⏬ 4 ـ المحطّة الرّابعة: الصّعود إلى قمّة الرّجاء الصّالح
غير بعيد عن مربض السيّارات والحافلات السياحيّة يستقبلنا ممرّ يصّاعد بنا إلى قمّة الرّجاء الصّالح حيثُ نُشرف على البحر ونعانق
السّماء. يا ربّ الكون، ما أروعك، ما أقدرك، ماأجملك... ! أيّ سحر هذا أنت نافثه بين عبادك؟ ! إنّ لغتي على ثرائها لتُقرّ بعجزها أمام هذه البدائع والرّوائع، فسبحان الّذي برى وصوّر ونحت !
الطّقس حارّ نسبيّا. بعض السوّاح قصدوا الشّاطئ للسّباحة وبعضهم أمّ الجبل الّذي على يسارنا. صخوره الصلدة تغري بالتسلّق، وخضرته النّضرة تدعونا إليها. هالني هذا الممرّ الجبليّ الّذي ينتهي عند قمّة الرّجاء الصّالح واستعسرتُ قطع هذه المسافة الطويلة صعودا على القدمين، بل وجدت هذا الأمر مستحيلا في هذا الطقس الحارّ، إلّا أنّ مرافقيَّ شجّعاني على المحاولة وحثّاني حثّا مستميتا، فقبلتُ خوض المغامرة ومنّيتُ نفسي بأن أقطع نصف المسافة أو حتّى ربعها. يكفيني شرفا أنّني حاولتُ ! وأنا أصّاعد الجبل بهمّة وتحدّ لشعوري بالعجز عن إدراك ما إليه أرنو، بدت لي القمّة قصيّة جدّا ولا أمل لي أبدا في الوصول إليها. إلّا أنّ التقائي صعودا ونزولا بسوّاح يكبرونني سنّا وأشدّ بدانة منّي أوقد حماسي وبعث في روحي جذوة التحدّي الّتي ما كانت لتفارقني في عزّ شبابي. أضحيتُ شابّة أنافس الصّاعدين ! أتعب وأتحامل على نفسي وأكتم لهاثي، بل أقفز الدّرج وأسابق الجميع... وما إن لاح لي مقعد خشبيّ على يميني حتّى أسرعتُ إليه وألقيتُ بنفسي فوقه وأنا ألهث كالكلب في يوم قائظ، وما عدتُ أستطيع الكلام أو التقدّم قيد أنملة ! كان الصّاعدون يمرّون بي فرادى وجمعا. قرأتُ في أعين بعضهم تشجيعا وحثّا على استكمال المسافة، وقرأتُ في عيون بعضهم رثاء لحالي وشفقة بيّنة عليّ. أمّا زوجي ـ وقد صمد أفضل منّي ـ فلم ينتبه لحالي إلّا بعد أن تجاوزني بمسافة، وما أن افتقدني حتّى ولّى الأدبار متحاملا على تعبه تحاملا بيّنا، وتبعه منير دليلنا. لم ينفع حثّهما لي على مواصلة الصّعود، فقد قرّرتُ أن أكتفي بهذا القدر، وأنتظر عودتهما على هذا المقعد؛ إذ لم يعدْ بمقدوري أن أتقدّم خطوة أخرى ! تركاني أستريح قليلا وهما يصدّعان رأسي إلحاحا وحملا على المثابرة... استأنفتُ الصّعود بقوى خائرة وعزيمة بدأت تتلاشى، فللجسد أحكامه الّتي لا سبيل إلى إنكارها أو تجاهلها. لم أكن قد قطعتُ من المسافة غير ثلثها تقريبا، ووجدتُ نفسي مرّة أخرى أرتمي لاهثة على مقعد مماثل، ما إن رأيته. وتبعني إليه زوجي ينفث تعبه في هدوء من لا يريد أن يسلّم بعجزه عن ارتياد الجبال. أمّا منير، الشّاب وابن كيب تاون فقد ظلّ ينتظرنا في صبر الدّليل الرّصين، بل دعانا إلى أن يلتقط لنا بعض الصور، مهوّنا علينا ما تبقّى من المسافة !
أرفع رأسي إلى القمّة الّتي علينا بلوغها، فأراها لا تزال بعيدة، فتخور قواي أكثر، ويزداد إيماني رسوخا بأنّي لن أستطيع الوصول إليها مهما حاولتُ وكابدتُ. أركن إلى المقعد وأسبح في جمال ما يحيط بي. من هنا أطلّت علينا مشاهد أجمل من الخيال الخلّاق الجامح وأبهى من الحلم الّذي لا يطاله الواقع. كنتُ مسحورة بما أبصر، أقلّب النّظر هنا وهناك، وأتملّى وجوه الصّاعدين والنّازلين. تنفتح لي وجوهُهم وخطواتُهُم كتبا أتهجّى ما رُسم عليها من تعب ووهن أو فرح وانتشاء بما جنوا من رحلتهم هذه. ومن وجه لوجه تنجم أسئلة ما كانت تخطر على بالي، وتبدأ في مراودتي عن نفسي، فأخجل من استسلامي وجميعهم يمنّون نفوسهم بالوصول إلى القمّة وإليها يحثّون الخطى. أتنفّس ملء رئتيّ وأحثّني على المثابرة، وأجدني أمسك بيد زوجي وأتابع الصّعود ! كنّا كلّما تقدّمنا ازدادت المدارج ارتفاعا، ولا شيء يخفّف وطأة الصّعود غير التسلّي بمختلف المناظر الطبيعيّة الخلّابة بأشجارها ونباتاتها وأرضها وسمائها وبحرها، مع توخّي الحذر، إذ تكفي عثرة واحدة لتتدحرج إلى حيث لا مستقرّ. نصعد، نصعد، نصعد... نلهث، نلهث... نتوقّف قليلا لاسترجاع الأنفاس، ونواصل. القمّة تدعونا، ها قد قطعنا ما انقطعت منه أنفاسنا. صرنا بعيدين جدّا عن مربض السيّارات، صرنا طيورا تروم الأعالي، صارت السّماء أقرب إلينا من الأرض، وصارت القمّة على مرمى لهاث فاستراحة فلهاث...
"العزم، العزم !" قال منير. حثثنا الخطى على امتداد المدارج الّتي كلّما صعدنا بعضها علا بعضُها الآخر. تشابكت أيدينا، وقد صحّ منّا العزم على بلوغ الراية المرفرفة على أعلى قمّة رأس الرّجاء الصالح Cape of Good Hope .
أخيرا، بلغناها وقد انقطعت منّا الأنفاس، وزاغت النظرات، وانحبس الكلام بالصّدور !
-----------------------
من كتاب "خربصات في أدب الرحلة"، ج2 الخاص بكيب تاون (جنوب إفريقيا.)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق