جوليان شاب في مقتبل العمر ، وسيم الوجه ، بهي الطلة ، طويل القامة ، أسود الشعر ، خفيف الظل ، نشأ في قرية بعيدة عن العاصمة ، لكنه جاءها منذ زمن طويل ...
كان يعرف بين رفاق الدراسة بإحساسه المرهف كوردة جورية ، وربما ك ياسمينة أطلت برأسها في صباح ريفي جميل ...
عندما كان يجول بنظره أرجاء المكتب فوجئ بفنجان قهوة كاد يحط الرحال فوق رأسه ، تمالك نفسه وتناول الفنجان ( شكرا ... شكرا لك ) ... انتظر الشخص هنيهة !!! ثم انصرف عنه ممتعضا .
( ماذا تريد يا سيد جول ) أتاه السؤال من مدير المكتب ، ناوله ورقة محمرة الوجنتين ( هههه ... نعم نعم ... اقترب إلي ) ... دنا جول كما أسماه الرجل ذو الياقة الحمراء واللحية الكثة ( ماذا ياسيدي ) ... كتب الرجل رقما على ورقة صغيرة وناولها للشاب ، في ذاك الوقت كان الرعد يقصف في الخارج ، بينما الطيور تغادر فجأة خوفا من عاصفة قادمة لا محالة ...
حمل جوليان الورقة وخرج دون أن ينبس بكلمة واحدة .
في الطابق الأسفل كان هناك مكتب آخر ، قرر أن يزوره لعل شيئا ما يتغير ، بدأ المطر يضرب النوافذ بقسوة ، الرياح تشتد أكثر وأكثر ، هذه المرة لم يضطر للانتظار مطولا : ( أنت جوليان ... أليس كذلك ... إليك بهذه ) دفع إليه بورقة جديدة رافقتها ابتسامة ساحرة ( تفضل اشرب فنجان قهوة ) ... ضحك جوليان ثم غادر المكان مسرعا ...
أرخت العاصفة جدائلها ، أوحلت الأرض ، البرد ارتفع منسوبه كموج البحر ، الطريق إلى القرية أصبح وعرا للغاية ، الحياة تكاد تلامس خيوط الموت في هذه الأمسية ...
كافة الدروب وعرة ، بل تحولت إلى دروب مسدودة ، حتى الثقوب الصغيرة غابت خلف الغيوم السوداء ، تحول جوليان إلى إنسان بائس ، يتسول كلمة في بستان مليء بالألغام ، الذاكرة فقدت كلمة المرور نحو براعم تحلم بالولادة ...
( ماذا حصل معك يا جوليان ) ... قالت الزوجة الشابة ... كان متجهم الوجه ، مرتعد الأطراف ، الغيظ يحيط به من كل مكان : ( لاشيء ... لاشيء ... دعيني وحيدا ... آه أوقدي المدفأة ) ...
في صبيحة اليوم التالي استيقظ قبل دجاجاته العشرة ، ارتدى ثيابه الشتوية وغادر على الفور : ( ألا تريد أن تشرب القهوة ) نادت زوجته ... ( لعن الله القهوة ) قالها وهو في طريقه إلى سيارته القديمة ... لم يكن هذا اليوم شبيها بشقيقه ، لقد خرجت الشمس ، وتزينت السماء بأسراب العصافير ، ترك على ثغره ابتسامة مستجدة ، هل كان يتفاءل !!! ...
الساعة تشير إلى التاسعة صباحا ، المكتب الفخم يثير الرغبة في الجلوس ، كأس الشاي لم تتأخر في الحضور ، مد يده صوب جيبه الأيمن ، أخرج ورقة ونقدها للرجل ... ( يالك من بخيل ) قال الرجل في سره ...
سارت عقارب الساعة ببطء شديد ، تجول كثيرا في ذاك المكتب ( ألم يحن دوري ياسيد ... ) ... الجواب كان غائما جدا ، يعاود جوليان انتظاره ، دخل وخرج الكثير من الرعية ، أشكال مختلفة مرت على مرآه ، أحدهم كان يحمل كيسا أسودا ، أخرج منه رزم نقود وزعها على بعض القابعين خلف طاولات خشبية ثم ترك المكان ( إنه كريم جدا ... مالي به !!! ) ...
انتهى كل شيء ، لم يبق سواه في المكتب : ( هيا هيا يا سيد جوليان ... لكن لا تتأخر فلم يعد لدينا وقت ) ...
سكت الشاب الوسيم بينما انفرجت أسارير الباب الموصد بقفل كهربائي ...
نظر إلى الرجل القابع هناك ، كان يبدو متعبا للغاية ، السيجار وحده يعلن عن حيوية ما : ( ما خطبك أيها الشاب ) ... ناوله الورقة ذاتها ثم تقهقر قليلا إلى الوراء ، قهقه الرجل : ( فقط هذا !!! ... تكرم ... تكرم ) ... أضاءت الحياة فجأة أمام ناظري جوليان ، لابد أن حلمه بات وشيك الإمطار ، كاد يخر فرحا ، أمسك الرجل الوقور بقلم ذو لون مختلف ، كتب شيئا ما على ورقة صفراء صغيرة ومد يده صوب الشاب ، قرأ جوليان رقما ما : ( شكرا يا سيدي ... شكرا لك ) ...
-
*وليد.ع.العايش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق