحمد الريماوي" وربط مصيره بمصير قضيته وشعبه ووطنه، وفي صقل شخصيته الثّورية وشاعريّته، أستطيع حصرها في التالي:
أولاً: انضمامه لحركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح تنظيميا، في فبراير 1966م، عندما اشتد عوده وكان يبلغ من العمر 20 ربيعاً .
ثانياً: استطاع اللاجئون الفلسطينيون من تحويل نكبة العام 1948، والسكن في خيام اللجوء إلى عمل جماهيري، وفدائي، وسياسي.
ثالثا: إعلان الكفاح المسلح من خلال البلاغ العسكري رقم(1) الصادر عن القيادة العامة لقوات العاصفة التابعة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني"فتح" لحظة قيام أجنحة القوات الضاربة بتنفيذ عملية "عيلبون" بتاريخ 1 كانون الثاني1965.
رابعاً: بدء انطلاق الكفاح المسلح إيماناً بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وبواجب الجهاد المقدس، وبالموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج بعد الهزيمة التي مُنِيت بها الجيوش العربية:المصرية، والسورية، والأردنية خلال نكسة عام 1967..
خامساً: تصاعدت مطامع وأخطار إسرائيل على فلسطين والدول العربية، وفرض هيمنتها على المنطقة وكسر الإرادات العربية.
سادساً: لقد عايش شاعرنا هذه الظروف المأساوية التي حلَّت بشعبنا ووطننا، والمؤامرات التي حيكت وما زالت تُحاك ضد فلسطين، وكان لذلك الأثر الكبير في صقل شخصيته الثورية وشاعريته، وتحديد مكانه الطبيعي للدفاع عن حقوق شعبه.
سابعا: أما مرابع الطفولة في "بيت ريما" التي كانت قلعة للثّوار فقد غرسَت في مهجته نار الشّوق ونور عشق الوطن واختزلََتْ عبير حب الوطن بعبير سِحْرِها، حيث يسكن فيها مع أسرته وعشيرته و تعلم في مدرسة البلدة، وعندما صار في الصف الثالث الابتدائي تم تعيين والده "الشيخ يوسف الريماوي" مدرسا في مخيم "عقبة جبر" قرب مدينة أريحا مما اضطر الأسرة إلى السكن هناك.
عندئذ اكتشف أن مرارة المعاناة والألم والفقر هي القاسم المشترك لأبناء مخيم اللجوء، فكان يشارك في المظاهرات الصاخبة المطالبة بحق العودة، وشاهد بأم عينيه التحدّي والتمرد على الواقع المؤلم والغضب يعم الشوارع.
ثامنا: لقد كان لأسرته وأثرها مصدرا هاما من مصادر شعره وشاعريته فقد كانت تهتم بالفكر والأدب والإمامة والتدريس والعلم،
وكان يستمتع وهو يقرأ الشعر والأناشيد الصوفية حيث كانت تتملكه الدهشة اللذيذة لوميض المعاني في قصائدهم . كما قرأ ما كان يخصه به بعض الأقارب من كتيبات وطنية وسياسية وتنظيمية حزبية، حيث انخرط الشباب الفلسطيني بعد نكبة عام 1948م في الأحزاب بتوجهاتها المختلفة، التوجه القومي ويمثله حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يتزعمه في فلسطين في تلك الفترة عبد الله الريماوي وحركة القوميين العرب، والتوجه الإسلامي ويمثله حزب الإخوان المسلمين وحزب التحرير، والتوجه الأممي وغيرها.
ومن الجدير ذكره أن أسرته توارثَت حمل لواء الإمامة، والعلوم الدينية، والفكر والأدب، والتدريس والعلم أبّا عن جد إلى عهد والده، فكان جده الشيخ أحمد الريماوي عضواً في أول مجلس إفتاء شُكِّل في فلسطين برئاسة سماحة الشيخ محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا، ويتناوب هو وفضيلة الشيخ عبد الله الجزار العكاوي- صديقه منذ الدراسة بالأزهر الشريف- وابن عمه فضيلة الشيخ إسماعيل الريماوي، على إعطاء الدروس الدينية في الجامع الأموي بدمشق، وجامع الجزار بعكا، والجامع الأحمدي بيافا، واكتفى والده بالتدريس والإمامة في القرى التي كان يدرس بها. أما والدته فكانت تلقي الدروس الدينية ليومين في الأسبوع إلى أن منعها المرض في نهاية الثمانينيات. لقد كان والده "يوسف الريماوي" مهتما بالأدب وشغوفا به وتحديداً بالشعر، وكذلك بالفكر الفلسفي الصوفي وبتأثيرٍ منه درس "د. أحمد الريماوي" في كلية الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة بيروت العربية عام 1969، فهو- كما كان يقول- يجمع بين العلم الشرعي وعلم الحقيقة، أي بين العلوم الظاهرية والعلوم الباطنية، كما كانت ثقافة والدته صوفية وتراثية أيضا.
⏪بواكير رحلته مع الشعر
هنا في هذه البيئة العلمية والأدبية الحاضنة تفتّحَت روحه الإبداعية وأزهرت على يد والدَيه لاهتمامهما الشديد بشرح وحفظ وإنشاد الشعر الصوفي القديم، لأمثال: عمر بن الفارض، ومحي الدين بن عربي، والحلاج، وأبي يزيد النابلسي، والشيخ عبد القادر الحمصي، وجده الشيخ أحمد الريماوي، والشيخ نصوح الجابري الحلبي، والشيخ محمد عساف البيروتي وغيرهم. وانطلقت بواكير رحلته مع الشعر وكانت أولى محاولاته في كتابة الشعر باللهجة العامية على إثر تأميم قناة السويس في عام 1956 من قبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، صار العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، فعمّت المظاهرات الاحتجاجية في الوطن العربي و فلسطين. مع انتهاء المظاهرة الصاخبة التي شارك فيها -وكان عمره (11) سنة حينئذ في الصف الخامس الابتدائي- عاد إلى البيت وكتب قصيدة باللهجة العامية -لم يذكر عنوانها- أسمعها مغنّاةً إلى والدته "عربية الحُصري" طيب الله ثراها فما كان منها إلا أن تركت ماكينة الخياطة وحضنته بحرارة، وطَلبَت منه أن يعيد إلقاءها، وبعد الإلقاء أخذتها منه وقرأتها بصوتٍ مسموع وهو يرقبها بفرح كبير، وكانت تلك البدايات.
أول المكتشفين لموهبته الشاعر خليل زقطان
إن أول المكتشفين لموهبة" د. أحمد الريماوي" كان مدير مركز الشباب الاجتماعي بمخيم "عقبة جبر" الشاعر "خليل زقطان" إثر مبارزة شعرية تميزْ بها وهي أول قصيدة ألقاها عن معركة بدر في 17رمضان عام1961 فنِال الجائزة على إثرها، وهي عبارة عن قلم حبر من نوع باركر، وهو أول قلم حبر سائل يستعمله في حياته، وكان آنذاك في الصف الأول الثانوي كما عمل على ضمّه إلى عضوية اللجنة الثقافية بالنادي، مما أعطاه حافزا للتردد على مكتبة النادي للمطالعة وحفظ الشعر، و الاستمرار في إبداعاته، وإبراز موهبته منذ نعومة أظفاره.
حرم نفسه من مصروفه اليومي لتنمية موهبته
أما الخطوة الثانية في تنمية موهبته وتشجيعه فكان فضلها يعود إلى مدرس اللغة العربية "عزت زاهده" من الخليل أثناء وجوده في الصف الثاني الثانوي، حيث طلب من الطلبة حينئذ أن يكون الموضوع في حصة التعبير التالية اختيار عشرة أبيات من الشعر لأي شاعر ومن أي زمن وأن يذكر اسم الشاعر والمناسبة وسبب اختيار الأبيات.
بعد تردّد وخوف اختار "أحمد" عشرة أبيات من قصيدة له جاشت بها عاطفته بمناسبة استقلال الجزائر عام 1963، وما أن حضر الأستاذ في الحصة التالية حتى بادرهم بصوته الجَهور ولهجته الخليلية بالسؤال:"وين الطالب أحمد الريماوي؟" رفع يده بعد تردّد، وقال المعلم :"هذا الطالب حصل على أعلى علامة في مادة التعبير، لأنه الوحيد الذي اختار أبياتاً شعرية من تأليفه"، ثم التفت إليه، وقال:"أنا عايزك بعد الحصة"، ذهب إليه بمعنوياتٍ عالية وفرح خفي، فسأله عن مصروفه اليومي؟ وطلب منه أن يسلّمه ما يدخره من قروش أردنية مهما قلّت أو كثرت، ليشتري له بها بعض الكتب الأدبية وخاصة في مجال الشعر. طبعاً كان المبلغ محدودا لأن مصروفه اليومي كان يتراوح بين التـّعريفة والقِرش الأردني. عندما عاد أدراجه إلى المنزل عرض الأمر على والده، فوعده بإعطائه عشرة قروش أسبوعيا غير مصروفه اليومي. على ضوء ذلك قرر" أحمد" أن يحرم نفسه من لعب تنس الطاولة في النادي، و ألا يشرب الشاي، وأن يسلم الأستاذ خمسة عشر قرشا. وهكذا استمر الوضع لسنتين والمعلم يحضر له الكتب التي كانت أثمانها أضعاف ما كان يعطيه، و"أحمد" يقرأ ويكتب ما تجود به قريحته من شعر ويعرضه عليه مستلهماً كل نصائحه.
مهما كتبت عن الشاعر "د. أحمد الريماوي" لن أوفيه حقه بعد لأنه يحتاج إلى دراسات ودراسات نظرا لكثرة إنتاجه وتنوعه، كما أن هذا الديوان الشّعري جدير بالاقتناء لأنه جزء من تراثنا الفكري الإنساني الذي يسجل لحظات تاريخية من كفاح شعبنا ضد الاحتلال الصهيوني.
⏪نماذج نصوص مختارة من أشعاره
وعن الانتفاضة الأولى يقول في قصيدته"صباح العشق يا جفرا":
دلال تعانق الآمالَ
تملأ دربنا عطرا
ونبع المسك من قلب الشّقيف
على جليل العمر
يشرق فيضه نهرا
يصب النّور في بحر انتفاضتنا
ويشعل موجنا كِبرا
صباح الفتح يا جفرا
صباحا أزهر الجمرا
يلمّ الشّمل عبر الوحدة الكبرى
لنعزفها مواويلا
وننشرها أكاليلا
ونحّيي دبكة العشاق
ليلة زفّة الشّهداء
يا صبرا
نبث شذا انطلاقتنا
ونقطف من عراجين الفِدا نصرا
يتحدث فيها عن الوحدة والانتفاضة والشهداء الذين رووا بدمائهم تراب الوطن الغالي.
أما في قصيدته" أنا الخضر الفلسطيني": فتحدث فيها عن مسقط رأسه بلدة بيت ريما وعن تلالها وجبالها التي حضنت شهداءها وزيتونها وتينها وأعشابها وعصافيرها ودارسها وخوابيها وجرارها وبيادرها ومقاماتها، وسحر طبيعتها الخلاب، وأيام طفولته، ويقول فيها:
هدهديني.. هدهديني
وأنثري من "خلة الرمان" ألحان السنين
أنشريني نسمة عذراء في "رأس علم"
أشعل الدنيا بنوار العشم
يا عزوتي بالله كيف الحال؟
يا ديرتي بالله كيف الحال؟
يا كرمتي بالله كيف الحال؟
هيا أخبروا..
عن صبر زيتوني وتيني
عن صمت حسّوني
وعذاب طيّوني لدموع حنّوني
هذا هو الخضر الفلسطيني
غصنٌ يُراقص في حديقة عودتي
أوراق ألحان البقاء مُرددا
هذا هو الخضر الفلسطيني
من بيت ريما جاء يبعثني
في بيت ريما جاء يَرقيني
كما غنى لأطفال الحجارة، وللحجارة الآتية بالدولة، ففي قصيدته"غناء أطفال الحجارة" يقول:
أغنّيك طفل الحجارة فجراً
تماهى على الدّرب نصراً
فأزهر شعراً وعزفَا
أغنّيك نبعاً تعطر رجعاً
تسّمر طيفاً تبلور عَصفاً
أغنّيك فتحاً تضمّد جرحاً
تورّد قمحاً
تجدد لحناً زلالاً وأصفى
تَرود الأزقة..
مقلاعك القُزحيّ تجلّى
فأنبت نهجاً وأورق عُرفا
على ضفّتيك ائتلاف الحجارة
تُذكي رعود الهتافِ
المغمس زيت المواويل
تحكي الأصيل
على راحتيك بريق السكاكسن
في مقلتيك لهيب الصليل
تشع على شرفة النصر
أيقونة..
هل لجالوت أن يستبيها؟
وقد كبّلته الطواغيت
كرها وخوفا
أغني لعينيك مِيدوز*( الأسطورة تقول أن ميدوز ما نظرت إلى شيء إلا أحالته حجراً)
للحجر البكر
مولودك الحر
يحميك من كل غدر
---
⏪نماذج مما لم ينشره الشاعر في دواوينه من شعر البواكير
(1) لا داعي اليوم لفلسفةٍ
"كُتبت بعد قراءته للبلاغ العسكري الأول الصادر عن قوات العاصفة الجناح العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في 1/1/1965م"
أبـــداً واللـهِ سَنُشْــــعلها ناراً تجتــاحُ وتلتهٍـــبُ
وتُؤَجِّــــجُ في كلّ سمــــاءٍ أنّا للفـــتحِ سَنَنْتَسِبُ
لِنُحَطّــــمَ أوْكــارَ الطّاغيــــن يُسَطِّرُها هـذا اللّهَــــبُ
مِن كلّ أخٍ في عاصِفَتي أفدى بالرّوحٍ أيا عربُ
ما العاصــفة الكبرى إلاّ رمــزٌ تَزْدانُ بهِ الشُّــهُبُ
لِيُعيـد الحـقّ بلا وَهَـنٍ ويدوس الظُّلْـمَ ويَنْتَصِـبُ
ذاك المِغْوار يسير خُطاً بالنار يُدَغْدِغُهُ الأرَبُ
وترى البَسَــمات على شَفَتيـهِ تُحَقِّـقُ ما تَطْوي الحِقَبُ
أرض اليرموكِ تُؤَجِّجُ بي روح الإكْبارِ بما وَهَبوا
وصلاح الدين يحطّمُ في حِطِّين أواصِرَ من سَلَبوا
وصَداهُ اليوم يُدَوّي في أعماقِ الشّعب... فلا عَجَبُ
فبطـولتنـا بالأمــس أتَـتْ نـوراً تُـغْتـالُ به الحُجُــبُ
نارٌ تَغْلـي في كلّ دمٍ يا صـاحِ..... أتَعْرِفُ ما السّـبَبُ؟
لتُزيلَ العــار وتثـأرَ مِمن داسـوا الأرض وما حَسِـبوا...
أنّ البركـــان الهـــادرلا تطويــِـهِ حـــدودٌ تضْـطَـــرِبُ
فَلَظــاهُ يُلَعْلِــعُ في وطنـي وعُصـاةُ البَغْيِ له حَطَـبُ
وكــلامٌ ترْسمـه النيـران تُحَقِّــقُ ...تَسْــحَقُ... تَلْتَهِـبُ
آهٍ يا صــاحِ... أما ســارَعْتَ لِتأخُـذَ وضـعكَ ...تَقْتَـرِبُ؟
قُلْ لي: ما النَّفْــعُ من التخْــديرِ وأنت تســبّ وتَنْتَحِــبُ؟
إنّــي واللـّـهِ لأمْقُـــتُ من ينـــوي للثــأرِ ويَنْقَلِـــبُ
دَعْ عَنْكَ اليأسَ بِمِضْـجَعِهِ هَيّا للرّكْبِ ...لمن وثَبـوا
لا داعــي اليـومَ لِفَلْسَــفَةٍ فَصَــليلُ النــارِ هو الأدَبُ
حَطِّمْ واسْحَقْ واعْصِفْ حِمَماً سَجِّلْ بالسِّفْرِ بما يَجِبُ
*** *** ***
(2) الحنين
"كُتِبت في 28/9/1965م بعد شهر من بدء عملي مدرساً بالأحساء بالمملكة العربية السعودية"
أرسَلْتُ أنغامي على قيثاري
لأبُثَّ ما يحلو من الأشعارِ
وسألتُ نفسي ما بها من عِلّةٍ؟
فاسْتلّت الإكبار رغمَ النارِ
من فُرقَةٍ عن موطِنٍ عِشْنا بهِ
زَمَنَ الطّفولةِ والشَّبابِ بِدارِ
من فُرْقَةٍ عن إخوةٍ لي عندهم...
عهد الصِّبا والوُدِّ والأسرارِ
غادرتهم والقلب يُدميه النّوى
لِفراقهم فَتَزَعْزَتْ أوتاري
غادرتهم والطّيف من آثارهم
يسري معي أنّى بَدَتْ أمصاري
غادرتهم وأنا أقول مؤكّداً
أنّي على نيل الخُلودِ أجاري
لا يا صديقي لا تَخَلني غافِلاً
عن ذِكْرِكم فالدّمع نهرٌ جاري
دمعٌ ينمِّقُ عين من ذاق الأسى
في النّأيِ عن أهلٍ وعن أخيارِ
لا يا صديقي إنني دوماً أرى
هاماتكم تُزْهي سنا أقماري
فالحُبُّ لا تَنْثُرْهُ أيدي كاتبٍ
كي ينطوي في عالم الأقدارِ
والحبُّ لا يبقى رهيناً مُمْسَكاً
من عنقِهِ في قبضَةِ الأشْرارِ
لكنّهُ معنى لِكُلّ حقيقةٍ
مخطوطةٍ في صدر كل شِعارِ
لا لن أرى في الكونِ خيرٌ منكَ يا..
قلبي جديراً أن يكون مناري
/
(3) يُهَيّأ لي
يُهَيّأ لي بأنّ الحُبّ إعلاءٌ وإكبارُ
وأن مناسِكَ الأحبابِ آهاتٌ وأسرارُ
وأن مَآثِرَ المحبوبِ أنغامٌ وأنْوارُ
وأن جنائن العُشّاقِ ملء العين إبصارُ
وكلّ محاسِنِ الدّّنيا ببحر الحُبّ أنهارُ
وسر منابر الأحبابِ أشواقٌ وآثارُ
/
يُهَيّأ لي بأن الحُبّ لا ينتابه غيمُ
وسر الحب كالمولود لا يرقى له إثمُ
فَقُلْ لأكابِرِ العُلماءِ: إن مَدَحوا وإن ذَمّوا
بحور الحبّ واسِعَةٌ يتيهُ بموجِها العلمُ
ويخشى أن يغوص بها- على عِلاّتِهِ- النَّظْمُ
/
يُهَيّأ لي بأنّ الحُبّ إفناءٌ وإذلالُ
ولكنّي على سُهدي أرى في الحب إجلالُ
ولولا نفحةٌ للحبّ ما جازت لنا حالُ
لأنّ الحب للإنسان أذواقٌ وأحوالُ
فلولا طَلْعَةُ المحبوب ما ارتاحَتْ لنا بالُ
فوالهفي على حبٍّ به شُعَلٌ وآمالُ
*** ***
يُهَيّأ لي بأن الحب مثل النور للناسِ
وإكسيرٌ يبثّ الوجْدَ في أعماقِ أنفاسي
فوالهفي على من يُلْقِ أخماساً بأسداسِ
ويخشى أن يذوق الطَّعْمَ طَعْمَ حلاوةِ الكاسِ
ولكنّي على ثِقَتي سأنْقُلُها بأجراسي
بأن الحب مفتاحٌ لأفكاري وإحساسي
*** ***
26/8/1966م
(4) بسيجاره
بسيجاره
بسيجاره
يَلِمّ العقل أفكارَهْ
ويصبح حاضري ذكرى
بلا حَدٍّ بلا قيدِ
أزركِشُها على زِنْدي
أُحيلُ ثلوجها جَمراً
تزيد مَرارة السُّهْدِ
وأُرسِلُها إلى الأكوانِ من أزمان مغمورَهْ
بَدَتْ للقلب نافورَهْ
وللأعيان أسطورَهْ
حكاية حبّنا الولهان في الأكوان منثورَهْ
/
بسيجاره
بسيجاره
يُعيد الأمس آثارَهْ
ويزرع في القلوب الحبّ...
حبّ الروح للروحِ
فينسيني بأتراحي
ويُحييني بأفراحي
إلامَ الهَجْرُ يا دُنيايَ؟
هل تُرضيك آهاتي؟
على بَيْني وعِلاّتي
حنيني بات يرميني إلى ليل المتاهاتِ
إلى أن هَلَّ فجرُ الذاتِ من أرجاء معمورَهْ
بَدَتْ للعينِ نافورَهْ
وللأعيان أسطورَهْ
حِكاية حبنا الولهان في الأكوان منثورَهْ
/
بسيجارَهْ
بسيجارَهْ
صَحَوْتُ على أنينٍ يَكْرَعُ السكرانُ إعصارَهْ
وقَلْبٍ أخْفَقَ النّبْضَهْ
سقيمٍ للرّدى عُرْضَهْ
وفكرٍ شاردٍ في الغيبِ ...
حلَّ القيدَ وانسابا
يحلِّقُ في رُبوع الحُبّ ...
حيث الكلّ أحبابا
فوارَبّاهُ أبقيني...
على أنغامِ ألحاني
لأكتبها على شِريانِ شِرياني
بأن الحُبّ للإنسان سِرّ بقائِهِ الثاني
/
بسيجارَهْ
بسيجاره
يَبُثُّ القلبُ أسرارَهْ
ويَنْزِفُ من مَعينِ الحُبّ...
من كَنْزِ الهوى قَطْرَهْ
سَرَتْ في أضْلُعي جَمْرَهْ
أحالَتْ صَحْوَتي سَكْرَهْ
فـَبـِتُّ أسير في دَوّامَةٍ للفِكْرِ مَقـْفولَهْ
بَدَتْ للعينِ مَعْسولَهْ
وبالأنوارِ مأهولَهْ
قَصيدتنا التي أضحت على الأفواه منقولَهْ
ألا يا صاحِ:
هل للكون غير الحبّ يُحييهِ؟
وهل للمرءِ غير سَناً من الأشواقِ يُبْقيهِ؟
ألا فاعلَمْ
ألا فاعلَمْ
*** *** ***
28/9/1966م
(5)عسى الأيام تجمعنا
وقفتُ على هِضابِ الشّوقِ عَلّي
أرى سِرّ الطبيعةِ بازدِيادِ
فَهَلّ علّيّ نَجْمُ العيدِ يُحْيي
بقلبي سِرّ أيام الوِدادِ
غداً يا عيد تأتي لا محالٌ
وفي قلبي حنيني وارتِعادي
فما جدواكَ أن أبقى وحيداً
وفكري حار قي تيه البوادي
لقد كتب الزمان لنا فراقاً
وبَدّدَ كل ّ ماضٍ في الوهادِ
لنا بالأمس أنغامٌ تداعت
فأحيَتْ مُهْجَتي وَمَحَتْ رُقادي
أعيش على نعيم الأمس عَلّي
أخَفّفُ وَطْأتي عند انفِرادي
فوالهفي على أيام كنّا
صِغاراً لا نَغشّ ولا نُعادي
فنلهوا والزمان لنا أنيسٌ
ونمرح والبِطاح لنا تنادي
هناك على سهول البَوحِ كُنّا
نَبُثّ الحُبّ من وادٍ لوادي
ونسهر والكتاب لنا صديقٌ
يبثّ أريجه في كل نادي
هناك تَرَكْتُ مَن للقلب نجوى
ومن هو دونَهُ خَرْطُ القََتادِ
فواربّاهُ هل لي منك يوماً
أرى خِلّي ولو يوم التّنادي
لِنَنْعَمَ باللقاء ولو ثَوانٍ
فنار الوَجْدِ دوماً باتّقادِ
وهل لي منك يا عيد البَرايا
سُويعاتٌ غَدَتْ أقصى مُرادي
لِنَشْرَبَ نَخْبَنا والليلُ زاهٍ
يُرَتّلُ نَشْوَتي والخِلّ بادي
عسى الأيام تجمعنا سَوِيّاً
لأنْثُرَ عطر قلبي في بِلادي
/
(6) طيف الحبيب
صحوت على أنينٍ من لَظا شوقي وحِرماني
وفي صمتٍ وَجيعٍ خَرّ في نفسي فألقاني...
بحوراً لا أعي منها سوى هجري وسِلواني
وتُهْتُ كأن كلّ مَضاجِي في نار بركانِ
سرى طيف الحبيب الغَضّ في فكري فأحياني
وشاح غِطاء أوهامي عن الدنيا فأنشاني
وبِتّ كأنني السكران عند لقاء خِلاّني
طليقاً لا أعي سِجناً كعصفورٍ ببستانِ
فلا نأيٌ ولا سقمٌ إذا ما الكل واساني
فكيف وقد بدى طيفٌ جميل القَدِّ كالبانِ
وأسقاني كؤوساً ما لها في الكون من ثاني
هنا ألفيتني ولهان في حبّي وإيماني
هنا أنسى وجودي أنني في نار هجراني
هنا ألقى عبير الحُبِّ يسري في الدُّجى الدّاني
فيا سَعدي بدا قلبي يبُثّ عبير أشجاني
وأصبح كل ما في الكون أنغاماً لألحاني
فوافرحي إذا طال المدى والخِلُّ وافاني
تراني أملأ الأكوان من أشذاءِ ريحاني
وأنثُرُ للوجود الشّعر من أعماقِ وُجداني
لِيَعلم كلّ مَن في الكون أن الحبَّ روحاني
/
(7) لنا أرواح لا تخشى مماتٌ
" كُتِبت بمناسبة ذِكرى النّكبة في 15/5/1966م وكان ليفي أشكول رئيس وزراء الكيان الصهيوني "
أيا أيار يا شهر الهُمومِ
ويا شهر المَآسي والوجومِ
أتيتَ نَهَكْتَ حُرْمَتَنا فبِتْنا
بلا أرضٍ نعيش... بلا كُرومِ
وتـُهنا والمَنون يحيك ثوباً
من الآلام يُزْرَعُ في الصّميمِ
صحونا والمدافع صاخباتٌ
تَزجّ بنا إلى نار الجحيمِ
وسِرنا نطرُقُ الأبواب حتى
شققنا الدرب في الليل البهيمِ
بنو صهيون أفيونٌ تداعى
فبثّ سُمومه كبدَ العلومِ
وصار يموّهُ التاريخ زوراً
ويملأ بالدخان وبالسمومِ
أيا "جونسون" أما يكفيك عاراً
أيا رجل النزاهة والنعيمِ!!
ففي "فِتـْنام" تقتل لا تبالي
وفي الأرواحِ تحرق كالهشيمِ
"لفي أشكول" تحضُنُهُ وترعى
مصالحه الدّخيلة في الرّسومِ
أمن أجلِ انتخابٍ أو عُلُوٍّ
يُباع الحقّ بالشّرّ الأثيمِ
يذكِّرُني أبي أمجادَ قومي
بِ"حِطّين" التّجَدُّدِ والهُجومِ
"صلاح الدين" دَكّ الأرضَ دَكّاً
وطهّرها من الخَصمِ اللئيمِ
إليكم يا منار الحَقِّ أرنو
بأبصارٍ عَلَتْ فوق النّجومِ
لأخبركم بأنّا لا مَناصٌ
وإيّاكم على العهد القديمِ
لنا أرواحُ لا تَخْشى مماتاً
ولا تَرْضى على البَغْيِ الذّميمِ
قصائده لوحات فنية زاخرة ومطرّزة بأغنيات المقاومة، و لجفرا الحنين المتصاعد للحرية والاستقلال، وللحجارة الآتية بالدولة
شعره وطني ملتزم وثروة قومية وإنسانية
كان في زيارة لبلدة بيت ريما خلال شهر آب عام 2009 لأول مرة بعد الهجرة للمشاركة في انتخابات المجلس الثوري لحركة التحرير الوطني فتح، وحينها تم تنظيم احتفال كبير في ساحة مدرسة بنات بني زيد الأساسية تخلله فقرات لفرقة الفنون الشعبية، وإلقاء شعر على المسرح من قبله أسعد الحضور حيث غنّى لبلدة بيت ريما في قصيدته وعبّر فيها عن مدى الحنين والشوق والارتباط بها وعن الأماكن التي ارتبطت طفولته بها، بعد أن تجول فيها والتقى الأهل، وعانق جبالها وبساتينها وأحياءها واستراح على ضفاف ينابيعها الطبيعية كأنه لقاء العشاق بعد طول غياب..
في أول دخوله ساحة المدرسة التي كانت تعج بالحضور تصافحنا معا بحرارة وتعانقنا وتبادلنا الكتب فأهداني هذا الديوان "صباح العشق يا جفرا" الذي يعتبر ديوانه السابع بين صدور العديد له من الدواوين الشعرية منها: يا ابنة الكرمل في عام 1978، أنغام فوق سجن الكبت 1979، يا كرم الزيتون الأخضر1981، موال من وراء الغربة1984، هلّت من صبرا عشتار 1984، لافتات على سياج الضوء 1988، صباح العشق يا جفرا 1999، على قمة الميجنا 2001 ، القدس أم اللوحات الكنعانية 2011 اشتعالات جلجامش في بيت العزاء الفتحاوي 2011 ، بيت ريما توزع ورد الأهِلّة 2011 لوحات كنعانية2012، بالإضافة إلى ديوانين تحت الطبع وهما، وَرْدُ الغَضَب و آلاء الشهداء. وكان ينشر شعره سابقا في مجلات: فلسطين الثورة، وفلسطين المحتلة، والكرمل، والجذور.
يتكون ديوان "صباح العشق يا جفرا" من (128) صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على(25) قصيدة مستوحاة من واقع حياة شعبنا ومواقف الحياة، وتبرز في طياتها العديد من المضامين، والهموم، والآلام، والأحلام، والقيم النبيلة، وتسلط الضوء على مدى تأثير ظلم الاحتلال الصهيوني البغيض والحرمان على مجتمعنا الرازح تحت نيره. هذا الديوان صادر عن الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين فرع السعودية بالتعاون مع دار الكرمل للنشر والتوزيع بعمان، ومُزيّن بلوحة غلاف للفنان محمد حجازي.
وقد أهدى هذا الديوان إلى بلدة بيت ريما وشهدائها الأبرار ما قبل النكبة، وأثناء النكسة، وأثناء كفاح منظمة التحرير الفلسطينية، ومرورا بالانتفاضة الأولى، ولتينها، وزيتونها الشامخ، وسنابلها، وكروم دواليها، والحجل في روابيها....
تعتبر قصائد الشاعر "أحمد الريماوي" أغنيات تتوهج بالحرارة والصدق والرصانة، وتتسع لتضم رموزا أخرى مرتبطة بجفرا وتداعياتها، كالميجنا، والبيادر، والحنون، والزعتر، والشومر، والمواويل، ودبكات العشاق، وتُثري المكتبات العربية والفلسطينية، وتضيف إلى التراث الفكري الإنساني، كما أن شعره تعبير عن الثورة والبطولة والتضحية والجهاد في سبيل الحرية والاستقلال.
إن إنتاج "د. أحمد الريماوي" الشِّعري هو من الشِّعر الوطني المقاوم و يعتبر ثروة قومية وإنسانية لأنه يصّور وجدان أفراد شعبنا وآمالهم وآلامهم ومعاناتهم وتطلعاتهم المستقبلية نحو الحرية والاستقلال.
لقد وجدت نفسي عاجزا عن الكتابة حول هذه القامة الشّعرية الطويلة وإنتاجها الأدبي ، والتاريخي الغزير والواسع واللافت والمؤثر وإعطائها حقها كما يجب، نظرا لتنوع كتاباته وكثرتها الأمر الذي حدا بالباحثين، والنُّقاد، والكُتّاب، والدّارسين إلى تناول إنتاجه المختلف وقاموا بتأليف العديد من الكتب والدراسات النقدية، مثل: " ذاكرة الحزن في شعر أحمد الريماوي" للدكتور كامل السوافيري، و" وهج القصيد" للدكتور أحمد موسى الخطيب، و" صورة الأرض في شعر أحمد الريماوي" للدكتور أحمد موسى الخطيب. وهو بحث مُحكّم نشر في كتاب "ظواهر حديثة في شعر المقاومة من التّناص إلى التصوير التمثيلي" للدكتور محمد صالح الشنطي، وكذلك "القصيدة المهاجرة" أيضا للدكتور محمد صالح الشنطي ، و "المفردة في شعر أحمد الريماوي" للشاعر عيسى القطاوي ، و" الأسطورة في شعر أحمد الريماوي" إيمان غرغور، و " دراسات في شعر أحمد الريماوي" علي أبو دياب وهو كتاب قيد الطبع ، وغيرها العديد من القراءات النقدية المتنوعة التي تسلّط الضّوء على دُرر وجواهر دواوينه الشعرية الوطنية الملتزمة.
سرعان ما يجد القارئ-منذ الوهلة الأولى من قراءته للمجموعة- أن أسلوب شاعرنا "د.أحمد الريماوي" ممتع وله نكهة خاصة يتميز بها عن أمثاله من الكتَّاب بحيث رسم له طريقاً فريداً ومستقلاً عكس شخصيته الإبداعية وموهبته يستمتع القارئ بها أيما استمتاع أثناء تجواله في بستان المجموعة الأدبي.
لذلك ليس غريبا أن يأتي عنوان المجموعة "صباح العشق يا جفرا" مثيراً، ومؤثرا، وجاذباً، ولافتا وبهذه الرمزية والغموض المتعمّد في المعنى الذي يدفع عقل القارئ للبحث عن خفاياه وعما يتوارى خلفه من مقاصد.
قصة الـ"جفرا" هي حكاية من عشرات الحكايات التي صنعت وبلورت التراث الفلسطيني, والتي تركت بصمتها في الحياة الثقافية الفلسطينية، واتسعت جفرا يوما بعد يوم لتصبح رمزا لفلسطين بعامة، وللمرأة الفلسطينية، وللأرض الفلسطينية و لمعاناة الإنسان الفلسطيني والوطن، وقد تغنّت بها حروف العديد من الشعراء والزّجالين، واختزلت معاني الوطن، واللجوء، والحب، والألم ، كما يوجد هناك نتاج أدبي واسع جسّد جفرا الحنين المتصاعد للحرية والاستقلال وبناء الدولة الآتية لا محالة.
"الجفرا" لم يكن اسما بطبيعة الحال، وإنما لقب أطلقه الشاعر "أحمد عبد العزيز علي الحسن" على حبيبته تشبيها لها بابنة الشّاة، وكانت سمراء اللون، ذات ملامح ناعمة، وكان "أحمد عزيز" ابن عمها ويحترف قول العتابا، والزّجل، وتقدم لخطبتها، وتمت الموافقة، وتزوجا فعلا وهي في سن الـ16سنة تقريبا، أما هو فكان عمره حوالي الـ20 سنة.
إلا أنهما لم يتوفقا في زواجهما بعد مرور أسبوع واحد فقط، فأرادت أمها أن يتم الطّلاق وطُلقت فعلا. لم يكن هذا الطّلاق أمرا سهلا فقد قامت "جفرا" بالهروب وهو يلاحقها حتى استقرت في بيت أهلها. وبعد محاولات كثيرة لإرجاعها إلى بيت زوجها إلا أنها باءت بالفشل.
بعد ذلك بفترة تزوجت الجفرا من ابن خالتها. عندما قطع "أحمد عزيز " أي أمل في رجوع جفرا إليه شعر بمرارة شديدة لحبه الشديد لها، وكانت تخرج مع الأهالي متوجهة لعين الماء، فكان يقول فيها شعرا كلما رآها وهي في طريقها للسقاية من عين الماء، حاملة جرة من فخار:
جفرا يا هالربع نزلت على العين جرتها فضة وذهب وحملتها للزين
جفرا يا هالربع ريتك تقبرينــي وتدعسي على قبري يطلع ميرامية
وظل "أحمد عزيز" متشبثا بالجفرا في قصائده وعتاباه، وجمعها في كتاب أسماه كتاب "الجفرا".
وقد لقب الشاعر نفسه بـ"راعي الجفرا"، وذكر الشاعر عز الدين مناصرة:" بأن الأغنية ولدت حوالي عام 1939، وأصبحت نمطا غنائيا مستقلا في الأربعينات، وانتشرت في كافة أنحاء فلسطين ثم وصلت بعد عام 1948 إلى الأردن ولبنان وسوريا".
من الملاحظ أن بناء القصيدة لدى" الريماوي" يمتاز بالتماسك، والترابط، والجزالة، وقوة التأثير، و يعتبر نصه الشّعري جسداً حياً ونابضا و مليئا بالصور الشّعرية: من تشبيه، واستعارة، وكناية، ورمزية، ومجاز بوظائفها ودلالاتها الجمالية، والتعبيرية، والإيحائية، والامتاعية المعبّرة عن واقعنا المؤلم وعن آمالنا وتطلعاتنا نحو الحرية والانعتاق من نير الاحتلال الجاثم على صدورنا، كما هناك توافق أصوات الشّعر وموسيقاه مع الصور والمعاني والمواقف. مضاف إلى ذلك استخدامه للجناس الذي أعطى جرساً موسيقياً يثير النفس وتطرب له الأذن ويُثير الذهن لما ينطوي عليه من مفاجأة تقوى المعنى وعن طريق الاختلاف في المعنى، وكذلك استخدامه للتورية التي عملت على جذب الانتباه و إيقاظ الشعور و إثارة الذهن ونقل إحساس الأديب بمهارة فريدة.
لقد جعل الشاعر قلمه يتكلم باحترافية وأوراقه تسمع لنبض إحساسه وما يجول في خاطره لدرجة أن مجموعته الشّعرية هذه أضحت ممتعة، ومهمومة بالغربة وبهموم البشر، وبتجربته الشّخصية لكنها تحمل روح التحدي، وإن إبداع الروح العاشقة للحرّيّة هو الإبداع الأكثر هيمنة على المجموعة.
لم يقف الشاعر الكبير عند هذا الحد فحسب، بل نجد أنه يتمتع أيضا بأسلوب مميز في قدرته الفائقة على تصوير أفكاره وعواطفه بتعبير فني، وصياغة الألفاظ والعبارات الملائمة للمعاني. ومن بين المميزات الفريدة في أسلوبه - يكتشف القارئ- أنه يؤدي الخيال والتصوير ببساطة وبمهارة عالية إذا استدعى ذلك، وكذلك التعبير عن الفكرة بالبيان والوضوح مباشرة أحيانا .
وفي مشهد لافت آخر لاحظت أن شاعرنا الفطن برع في تركيزه على العنصر الإنساني في مجموعته الشّعرية لدرجة أنه استثمره استثمارا جيداً بحيث استطاع من خلاله النفاذ إلى قلب وعقل كل قارئ أثناء معالجته لمواضيع انتزعها من واقعنا المأساوي، وجمهورنا الفلسطيني أينما وجد، وقدم من خلالها صورا فنية معبرة جدا عكست الواقع القاسي المعاش على أكمل وجه، وأبكت العيون والقلوب من تأثيرها العاطفي، كما شدّني تركيزه على اللمسة الإنسانية المؤثرة وكيف خلق منها صورا فنية جمالية راقية سلّطت الضوء على قسوة الحياة تحت الاحتلال الذي يقف حائلا أمام طموحاتنا، الإنسانية، والاجتماعية، والسياسية..الخ.
إن أسلوب" د. أحمد الريماوي" الشّعري الباهر الذي لجأ إليه شاعرنا المميز يتضح في استخدامه للأفعال المصورة للحدث استخداما منطقيا منظما زمنيا، واستطاع بشدة حساسيته الواضحة في نصوصه الشّعرية من ملاحظة مشاعر الناس وعواطفهم،
كما تمكن بخبرته من استبطان واكتشاف أهواء الناس وما يتبعها من الهمس النفسي الذي صوَّره ورسم اتجاهاته بكفاءة عالية، ولا أغالي إذا قلت إن القيمة العاطفية التي شحن بها جمله سَمَت بمستواه الفني وجعلته راقيا.
من المتعارف عليه أن كثرة إطلاع، ومعاناة الكاتب أحيانا يعملان على خلق المهارة الأدبية في صياغة أبياته الشّعريّة، وأن صياغة الجملة التصويرية ،وكذلك الأبيات المعبرة عن العواطف الصادقة وتضمينها أفعال الحواس يمنحها رقة الهمس الإنساني، ويجعل قيمتها الجمالية فعالة ومؤثرة، ، وهذا ما ركز عليه شاعرنا "د. أحمد الريماوي " في مجموعته آنفة الذكر.
أغراض ومصادر شعره وشاعريّته، و الظروف الموضوعية والذَّاتية التي لعبت دوراً في صقل شخصيته
لقد اتّجه الشعر اتّجاهاً وطنيا مع بداية الاحتلال الصهيوني لوطننا فلسطين، فبداية الاحتلال كانت تعني بداية المقاومة ليس بالكلام فحسب، بل و بالفعل وبكل الأساليب الممكنة. وصار الشعر حافلا بالعطاء، و نوعا من أنواع التحدّي والمقاومة للاحتلال لفضحه ووصفه الأعمال الوحشية التي يمارسها من قتل وتدمير قرى وتهجير ونفي واقتلاع الشجر..الخ.
لهذا لعبت مأساة شعبنا وما زالت تلعب دورا مهما ومُؤثّرا وملهما في صقل مواهب الشّعراء وتنميتها، فَقد ازدادت بعد حياة المهجر بعيدا عن الوطن الأم، وهذا كان حافزاً كبيراً جداً للاستمرار في قول الشعر وغزارة إنتاجه ليشكل بذلك سلاحا مقاوما إلى جانب البندقية الفلسطينية ورافدا لها في تعبئة الجماهير وتبصيرهم.
تُعتبر الظروف والبيئة التي عاشها الشاعر من أكبر المؤثرات التي أدّت به إلى قول الشعر منذ نعومة أظفاره، حيث عاش مرارة النكبة الأولى، وكذلك عاش النكسة الثانية، واحتلال الكيان الصهيوني لباقي فلسطين، وكذلك انطلاقة حركة فتح ومنظمة التحرير وبدء المقاومة الفلسطينية.
ثمّة ظروف وعوامل موضوعية وذاتية لعبت دوراً مهما في حياة شاعرنا الكبير" د. أحمد الريماوي" وربط مصيره بمصير قضيته وشعبه ووطنه، وفي صقل شخصيته الثّورية وشاعريّته، أستطيع حصرها في التالي:
أولاً: انضمامه لحركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح تنظيميا، في فبراير 1966م، عندما اشتد عوده وكان يبلغ من العمر 20 ربيعاً .
ثانياً: استطاع اللاجئون الفلسطينيون من تحويل نكبة العام 1948، والسكن في خيام اللجوء إلى عمل جماهيري، وفدائي، وسياسي.
ثالثا: إعلان الكفاح المسلح من خلال البلاغ العسكري رقم(1) الصادر عن القيادة العامة لقوات العاصفة التابعة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني"فتح" لحظة قيام أجنحة القوات الضاربة بتنفيذ عملية "عيلبون" بتاريخ 1 كانون الثاني1965.
رابعاً: بدء انطلاق الكفاح المسلح إيماناً بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وبواجب الجهاد المقدس، وبالموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج بعد الهزيمة التي مُنِيت بها الجيوش العربية:المصرية، والسورية، والأردنية خلال نكسة عام 1967..
خامساً: تصاعدت مطامع وأخطار إسرائيل على فلسطين والدول العربية، وفرض هيمنتها على المنطقة وكسر الإرادات العربية.
سادساً: لقد عايش شاعرنا هذه الظروف المأساوية التي حلَّت بشعبنا ووطننا، والمؤامرات التي حيكت وما زالت تُحاك ضد فلسطين، وكان لذلك الأثر الكبير في صقل شخصيته الثورية وشاعريته، وتحديد مكانه الطبيعي للدفاع عن حقوق شعبه.
سابعا: أما مرابع الطفولة في "بيت ريما" التي كانت قلعة للثّوار فقد غرسَت في مهجته نار الشّوق ونور عشق الوطن واختزلََتْ عبير حب الوطن بعبير سِحْرِها، حيث يسكن فيها مع أسرته وعشيرته و تعلم في مدرسة البلدة، وعندما صار في الصف الثالث الابتدائي تم تعيين والده "الشيخ يوسف الريماوي" مدرسا في مخيم "عقبة جبر" قرب مدينة أريحا مما اضطر الأسرة إلى السكن هناك.
عندئذ اكتشف أن مرارة المعاناة والألم والفقر هي القاسم المشترك لأبناء مخيم اللجوء، فكان يشارك في المظاهرات الصاخبة المطالبة بحق العودة، وشاهد بأم عينيه التحدّي والتمرد على الواقع المؤلم والغضب يعم الشوارع.
ثامنا: لقد كان لأسرته وأثرها مصدرا هاما من مصادر شعره وشاعريته فقد كانت تهتم بالفكر والأدب والإمامة والتدريس والعلم،
وكان يستمتع وهو يقرأ الشعر والأناشيد الصوفية حيث كانت تتملكه الدهشة اللذيذة لوميض المعاني في قصائدهم . كما قرأ ما كان يخصه به بعض الأقارب من كتيبات وطنية وسياسية وتنظيمية حزبية، حيث انخرط الشباب الفلسطيني بعد نكبة عام 1948م في الأحزاب بتوجهاتها المختلفة، التوجه القومي ويمثله حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يتزعمه في فلسطين في تلك الفترة عبد الله الريماوي وحركة القوميين العرب، والتوجه الإسلامي ويمثله حزب الإخوان المسلمين وحزب التحرير، والتوجه الأممي وغيرها.
ومن الجدير ذكره أن أسرته توارثَت حمل لواء الإمامة، والعلوم الدينية، والفكر والأدب، والتدريس والعلم أبّا عن جد إلى عهد والده، فكان جده الشيخ أحمد الريماوي عضواً في أول مجلس إفتاء شُكِّل في فلسطين برئاسة سماحة الشيخ محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا، ويتناوب هو وفضيلة الشيخ عبد الله الجزار العكاوي- صديقه منذ الدراسة بالأزهر الشريف- وابن عمه فضيلة الشيخ إسماعيل الريماوي، على إعطاء الدروس الدينية في الجامع الأموي بدمشق، وجامع الجزار بعكا، والجامع الأحمدي بيافا، واكتفى والده بالتدريس والإمامة في القرى التي كان يدرس بها. أما والدته فكانت تلقي الدروس الدينية ليومين في الأسبوع إلى أن منعها المرض في نهاية الثمانينيات. لقد كان والده "يوسف الريماوي" مهتما بالأدب وشغوفا به وتحديداً بالشعر، وكذلك بالفكر الفلسفي الصوفي وبتأثيرٍ منه درس "د. أحمد الريماوي" في كلية الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة بيروت العربية عام 1969، فهو- كما كان يقول- يجمع بين العلم الشرعي وعلم الحقيقة، أي بين العلوم الظاهرية والعلوم الباطنية، كما كانت ثقافة والدته صوفية وتراثية أيضا.
⏪بواكير رحلته مع الشعر
هنا في هذه البيئة العلمية والأدبية الحاضنة تفتّحَت روحه الإبداعية وأزهرت على يد والدَيه لاهتمامهما الشديد بشرح وحفظ وإنشاد الشعر الصوفي القديم، لأمثال: عمر بن الفارض، ومحي الدين بن عربي، والحلاج، وأبي يزيد النابلسي، والشيخ عبد القادر الحمصي، وجده الشيخ أحمد الريماوي، والشيخ نصوح الجابري الحلبي، والشيخ محمد عساف البيروتي وغيرهم. وانطلقت بواكير رحلته مع الشعر وكانت أولى محاولاته في كتابة الشعر باللهجة العامية على إثر تأميم قناة السويس في عام 1956 من قبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، صار العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، فعمّت المظاهرات الاحتجاجية في الوطن العربي و فلسطين. مع انتهاء المظاهرة الصاخبة التي شارك فيها -وكان عمره (11) سنة حينئذ في الصف الخامس الابتدائي- عاد إلى البيت وكتب قصيدة باللهجة العامية -لم يذكر عنوانها- أسمعها مغنّاةً إلى والدته "عربية الحُصري" طيب الله ثراها فما كان منها إلا أن تركت ماكينة الخياطة وحضنته بحرارة، وطَلبَت منه أن يعيد إلقاءها، وبعد الإلقاء أخذتها منه وقرأتها بصوتٍ مسموع وهو يرقبها بفرح كبير، وكانت تلك البدايات.
أول المكتشفين لموهبته الشاعر خليل زقطان
إن أول المكتشفين لموهبة" د. أحمد الريماوي" كان مدير مركز الشباب الاجتماعي بمخيم "عقبة جبر" الشاعر "خليل زقطان" إثر مبارزة شعرية تميزْ بها وهي أول قصيدة ألقاها عن معركة بدر في 17رمضان عام1961 فنِال الجائزة على إثرها، وهي عبارة عن قلم حبر من نوع باركر، وهو أول قلم حبر سائل يستعمله في حياته، وكان آنذاك في الصف الأول الثانوي كما عمل على ضمّه إلى عضوية اللجنة الثقافية بالنادي، مما أعطاه حافزا للتردد على مكتبة النادي للمطالعة وحفظ الشعر، و الاستمرار في إبداعاته، وإبراز موهبته منذ نعومة أظفاره.
حرم نفسه من مصروفه اليومي لتنمية موهبته
أما الخطوة الثانية في تنمية موهبته وتشجيعه فكان فضلها يعود إلى مدرس اللغة العربية "عزت زاهده" من الخليل أثناء وجوده في الصف الثاني الثانوي، حيث طلب من الطلبة حينئذ أن يكون الموضوع في حصة التعبير التالية اختيار عشرة أبيات من الشعر لأي شاعر ومن أي زمن وأن يذكر اسم الشاعر والمناسبة وسبب اختيار الأبيات.
بعد تردّد وخوف اختار "أحمد" عشرة أبيات من قصيدة له جاشت بها عاطفته بمناسبة استقلال الجزائر عام 1963، وما أن حضر الأستاذ في الحصة التالية حتى بادرهم بصوته الجَهور ولهجته الخليلية بالسؤال:"وين الطالب أحمد الريماوي؟" رفع يده بعد تردّد، وقال المعلم :"هذا الطالب حصل على أعلى علامة في مادة التعبير، لأنه الوحيد الذي اختار أبياتاً شعرية من تأليفه"، ثم التفت إليه، وقال:"أنا عايزك بعد الحصة"، ذهب إليه بمعنوياتٍ عالية وفرح خفي، فسأله عن مصروفه اليومي؟ وطلب منه أن يسلّمه ما يدخره من قروش أردنية مهما قلّت أو كثرت، ليشتري له بها بعض الكتب الأدبية وخاصة في مجال الشعر. طبعاً كان المبلغ محدودا لأن مصروفه اليومي كان يتراوح بين التـّعريفة والقِرش الأردني. عندما عاد أدراجه إلى المنزل عرض الأمر على والده، فوعده بإعطائه عشرة قروش أسبوعيا غير مصروفه اليومي. على ضوء ذلك قرر" أحمد" أن يحرم نفسه من لعب تنس الطاولة في النادي، و ألا يشرب الشاي، وأن يسلم الأستاذ خمسة عشر قرشا. وهكذا استمر الوضع لسنتين والمعلم يحضر له الكتب التي كانت أثمانها أضعاف ما كان يعطيه، و"أحمد" يقرأ ويكتب ما تجود به قريحته من شعر ويعرضه عليه مستلهماً كل نصائحه.
مهما كتبت عن الشاعر "د. أحمد الريماوي" لن أوفيه حقه بعد لأنه يحتاج إلى دراسات ودراسات نظرا لكثرة إنتاجه وتنوعه، كما أن هذا الديوان الشّعري جدير بالاقتناء لأنه جزء من تراثنا الفكري الإنساني الذي يسجل لحظات تاريخية من كفاح شعبنا ضد الاحتلال الصهيوني.
⏪نماذج نصوص مختارة من أشعاره
وعن الانتفاضة الأولى يقول في قصيدته"صباح العشق يا جفرا":
دلال تعانق الآمالَ
تملأ دربنا عطرا
ونبع المسك من قلب الشّقيف
على جليل العمر
يشرق فيضه نهرا
يصب النّور في بحر انتفاضتنا
ويشعل موجنا كِبرا
صباح الفتح يا جفرا
صباحا أزهر الجمرا
يلمّ الشّمل عبر الوحدة الكبرى
لنعزفها مواويلا
وننشرها أكاليلا
ونحّيي دبكة العشاق
ليلة زفّة الشّهداء
يا صبرا
نبث شذا انطلاقتنا
ونقطف من عراجين الفِدا نصرا
يتحدث فيها عن الوحدة والانتفاضة والشهداء الذين رووا بدمائهم تراب الوطن الغالي.
أما في قصيدته" أنا الخضر الفلسطيني": فتحدث فيها عن مسقط رأسه بلدة بيت ريما وعن تلالها وجبالها التي حضنت شهداءها وزيتونها وتينها وأعشابها وعصافيرها ودارسها وخوابيها وجرارها وبيادرها ومقاماتها، وسحر طبيعتها الخلاب، وأيام طفولته، ويقول فيها:
هدهديني.. هدهديني
وأنثري من "خلة الرمان" ألحان السنين
أنشريني نسمة عذراء في "رأس علم"
أشعل الدنيا بنوار العشم
يا عزوتي بالله كيف الحال؟
يا ديرتي بالله كيف الحال؟
يا كرمتي بالله كيف الحال؟
هيا أخبروا..
عن صبر زيتوني وتيني
عن صمت حسّوني
وعذاب طيّوني لدموع حنّوني
هذا هو الخضر الفلسطيني
غصنٌ يُراقص في حديقة عودتي
أوراق ألحان البقاء مُرددا
هذا هو الخضر الفلسطيني
من بيت ريما جاء يبعثني
في بيت ريما جاء يَرقيني
كما غنى لأطفال الحجارة، وللحجارة الآتية بالدولة، ففي قصيدته"غناء أطفال الحجارة" يقول:
أغنّيك طفل الحجارة فجراً
تماهى على الدّرب نصراً
فأزهر شعراً وعزفَا
أغنّيك نبعاً تعطر رجعاً
تسّمر طيفاً تبلور عَصفاً
أغنّيك فتحاً تضمّد جرحاً
تورّد قمحاً
تجدد لحناً زلالاً وأصفى
تَرود الأزقة..
مقلاعك القُزحيّ تجلّى
فأنبت نهجاً وأورق عُرفا
على ضفّتيك ائتلاف الحجارة
تُذكي رعود الهتافِ
المغمس زيت المواويل
تحكي الأصيل
على راحتيك بريق السكاكسن
في مقلتيك لهيب الصليل
تشع على شرفة النصر
أيقونة..
هل لجالوت أن يستبيها؟
وقد كبّلته الطواغيت
كرها وخوفا
أغني لعينيك مِيدوز*( الأسطورة تقول أن ميدوز ما نظرت إلى شيء إلا أحالته حجراً)
للحجر البكر
مولودك الحر
يحميك من كل غدر
---
⏪نماذج مما لم ينشره الشاعر في دواوينه من شعر البواكير
(1) لا داعي اليوم لفلسفةٍ
"كُتبت بعد قراءته للبلاغ العسكري الأول الصادر عن قوات العاصفة الجناح العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في 1/1/1965م"
أبـــداً واللـهِ سَنُشْــــعلها ناراً تجتــاحُ وتلتهٍـــبُ
وتُؤَجِّــــجُ في كلّ سمــــاءٍ أنّا للفـــتحِ سَنَنْتَسِبُ
لِنُحَطّــــمَ أوْكــارَ الطّاغيــــن يُسَطِّرُها هـذا اللّهَــــبُ
مِن كلّ أخٍ في عاصِفَتي أفدى بالرّوحٍ أيا عربُ
ما العاصــفة الكبرى إلاّ رمــزٌ تَزْدانُ بهِ الشُّــهُبُ
لِيُعيـد الحـقّ بلا وَهَـنٍ ويدوس الظُّلْـمَ ويَنْتَصِـبُ
ذاك المِغْوار يسير خُطاً بالنار يُدَغْدِغُهُ الأرَبُ
وترى البَسَــمات على شَفَتيـهِ تُحَقِّـقُ ما تَطْوي الحِقَبُ
أرض اليرموكِ تُؤَجِّجُ بي روح الإكْبارِ بما وَهَبوا
وصلاح الدين يحطّمُ في حِطِّين أواصِرَ من سَلَبوا
وصَداهُ اليوم يُدَوّي في أعماقِ الشّعب... فلا عَجَبُ
فبطـولتنـا بالأمــس أتَـتْ نـوراً تُـغْتـالُ به الحُجُــبُ
نارٌ تَغْلـي في كلّ دمٍ يا صـاحِ..... أتَعْرِفُ ما السّـبَبُ؟
لتُزيلَ العــار وتثـأرَ مِمن داسـوا الأرض وما حَسِـبوا...
أنّ البركـــان الهـــادرلا تطويــِـهِ حـــدودٌ تضْـطَـــرِبُ
فَلَظــاهُ يُلَعْلِــعُ في وطنـي وعُصـاةُ البَغْيِ له حَطَـبُ
وكــلامٌ ترْسمـه النيـران تُحَقِّــقُ ...تَسْــحَقُ... تَلْتَهِـبُ
آهٍ يا صــاحِ... أما ســارَعْتَ لِتأخُـذَ وضـعكَ ...تَقْتَـرِبُ؟
قُلْ لي: ما النَّفْــعُ من التخْــديرِ وأنت تســبّ وتَنْتَحِــبُ؟
إنّــي واللـّـهِ لأمْقُـــتُ من ينـــوي للثــأرِ ويَنْقَلِـــبُ
دَعْ عَنْكَ اليأسَ بِمِضْـجَعِهِ هَيّا للرّكْبِ ...لمن وثَبـوا
لا داعــي اليـومَ لِفَلْسَــفَةٍ فَصَــليلُ النــارِ هو الأدَبُ
حَطِّمْ واسْحَقْ واعْصِفْ حِمَماً سَجِّلْ بالسِّفْرِ بما يَجِبُ
*** *** ***
(2) الحنين
"كُتِبت في 28/9/1965م بعد شهر من بدء عملي مدرساً بالأحساء بالمملكة العربية السعودية"
أرسَلْتُ أنغامي على قيثاري
لأبُثَّ ما يحلو من الأشعارِ
وسألتُ نفسي ما بها من عِلّةٍ؟
فاسْتلّت الإكبار رغمَ النارِ
من فُرقَةٍ عن موطِنٍ عِشْنا بهِ
زَمَنَ الطّفولةِ والشَّبابِ بِدارِ
من فُرْقَةٍ عن إخوةٍ لي عندهم...
عهد الصِّبا والوُدِّ والأسرارِ
غادرتهم والقلب يُدميه النّوى
لِفراقهم فَتَزَعْزَتْ أوتاري
غادرتهم والطّيف من آثارهم
يسري معي أنّى بَدَتْ أمصاري
غادرتهم وأنا أقول مؤكّداً
أنّي على نيل الخُلودِ أجاري
لا يا صديقي لا تَخَلني غافِلاً
عن ذِكْرِكم فالدّمع نهرٌ جاري
دمعٌ ينمِّقُ عين من ذاق الأسى
في النّأيِ عن أهلٍ وعن أخيارِ
لا يا صديقي إنني دوماً أرى
هاماتكم تُزْهي سنا أقماري
فالحُبُّ لا تَنْثُرْهُ أيدي كاتبٍ
كي ينطوي في عالم الأقدارِ
والحبُّ لا يبقى رهيناً مُمْسَكاً
من عنقِهِ في قبضَةِ الأشْرارِ
لكنّهُ معنى لِكُلّ حقيقةٍ
مخطوطةٍ في صدر كل شِعارِ
لا لن أرى في الكونِ خيرٌ منكَ يا..
قلبي جديراً أن يكون مناري
/
(3) يُهَيّأ لي
يُهَيّأ لي بأنّ الحُبّ إعلاءٌ وإكبارُ
وأن مناسِكَ الأحبابِ آهاتٌ وأسرارُ
وأن مَآثِرَ المحبوبِ أنغامٌ وأنْوارُ
وأن جنائن العُشّاقِ ملء العين إبصارُ
وكلّ محاسِنِ الدّّنيا ببحر الحُبّ أنهارُ
وسر منابر الأحبابِ أشواقٌ وآثارُ
/
يُهَيّأ لي بأن الحُبّ لا ينتابه غيمُ
وسر الحب كالمولود لا يرقى له إثمُ
فَقُلْ لأكابِرِ العُلماءِ: إن مَدَحوا وإن ذَمّوا
بحور الحبّ واسِعَةٌ يتيهُ بموجِها العلمُ
ويخشى أن يغوص بها- على عِلاّتِهِ- النَّظْمُ
/
يُهَيّأ لي بأنّ الحُبّ إفناءٌ وإذلالُ
ولكنّي على سُهدي أرى في الحب إجلالُ
ولولا نفحةٌ للحبّ ما جازت لنا حالُ
لأنّ الحب للإنسان أذواقٌ وأحوالُ
فلولا طَلْعَةُ المحبوب ما ارتاحَتْ لنا بالُ
فوالهفي على حبٍّ به شُعَلٌ وآمالُ
*** ***
يُهَيّأ لي بأن الحب مثل النور للناسِ
وإكسيرٌ يبثّ الوجْدَ في أعماقِ أنفاسي
فوالهفي على من يُلْقِ أخماساً بأسداسِ
ويخشى أن يذوق الطَّعْمَ طَعْمَ حلاوةِ الكاسِ
ولكنّي على ثِقَتي سأنْقُلُها بأجراسي
بأن الحب مفتاحٌ لأفكاري وإحساسي
*** ***
26/8/1966م
(4) بسيجاره
بسيجاره
بسيجاره
يَلِمّ العقل أفكارَهْ
ويصبح حاضري ذكرى
بلا حَدٍّ بلا قيدِ
أزركِشُها على زِنْدي
أُحيلُ ثلوجها جَمراً
تزيد مَرارة السُّهْدِ
وأُرسِلُها إلى الأكوانِ من أزمان مغمورَهْ
بَدَتْ للقلب نافورَهْ
وللأعيان أسطورَهْ
حكاية حبّنا الولهان في الأكوان منثورَهْ
/
بسيجاره
بسيجاره
يُعيد الأمس آثارَهْ
ويزرع في القلوب الحبّ...
حبّ الروح للروحِ
فينسيني بأتراحي
ويُحييني بأفراحي
إلامَ الهَجْرُ يا دُنيايَ؟
هل تُرضيك آهاتي؟
على بَيْني وعِلاّتي
حنيني بات يرميني إلى ليل المتاهاتِ
إلى أن هَلَّ فجرُ الذاتِ من أرجاء معمورَهْ
بَدَتْ للعينِ نافورَهْ
وللأعيان أسطورَهْ
حِكاية حبنا الولهان في الأكوان منثورَهْ
/
بسيجارَهْ
بسيجارَهْ
صَحَوْتُ على أنينٍ يَكْرَعُ السكرانُ إعصارَهْ
وقَلْبٍ أخْفَقَ النّبْضَهْ
سقيمٍ للرّدى عُرْضَهْ
وفكرٍ شاردٍ في الغيبِ ...
حلَّ القيدَ وانسابا
يحلِّقُ في رُبوع الحُبّ ...
حيث الكلّ أحبابا
فوارَبّاهُ أبقيني...
على أنغامِ ألحاني
لأكتبها على شِريانِ شِرياني
بأن الحُبّ للإنسان سِرّ بقائِهِ الثاني
/
بسيجارَهْ
بسيجاره
يَبُثُّ القلبُ أسرارَهْ
ويَنْزِفُ من مَعينِ الحُبّ...
من كَنْزِ الهوى قَطْرَهْ
سَرَتْ في أضْلُعي جَمْرَهْ
أحالَتْ صَحْوَتي سَكْرَهْ
فـَبـِتُّ أسير في دَوّامَةٍ للفِكْرِ مَقـْفولَهْ
بَدَتْ للعينِ مَعْسولَهْ
وبالأنوارِ مأهولَهْ
قَصيدتنا التي أضحت على الأفواه منقولَهْ
ألا يا صاحِ:
هل للكون غير الحبّ يُحييهِ؟
وهل للمرءِ غير سَناً من الأشواقِ يُبْقيهِ؟
ألا فاعلَمْ
ألا فاعلَمْ
*** *** ***
28/9/1966م
(5)عسى الأيام تجمعنا
وقفتُ على هِضابِ الشّوقِ عَلّي
أرى سِرّ الطبيعةِ بازدِيادِ
فَهَلّ علّيّ نَجْمُ العيدِ يُحْيي
بقلبي سِرّ أيام الوِدادِ
غداً يا عيد تأتي لا محالٌ
وفي قلبي حنيني وارتِعادي
فما جدواكَ أن أبقى وحيداً
وفكري حار قي تيه البوادي
لقد كتب الزمان لنا فراقاً
وبَدّدَ كل ّ ماضٍ في الوهادِ
لنا بالأمس أنغامٌ تداعت
فأحيَتْ مُهْجَتي وَمَحَتْ رُقادي
أعيش على نعيم الأمس عَلّي
أخَفّفُ وَطْأتي عند انفِرادي
فوالهفي على أيام كنّا
صِغاراً لا نَغشّ ولا نُعادي
فنلهوا والزمان لنا أنيسٌ
ونمرح والبِطاح لنا تنادي
هناك على سهول البَوحِ كُنّا
نَبُثّ الحُبّ من وادٍ لوادي
ونسهر والكتاب لنا صديقٌ
يبثّ أريجه في كل نادي
هناك تَرَكْتُ مَن للقلب نجوى
ومن هو دونَهُ خَرْطُ القََتادِ
فواربّاهُ هل لي منك يوماً
أرى خِلّي ولو يوم التّنادي
لِنَنْعَمَ باللقاء ولو ثَوانٍ
فنار الوَجْدِ دوماً باتّقادِ
وهل لي منك يا عيد البَرايا
سُويعاتٌ غَدَتْ أقصى مُرادي
لِنَشْرَبَ نَخْبَنا والليلُ زاهٍ
يُرَتّلُ نَشْوَتي والخِلّ بادي
عسى الأيام تجمعنا سَوِيّاً
لأنْثُرَ عطر قلبي في بِلادي
/
(6) طيف الحبيب
صحوت على أنينٍ من لَظا شوقي وحِرماني
وفي صمتٍ وَجيعٍ خَرّ في نفسي فألقاني...
بحوراً لا أعي منها سوى هجري وسِلواني
وتُهْتُ كأن كلّ مَضاجِي في نار بركانِ
سرى طيف الحبيب الغَضّ في فكري فأحياني
وشاح غِطاء أوهامي عن الدنيا فأنشاني
وبِتّ كأنني السكران عند لقاء خِلاّني
طليقاً لا أعي سِجناً كعصفورٍ ببستانِ
فلا نأيٌ ولا سقمٌ إذا ما الكل واساني
فكيف وقد بدى طيفٌ جميل القَدِّ كالبانِ
وأسقاني كؤوساً ما لها في الكون من ثاني
هنا ألفيتني ولهان في حبّي وإيماني
هنا أنسى وجودي أنني في نار هجراني
هنا ألقى عبير الحُبِّ يسري في الدُّجى الدّاني
فيا سَعدي بدا قلبي يبُثّ عبير أشجاني
وأصبح كل ما في الكون أنغاماً لألحاني
فوافرحي إذا طال المدى والخِلُّ وافاني
تراني أملأ الأكوان من أشذاءِ ريحاني
وأنثُرُ للوجود الشّعر من أعماقِ وُجداني
لِيَعلم كلّ مَن في الكون أن الحبَّ روحاني
/
(7) لنا أرواح لا تخشى مماتٌ
" كُتِبت بمناسبة ذِكرى النّكبة في 15/5/1966م وكان ليفي أشكول رئيس وزراء الكيان الصهيوني "
أيا أيار يا شهر الهُمومِ
ويا شهر المَآسي والوجومِ
أتيتَ نَهَكْتَ حُرْمَتَنا فبِتْنا
بلا أرضٍ نعيش... بلا كُرومِ
وتـُهنا والمَنون يحيك ثوباً
من الآلام يُزْرَعُ في الصّميمِ
صحونا والمدافع صاخباتٌ
تَزجّ بنا إلى نار الجحيمِ
وسِرنا نطرُقُ الأبواب حتى
شققنا الدرب في الليل البهيمِ
بنو صهيون أفيونٌ تداعى
فبثّ سُمومه كبدَ العلومِ
وصار يموّهُ التاريخ زوراً
ويملأ بالدخان وبالسمومِ
أيا "جونسون" أما يكفيك عاراً
أيا رجل النزاهة والنعيمِ!!
ففي "فِتـْنام" تقتل لا تبالي
وفي الأرواحِ تحرق كالهشيمِ
"لفي أشكول" تحضُنُهُ وترعى
مصالحه الدّخيلة في الرّسومِ
أمن أجلِ انتخابٍ أو عُلُوٍّ
يُباع الحقّ بالشّرّ الأثيمِ
يذكِّرُني أبي أمجادَ قومي
بِ"حِطّين" التّجَدُّدِ والهُجومِ
"صلاح الدين" دَكّ الأرضَ دَكّاً
وطهّرها من الخَصمِ اللئيمِ
إليكم يا منار الحَقِّ أرنو
بأبصارٍ عَلَتْ فوق النّجومِ
لأخبركم بأنّا لا مَناصٌ
وإيّاكم على العهد القديمِ
لنا أرواحُ لا تَخْشى مماتاً
ولا تَرْضى على البَغْيِ الذّميمِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق