⏫⏬
دخلت محل أخي الأصغر مني "صلاح" في محلة "الأشرفية" بحلب، سلمت عليه و جلست قربه لأتسامر معه و أسهر، و لأكون
صريحاً و دقيقاً أكثر ، سأقول ذهبت إليه لأفضفض له همومي، و أنفّس بعض القهر الذي عشعش في قلبي و تجبّر، تلقاني أخي بترحابه اللا محدود بوجهه البشوش و قلبه الودود، و على صغر محله الضيق كنت أحسّ بأني في عالم رحب بلا حدود، صلاح أخي و كل ما يتصل به و يصدر عنه يُشعرني بأني في عالم الإنسان المفقود، عالم افتقدناه في مدنٍ مزدحمة بالبشر و الوجوه، لكن تخلو من المحبة و الروح.
كان صلاح مثلي يحب قهوة الاسبريسو، و هو أول من أدخل مكنات تصنيعها إلى محلاتنا و مكاتبنا و البيوت من أفراد العائلة، و هو من أهداني أول مكنة منها في حياتي و علمني كيف اصنعها ، و كلما زرته لابدّ لي أن اتناول فنجاناً فخماً من بين يديه، و لو كان فنجان "سفري" على الماشي اشربه في سيارتي على الطريق ، كان صلاح و ما يزال نعم الأخ، و خير من يقال عنه الصديق وقت الضيق ، شاهدني متجهماً مطرق الرأس لا ألوي على شيء، و أحسن صنعاً بفنجان قهوة ☕ اسبريسو "دبل" يمهد فيه طريق روحي الوعرة على السريع، كان هو الآخر يعاني من عسف الأيام و سوء الزمان، هجر الوظيفة في" قصر" منيفِ إلى "دكان" تخفق الأرواح فيه، عاتبه كثير من الناس و الأصدقاء على ترك الوظيفة في قصر العدل ، لكنه فضل العمل الحر الشريف على قيود الوظيفة و مغرياتها غير الشريفة، و كما كسب قلوب و احترام الناس في الوظيفة، كسبها أيضاً في الحارة و كل مكان ، و للأسف كان بعض السفهاء يستغلون طيبة قلبه و نقاء روحه، فيتغالظون عليه و يضايقونه بطلباتهم و تصرفاتهم المزعجة ، و كان في ذلك اليوم – في منتصف العقد الأول من الألفية الثانية – يهجس بأخينا الأصغر "عماد" و قلبه يفور عليه، فقد علم - دون بقية اخوتي - بتعرضه لحادث مرور في السعودية، و عماد مقيم فيها منذ زمن بعيد في مدينة "جدة"، لكنه يعمل في مدينة "مكة" كل يوم، كان صلاح يتصل بعماد و الأخير لا يرد، و كنت مثل الأطرش في الزفة لا اسمع الطبل و الزمر، و لا ضجيج حادث أخي عماد و لا "زمور" سيارة الإسعاف التي نقلته إلى المشفى، و مما زاد في هواجس أخي صلاح و زاد من وساوسه، سوء تغطية شبكة الاتصالات الخليوية الحديثة العهد في البلاد، و في ذلك الزمان لم تكن الشبكة العنكبوتية ضاربة الأطناب في كل زاوية و شبر من العالم الكبير، كانت تسعى حينها جاهدة في تحويله إلى قرية كونية متاحة للجميع، و يبدو أن أخي الآخر عماد لم تصله مكالمات صلاح أو لم يُتح له الرد عليها، و كانت خدمة الرسائل المصورة (إرسال الصور بصيغة رسالة) حديثة العهد في شبكة الاتصالات الخليوية السورية، قام صلاح بتجريب حيلة لم تخطر على بال أحد، و رأيت آثارها في ورقة كبيرة كُتب عليها : (احكي معنا خيو) لفتت انتباهي حالما وقعتْ عيني عليها، تناولت الورقة المركونة على الطاولة، و سألته :
خير؟ ماذا يجري معك و من الذي زبلك، أهو حبيب أم زبون عابر؟
ما في شي، خطر على بالي أجرب نوع جديد من أقلام "الشنيار" التي وصلتني اليوم، هذا كل ما في الأمر.. لا ينشغل بالك .
عندما قال لي (لا ينشغل بالك) انشغل بالي، و ألحفتُ عليه بالسؤال :
ما الأمر، ما هو الحال ؟!
حاول التملص من اجابتي بالحقيقة ، و بذات الوقت كان بحاجة لمن يفضي إليه بمخاوفه، فكان سؤالي شفاءاً له من نيران قلقه.
ناولني الورقة و طلب مني أن امسكها بكلتا يدي، و أضعها على صدري بحيث تظهر الكتابة من الأمام ، و طلب مني إعطائه موبايلي ليصورني بتلك الوضعية كما في الصورة أدناه ، امتثلتُ لطلبه بلا جدال، و كان له ما أراد طمعاً مني في الحصول على الجواب .
بعد ذلك و على التقسيط المريح، حكى لي خبر شقيقي عماد و خبر الورقة ، و أكد لي أن إصابته خفيفة و هي مجرد خدوش و رضوض و الحمد لله، و كان يجب أن يكون قد تخرج من المشفى منذ ساعات، و يُفترض أنه وصل إلى بيته بجدة، و من عجزه عن الوصول إليه بالمكالمات الهاتفية العادية الصوتية، و لأن صوته بُحَّ من كثرة ما غنى له - عبر رسائله "النصية" كتابةً - مع مطرب حلب صبري مدلل (ابعتلي جواب و طمني) و عماد لا يرد و يتدلل ، و لعدم اطمئنانه لهذا السكوت الطويل المريب، نفد صبره وكتب له تلك الرسالة المبتكرة بالخط العريض، و صورها بموبايله و أرسلها له قبل وصولي بقليل ، ثم قال لي : صورني أنا مثلما صورتك بموبايلك، و لنرسل لشقيقنا عماد بالصور، لعله يحنّ علينا و يتفضل بالجواب.
فعلت مثل ما قال، و قلت له : لقد ظننتك تستجدي رضا أحد الزبائن المدللين مثل بقية البائعين، ألا يقولون للزبون الغالي : ردّ علينا و خذ الغلّة* ؟
ضحك في غمرة قلقه الغائم ، و قال مبتسماً : و هل يوجد عندي أغلى من أخي عماد و من جميع أهلي ، و من غيركم يستحق كل هذا الدلال ؟!.
و الحمد لله لم يطُل دلال عماد علينا في تلك السهرة بعد وصول صورنا إليه، و نفعت حيلة صلاح في إصلاح حال ثلاثتنا ، فقد اتصل عماد بنا بعد لحظات، و طمننا على وصوله بالسلامة و بالشفاء التام إلى منزله في جدة، و ضحك معنا كثيراً و أزال كل مخاوفنا في الحال...
في ذلك اليوم أدركت المعنى الحقيقي لقول العامة - و الباعة على وجه الخصوص - في مدينة حلب : ( ردّ علينا و خود الغلّة خيّو)، فالأهل – و قلة من الناس - و الوطن يستحقون كل الغلّة و تحويشة العمر، و يُبذل الدم رخيصاً في سبيل رفاههم و سلامتهم ، و على النقيض منهم و للأسف الشديد، بعض الناس لا يستحق قشرة بصلة تتقاذفها الرياح.
*جهاد الدين رمضان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الغلّة : المال النقدي المتوفر في صندوق (خزنة) المحل، و خيّو : اخي في لهجة حلب و الجملة من الموروث الشعبي الشفوي ، و النص من وحي مذكراتي ، و الصورة المرفقة هي المقصودة في متن النص .
دخلت محل أخي الأصغر مني "صلاح" في محلة "الأشرفية" بحلب، سلمت عليه و جلست قربه لأتسامر معه و أسهر، و لأكون
صريحاً و دقيقاً أكثر ، سأقول ذهبت إليه لأفضفض له همومي، و أنفّس بعض القهر الذي عشعش في قلبي و تجبّر، تلقاني أخي بترحابه اللا محدود بوجهه البشوش و قلبه الودود، و على صغر محله الضيق كنت أحسّ بأني في عالم رحب بلا حدود، صلاح أخي و كل ما يتصل به و يصدر عنه يُشعرني بأني في عالم الإنسان المفقود، عالم افتقدناه في مدنٍ مزدحمة بالبشر و الوجوه، لكن تخلو من المحبة و الروح.
كان صلاح مثلي يحب قهوة الاسبريسو، و هو أول من أدخل مكنات تصنيعها إلى محلاتنا و مكاتبنا و البيوت من أفراد العائلة، و هو من أهداني أول مكنة منها في حياتي و علمني كيف اصنعها ، و كلما زرته لابدّ لي أن اتناول فنجاناً فخماً من بين يديه، و لو كان فنجان "سفري" على الماشي اشربه في سيارتي على الطريق ، كان صلاح و ما يزال نعم الأخ، و خير من يقال عنه الصديق وقت الضيق ، شاهدني متجهماً مطرق الرأس لا ألوي على شيء، و أحسن صنعاً بفنجان قهوة ☕ اسبريسو "دبل" يمهد فيه طريق روحي الوعرة على السريع، كان هو الآخر يعاني من عسف الأيام و سوء الزمان، هجر الوظيفة في" قصر" منيفِ إلى "دكان" تخفق الأرواح فيه، عاتبه كثير من الناس و الأصدقاء على ترك الوظيفة في قصر العدل ، لكنه فضل العمل الحر الشريف على قيود الوظيفة و مغرياتها غير الشريفة، و كما كسب قلوب و احترام الناس في الوظيفة، كسبها أيضاً في الحارة و كل مكان ، و للأسف كان بعض السفهاء يستغلون طيبة قلبه و نقاء روحه، فيتغالظون عليه و يضايقونه بطلباتهم و تصرفاتهم المزعجة ، و كان في ذلك اليوم – في منتصف العقد الأول من الألفية الثانية – يهجس بأخينا الأصغر "عماد" و قلبه يفور عليه، فقد علم - دون بقية اخوتي - بتعرضه لحادث مرور في السعودية، و عماد مقيم فيها منذ زمن بعيد في مدينة "جدة"، لكنه يعمل في مدينة "مكة" كل يوم، كان صلاح يتصل بعماد و الأخير لا يرد، و كنت مثل الأطرش في الزفة لا اسمع الطبل و الزمر، و لا ضجيج حادث أخي عماد و لا "زمور" سيارة الإسعاف التي نقلته إلى المشفى، و مما زاد في هواجس أخي صلاح و زاد من وساوسه، سوء تغطية شبكة الاتصالات الخليوية الحديثة العهد في البلاد، و في ذلك الزمان لم تكن الشبكة العنكبوتية ضاربة الأطناب في كل زاوية و شبر من العالم الكبير، كانت تسعى حينها جاهدة في تحويله إلى قرية كونية متاحة للجميع، و يبدو أن أخي الآخر عماد لم تصله مكالمات صلاح أو لم يُتح له الرد عليها، و كانت خدمة الرسائل المصورة (إرسال الصور بصيغة رسالة) حديثة العهد في شبكة الاتصالات الخليوية السورية، قام صلاح بتجريب حيلة لم تخطر على بال أحد، و رأيت آثارها في ورقة كبيرة كُتب عليها : (احكي معنا خيو) لفتت انتباهي حالما وقعتْ عيني عليها، تناولت الورقة المركونة على الطاولة، و سألته :
خير؟ ماذا يجري معك و من الذي زبلك، أهو حبيب أم زبون عابر؟
ما في شي، خطر على بالي أجرب نوع جديد من أقلام "الشنيار" التي وصلتني اليوم، هذا كل ما في الأمر.. لا ينشغل بالك .
عندما قال لي (لا ينشغل بالك) انشغل بالي، و ألحفتُ عليه بالسؤال :
ما الأمر، ما هو الحال ؟!
حاول التملص من اجابتي بالحقيقة ، و بذات الوقت كان بحاجة لمن يفضي إليه بمخاوفه، فكان سؤالي شفاءاً له من نيران قلقه.
ناولني الورقة و طلب مني أن امسكها بكلتا يدي، و أضعها على صدري بحيث تظهر الكتابة من الأمام ، و طلب مني إعطائه موبايلي ليصورني بتلك الوضعية كما في الصورة أدناه ، امتثلتُ لطلبه بلا جدال، و كان له ما أراد طمعاً مني في الحصول على الجواب .
بعد ذلك و على التقسيط المريح، حكى لي خبر شقيقي عماد و خبر الورقة ، و أكد لي أن إصابته خفيفة و هي مجرد خدوش و رضوض و الحمد لله، و كان يجب أن يكون قد تخرج من المشفى منذ ساعات، و يُفترض أنه وصل إلى بيته بجدة، و من عجزه عن الوصول إليه بالمكالمات الهاتفية العادية الصوتية، و لأن صوته بُحَّ من كثرة ما غنى له - عبر رسائله "النصية" كتابةً - مع مطرب حلب صبري مدلل (ابعتلي جواب و طمني) و عماد لا يرد و يتدلل ، و لعدم اطمئنانه لهذا السكوت الطويل المريب، نفد صبره وكتب له تلك الرسالة المبتكرة بالخط العريض، و صورها بموبايله و أرسلها له قبل وصولي بقليل ، ثم قال لي : صورني أنا مثلما صورتك بموبايلك، و لنرسل لشقيقنا عماد بالصور، لعله يحنّ علينا و يتفضل بالجواب.
فعلت مثل ما قال، و قلت له : لقد ظننتك تستجدي رضا أحد الزبائن المدللين مثل بقية البائعين، ألا يقولون للزبون الغالي : ردّ علينا و خذ الغلّة* ؟
ضحك في غمرة قلقه الغائم ، و قال مبتسماً : و هل يوجد عندي أغلى من أخي عماد و من جميع أهلي ، و من غيركم يستحق كل هذا الدلال ؟!.
و الحمد لله لم يطُل دلال عماد علينا في تلك السهرة بعد وصول صورنا إليه، و نفعت حيلة صلاح في إصلاح حال ثلاثتنا ، فقد اتصل عماد بنا بعد لحظات، و طمننا على وصوله بالسلامة و بالشفاء التام إلى منزله في جدة، و ضحك معنا كثيراً و أزال كل مخاوفنا في الحال...
في ذلك اليوم أدركت المعنى الحقيقي لقول العامة - و الباعة على وجه الخصوص - في مدينة حلب : ( ردّ علينا و خود الغلّة خيّو)، فالأهل – و قلة من الناس - و الوطن يستحقون كل الغلّة و تحويشة العمر، و يُبذل الدم رخيصاً في سبيل رفاههم و سلامتهم ، و على النقيض منهم و للأسف الشديد، بعض الناس لا يستحق قشرة بصلة تتقاذفها الرياح.
*جهاد الدين رمضان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الغلّة : المال النقدي المتوفر في صندوق (خزنة) المحل، و خيّو : اخي في لهجة حلب و الجملة من الموروث الشعبي الشفوي ، و النص من وحي مذكراتي ، و الصورة المرفقة هي المقصودة في متن النص .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق