اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

تحليل رواية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل للأديب أميل حبيبي

⏪الدكتور محمد بكر البوجي

أ- عرض([1]):
يجدر بنا قبل المضي في تحليل الرواية أن نقدم لها ملخصاً، مع ما في ذلك من مشقة إذ تعتمد الرواية على المونولوج الداخلي الذي
يختلط فيه الواقع الخارجي، بالواقع النفسي، وتتغذى الرواية بالرؤى والخيال والصور، وتعترض أحداثها التحولات والتشابكات، وبالتالي فإن رواية المتشائل لإميل حبيبي "لا يمكن تلخيص موضوعها كأي رواية تقليدية تعودنا على تلخيصها بعد قراءتها، لأن هذا التلخيص لا يمكن أن ينقل إلى من لم يقرأها خصوصيتها، ذلك الطابع النوعي شكلاً ومضموناً"([2]) ذلك أنها تبدو ظاهرياً بسيطة إذا عريناها من رموزها، واكتفينا بمحورها الجوهري، لكنها معقدة إذا أردنا اقتفاء تطورها الدرامي، ومدلولاتها المكثفة، ونكون صادقين إذا قلنا إنها من الصنف الذي أحرق الدهن وابتعد عن الترهل، واحتفظ بالعصب المكتنز.

إن محاولة اختصار الرواية أو تلخيصها تجد صعوبة كبيرة، فهي كالقصيدة الشعرية، فإن تلخيصها يفقدها وحدتها وتماسكها ويضيع إيحاءاتها، ويغيب ظلالها، وتعدديتها، ولا يفصح عن وجدانها، بل يجردها من صورها ونبضها وحيويتها، ومع هذا سنبذل جهدنا في تقديم الرواية بصورة مبسطة متماسكة.

الرواية مجموعة من الرسائل أرسلها سعيد أبو النحس المتشائل إلى الراوي بعد أن اختفى سعيد مع رجل الفضاء.

يقسم الكاتب روايته إلى ثلاثة أقسام، يطلق على كل قسم اسم "كتاب" له عنوان

الكتاب الأول: "يعاد". يضم عشرين مشهداً. في هذا الكتاب ينسب سعيد أبو النحس المتشائل إلى أسرة عريقة في بلادنا، يرجع أصلها -كما يقول سعيد نفسه- إلى مسبية حلبية أصلها من قبرص، من سبايا (تيمورلنك) سباها جده الأكبر أبجر بن أبجر، ثم يفسر سعيد اسم عائلة المتشائل، ويقول: إنه ادغام كلمتي المتشائم بالمتفائل، فشيمة هذه العائلة بين، بين، فلا هي بالمتفائلة، ولا هي بالمتشائمة، وفي هذا الكتاب أيضاً يروي قصة عودته إلى (إسرائيل) بعد أن غادرها أثناء حرب النكبة مع أهله إلى لبنان، وكيف أن حياته في هذه الدولة هي فضلة حمار، ثم كيفية التقائه برجل الفضاء في دياميس عكا، ثم سفره إلى مدينة حيفا، واشتغاله زعيماً في اتحاد عمال فلسطين الذي يرأسه معلمه يعقوب، رجل المخابرات الإسرائيلي، وفوقهما الرجل الكبير ذو القامة القصيرة، ثم يلتقي سعيد بيعاد ذات العينين الخضراوين صاحبته منذ أيام المدرسة، فقد لجأت إليه لمساعدتها في الإفراج عن والدها السجين، لكن عساكر الجيش يداهمون بيت سعيد ويقذفون بها إلى ما وراء الحدود، فيضيع أثرها.

الكتاب الثاني: "باقية". ويضم ثلاثة عشر مشهداً.

حيث يروي سعيد قصة التقائه بفتاة من قرية اسمها (باقية) فاتخذها زوجة له، فتفضي له بسرها العجيب، الذي احتفظت به طوال حياتها، سر خبأوه والدها قبل رحيله خلف الحدود، لقد خبأ في كهف في غور على شاطئ البحر الطنطورة صندوقاً حديدياً، ثم تلد باقية طفلاً أسمياه "فتحي"، ثم عدلا عن هذا الإسم إلى "ولاء" تحت ضغط معلمه رجل المخابرات.

يعلم ولاء من والدته بهذا السر، وكان قد أقام خلية تنظيمية مسلحة مع زملائه في المدرسة، ويجعلون من قبو مهجور على شاطئ الطنطورة مخبأ لهم، ومخزناً لأسلحتهم، واستطاعت السلطة أسر زملائه ولم يبق إلاّ هو فالتجأ إلى القبو المهجور على شاطئ البحر، طلباً للمقاومة والاستشهاد فيحاصره العسكر ويخف الرجل الكبير إلى سعيد والد ولاء كي يقوم مع أمه باقية بإقناع ولدهما بتسليم نفسه، فيدور بين ولاء وأمه حوار مؤثر، تكون نهايته أن تلتحم الأم بابنها لأن هناك في الصندوق رشاشاً آخر. فيغوصان في الماء، ولا يعثر لهما على أثر، وقيل إنهما غرقا في الكهف في أعماق البحر، في المكان الذي خبأ والد باقية فيه صندوقه الحديدي، فيضيع أثرهما، كما ضاع أثر صديقته يعاد.

الكتاب الثالث: "يعاد الثانية" ويضم اثنى عشر مشهداً.

وفيه يكون اللقاء مع يعاد الثانية، وهو خارج من السجن في إسرائيل، أما كيف دخل السجن، فذلك أنه في ليلة من ليالي الست العفريتة حين رفع علم الاستسلام فوق عصا مكنسة، ملبياً أمر المذيع العربي في محطة إسرائيل، الذي يدعو العرب المهزومين إلى رفع أعلام بيضاء فوق أسطحة منازلهم، يعتبر الرجل الكبير أن عمله هذا إساءة للدولة الجديدة، لأنه يشير إلى أن حيفا أرض محتلة، وهي جزء من الدولة.

في هذا الكتاب يبدأ تحول سعيد نحو الإيجابي، ويعي واقعه جيداً، ومكانته في هذا الواقع، ففي سجن شطه الرهيب يلتقي بسجين جريح، عرف أنه فدائي قادم من لبنان، اسمه "سعيد" أيضاً، فتسيطر على سعيد المتشائل لحظات حرجة مقارناً بين نفسه وبين سعيد الفدائي، فيشعر باعتزاز شديد وفريد اتجاه هذا الفدائي. وأثناء خروجه من السجن يلتقي ويعاد الثانية، التي جاءت لتسأل عن أخيها الفدائي، فيتعانقان، سعيد ويعاد الثانية، ويذهب بها إلى منزله القديم في حيفا، وقبل أن تطردها سلطات الاحتلال، تخبره بأنها ابنة يعاد الأولى، وبأن سعيد الفدائي الجريح أخوها، فيقرر سعيد أن يختفي فيطير مع رجل الفضاء، ثم يبعث برسائله هذه إلى الراوي أو الكاتب إميل حبيبي.

ب/ تحليل فني

مدخل:

اتخذت هذه الرواية موقعها على خارطة الرواية العربية لعدة اعتبارات أهمها:

1- أن كاتبها يعيش داخل فلسطين المحتلة عام 1948، وهو يناضل ضد سلطات الاحتلال الصهيوني، وقاد الحركة السياسية لدى عرب فلسطين لفترة طويلة.

2- جاءت تطوراً لعمله السابق "سداسية الأيام الستة" وخاصة أن المتشائل، قد حسمت الخلاف حول شكل السداسية لصالح الشكل الروائي.

3- أن الكاتب حاول من خلال المتشائل حل معضلة الشكل الروائي العربي الخالص.

من هنا فإن رواية المتشائل تعكس مرحلة متميزة في تاريخ الرواية العربية. منسجمة بذلك، وموازية مع محاولات العودة إلى الشخصية العربية بعد هزيمة حزيران 1967.

إن ظروف كاتبنا غاية في التعقيد والتنوع، وهذا التنوع وذلك التعقيد، في تأثيرهما على الكاتب، لابد أن ينتجا نتائج معقدة ومتنوعة، ولابد أن يصبح الفنان أكثر تركيزاً أو إيحاءً، وأقل اتباعاً للطريق المباشر، فالعوامل النفسية في فترة حضارية متوترة تاقت إلى استلهام الذات، وتخطي الظواهر المحسوسة، وتأملت ما وراءها من معان وأسرار غير واضحة، وأن هذا التطلع والمحاولة إلى إيجاد أسلوب جديد في التعبير نشأ داخل الأدب العربي نفسه، وإذا بدأ دبيب الحاجة إلى التعبير غير المباشر عن أشياء غامضة في المجتمع العربي، تعجز الواقعية عن التعبير عنها، ولكنها نبهت إليها عن طريق خلق أشكال تعبيرية جديدة([3]).

إن مهمة الأدب عند الحبيبي لا تتمثل في سرد أحداث الحياة اليومية أو تسجيلها، بل في إعادة تشكيل خبرات هذه الحياة، وتصعيدها إلى شيء خاص، ذي طابع أدبي يرتكز على هموم الشعب، ولذلك فإن هذا الواقع الذي يسري في النفس عبارات دفينة، يحرك هذه النفس، فيردها إلى الخارج في لحظة انفعالية أو شعورية، وبالتالي يخرج الواقع من النفس أكثر تعقيداً، وتشابكاً، ولا غرو في ذلك، فليست مهمة الأدب عند حبيبي التفسير فقط، فهو ناتج عن ضغوط نفسية آيلة للانفجار، وهي ضغوط تجد نوافذها في فترة معينة من حياة الكاتب، إنه إنسان يضغط عليه حس عظيم بضرورة الكتابة، وهو حس "يتخذ سمتين رئيسيتين، أولهما: حاجته النفسية للخلاص من أزمته الهاجس والعذاب النفسي -أي أن الفن الروائي كمخدر أو تعويض عن القهر- أو ما يسمى بالحاجة الشعرية للإبداع. وثانيهما الدافع الإنساني عند المثقف السياسي لضمان وصول رسالته لقرائه وللآخرين"([4]).

آراء النقاد حول المتشائل:

يعدّ، الشاعر سميح القاسم أول من تناول المتشائل بالنقد والتعليق، الذي رافق الكتب الثلاثة من الرواية، بحكم كونه محرراً لمجلة الجديد الحيفاوية التي نشرتها للمرة الأولى، يقول سميح القاسم "ما أنا ممن يشغلهم تصنيف المنجزات الأدبية في خانات وإطارات "كذا"([5]) من هنا فلا يعنيني في شيء أن تنسجم أو تتنافر أعمال إميل حبيبي مع هذه المعايير أو تلك من مسلمات النقد الأكاديمي، الذي يعنيني هو أنها "شيء جديد" بالنسبة لما قرأنا من الأدب الفلسطيني، وهي مثيرة في جدتها، مالكة بما تخلفه من أثر وبقدرتها البارزة على البلوغ والإبداع"([6]).

يبرز سميح القاسم ما تميّزت به المتشائل من الحس الجماعي قائلاً: "لعل أبرز سمة من سمات أعمال إميل حبيبي، هي تلك الجماعية في الحدث والانسياب، تلك الجماعية الملحمية، التي جعلت سداسية الأيام الستة، والوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، أشبه بمقاطع من إلياذة فلسطينية". ويتابع سميح القاسم قائلاً: "هذا الحس الجماعي يندر أن تقع على مثيل له بين أدباء العرب المعاصرين"([7]).

ويرى شكري عزيز ماضي: أن المتشائل تبدو حميمة الصلة بالرواية التاريخية الملحمية، من حيث إننا نستطيع من خلالها أن نعي تاريخ شعب معين، وهي تلتقي مع الملحمة بهدفها، ومحورها المتمثل أخيراً في كرامة الأمة وصيانتها([8]).

ويرى الناقد إبراهيم خليل في مجلة الأقلام العراقية "أن الشكل الملحمي أنسب الأشكال لهذه الرواية، ولقد أحس الكاتب بهذه الضرورة الفنية، ودليلنا على ذلك، ترتيبه لأقسام الرواية فهو يقسمها مثلما كانوا يقسمون الملاحم، الكتاب الأول، الكتاب الثاني، الكتاب الثالث، وفوق ذلك ترك الكاتب الباب مفتوحاً أمام الأحداث لتتطور بنفسها"([9]).

ويرى إميل توما نفس الرأي حينما أطلق سمة الملحمة على رواية المتشائل، ولم يقصد إميل توما وغيره من النقاد أن يضعوا نظرية جديدة للرواية، وإنما حاولوا فقط أن يضعوا المتشائل([10]) في مقام الملاحم من حيث عظمتها وقيمتها وأهميتها من حيث المضمون، وليس من حيث الشكل فحسب.

نلاحظ من خلال آراء هؤلاء النقاد أنهم أجمعوا على روائيتها، وقد جعلوها في مقام الملاحم إظهاراً لعظمتها وهيبتها.

ويرى نعيم عرايدي رأياً مغايراً "وهذا الكتاب إنتاج أدبي لم أجد له اسماً من الأسماء التقليدية التي أطلقت على أنواع النتاج الأدبي، ليس هو بقصة قصيرة، ولا برواية، حيث إن هذا الكتاب لا تتجاوب مع مقومات القصة القصيرة، مثلما لا تتوافر فيه المعطيات الكلاسيكية للرواية، إنه عمل أدبي يثير اهتمام قارئ الأدب"([11]) وربما نجد في رأي الناقد السوري ،عصام الجندي، في مقاله حول أدب إميل حبيبي أكثر تحديداً حينما يقول: "أحسست بكثير من الغبطة والحسد في آن واحد، حيث أفرحني اكتشاف قصصي بهذا المستوى، وأحسست بالحسد يأكل أناملي أيضاً للمستوى الرائع الذي تجلت لي فيه المتشائل" ويتابع عصام الجندي قائلاً (أما العمل الضخم -ليس حجماً- والذي كرس فيه الكاتب طاقات ثقافية هائلة، وعلى صعيد المعاناة، والفن، فهو رواية)([12]).

وربما من المفيد معرفة رأي النقاد الإسرائيليين في المتشائل، حيث رأوا أن هذا الكتاب يشكل تحدياً صارخاً، وصعباً للإعلام الإسرائيلي. حيث إنه ينطوي بأسلوبه ولغته الشعبية وسخريته وأحداثه، على تهم كثيرة ضد المؤسسة الإسرائيلية، وكان شمعون بلاص، من الذين تعرضوا لرواية المتشائل، بمقالة نشرها في جريدة "هآرتس" العبرية بتاريخ 11/4/1975، وقد كان شمعون بلاص مخلصاً في إبرازه لقيمة المتشائل، وبأنها عمل فريد من نوعه، ليس بالأسلوب فقط، وإنما بالموضوع أيضاً، لكن ينبه إلى خطورة هذا الكتاب حيث إنه -كما يقول- "أعتقد أنه لم يكتب حتى يومنا هذا، أي عمل أدبي يمتاز بمعارضته وعدائه للحكم الإسرائيلي في معاملته للأقلية العربية، ككتاب إميل حبيبي، وأنه يصعب جداً على الإعلام الإسرائيلي أن يواجه ما جاء في الكتاب، إذا ما ترجم إلى لغة أجنبية"([13]).

وقد رأى كل من "عبد الرحمن عباد" و"سليم بصول" و"شمعون بلاص" و"هاشم ياغي" أن إميل حبيبي في روايته المتشائل، يتكئ اتكاءً مسرفاً على السياسة، وأنه رغب في أن يكون داعية سياسية في روايته، في الوقت نفسه يجمع هؤلاء على درب إميل الفنية، بصورة أخرجت هذه الرواية مخرجاً يستحق الدراسة والاهتمام([14]).

إن ذلك الاختلاف حول المتشائل لهو دليل قوي على حداثة تقسيم العمل الأدبي، فقد تنوعت فيه الأشكال الفنية وتداخلت.

مصادر الرواية وظروف إبداعها:

والحق أن الحبيبي نتاج للظروف الاجتماعية والسياسية، وبغير فهم هذه الظروف لا يمكن فهم إنتاجه، مع أن هذا الإنتاج يبدو في معظمه نتاجاً ذاتياً يعبر عن حالات نفسية فردية، لكنها شديدة الاتساع والعمومية.

وقد لمست غياباً لدراسة فنية جمالية متكاملة، تكشف أسرار الجاذبية والإثارة في هذه الرواية، فالرواية مليئة بالتراث العربي، والتراث الشعبي، والأحداث التاريخية، كما ألحظ غرابة شديدة في شخصية سعيد أبي النحس، إذ فيها الشيء الجديد الغريب، الساخر، كما شدني المكان في هذه الرواية بشكل مثير، لدرجة أحسست أنني أتجول بين قرى فلسطين ومدنها، أحياءها ومنعطفاتها وشوارعها، لقد جسد إميل خارطة الوطن في روايته.

ولهذا رأيت أن أدرس الرواية دراسة فنية متكاملة، ثم أحاول التوصل إلى مدى نجاح إميل حبيبي في حل معضلة الشكل الروائي العربي الخالص.

لكنني أرى قبل الإقدام على الغوص في التحليل الفني، أن نتعرف على مصادر رواية المتشائل، قال إميل حبيبي في ندوة عقدت يوم الخميس 2/10/1974 في مدينة الناصرة بعد صدور المتشائل، معدداً الكتب التي قرأها قبل أن يبدأ بكتابة روايته "عندما فكرت في كتابة المتشائل، قررت مراجعة كل أعداد الاتحاد، من أول يوم صدرت فيه إلى آخر يوم.. ومراجعة كل أعداد الجديد، والغد، وباقي الصحف العربية في البلاد، والتي واكبت هذا الشعب خلال تاريخه الأخير.. كذلك قرأت المصادر العديدة حول الغزو الصليبي للبلاد، وقرأت بعض مؤلفات إخوان الصفا، وكتاب العقد الفريد.. وبعض كتب الجاحظ لأنني أعتبره القمة في تاريخ أدبنا العربي.. هذا بالإضافة إلى العديد من الروائع العالمية لكثير من الكتاب المعروفين"([15]). ويذكر إميل حبيبي أنه قرأ "ألف ليلة وليلة" لتنمية خياله([16])، وقد أشار الكاتب أيضاً في ثنايا روايته إلى أنه قرأ كنديد "لفولتير"، وضمّن إميل روايته بعضاً من أحداث كنديد.

إميل حبيبي الذي قرأ هذه الكتب وتحت تلك الدوافع الوطنية، احتاج إلى ثلاث سنوات طويلة، لإتمام روايته هذه، فالكتاب الأول صدر في شهر شباط من عام 1972، والكتاب الثاني صدر في شهر كانون الأول من عام 1972، أما الكتاب الثالث فصدر في شهر أيار من عام 1974.

العنوان:

وأول ما يثير انتباهنا، ذلك العنوان الطويل "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" والذي يدهشنا، هذا الاتفاق بين الكلمات، أو آثار هذا التناقض، ففي كلمات العنوان شيء من التساؤل، أو مجموعة من الملاحظات أهمها:

1- إن العنوان يشتمل على سبع كلمات كلها أسماء -عدا حرف الجر- هذا التوافق يفيد الثبوت أي هناك احتمال فرضية أن تكون شخصية سعيد أبي النحس متلازمة مع هذه الصفات، حتى نهاية الرواية، لأن هذه الأسماء إقرار لبعض الصفات المتناقضة في شخصيته.

2- هذه الكلمات تعتمد في صياغتها على التقابل أو المفارقة فكلمة "الوقائع" تقابلها كلمة "غريبة" وكلمة "سعيد" تقابلها كلمة "النحس" وكلمة "اختفاء" تقابلها كلمة "أب" وهي هنا تفيد الامتلاك والظهور بهذه الصفة.

هذا العنوان يحمل عالماً كاملاً من التناقضات، غير المعقول بالاشتراك مع المعقول أو الواقع، فالسعيد من لا يوصف بالنحس، لكن الكاتب أراد هنا أن يكون سعيداً، بالإضافة إلى أنه نحس، لذا وجد الكاتب حلاً لهذا التناقض أجمله في اصطلاح جديد، أدخله إلى اللغة العربية، بحيث دمج صفتين متناقضتين في كلمة واحدة وهي "المتشائل" أي من هو متفائل متشائم في آن واحد.

أما كلمتا "سعيد" و"النحس" فنجد من خلال التعرف على شخصية سعيد، أنه قد يكون تعيساً أو على الأقل سعيداً. نستنتج أنهما كذلك متناقضتان أشد التناقض.

هل هذا التناقض في كلمات العنوان ينسجم مع أحداث الرواية، وأجوائها؟ وهل صفة "المتشائل" أي هذا التوافق بين الكلمتين في كلمة واحدة، علاقة بما في الرواية؟

والوقائع الغريبة هي تلك الأحداث التي أوهمنا فنياً بحدوثها فعلاً لبطل الرواية، وهي تتمثل في ممارسة الحياة العملية له، والتي تتمثل في لجوئه إلى بيروت، وعودته واستقراره على أرض الوطن، وعلاقته بمحبوبته، ومصير ابنه، وغير ذلك من التيارات الفكرية التي قرعت جدار نفسه. أما "الغريبة" فهي الغيبيات من سحر وتنجيم، فهي غريبة عن الواقع، فقد التجأ إليها سعيد ليحل أزماته الفكرية والمصيرية في نهاية الرواية. وهي غريبة أيضاً لأنها أغرب ما حدث في القرن العشرين.

أما كلمة "سعيد" فهي المؤثرات، أو القوى الداخلية في الشخصية المحورية، هي عوامل إنسانية جعلته يتعاطف مع الأمور، وجعلته أيضاً يتعرض لتغيرات حسنة لمصلحته، أما كلمة "النحس" فهي عوامل أو قوة داخلية حددت السمات الفئوية التي ينتمي إليها البطل، وهي قيود الماضي العتيق، والتي رأت في تطور الأحداث وتغيرات الشروط الاجتماعية أسباب ضررها. وربما نجد فارقاً بين "سعيد" و"أبي النحس" فالثانية مضافة إلى "أبي" بينما الأولى -وهي "سعيد" مستقلة غير مضافة، وهذا يعني أن النحاسة أكثر ارتباطاً بالشخصية من السعادة، بل هي -النحاسة- الأرجح في حياته، وندرك ذلك حين يعرفنا سعيد بنفسه "تحيرت في هويتي، كيف أنتسب"([17]) وفي نسبه البعيد يرجع إلى "أبجر بن أبجر"([18]) ويقول: إن "اسمي يطابق رسمي، مخلقاً ومنطقاً"([19]). وكلمة "اختفاء" في العنوان، تبدو رابطة بين ثنايا متناقضة "وقائع غريبة". "سعيد" لا يساوي النحس والمتشائل، فهل هذا الاختفاء هو حصيلة لهذه التناقضات؟ وهل هذا الاختفاء هو غياب في المجهول([20])، كما سنرى.

الشـخصيات:

إن شخصيات المتشائل تتأثر تأثراً واضحاً بمأساة النكبة، وما قبل النكبة، وقد تجسدت هذه المأساة في صور متنوعة، فقد مات أخو الراوي، وقطعه الونش في ميناء حيفا، في الوقت الذي كانت تصارع فيه القوى الوطنية ضد الانجليز والصهاينة، الذين يحاولون إدخال المهاجرين اليهود، والسلاح إلى فلسطين عبر ميناء حيفا، وقد أصاب المدن الفلسطينية والقرى كثير من الخراب والدمار. نتيجة للصراع بين الفلسطينيين واليهود، ثم تشردت عائلة الراوي، وأخذ العسكر حبيبته ليلقوا بها خلف الحدود.

هذه الشخصيات في مجملها تنتمي إلى جيل النكبة، وقد اكتوت بنيرانها، وهي تمثل الجيل الأول في الرواية، أما الجيل الثاني فيمثله ولاء الذي تمرد على حياة والديه، نحو وعي الذات، وبالتالي رفض الواقع الذي يعاني منه هذا الجيل ثم هناك امتداد للجيل الثاني، وهو يتمثل في شخصية سعيد الفدائي الجريح السجين، الذي عبر الحدود من لبنان إلى فلسطين في عملية عسكرية.

هذه الشخصيات تسعى إلى تجسيد الحياة الإنسانية، كما تسعى إلى تجسيد الصراع ضد الاحتلال وبطشه.

جاءت شخصيات حبيبي في المتشائل على مستويين:

1- الشخصيات الرئيسية، ويمثلها أبو النحس.

2- الشخصيات الثانوية، وتمثلها بقية الشخصيات في الرواية.

وهكذا تعد شخصية سعيد الشخصية الرئيسة المحورية في الرواية، وقد تتجسد هذه الشخصية من خلال تسمية الرواية، والتي تحمل اسمه، وليست التسمية وحدها هي الدليل على ذلك، بل هناك أيضاً العناية في الارتكاز على هذه الشخصية الرئيسة الفنية.

والشخصية المحورية التي ترتكز حولها الأحداث، تعمل دائماً على أن تستقطب ما عداها من الشخصيات الثانوية بحيث ترتبط بها الأحداث، وتدور في فلكها، ويكون وجودها ذاته هو منطقة الجذب للفعل ولباقي الشخصيات.

ومع أن الشخصية، إما أن تكون ثابتة، أو نامية، فإن إميل حبيبي جعل شخصية سعيد بين الثبات والنمو، وهو أمر "قد لا نجد له مثيلاً في أية رواية"([21]) فسعيد المتشائل شخصية تتراوح بين الثبوت والنمو، فهي ثابتة بالنظر إلى أفكارها، وطبيعة تكوينها، وأسلوب انتمائها ومواقفها من الأحداث، لكنها نامية من حيث تعرفها على ما يحيط بها.

نجد سعيد النحس في كل خطوة من خطواته في الرواية يكتشف شيئاً جديداً حوله، فقد أدرك أن حياته في إسرائيل فضلة حمار، كما تعرف على حياة الرجل الكبير، ومعلمه يعقوب، ويعاد وباقية، وضعف جهاز الأمن في الدولة الجديد، فشخصية سعيد لا تنحصر بأنه شخصية ملحمية.

يرسل سعيد المتشائل رسائله من خارج حدود العالم الذي نعيشه إلى شخص على الأرض، إنه الراوي نفسه، الذي يتلقى هذه الرسائل ثم ينشرها، ومن خلال هذه الرسائل، يبسط سعيد سيرته الذاتية، مرتكزاً على ذلك الجزء من حياته التي عاشها كأي عربي تحت حكم الدولة الجديدة، وبالتالي يبسط حياة شعبه بأكمله.

من خلال هذه الشخصية نستخلص رؤية الكاتب للواقع الذي يعيشه هو وشعبه، ثم يرسم لنا طريق الخلاص، فالبطل سعيد فلسطيني يمثل أقلية، ولذلك فهو مضطهد يعيش على هامش المجتمع، بل ويعمل في خدمة هذه الدولة، وهذا موقف بالطبع لا يخلو من مفارقة عجيبة، يجعل سعيداً النحس في مكانه من ازدواج الرؤية أيضاً، فهو بريء ومذنب في آن واحد، فهو لم يرتكب شيئاً يستحق عليه التعذيب، لكنه مذنب لأنه جزء من شعب حكم عليه بالتشرد والضياع، فهو يدخل السجن ويعذب دون أن يرتكب ذنباً، يدخل السجن لأن أصول الديمقراطية في الدولة الجديدة "تحول دون حبس الطفل"([22]). فيدخل هو عوضاً عن الطفل، وهنا أيضاً نرى التضاد بين البراءة والذنب على الرغم من الاضطهاد الذي يلاقيه، إلاّ أنه في سعي مستمر للانتماء، فهو يضحي بابنه وزوجته حرصاً على ولائه للدولة التي تزج به في السجن.

سعيد أبو الحسن يستعصي على أي ناقد، يحاول أنه يضع له سمات معينة غير قابلة للنقاش، فهو ذكي، مثقف، غبي، جاهل، أبله، ناقد سياسي فذ، عميل، وطني حتى النخاع، شخصية غريبة تختلط فيها كل هذه الصفات عبر أحداث متشابكة متمازجة، وقد استطاع الكاتب اقناعنا بهذه الشخصية، رغم التناقضات الظاهرة في سلوكها.

فكان من الطبيعي أن نجد سعيد المتشائل، شخصية مثقفة، إنه الرجل الذي يعرف، وإن كان لا يظهر إلاّ القليل، فمنذ اللحظة الأولى يدرك سعيد دوره في الحياة، وأن عليه واجباً يجب تأديته، فهو يصور ما حدث لشعبه نتيجة لحرب 1948، قائلاً: إنها عجيبة من عجائب الدهر "أبلغ عني أعجب ما وقع لإنسان منذ عصا موسى وقيامة عيسى"، وسعيد ينفي أن عصر العجائب قد ولى "وقولك أن عصر العجائب قد ولى، فما دهاك يا معلمي، حتى صرت تعكس الأمور"([23]). ثم يبلغنا بأنه يعلم أكثر من غيره "لقد أصبحت أعلم ما لا تعلمون، فكيف لا أتبغدد"([24]).

ويذكر لنا قصة القائد المملوكي بيبرس ليثبت لنا علمه الواسع، وانعكاس هذه القصة على الأنظمة العربية المعاصرة.

ورسائله هذه تعبر لنا عن عمق الشعور بالندم الذي ألمَّ بسعيد بعد انتهاء دوره السلبي وبلوغه لحظة الذوبان في فراغ هائل لا نهاية له.

ومن علامات الغباء أو البله، ما نلاحظه عندما أراد منه أبوإسحق (رجل المخابرات الإسرائيلي) أن يوصله إلى ضابط آخر (سفسارشك) -صديق والده "قال أنا أبوإسحق فاتبعني، فتبعته إلى سيارة جيب أوقفوها بقرب العتبة، وحماري يتمخط إلى جانبها. قال: لتركب، فاعتلى سيارته، واعتليت جحشي، فزعق، فانتفضنا، فوقعت عن ظهر الحمار، فوجدتني بقربه، أي بقرب الحاكم العسكري"([25]) ومن أهم الصفات التي توضح شخصية سعيد، اسمه حينما يقول عن كنية المتشائل: "فأسأل نفسي، من أنا، أمتشائم أنا أم متفائل؟ أقوم في الصباح من نومي فأحمده على أنه لم يقبضني في المنام فإذا أصابني مكروه في يومي، أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا، المتشائل أم المتفائل"([26]).

هذه الصفة جعلت سعيداً ممزقاً متردداً بيت موقفين، غالباً ما ينتهي إلى الإذعان، لكنه يشي بما يطرح داخله، مما يحوِّل الموقف إلى مشهد هزلي.

هكذا نجد في شخصيته الضعف، بحيث تحركه الظروف، وتؤثر عليه، دون ما محاولة لتغيير هذه الظروف، وتغيير مجراها لصالحه، فالفترة الزمنية الفاصلة بين المثير والاستجابة تكاد تكون معدومة لديه، إذ يستجيب بسرعة فائقة فقال: "أنكتم، فانكتمت"([27])، "قال: فأمسك لسانك، فأمسكت"([28])، "وصاح في وجهي أن قم، فقمت"([29])، وحتى في مواقف تبدو أكثر أهمية تبرز هذه الاستجابة الميكانيكية "فعلمت أنها تحبني، فأحببتها"([30]) أي باقية "فانفجر يعقوب بالضحك، فانفجرت معه بالضحك"([31])، فالفعل في مثل هذه الحالات، لا يلعب دوره في اتخاذ القرار، كأنما الأمور مقدرة، ولا تحتمل سوى الإذعان.

يتمتع سعيد بقدر من المعرفة والفصاحة والشاعرية على مدار صفحات الرواية. وقد وُفق سعيد في تعرية المواقف السياسية السلبية التي وقفها كل من له علاقة بقضية الشعب المشرد... وفضحها... وبالتالي لا يظل سعيد في أعيننا ذلك الإنسان السلبي المتآمر، وإنما يتغير إلى إنسان آخر يحس بإحساسنا، ويتألم لآلامنا.

وقد بدأ سعيد اتهاماته ضد الزعامة التقليدية في فلسطين قبل النكبة، هذه الزعامة التي لم تقم بأي تنسيق فيما بينها.. وإنما اكتفت ببث روح الذعر والخوف.. ونشر القتل والموت.. الأمر الذي أدى في النهاية إلى هرب هذا الشعب وتشريده بدون تنسيق أيضاً([32]).

ثم يتهم سعيد الجيوش العربية التي دخلت الحرب دون استعداد، فخسرت المعركة.. ويوجه سعيد سهامه النافذة إلى جيش الإنقاذ بقيادة "ابو حنيك"([33]) الجنرال جلوب الانجليزي الذي جاء ليحارب إلى جانب الشعب الفلسطيني، نراه يساعد على تشريد هذا الشعب، ويبدو هذا الاتهام واضحاً حين يصور لنا سعيد، الدكتور اللبناني الذي كان يغازل أخت سعيد في حيفا، ولما وصل سعيد وأهله إلى بيروت هاربين من نيران الحرب، وجدوا هناك الجندي الباسل من جيش الإنقاذ قد سبقهم إلى بيروت، ولم يقف عند حد هربه، بل ساعد على تشريد سعيد وإبعاده عن أهل بيته، وأخته خاصة، لتظل له فقط.. ولم يكتف من أخت سعيد، وإنما تابع في امتهان كرامة شعبه في شخصية تلك الزوجة التي استضافتهم في "معليا" حيث نهبها في غفلة من زوجها([34])، وهذا الاتهام الخطير لجيش الإنقاذ بالتآمر، يبرز أيضاً في قصة سعيد حول سفره مع زملائه لشراء سلاح من بيروت للمقاومة، فألقى جيش الإنقاذ القبض على سعيد وزملائه، بعد ان سلبوهم أموالهم وضربوهم([35]).

هذه الصفات جميعها جعلت شخصية سعيد المتشائل لا تصلح أن تكون بطل مقاومة، بل هي نموذج آخر، ومناقض تماماً، إنه سلبي.

ومن الخارج يبدو سعيد ليناً، وشديد التكيف مع الواقع الجديد بشروطه الذليلة، وإن عجز في النهاية عن تحقيق التعايش مع الواقع الجديد المفروض عليه، رغم ولائه -وإن كنت أرى أنه ولاء شكلي- يقول إميل حبيبي "كان هدفي باختصار هو تخليص المظلوم من مصيبة توهم القوة في ظالمه، ولذلك اخترت شخصية سلبية، لتكون بطل الرواية، شخصية جمعت فيها كل العيوب التي أريد محاربتها، ولكن بطبيعة الحال كان من الضروري أن أضفي الصفات الإنسانية على هذه الشخصية، حتى يصبح واضحاً أنها ليست فريدة"([36]).

يدخل سعيد إسرائيل لأول مرة، وفي داخله شيء من هذا الضعف، ورغبة في التنازل، من أجل أن يبقى في وطنه، فقد كان بإمكانه أن يظل نازحاً في لبنان مع أبناء شعبه وعائلته، لكن الشوق، وحب الوطن، دفعاه إلى العودة إليه "لأن اختيار الوطن اختراع صهيوني، فليس لي وطن آخر"([37])، ولهذا عاد سعيد، وحتى يصل ويظل فوق تراب وطنه، كانت لديه نية وتوجه للتعامل مع صديق والده، وحتى يحقق التكيف مع المستجدات في مجتمعه، يقوي ذلك لديه وصية والده، وهي إرث طويل يحمله من العائلة.

فمن الواضح إذن أن سعيداً المتشائل يعي واقعه وخطواته، ولديه مقدرة فائقة لرصد حركة الواقع، ولولا الإدراك لواقعه لما بقي على أرضه، وكان من المؤكد أن تطرده السلطات خارج الحدود، كما فعلت مع حبيبته يعاد.

ويبدو سعيد شقياً بوعيه الحاد للتفاصيل القاتمة والظلال السوداء المنتشرة في المساحات التي تحيط به، فيقابل كل ذلك بالسخرية، ونظرته تنفذ بسخريتها الشقية، بوعي أو بدون وعي، إلى العمق، إلى قيعان الأشياء، فيزداد الوعي نفوراً من هذا الواقع. وهكذا تنفذ رؤية المتشائل، وتخترق الطبقات السميكة لسطح الواقع، لتكشف التفاصيل المريعة والقاتمة في داخله، ثم تذهب عيونه للأفق الرحب بحثاً عن طريق الخلاص.

هذه الشخصية المتشائلة، محور أحداث الرواية كما ذكرنا من قبل، وهي شخصية قادرة على حمل أفكار الكاتب، ورؤيته السياسية والاجتماعية. ففيها تجتمع التناقضات وتتصارع، العلم والغيب، والثقافة والجهل، الخضوع والرفض، الذكاء والغباء، الغرور وتحقير الذات، وتظل السذاجة والعفوية، من أبرز سمات شخصية سعيد، هذه التناقضات لعبت دور الغطاء التبريري لسلوكه أحياناً، فهو يوظف الصفة المطلوبة في اللحظة المرادة.

وسعيد الضحية، ليس ضحية بطولة فائقة، بل هو ضحية وجوده على أرض احتُلت، وأُقيمت فوقها دولة عنصرية، إنه واحد من "الآخرين" الذين يتناقض وجودهم مع وجود الاحتلال... "وذكرت الصحف أسماء الوجهاء الذين حبسوا سهواً، وآخرون هؤلاء، أنا..([38]) فقد اختفيت ولكنني لم أمت([39]).

والسؤال الذي يطرح نفسه دائماً، هل سعيد المتشائل شخص متعاون مع سلطات الاحتلال؟ ولماذا اختار الكاتب هذه الشخصية بالذات؟

ذكرنا أن شخصية سعيد محيرة حقاً فقد تمازجت فيها كثير من الصفات، وهناك صفة يركز عليها النقاد([40])، وهي أن سعيداً أبا النحس متعاون مع سلطات الدولة الجديدة. وإن كنت أُحاول تبرير ذلك، فهناك شواهد كثيرة في الرواية تدل على أن سعيداً المتشائل، منذ البداية كان يحسب نفسه مع الوطنيين، ويستشهد بعارفيه "وما انضمت إلى فدائيين كما توجس عارفوا فضلي"([41])، كما شارك في محاولات إحضار السلاح إلى فلسطين من بيروت([42]) كما أنه لم يكن هو رأس الخيش كما ظن البعض([43])، كما أنه أطلق اسم "فتحي" على ابنه الأول نسبة إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" إلاّ أنه ولرغبة الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، أسمياه "ولاء"، ثم أنه أولاً وأخيراً آثر العودة إلى أرض الوطن على حياة الهجرة والهوان. ويؤيدنا في هذا الرأي، قول الكاتب نفسه عن شخصية سعيد "إن هذا الشخص ليس مجرد متعاون"([44]).

إن سعيد أبي النحس كان يعتبر نفسه باطنياً بمعنى أن مسلكه الخارجي لا يعبر عن فكره وأمانيه، صحيح أن له علاقة بالرجل الكبير لكنها علاقة تثبته بأرضه -كما أسلفنا- دون أن نلحظ في الرواية أنه يمس الآخرين بأي ضرر، بل كان يعمل في غير رغبة الرجل الكبير، فحادثة عصا المكنسة، وحادثة الباذنجاني، ولقائه مع رجل الفضاء، كلها دلائل واضحة على انتمائه الداخلي للصف الوطني.

يقول الكاتب في وصف سعيد أبي النحس: "إن حقيقة تصوري لهذا الشخص لم تكن وليدة الصدفة فبعد أن بدأت أكتب، فكرت فوجدت أنه ليس ثمة شعب يعيش وضع الفلسطينيين، وأما الصورة التي تنطبق عليه هي صورة شخص مثل "أبو النحس المتشائل" إنه شخص هزلي، أبرزت فيه المميزات السيئة من أجل محاربتها، حتى من ناحية نظرة العرب لنظام الحكم القائم، وهذه الميزة تتوافر لدى جميع العرب المقيمين في إسرائيل، فلديهم يتوافر بعض ما يتوفر في شخصية سعيد أبي النحس، ولكن ليس ما يتوافر في الصورة الهزلية"([45]).

نجد الروائي يتغلغل إلى أعماق الشخصية ويستنبطها من خلال سلوكها، ويضيء جوانبها المختلفة، ويثريها بالنمو، ويطور سلوكها، وفق رؤيته للأحداث، ووفق منطق فني مقنع، كما أنه يرصد الجانب الداخلي الذي يشمل الانفعالات، وهي الأحلام والاعترافات، والهواجس النفسية، والأشواق التي تتصارع في وعيه دون أن يملك التصريح بها.

الشخصية الروائية ليست منقولة عن الواقع كما هي، وإنما ترتفع عنه وتتجاوزه بجوانبها الفنية التي أضافتها عبقرية الكاتب، ففيها من الواقع، وفيها من الخيال، فنحن لا نستطيع أن نجد شخصية مثل شخصية سعيد المتشائل في واقع الشعب الفلسطيني، ولكن العديد من القراء يجدون في أنفسهم جانباً من جوانب سعيد.

هذه هي العينة الخصبة التي اختارها حبيبي، لتعبر عن واقع الشعب الفلسطيني، وهو يواجه عدوه، يواجهه بيديه وشخصيته المسلحة بتصميم على العودة لأرضه وقراه، فهو ببساطته صاحب الخوارق، وصاحب التصميم الذي يدعو إلى التفاؤل، وسط أحلك الظروف التي قد ترشح بشيء من التشاؤم.

ويبدأ سعيد نحو الوضوح والتحول الإيجابي المباشر، والابتعاد عن تراكم بعض الصفات المتداخلة التي صادفتنا في شخصيته، فهو رغم ادعائه خدمة العدو، وتفانيه في ولائه له، هذا التفاني يوحي بتأزم نفسي ناتج عن تناقضات حياته، وواقعه المرير الذي يراه، قد أدى به نحو تحول إيجابي كان متوقعاً فقد كف سعيد أبو النحس عن علاقاته مع العدو، وتتفجر منابع الوعي والتحول، حينما يلتقي سعيد أبو النحس، مع سعيد الفدائي الجريح القادم من لبنان داخل زنزانته "فتحامل على نفسه -أي سعيد الجريح- فإذا هو منتصب أمامي بقامته الفارعة حتى رأيته يحني رأسه كي لا يصطدم بالسقف أو كي ينظر إليّ.

- وصاح: يا رجل.

- قلت في نفسي: ها قد أصبحت رجلاً بعد أن ركلتني أرجل الحراس.

- فأعولت كالأطفال.

فلم أتوقف عن البكاء، إلاّ أنه كان اعتزازاً وامتناناً، بكاء الجندي يمنحه قائده وسام الشجاعة.

دوسي أيتها الأحذية الضخمة على صدري، اخنقي أنفاسي! أيتها الغرفة السوداء اطبقي على جسدي العاجز! فلولاكم لما اجتمعنا من جديد. الحرس الغلاظ لو كانوا يعلمون، هم حرس الشرف في بلاط هذا الملك، والغرفة السوداء الضيقة هي البهو المفضي إلى قاعة العرش!"([46]).

في هذا اللقاء يكتشف سعيد جوهر التناقض بينه وبين سعيد الفدائي ذي الهوية الواضحة، فيتحير أمامه كيف يحدد هويته، ثم تبدأ في استشعار هذا التحول في شخصية سعيد المتشائل([47]). وربما يعني هذا اللقاء، أن الفدائي يمثل أحد جوانب شخصية المتشائل، وليس كما هو عليه فعلاً.

إن بذرة التحول يحملها سعيد في قلبه طويلاً، فهو يحب يعاد، ويتأثر بمأساة الهجرة داخل "مسجد الجزار" فتجيء الصدفة لتجمعه مع الفدائي الأسير، فيمتلئ بالرفض والتمرد، والثقة بالذات.

لكن هذا التمرد والتحول لم يكن بالقدر المطلوب، أو قل جاء متأخراً بعد أن طال به العمر، فلم يكن تحولاً كيفياً ينسجم مع فظاعة سلطات الحكومة الجديدة ضد العرب الباقين، لأن هذا التحول لم يؤد إلى المواجهة، أي لم يتخذ شكل النقيض الإيجابي، فعندما يطرق العسكر بيته لانتزاع يعاد الثانية منه، يفكر سعيد أبي النحس بالاختباء وليس بالمواجهة([48]) وبعد خروج سعيد من السجن جاءه الرجل الكبير مهدداً "بأنهم سيظلون ورائي من سجن إلى سجن حتى أهلك حبيساً أو طليقاً، أو أن أعود إلى خدمتهم.

- حلوا عني واركبوا غيري.

- هل تتوهم أننا نجد أمثالك ملقين على قارعة الطريق؟"([49]) وفي نهاية الرواية يلجأ إلى عالم الفضاء ليهرب من واقعه، فالتراكمات السلبية التي شكلت شخصية المتشائل، حالت دون التحول نحو النقيض الإيجابي المواجه.

وقد نتساءل هل شخصية سعيد حقاً تستحق أن تكون شخصية ملحمية، أو ترتقي إلى الشخصية الملحمية، ونقول: إن الإدراك هو الذي ينقذ سعيداً من الهبوط إلى هوة المهرج، فالبطل يدرك أنه كبش فداء، فهو يدرك موقفه، ولكن هذا الإدراك يجيء بعد يقظة، فنحن نعرف أن الرسائل التي وصلت الراوي كتبها سعيد أبو النحس بعد اختفائه.

هذا الوعي القومي، دفعه إلى فكرة الخلاص من العبودية والذلّ، فلم يؤمن المتشائل، بكل القوى الأرضية لمساعدته في هذا الخلاص فتذهب عيونه إلى الأفق باحثة في السماء عن كنز الخلاص، وهو في بحثه هذا يخرج عن تقاليد عائلته، التي بحثت عن كنز خلاصها بين أقدامها.

وحين نعرض للشخصيات الثانوية، نرى أنها نماذج تتنوع وتختلف أحوالها النفسية، ومواقفها الوطنية، وأبعادها الفكرية. وهي على كل حال، تؤلف في مجموعها وتفاصيلها، تاريخاً لنكبة فلسطين، وملامح الإنسان الفلسطيني في تلك الفترة. إنه عالم واحد يخطط له الكاتب تخطيطاً ذكياً واعياً مقتدراً، وإن كان إميل حبيبي يدعي أنه لا يخطط لرواياته، ويترك العنان لنفسه أثناء الكتابة إلى درجة التسيب أحياناً، بينما يقول لأحد محاوريه "أنا من مؤيدي مقولة أن الأدب في نهاية الأمر صناعة"([50])، فكيف يمكننا التوفيق بين هذا التسيب وبين الصناعة في الأدب، يجيب الكاتب بنفسه على ذلك "أنا لا أنشر إلاّ بعد أن أجمع أولاد العائلة الصغار جيلاً بعد جيل، وأقرأ عليهم ما أكتب، فإذا لاحظت أنهم مأخوذون نشرت، وإذا لاحظت أنهم لا يستطيعون صبراً على ما قرأت لهم، أعود وأكتب من جديد"([51]).

أي أن كاتبنا يترك لنفسه العنان في الكتابة الأولية للرواية، ثم يبدأ عملية التنقيح من حذف وإضافة، وتصحيح ربما تستمر سنوات.

وبذلك يجمع كاتبنا بين عفوية الخلق الفني، وحلاوة الإبداع الرفيع، عالم واحد، لكنه ليس عالماً جديداً، لأنه عالم الإنسان الفلسطيني الذي يزخر بالتغيرات الرهيبة، والتناقضات غير المعقولة، فالكاتب لا يتوقف أبداً بحثاً عن الخلاص، بحثاً عن الحرية والعدالة، والكرامة، والتقدم والسلام، ويتخذ من النضال المسلح طريقاً، ومن التعايش السلمي والمساواة طريقاً آخر. وإميل حبيبي صياغة حياة ما بعد النكبة، وما قبلها، صياغة جديدة بطريقة فنية لا تلغي عنصر الجمال الأدبي، أو الاهتمام به.

نجد أن أفكار الكاتب تحيى في الشخصية، وتصل إلى المتلقي عبر شخوص يبدعها لكي تحمل أفكاره وآراءه، بل وتحمل تقاليد المجتمع، ولذلك يرى بعض النقاد أن الشخصية هي العمود الرئيس في الرواية، وهي سبب نجاحها، يقول أرنولد "إن أساس الرواية الجيدة هو خلق الشخصيات، ولا شيء سوى ذلك، وإن للأسلوب وزنه وللحبكة وزنها، وللنظرة الجامدة وزنها، ولكن ليس لشيء من كل هذا وزن، بجانب كون الشخصيات مقنعة، فإذا كانت الشخصيات مقنعة، فسيكون أمام الرواية فرصة للنجاح، أما إذا لم تكن كذلك، فسيكون النسيان نصيبها"([52]).

ومن هذه الشخصيات الثانوية التي ساهمت في توضيح رؤية الكاتب، وأعطت سعيداً المتشائل قدراً كبيراً على الحركة فهي الدافع الذي جعله يحمل الأمل بين جوانحه، وينتظر لحظة اللقاء إنها شخصية "يعاد"، إنها الفتاة التي اقتلعت من أرضها عنوة، وأبعدت خلف الحدود، ولا يزال سعيد يحب يعاد، وينتظر عودتها، ويقتات حلم العودة ويوطد علاقته مع الرجل الكبير "ولا أنال أجراً على هذه المهمة سوى إحياء الوعد بعودة يعاد"([53]).

إن ارتباط سعيد بيعاد يعود إلى عهد الصباحين، قابلها في القطار فأصبحت "حبي الأول"([54])، وبعد النكبة "فلم أعثر لها على أثر، ولكن قلبي ظل مجروحاً بحبها"([55])، ويعاد تحب سعيداً "لأنه خفيف الظل، وضحكته عالية"([56])، اعتقلت السلطات والد يعاد، فظنت أن سعيداً المتشائل هو رأس الخيش، وبإمكانه إعادة والدها، فذهبت إليه من الناصرة إلى وادي النسناس تسللاً دون ما تصريح، وباتت عنده تلك الليلة، فجاء العسكر فانتزعوها وطردوها خلف الحدود، فأصبحت مهمة سعيد إعادة يعاد حبيبته الأولى، لكنه أخطأ في اختياره طريق الخلاص التي يمكن ليعاد أن تعود من خلالها، فوعدته السلطة بإعادة يعاد مقابل خدماته، لكنها -أي السلطة- كانت تزجه في السجن بين الحين والآخر حينما تكتشف ثغرة في خدماته، فيعيش مرتاح الضمير "لأن ما يدفعه من ثمن باهظ، إنما هو مقابل رغبة صادقة وحقيقية تعيش في داخله"([57]). وتظل يعاد في المنفى في لبنان، وتنجب طفلاً تسميه "سعيد" ثم تنجب طفلة وتسميها "يعاد" علهما يلتقيان.

وبعد خروج سعيد المتشائل من السجن للمرة الثالثة، يجد فتاة في انتظاره على باب السجن، لتسمع منه أخبار سعيد الفدائي، فيندفع سعيد المتشائل نحوها مذهولاً: "أنا سعيد.. حبيبي. لقد رأيت يعاد، عشرين عاماً من يعاد دفعة واحدة، في عينيها وفي صوتها، وفي شعرها، وفي قامتها. فكيف تشعر سمكة أطاحت زوبعة، دفعة واحدة، بثلج تراكم على سطح نهرها عشرين عاماً؟ يا تراب القطب الجنوبي قل لهم كيف يكون شعورك لو انحسرت من فوقك ثلوج الدهر دفعة واحدة! يا لظى البراكين ارو لهم حكايتي! ويا صخر بلادي انفجر ينبوعاً! أما أنا فانفجرت بكاءً"([58]).

وبينما الآن يعاد بين يديه يعلن صراحة أنه أصبح حراً "واستحوذتني رغبة جامحة في أن أصفق، في أن أغني، في أن أزغرد، في أن أصرخ... سعيد بشجاعتي مثلكم يا ناس، يعاد إلى جانبي يا عالم! صغيرة كعصا الراعي جديدة كالحلم القديم!"([59]). وهذه مرحلة أخرى من مراحل التحول الإيجابي عند سعيد، فلم يعد بحاجة إلى الرجل الكبير، يعاد الأمل والرهينة معه، يتنفس الحرية كباقي الأحرار. وتنتظر المفاجأة سعيداً المتشائل حيث يلتقي بالفتاة التي انتظرته أمام باب السجن، إنها يعاد، يعاد من! هل هي يعاد التي أحبها في صباه؟ وبقيت كما هي منذ عشرين عاماً، لم يغير الزمن فيها شيئاً. ضحكت يعاد وشتمتني تحبباً.. وظلت تحكي، وتحكي، فلا أجد لحكايتها من جواب سوى مستحيل! قال: إن أمرها اختلط عليّ. فيعاد، التي انتظرتها، هي والدتي. وقد ماتت.

ورغم أن يعاد الثانية قد دخلت البلاد بتصريح خاص لمدة شهر واحد، إلاّ أن العسكر داهم بيت سعيد، وطلبوا منها مغادرة البلاد وإلغاء تصريح الزيارة، لأنها اتصلت بسعيد المتشائل([60]).

لم يتمكن سعيد من الالتقاء والزواج من يعاد، والزواج رباط لابد منه، فقد تزوج من باقية، وهي شخصية لها دورها الكبير في سير الأحداث نحو التحول والوعي، اسم الكتاب الثاني من الرواية، إنها الفتاة التي رحل أهلها في حرب النكبة، وكانت هي في زيارة لأخوالها حينما سقطت قريتها "الطنطورة" ويتزوج سعيد من باقية، فتبيح له بسرها الدفين.

وقد خصّ الكاتب باقية، بصفات جسدية دون غيرها من باقي الشخصيات "صاحبتي الطنطورية، شقراء مثل روميات بيزنطة..، إلا أنها.. شجاعة غير مألوفة.. غريبة، تقرأ كتباً لوحدها، وتبكي لوحدها وهي مدنية وتتكبر علينا"([61]).

يركز الكاتب على ملامح باقية الجسدية والنفسية أيضاً، فالملامح الجسدية تنحصر في لون الشعر والنظرات التي تفيض بالحياة، والشفتين المرتعشتين، أما الجانب النفسي فهو في حبها للعزلة، وفي شجاعتها غير المألوفة، وكبريائها العظيم، ومن ثم فهي ترفض ألا تتنفس إلاّ بحرية. ونرى أن كل هذا تمهيد من الكاتب لتبرير سلوك "ولاء" فالضغط النفسي الذي خلفه الوضع الجديد أثّر على شخصية باقية، وبالتالي ينعكس شيء من هذه الشخصية على ابنها الوحيد ولاء.

نالت شخصية ولاء اهتمام الكاتب كثيراً، وقد حاول الكاتب التوغل في نفسية ولاء، والتركيز على معاناته الذاتية، التي تتمثل في الكبت، نتيجة لهذا حاول مع زملائه في المدرسة تشكيل تنظيم عسكري مسلح، إلاّ أن السلطة استطاعت الإمساك بزملائه، أما هو فقد التجأ إلى الصندوق الحديدي، الذي طالما سأل والده عن سر هذا الكنز داخل المغارة، فقد كانت لدى ولاء رغبة داخلية في التعرف على أشياء كثيرة، خاصة سر هذا الصندوق. وفي الحوار بين ولاء وأمه([62])، والذي يعد أروع مشاهد الرواية، نتعرف على الملامح النفسية لشخصية ولاء، ومشكلته الخاصة، التي تعكس مشكلة جيله، بل وسكان عرب فلسطين.

ومن الشخصيات التي لازمت سعيداً المتشائل وصاحبته في معظم أحداث الرواية، وتداعياتها، الشخصيات اليهودية، ومن اللافت للنظر أن كبيرهم لا يحمل اسم علم شخص، ولا يذكر أو يشار إليه إلاّ بلقب "الرجل الكبير" أو "ذو القامة القصيرة" وغالباً ما ترد الإشارة إليه بالوصفين معاً، كما يتردد اسم "يعقوب" وهو في مرتبة أقل ويتمثل دوره في مراقبة العرب الفلسطينيين، وإلقاء الأوامر إلى سعيد المتشائل، يعقوب اسم معناه "شوفوا جاني ولد" وقد جاء ذكره في العهد القديم في سفر التكوين، وهو اسم عبري توراتي، وهو من مادة "عقب" التي تعني "الحفظ" ويرجح العلماء أن يكون معنى "يعقوب" فليحفظه الله([63]).

إن الطريقة التي يستعملها الكاتب في توظيف أسماء الأعلام تعتمد بصفة عامة على تقديم اسم العلم، دون أية أوصاف تفصيلية تدقق في مظاهر الجسد، حتى إذا خرق الكاتب هذه القاعدة واهتم بوصف أحد الشخوص، فإن ذلك يتم باقتصاد شديد، ويؤشر إلى أن الشخص الموصوف يتميز بمكانة خاصة في النص الروائي، فمثلاً تحظى باقية بجملة أوصاف تتحدد في منظور الراوي، كما سبق أن ذكرنا.

وهذا التجاهل للصفات الجسدية راجع إلى تقديم شخوص أقرب ما تكون إلى نماذج إنسانية عامة، تحمل الدلالة على الجماعة، أكثر مما تحمل الدلالة على أفراد بعينهم.

ومن خلال معرفتنا بأسماء الأعلام المتداولة في المتشائل نتبين مجالين دلاليين متقابلين، مجال يتعلق بأسماء الأعلام العربية، وآخر بأسماء أعلام الغزاة، فقد انحصرت دلالة أعلام المجال الأول من خلال "سعيد ابي النحس"، ويعاد، وباقية وولاء، في أجواء القمع والمطاردة، والاقتلاع من الجذور، الأمر الذي لا يزيد الأهالي إلاّ تشبثاً أكثر بوطنهم، وإصراراً على التمسك به.

بينما تركزت أسماء أعلام الغزاة، في تبيان مدى غربتهم عن الوطن، فلا ملامح لهم، وكذلك في تعرية الدور القذر الذي يقوم به (سفسارشك) والإعلان في نفس الوقت عن فرحة اليهود القادمين بعودتهم إلى ما يسمى بأرض الميعاد، وعزمهم على الحفاظ عليها.

وأخيراً نلاحظ أن إميل حبيبي يدع شخوصه تتحرك كيفما تشاء دون أن يلعب معها دور محرك الدمى، فهو إذا أراد أن يحرك شخصياته من منطقة ما وراء اللاشعور، فإنه يدعها تتذكر عفوياً، محاولاً تصوير تلك العفوية بكل ما يتاح دون أن يخلط بين ذكريات الشخصية الرئيسة، وبين ذكريات الشخوص الأخرى على نحو مقصود.

الزمان والمكان:

كل حادثة تقع لابد أن يكون لها مكان معين، وزمان بذاته، وهي لذلك ترتبط بظروف وعادات ومبادئ خاصة بالزمان والمكان اللذين وقعت فيهما، والارتباط بكل ذلك ضروري لحيوية الرواية، لأنه يمثل البطانة النفسية فيها، ويقوم بالدور الذي تقوم به المناظر على المسرح بوصفها شيئاً مرئياً تساعد خيال القارئ([64]).

والزمن في الرواية التقليدية، يحسب بالساعات، أما الروائي المعاصر، فيستبدل بالزمن المذكور، الزمن المنعكس في الوعي، إذ أن تصوير الأحاسيس القوية والمنكشفة، لا تتطلب الترتيب الزمني للأحداث وإنما تحطيم، وإعادة تنظيم المقاييس الزمانية والمكانية، إن الروائي المعاصر يفضل اكتشاف لحظة واحدة، لأن ذلك أفضل من استكشاف حياة كئيبة بكاملها، ومثل هذا التعامل مع الزمن يقطع تطور الأحداث عندما يكتشف الروائي ظروف وجود الإنسان والكون، وبدلاً من تصوير المغامرات الخارجية لبطل ما عبر نظام ثابت متسلسل، أو تصوير الرحلات الخارجية، يبرز في أعماق تلافيف الوعي بشكل متكرر دورياً للزمن([65]).

ومن هنا يمكننا القول إن الزمن بمفهومه الروائي التقليدي قد تعرض لتوظيف جديد، استخدمته مدرسة "تيار الوعي" حيث رفض أصحاب هذه المدرسة التسلسل الزمني بمفهومه التقليدي المرتبط بالواقع الخارجي، وحاولوا توظيف الزمن بطريقة تتناسب مع وعي الشخصية، وحسب ورودها إلى ذهن هذه الشخصية، بغض النظر عن كيفية ترتيبها مع الواقع الخارجي، تقول: فرجينيا وولف من مدرسة تيار الوعي "دعنا نسجل الذرات وفق سقوطها على الذهن بالترتيب الذي تسقط به.. ودعنا نتتبع النظام الذي يتركه أي منظر، أو تتركه أية حادثة على الوعي مهما كان هذا النظام غير متصل، وغير مترابط من حيث الظاهر"([66]).

وبقدر ما يركز إميل حبيبي في روايته المتشائل على المكان فإن للزمان أيضاً وجوداً ظاهراً، باعتباره من أوصاف المكان وسماته، إذ يمزج الكاتب الزمان بالمكان في أعماله، ويصبح الإنسان مغروساً في المكان "وقد فعل روائيو الرواية الجديدة في فرنسا هذا بالنسبة للزمن عندما جعلوا من حقيقته مدلولاً نفسياً"([67]).

نستطيع القول إن كاتبنا قد تاثر بشكل واضح في تعامل مدرسة "تيار الوعي" مع الزمان والمكان، فقد أوجد حبيبي إطاراً زمنياً متشعباً لروايته، ويبدو ذلك من خلال الأحداث التاريخية الكبرى التي يذكرها في ثنايا الأحداث الرئيسة، رغم أن الأحداث الماضية لا تقدم عند حبيبي بطريقة التسلسل الزمني المنتظم، حيث يمزج بين الماضي والحاضر، لكن هذا المزج يعطي إحساساً بالاستقرار والديمومة، كأن حياة أفراد الرواية ثابتة في علاقاتهم بعضهم ببعض ومتغيرة في علاقاتهم بالآخرين.

وفي المتشائل يسعى الكاتب إلى التجسيد الفني لهموم الشخصية الفلسطينية ومعاناتها في فترة ما بعد النكبة، وزمن الرواية هو زمن الواقع المعاش، غايته تحليل مرحلة من مراحل نضال الشعب الفلسطيني ونكبته، مما أدى بالكاتب إلى أن يرنو من اللحظة الحاضرة إلى الماضي مستعيداً أمجاد العروبة، وأيام الجهاد والفداء، فقد عاد الكاتب إلى عهود صلاح الدين، وأحمد باشا الجزار وكأن مستقبل الأمة العربية يتراءى أمام الكاتب في هذه الردة إلى اللحظة الماضية حيث الأمان والطمأنينة.

نستطيع القول إن الزمان في المتشائل، زمن ذاتي خاص ببطل الرواية، ومن ثم قد يطول وقد يقصر، يتضاءل وينكمش، زمن متداخل متخبط، مهوش، زمن ليس تياراً متدفقاً تجري فيه الموجة إثر الموجة، بل هو نوع من العاصفة تجتاح العمل الروائي، زمن يتوقف على الجانب النفسي والعاطفي للشخصية، ومن ثم زمن يقترب من استعمال مدرسة تيار الوعي للزمان([68]).

والزمان هنا ينسجم مع متطلبات البنية الروائية شكلاً وفحوى، فمن الناحية الأولى يشير عنوان الرواية "الوقائع" إلى وجود الإحساس الأول بالأحداث التي تتطلب وجود عامل الزمن.. والتتابع، وقد جعل الحبيبي روايته تدور عبر فترة زمنية واسعة جداً، فهي من الناحية الشكلية تمتد على مساحة عام 1948م باعتباره عام الانفجار الأول الذي أثار وعي الكاتب على واقعه، إلى وقت الفروغ من كتابتها عام 1974م، وهو النحس الثاني، بل هي -أي الرواية- في الواقع لا تنتهي، لأن العبارة الأخيرة منها أوحت بمطالبة القاص للقارئ أن يستمر معه في البحث عن شخصية سعيد أبي النحس المتشائل.

على أن الرواية من الناحية العملية لا تكتفي بهذه الفترة الزمنية من 1948 إلى 1974، بل تزداد اتساعاً من خلال ربط بعض الأحداث التي تمر بالأشخاص بفترات تاريخية سابقة "ليبدو للنص إيحاء مستمر متجدد، وصدق واقعي في التفصيلات النوعية المتعلقة بالزمان والمكان"([69]) إما طبقاً لقانون التداعي، أو انطلاقاً من سرد التفاصيل المتعلقة بأبي النحس، ففي المجال الأول يتقهقر الكاتب بنا إلى فترات الحروب الصليبية، وتاريخ عكا.. وعهود الانتداب البريطاني، وقد تأخذ وقفته عند بعض هذه الأحداث فترة طويلة أو قصيرة، وفي المجال الثاني يحلل نسب البطل، فيرجعه إلى أصول موغلة في القدم، وهذه السمة من سمات الشخصية التي تمنحها حرية الحركة في الزمان.

وثمة أمر آخر يكسب الرواية المرونة الزمنية، وهو ربط التعبير عن الحاضر بالتعبير عن الماضي، فكثيراً ما نجد الكاتب يعود بنا إلى كتب الجاحظ، والى ألف ليلة وليلة، ليصف الأمير موسى ساعة دخوله مدينة النحاس، أو إلى كتاب رحلة ابن جبير، حين يصف اسوار عكا، ومناخها، وحركة السفن وكأن الكاتب يريد أن يدمج الماضي بالحاضر، والأسطورة بالواقع.

وهذه الحركة في الزمان، أساس من أسس العمل الروائي ولا يضير الكاتب تصرفه بهذا العمل فهو نهج دأب عليه كتاب القصة المحدثون حتى أصبح أسلوباً عاماً في الرواية الحديثة لدى "وليم فولكنر" و"جويس" و"بروست"، وإن كانت الطريقة التي استخدمها إميل حبيبي تختلف عن طريقة هؤلاء تمام الاختلاف([70]).

تعبر رواية المتشائل عن فترة من تاريخ فلسطين الحديث، وقد اتجه الكاتب في الوقت ذاته إلى محاولة نقد الحاضر الفلسطيني ومخاطبته فالمتشائل تستعيد لحظة الماضي مرهونة بمكان محسوس.

إن محاولة سعيد الرجوع إلى اللحظة الماضية تصبغ عليه حضورية واضحة، وتعطيه دفعة معنوية للثبات والصمود فهذا يعني توقفاً لحركة الزمن، لاستذكار التاريخ الوطني من خلال الماضي والذكريات الكامنة في اللاوعي، إن الموقف المأساوي الذي عاشه سعيد كفيل بجعله لا يهتم بحركة الزمن وانسيابيتها فقد أدت به النكبة إلى الهاوية، ولذا وجد حياته مطاردة ومهددة بالضياع، وبالتالي كان الزمان اللحظة الحاضرة- كابوساً يخيم على ذهنه في ظل وضع وظروف مليئة بالتناقضات.

فإذا كان للزمان انعكاسه الفني على الحدث والذات في الرواية، فإن للمكان أيضاً أثره على بيئة الفن، أي البيئة المكانية للرواية، ذلك لأننا لا نغفل دور البيئة المكانية وتتابعها في الرواية، وانعكاس ذلك على الحدث واللغة والذات أيضاً([71]).

وليس المقصود بالمكان الروائي، الدلالة الجغرافية المرتبطة بمساحة محدودة من الأرض، وإنما المراد دلالتها الرحبة التي تتسع للبيئة بأكملها، بأرضها وشخوصها، وقضاياها، وتطلعاتها وتقاليدها، وبالتالي يكون مفهوم المكان زاخراً بالحياة والحركة يؤثر ويتأثر، ويتفاعل مع الشخصيات، ليضفي عليها سمة معينة، وبالتالي يؤثر في أخلاق الشخصيات وعاداتها وسلوكياتها.

إن قراءة المتشائل رحلة في عالم مختلف عن العالم الذي يعيش فيه القارئ، فمنذ اللحظة الأولى ينتقل قارئ الرواية إلى عالم خيالي، من صنع كلمات الروائي، ويقع هذا المكان في فلسطين، في قراها ومدنها، ومع هذا فهو مكان مغاير للواقع المكاني المباشر الذي يوجد فيه القارئ.

إن إميل حبيبي يستقي معلوماته المكانية من الواقع المحيط به، ثم يقوم بعملية تحويل هذه المادة الخام من معناها الحرفي، إلى معنى خيالي، ويستخدمها استخداماً جمالياً، وقد لاحظنا ذلك نتيجة لتقنية خاصة، اتبعها الكاتب في الوصف، وهي التدقيق في التفاصيل. وصف المكان وصفاً موضوعياً، فيقوم بتتبع العناصر المكونة له، كما هو في وصف دياميس عكا، ونهر الزرقاء، وبيته القديم الذي بات فيه مع يعاد، وبالتالي ينظر إلى المكان من حيث وقعه على المتلقي. والأسلوب الثاني الذي استخدمه الكاتب، في التعامل مع المكان، في رصد القرى الفلسطينية الدارسة والباقية المتغيرة في فلسطين ويتضح ذلك في مشهد دخوله فناء جامع الجزار، وقد امتلأ بالمهاجرين، والكل يسأل عن قريته التي تركها.

- نحن من الكويكات، التي هدموها وشردوا أهلها، فهل التقيت أحداً من الكويكات؟

- أنا من المنشية، لم يبق فيها حجر على حجر، سوى القبور فهل تعرف أحداً من المنشية؟

- نحن من عمقا، ولقد حرثوها، ودلقوا زيتها، فهل تعرف أحداً من عمقا؟

- نحن من البروة، لقد طرودنا وهدموها، هل تعرف أحداً من البروة؟([72])

ويمثل المكان هنا عند حبيبي هدفاً في حد ذاته لأنه يتفاعل مع هدف الكاتب، لأن المكان مستودع الذاكرة الجماعية، التي تعيد تأريخ نفسها، انطلاقاً من هنا، فالرواية كلها تستدفئ بالمكان الفلسطيني، بل يأخذ الكاتب بيد القارئ في جولات عبر فلسطين من أقصاها إلى أقصاها، عارفاً بكل تفاصيلها الجغرافية والبشرية، والنباتية، ملماً بلهجات شعبها على اختلاف مستوياته.

يقول إميل حبيبي لمحاوره عن ذكره القرى العربية التي اختفت أو هجرها أهلوها: "في الواقع أردت أن أترك ذكراً على الأقل للقرى والأماكن، وقد جاءني هذا الكتاب وقال لي: صنعت نصباً تذكارياً لكل قرية دمرت، فهل فعلت ذلك متعمداً، فقلت نعم، لقد قصدت ذلك، بل وقمت بعملية بحث واسعة"([73]).

إن رواية المتشائل أكثر الروايات العربية -فيما أعلم- تسجيلية للقرى الفلسطينية الباقية أو البائدة فإن إميل حبيبي يكاد يستخدم الرواية دليلاً على هذه المدن والقرى الفلسطينية، فلم يحدث أن اهتم روائي فلسطيني أو عربي، بإعادة تصوير هذه الأماكن بهذا التفصيل كما فعل الحبيبي، والمكان الذي يعيد تصويره ليس مكاناً ميتاً لكنه يبث فيه الحركة والذكريات وهذا جزء من أسباب النجاح الذي يحققه حبيبي.

السرد والحوار:

إن الرواية ذات طبيعة مزدوجة على مستوى الصياغة، وتبرز هذه الطبيعة في كون:

1- أن الجزء الروائي معروض - أي بصيغة العرض على اعتبار أنه رسائل يقوم سعيد بإرسالها إلى الراوي، هذه حقيقة أكدها الكاتب في ختام روايته عندما ذكر أن راوي الرواية ذهب بنفسه للبحث عن شخصية باعث هذه الرسائل، وظل الكاتب حريصاً على تذكيرنا بهذه الحقيقة، ففي مطلع كل كتاب من كتب الرواية الثلاثة يقول: (كتب إليّ سعيد أبو النحس المتشائل قال) ثم يستأنف سرده للأحداث.

2- التعليق على الخبر المعروض بأسلوب ذي طبيعة سردية، أي أن مرسله راوٍ يتوجه بخبره المسرود هذا إلى مروي له.

إن هذا الأسلوب المزدوج جعل رواية المتشائل ذات صيغة متميزة، حيث يختلط فيه السرد بالعرض كصيغتين تتداخلان وتتناوبان في إظهار ملابسات الحدث، والحدث معاً، فالسرد عندما يكون الراوي بصدد حكي قصة أو خبر، والعرض عندما يتحدث الراوي عن الظروف والملابسات التي تحيط بالخبر المسرود، مثل قوله عن عدم التمكن من الكتابة لأسباب أمنية([74])، واستخدامه للهوامش، بالإضافة إلى تدخل الراوي وممارسة التعليقات.

وهذا التلازم الأسلوبي بين السرد والعرض، جعل كاتب الرسائل يسرد وهو يعرض، ويعرض وهو يسرد، يتم هذا بشكل متداخل، وإن كانت صيغة السرد هي الصيغة الكبرى لتأتي ضمنها صيغة العرض([75])، ويمكن أن نقتبس مثالاً على ذلك من الكتاب الثاني على صيغة أسلوب العرض، يبين فيه سعيد اضطراره إلى الإمساك عن الكتابة، بسبب أمن إخوانه الفضائيين فيكون الانتقال هنا إلى الأسلوب السردي عن تاريخ عكا، من خلال رحلة الرحالة العربي ابن جبير([76])، وكتابة مشاهداته فيها، ثم ينتهي هذا الخبر المسرود الذي يأتي ضمن أسلوب معروض، باستباق عن باقية التي سيضيعها وابنها، ونلاحظ الشيء نفسه حول هذا التداخل والتلازم في المشهد الذي يحمل عنوان "الشبه بين كنديد وسعيد"([77]).

ويكون التداخل أيضاً بين الأسلوبين عن طريق الاستطراد، ومثال ذلك حينما يرى الراوي ضوءاً جهة البحر، يتم الانتقال زمنياً وسردياً إلى الطفولة، فنجد أنفسنا أمام صيغة جديدة، وهو الخبر المسرود حيث يسرد قصة معلم العربية الذي تغضن عينه اليسرى، وما كانت تثير فيه هذه الحركة من ضحك يجازى عليه بالضرب من معلمه، ثم يعود بنا الراوي إلى الأسلوب المعروض من جديد، من خلال تقديم بيتين شعريين لامرئ القيس، يعاقبه المعلم بكتابتهما([78])، والأمثلة على ذلك في هذا المجال كثيرة، مثل حديثه عن صناعة النبيذ عند الفرادسة([79]).

إننا نلاحظ أن الصيغ الأسلوبية التي تهيمن في المتشائل هي صيغتا السرد والعرض، وهذا له أثر جمالي، وله بعده الوظيفي أو الدلالي، ويعد ذلك تميزاً لأسلوب الرواية، عبر مزاوجة السرد والعرض محققاً إميل حبيبي بذلك خروجاً وتمرداً على استخدام الصيغ في أسلوب الرواية العربية.

والسرد في المتشائل يتميز "بوفرة الأغراض والمعاني والمواد، واحتمال أن يكون الكاتب أقبل على عمله دون تصميم فني مسبق لروايته، إلاّ أنه استطاع أن يمنحنا شعوراً بالامتلاء الفني والفكري والوجداني المنبثق من رؤية واقعية تحليلية"([80]).

إن الحدث ينمو ويتطور بانسيابية وتلقائية مطلقة، ويتخلل سير الحدث، التذكر، والاسترجاع، والمقابلة، ثم التذكر داخل التذكرن ويحافظ كاتبنا على الإمساك بخيوط أحداثه بوعي ساطع، وبمقدرة فنية مذهلة.

وتبرز عناية الكاتب بالتركيز في وصف الأحداث، وعدم الإفاضة في شرح المقدمات والذيول، حتى أن كل جملة أو عبارة تحمل في الغالب معنى جديداً، الأمر الذي يضطر القارئ إلى ضرورة اليقظة، والتنبه إلى متابعة السياق.

ومن الوسائل التي وظفها الكاتب "الحوار" و"الحوار في العمل الروائي يساعد الروائي على إبراز حقيقة الشخصية الروائية، ومن هنا يستعيض عن الإمكانيات أو المؤثرات التي يتمتع بها الحوار المسرحي بتصويره للمشاهد واستغلاله للجو الخارجي، بما يعكس الواقع النفسي للشخصية الروائية"([81]).

فالحوار في المتشائل لا يتعجل تصوير اللحظات والمواقف الدرامية المشحونة، وتظهر هنا مقدرة الكاتب في إدارة الحوار وخاصة ذلك الحوار الذي يجريه الكاتب بين ولاء وهو في الكهف وبين أمه باقية([82])، وكذلك الحوار الذي دار بين سعيد المتشائل وبين معلمه الرجل الكبير:بأي شيء تعاقبون العرب المذنبين يا سيدي؟ قال: هذا هو ما يحيرنا. ولذلك قال الوزير إن احتلالنا هو أرحم احتلال ظهر على وجه الأرض منذ تحرر الجنة من احتلال آدم وحواء.

قال: خذ لك مثلاً عقاب الإبعاد إلى ما وراء النهر، فنحن ننزله بهم وهم خارج السجن، فإذا دخلوا السجن ثبتوا فيه ثبات الاحتلال الانجليزي.

قلت: ما شاء الله.

قال: ونهدم بيوتهم خارج السجن، أما في داخلها فيعمرون وينشئون.

قلت: ما شاء الله! ولكن. ماذا يعمرون؟

قال: سجوناً جديدة، وزنازين جديدة في السجون القديمة... إلى آخر الحوار([83]).

يتضح لنا أن الحوار في المتشائل يحمل جزءاً كبيراً من عبء الصراع وهو صراع وجود وإثبات للذات في وجه قوى الطغيان، ويتمثل ذلك في كثير من أحداث الرواية، ولعل الصراع النفسي الذي عاشه سعيد، صراع بين الحلم والواقع.

ومن الملاحظات التي تثير الانتباه علاقة الراوي بالشخصية المحورية في الرواية سعيد أبي النحس، "ولعل أمسّ موضوع بالرواية، هو دخول المؤلف نفسه في نسيج الشخصية، هل البطل هو المؤلف؟ لا مفر من أن نجد المؤلف في بعض شخصيات الرواية الأساسية، إنه هو الذي يروي، وهو الذي يكشف لنا والأهم هو الذي له فكرة ورؤية"([84])، والعلاقة بين الراوي، وبين سعيد أبي النحس مرتبطة ارتباطاً كبيراً حتى يكاد أنه يكونا شخصية واحدة، فالراوي يمهد لأحداث الرواية، وهو أيضاً يواجه المشكلات وسعيد أبو النحس أيضاً كذلك.

تبدأ الرواية بإبراز علاقة الراوي بالبطل، عن طريق الكتابة، فسعيد يكتب إلى الراوي مخبراً إياه ان يروي عنه وهكذا يستمر حكي الراوي إلى نهاية الرواية، إلاّ أن البطل يظهر من جديد ليعلق أحياناً على الرواية، فالرسائل التي وصلتنا، كانت مدغومة في بريد عكا([85])، ويخبرنا الكاتب بخروجه للبحث عنه، وينتهي بإعلان أنه سيبحث عنه طالباً منا مساعدته في البحث عنه، إن الكاتب في الرواية يتحول إلى مروّى له، وتظل العلاقة بين الراوي البطل، وبين الراوي الكاتب، قائمة من خلال العديد من الإشارات، التي يتوجه فيها الراوي البطل إلى المروي له الكاتب مباشرة "يا محترم، يا معلم" بينما المروَى له الكاتب، لا يبرز أمامنا إلاّ بداية الرواية ونهايتها، حيث يقوم بوظيفة التعليق النهائي على القصة، أما الراوي البطل، فيقوم بوظيفة عن قصته العجيبة([86])، ومن الأمثلة على ذلك أي تحويل الراوي إلى مروّي له، وذلك حين يستمع الكاتب إلى ما يحكيه معلم علم الفلك، وهو يتحدث عن البيروني أو يستمع إلى قصة الكفيف "أبومحمود" عن سر القرية([87]).

ومن هنا تبرز لنا خصوصية الروي في المتشائل، فهي ثابتة من حيث كون منظورها يتم من خلال الفاعل، لكنه متعدد على اعتبار الراوي، سينتقل من راوٍ إلى مروِّي له، ويساعد على هذا التعدد خصوصية شخصية سعيد، فهو الساذج العاقل، أو العاقل الساذج، وازدواج هذه الشخصية يجعلها ذات رؤية مزدوجة كما تظهر أمامنا، ويمكننا التدليل على هذا من خلال الحديث عن ذاته كموضوع قصة إنقاذ حياته من فضلة حمار، وكذلك دخوله إلى فلسطين حيث يقدم لنا ذاته على أنها متميزة، فهو فذ وذو طالع حسن([88]).

وهنا ملاحظة أخرى نلاحظها في المتشائل، وهي التنويع بين الضمائر، سواء المخاطب، أو الغيبة أو المتكلم، وهو تنويع يتلاءم والحالة الشعورية المتدرجة التي تتعرض لها الشخصية المحورية، "لم يشأ الرجل الكبير إلاّ أن يصحبني إلى بيت خالتي، فيسلمني إلى مدير السجن تسليم اليد باليد، فنحن الذين ورثنا الدولة عن آبائنا، تظل مراتبنا عالية، ولو في قاووش السجن، كقولك "نبيل فقد الحظوة في البلاط". حتى أركبوني في سيارة البوليس المقفلة... قلت صوناً لسمعتي، فلما تأففوا من شدة الحر، وكنا في آب الهَباب، تأففت معهم"([89]).

النص كما هو واضح يشتمل على عدة ضمائر مختلفة، للغائب "فلما تأففوا" وللمخاطب "كقولك نبيل فقَد الحظوة" للمتكلم "إلا أن يصحبني"، وذلك خلال عرض الراوي الذي يصف لحظة شعورية واحدة، والسؤال الآن ما دلالة هذا التنويع؟ أي هل ينطوي على ارتباط بحالة المتكلم الشعورية؟ وتتضح هذه الدلالة، في التعرف على الحالات المختلفة التي يمر بها المتكلم، إلى استخدام ضمير المخاطب، حينما يشتد الشعور ويتوتر، بينما يوظف ضمير الغائب كتحديد لسبب التوتر، على حين يتولى ضمير المتكلم الانزلاق أكثر إلى الداخل لعرض نتيجة الانفعال المسبب في صورة تمثل الأسى والإحباط([90]).

واستخدام ضمير المتكلم العارف بكل شيء، إنما يتيح بذلك الرؤية الواقعية والتي ينتظر فيها الراوي شخصية البطل من الوراء راصداً حركتها، وأفعالها، متغلغلاً في أعماقها.

واستخدام الكاتب لضمير الخطاب بوصفه دالاً على توتر الشعور قد بنى على شعور آخر متطور عنه وهو شعور بداية الغضب "الحنق" أو بداية الانفعال، وهو الشعور الذي تولى الإفصاح عنه بضمير الغائب، على حين قد عمد إلى توظيف ضمير المتكلم، ليصور به نتيجة تيار الشعور المتدرج.

ويستخدم الكاتب أيضاً ضمير المتكلم في حديثه عن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، حينما تسربت الآمال بعودة عرب فلسطين إلى كنف الأمة العربية بعد هزيمة 1967م، فكيف يمكن لسعيد المتشائل التعامل مع الواقع الجديد هذا، نلاحظ أن الكاتب يستخدم هنا ضمير المتكلم الذي يفيد الملكية والانتماء لهذه السلطة ومؤسساتها العسكرية، فيقول: طيراننا الحربي، رياضيونا، طائراتنا، بأسلوب ساخر "ولما عادت طائراتنا من ضرب مخيمات اللاجئين في سوريا ولبنان ضرباً موفقاً... يجتمع الوزير بأرامل رياضيينا المغدورين([91])، ويعزيهم بأن طائراتنا أصابت الهدف إصابات محكمة، وفعلت فعلاً عظيماً"([92]) وضمير المتكلم هنا يفيد قرب الراوي من هذه المؤسسة، مما جعل السخرية مُرة وحادة، صادقة ومقنعة.

وملاحظة أخيرة في هذا المحور، وهي أن الراوي يحكي أحداثاً انقضت، ولكن بالرغم من هذا الانقضاء، فإن الماضي يمثل الحاضر بالنسبة للزمن الروائي ، لأنه يجسـد معنى الحاضر والمستقبل، ويربط القارئ بأزمته الشخصية.

اللغــة:

إن الرواية -عموماً- لا تعتمد الألفاظ المنتقاة لذاتها بل إنها أحياناً تنفر منها، إذ أن توخي البلاغة، وجمال ألفاظها، ورنين موسيقاها قد تعوق القارئ، عن تتبع الحركة، والحركة هي أساس الرواية، فالرواية نثر عادي، يجب ألا يشغل القارئ بالزخرفة([93]). وأسلوب المتشائل نثر سهل، وهو في الوقت نفسه نثر يستطيع أن يحدد ويصف، ويوصل، فيه شيء من الصفات الأسلوبية التي ذكرناها، لكنه لا يعيق الحركة، لأنها قائمة على لوحات ومشاهد، وليست على أساس الحدث الواحد والحركة الواحدة.

ويغلب في لغة الرواية الكلمة الموحية والرؤية المكثفة إذ يصور إميل تجربته بأسلوب يتعدى نطاق الكلمة اللغوية، مستعملاً الإشارة الرامزة حيناً، والمعنى الذي يفهم من خلال السياق أحياناً، وقد استطاع الكاتب أن يستغل تأثير الألفاظ أبرع استغلال، استغلالاً أقرب ما يكون إلى الشعر، ولهذا كانت لغته في تصوير خلجات أفكاره ترتفع إلى لغة الشعر، فهو عندما يختار كلماته يعتمد إلى حد بعيد على جرس الألفاظ، لذا لم يتقيد كثيراً بأساليب الكتابة، ولم يكترث بمقاييس النقد الفني التقليدية وقواعده، فأسلوب حبيبي أسلوب ينفرد به وحده، موجهاً عنايته فيه إلى القارئ الذكي من الجمهور.

ومما يميز لغة إميل حبيبي أنها تتراوح بين المباشرة، والإيحاء، لتكتسب عمقاً أكبر، ودلالة أكثر تعبيراً عن واقع القضية ومتغيراتها، فلغة الأدب متغيرة، بتغيير الرؤية الفنية. وقد استتبع عمق الدلالة تغيراً أيضاً في بنية الجملة، فهي جمل متكاملة تميل إلى القصر، والابتعاد عن الوصف المطول، وهذا الأسلوب يخدم الشكل والهدف، فالروائي يروي أحداثاً كثيرة ومتشابكة من الماضي والحاضر، ولم يكن بوسعه التوقف عند كل حدث، ووصف تفاصيله وصفاً مطولاً، بالإضافة إلى أن الجمل القصيرة تحمل طابع التصوير الساخر. ولغة الرواية هنا تتضمن اقتباسات شعرية أو نثرية من خارج النص الروائي، يسترفدها الكاتب لأنها تجري في وعي الشخصية، أو ترتبط بذكريات لديها، أو تخدم الحدث. ومع ذلك فإن هذه اللغة تحتفظ بعمق حاد، وكذلك لغة الكتب التاريخية، والتي نستشعر من خلالها أننا نقرأ كتاباً عن الحروب الصليبية([94]).

يضم الكاتب أحياناً إلى لغته بعض كلمات عبرية، وهذا له ما يبرره داخل النسيج الروائي، ومن الأمثلة على هذه الكلمات:

الكلمة العبرية معناها العربي
أدون السيد
كيبوتسات القرى الزراعية
مدينا دولة
قادش مقدسة
ماهشاعا كم الساعة

...الخ

وقد تكررت كلمة "أدون" كثيراً لأنها ارتبطت بشخصية "سفسارشك" اليهودي الذي تعامل معه سعيد عند دخوله إسرائيل من لبنان. إن ورود مثل هذه المفردات العبرية ضمن لغة إميل الفصيحة لا تمثل تهديداً للغته وعباراته الفصيحة، لأن الألفاظ المفردة لا تخلق اللغة ولا تميزها.

نلاحظ أيضاً أن كاتبنا قد استفاد من الأسلوب العربي القديم، في صلب إبداعه الأدبي، ونقصد بذلك اللغة، فلغة الرواية تجمع بين المعاصرة والتراث، لكننا نستشعر باللغة التراثية أكثر، لأنها أكثر دلالة وإيحاء وتعبيراً عن مكنونات نفسية الكاتب، فقد استطاع بها أن يطرق القلوب برفق وأناة، مع الاقناع بالحدث بدلاً من الشرح. لكنها ليست لغة قديمة جامدة، فالكاتب يحاول الاستفادة من اللغة الشعبية الذاتية وتعبيراتها اللغوية، مستفيداً من ثرائها بالدلالات والإيحاءات، لأنها مرتبطة بالحس الجماهيري العام. ومن الألفاظ والتعابير الشعبية التي وردت في المتشائل "ثم إذا بوالدتي تستشيط وتضرب كفاً بكف وتبح قائلة: مليح إن صار هكذا، وما صار غير شكل"([95])، والأمثلة كثيرة جداً، وكلها تساهم في إيجاد طعم جديد ومذاق خاص لأسلوب حبيبي ولغته، واستخدام التعبيرات الشعبية هو نوع من التخليد والتجذير للناس الذين يستخدمونها.

ومن سمات اللغة عند حبيبي في المتشائل، إبداع كلمات جديدة، واستنباطها كمفردات يستشفها من مجموع التراث اللغوي، وفي ذلك يقول إميل "وحينما أحتاج إلى مفردة معينة، أراجع كتب الجاحظ لأن الجاحظ شجاع في استنباط كلماته الجديدة. وهو الذي شجعني على استنباط كلمة المتشائل مثلاً"([96]).

ومن الكلمات التي استنبطها إميل في روايته المتشائل:

الكلمة المستنبطة تحليلها
المتشائل سبق تحليلها
شكسبرني نسبة إلى شكسبير
استبطخنا نسبة إلى البطيخ
الببرسة نسبة إلى بيبرس المملوكي
القطارين أي من يركبون القطار
نابليونية نسبة إلى نابليون

...الخ

وبالتالي يدفع إميل حبيبي في اتجاه تطوير القاموس الأدبي العربي، وتزويده بالكثير من المفردات المستخرجة عن طريق "النحت".

والعلاقة بين المتشائل والتراث، ليست مجرد علاقة جامدة، بل علاقة مولدة فاعلة، إبداعية، تجلو ما هو إيجابي في التراث، وتوفر شكلاً جديداً للرواية، وأداة فحص فاعلة للحاضر أولاً ثم للماضي ثانياً. إن رواية المتشائل بشكلها هذا وطريقة استخدامها للأشكال التراثية، تضيء إلى حد بعيد الوظيفة التي أتصور أن على التراث العربي أن يؤديها في فعل الإبداع الروائي العربي المعاصر، وهي توظيف التراث توظيفاً عصرياً يلائم تطور المجتمع العربي الحديث، وقضاياه.

وكما استفاد إميل حبيبي من التراث العربي، فإنه كذلك استفاد من التراث العالمي، وذلك ما نجده في تضمينه لمقتبسات من رواية (كنديد) لفولتير، وقد أورد إميل حبيبي عنواناً فرعياً "الشبه الفريد بين كنديد وسعيد([97])"، وقد تعرض أحمد حرب لدراسة هذا الموضوع([98]). فقال "أن الشبه بين كنديد والمتشائل هو الذي قادني إلى هذا الاعتبار، فكنديد تصور الصراع بين فكرتي التفاؤلية المغرقة، والفلسفة العملية، والمتشائل تصور التناقض والصراع بين التبريرية والعملية"([99]).

وجد الكاتب أن كنديد تشبه المتشائل في الهدف والأسلوب والشخوص والشكل الروائي، وقد خالفه في ذلك هاشم ياغي مبيناً أن كلاً من الحبيبي وفولتير له رؤيته الخاصة، وموقفه وموقعه المعين، اتكأ فولتير -كما يقول هاشم ياغي- على منهج برجوازي فردي، أما إميل حبيبي فمشغول البال باستعمار استيطاني يحاول اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وأنه مؤرق النفس بمشكلات الحرية([100]).

هناك حقيقة ذكرها إميل حبيبي، وهي أن هناك تشابهاً بين كنديد وبين المتشائل، وما قاله أحمد حرب يحتاج إلى نقاش، ولا أنكر عليه قوله، كما لا أخالف هاشم ياغي في رأيه فظروف الحياة التي كتبت فيها كنديد([101]). تشابه إلى حد كبير ظروف كتابة المتشائل، فالظروف عند كتابة كنديد، كانت تسودها نظم دكتاتورية، وقمع للحريات، تشبه إلى حد كبير الحياة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الحكم الإسرائيلي، فالحياة "لم تتبدل منذ ذلك الحين، سوى أن "الدورادو"([102]). قد ظهرت فعلاً على هذا الكوكب"([103]) وهذا رمز ساخر للاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني.

وقد وظف إميل مقتطفات من كنديد في روايته المتشائل ليكسبها دلالات أبعد، فيشير حبيبي إلى نقاط توازن بين المتشائل وبين كنديد، مستغلاً ما جاء في كنديد لإلقاء الضوء على وضع الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي، فقد ربط حبيبي بين انتقام (الآبار) من امرأة يملكها بلغاري بسبب ما فعله (البلغار) بنساء (الآبار)، وبين انتقام الطيران الإسرائيلي لمقتل بعض الرياضيين اليهود في ميونخ، وذلك بقصف مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكذلك وازى إميل بين ما جاء في كنديد من هجوم الرجال الأربعة الكبار على كنديد، لأنه أراد أن يتنزه مشياً على قدميه، وبين إلقاء السلطات الإسرائيلية القبض على أولاد فلسطينيين، وصلوا إلى بحر (ناتانيا) فحاكموا الأطفال وسجنوا أهلهم.

كما تضمنت المتشائل، حكاية المرأة العجوز التي تعرضت للتفتيش والتعذيب في عرض البحر، وذلك من رواية كنديد، وفي المقابل أورد كيفية تفتيش المسافرين، وما يلاقونه من اضطهاد وإذلال في ميناء حيفا، ومطار اللد، والجسور المفتوحة وغيرها([104]).

إن هذا التلاقي بين إميل وفولتير دليل قوي على التلاقي الإنساني في هذين العملين، وكان إميل يقابل عمداً بين الحياة السائدة أثناء كتابة كنديد، وبين ما أصاب الشعب الفلسطيني.

وبذلك أراد كاتبنا أن يقرر أن الظروف الموضوعية المماثلة، تخلق أدباً مماثلاً، أو تستنفر خلقاً فنياً متشابهاً، وكنديد نموذج كلاسيكي، يصور طغيان الإقطاع الشرس، ليعكس عبر ذلك إدانة وحشية السلطان الإسرائيلي الذي يزعم التحلي بالإنسانية.

ويرى حبيبي أن فولتير كشف لنا عن عالم فاسد في معتقداته وفي حكامه، وفي كهنوته، لا أمان فيه لإنسان، ولا احترام فيه لكرامة الإنسانية، بتعميم شامل سريع مال عبر تفاؤل كنديد، أما كاتبنا فقد اختار قطاعاً محدداً من الإنسانية، ومرحلة حقيقية من تاريخها، وكان عليه ألاّ يدأب على غربلة الأحداث، بل أن يصوغها في نثر أدبي عجيب، لتصبح فسيفساء في لوحة عريضة، تؤلف بانوراما شعب أُصيب بالنكبة، ومع ذلك احتفظ بتفاؤله، ورجحت في المتشائل التي جمعت بين النقيضين نظرة التفاؤل، رغم كثرة حالات النحس.

أراد إميل بذلك أن يقدم للأدب العربي بنية روائية محيرة مركبة تركيباً غريباً، وتشكل معارضة لبنية الرواية لدى فولتير، فبينما انطلق فولتير من الإنسان والإنسانية ليبين مدى المهانة والإذلال الذي يلحق بالإنسانية بفعل الجبابرة والمجرمين، ينطلق إميل حبيبي من الإنسان الفلسطيني الذي يلاقي أقسى أنواع التعذيب وأغرب فنونها على يدّ السلطة الحاكمة في إسرائيل، وما يلاقيه الإنسان في روديسيا وغيرها في بلاد العالم.

ولعل لجوء إميل حبيبي إلى هذا التضمين، محاولة منه للإقدام على التجريب الشكلي والمغامرة الجريئة، من أجل الوصول إلى عمل روائي مميز، وقد فجرت أحداث رواية كنديد كثيراً من الدلالات في المتشائل.

هل هذا التداخل بين كنديد والمتشائل، يقلل من أصالة المتشائل، وتأثرها بالتراث العربي؟ هناك فرق حاسم بين النسخ، وحتى المحاكاة، وبين التفاعل والأصالة، ولو نظرنا إلى التفاعل بين الأدباء، عبر تاريخ الأدب، وتعرف أدباء قومية على أدباء قومية أخرى، نجد أن هذا التعامل لا يقلل من أصالة وعظمة تلك الأعمال التي تأثرت، فمثلاً الملحمة الدينية "الكوميديا الإلهية" لدانتي (1265- 1331م) تأثرت بشكل واضح بمصادر عربية أهمها "الفتوحات المكية" لمحيي الدين بن عربي" وبحكاية الإسراء والمعراج التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، ثم زاد عليها المسلمون كثيراً([105]).

فمن التجني محاولة التقليل من ضخامة عمل دانتي أو أصالته الخلاقة. كذلك لا يستطيع الإنسان أن يتخلص من الانطباع بأن في كنديد فولتير شحنات قوية من ألف ليلة وليلة، الموسوعة القصصية، التي -باعتراف النقاد الأوربيين- أثرت في كثير من كتاب عهد النهضة الأوربية([106])، ولكن لا نستطيع اتهام فولتير بأنه نسخ أو حاكى ألف ليلة وليلة "فكنديد كانت حدثاً في الأدب الفرنسي والأوربي، وكانت مع غيرها من إنتاج فولتير، إسهاماً بالغ الأهمية في الإعداد لمناخ الثورة الفرنسية الكبرى في عام 1789"([107]).

بعد هذا التحليل نستطيع الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه في البداية، ألا وهو هل تمثل المتشائل شكلاً روائياً عربياً أصيلاً؟.

فالشكل تعود أصوله إلى التراث العربي في ألف ليلة وليلة، وكتابات الجاحظ والمقامات، وباستخدام إميل حبيبي هذا الشكل قد عاد إلى جذور الأدب العربي، ووصل الحاضر بالأصل، دون أن يرتبط بحرفية هذا الأصل.

والمضمون يمثل نكبة الشعب العربي في فلسطين فقد عالج إميل حبيبي المحلية، لينطلق منها إلى شمولية الإنسان، واللغة عنده تراثية متجددة، بالإضافة إلى الصدق والأمانة في تصوير معاناة شعبه.

نستطيع القول إنها الرواية الأولى -فيما نعلم- في الأدب العربي الحديث، التي تميزت بشكل روائي عربي أصيل.

ج- التحليل الرمزي للمضمون:

الرمزية مذهب أدبي يتجه اتجاهاً مثالياً، ويتخذ فيه الغموض والإيحاء أسلوباً في التعبير، لتجسيد ما تنم عنه النفس، من الأعماق ومن عوالم بعيدة، لا تستطيع اللغة العادية أن تفي بمحتوياتها وغوامضها والتواءاتها([108]). لم يكن كاتبنا من المدرسة الرمزية، رغم استخدامه الرمز أداة أدبية متمازجة مع أدوات أخرى، وربما من العبث أن ننتظر اتفاق الآراء حول مدلولات الرمز في الرواية، إنه فن الروائي، أن يكون رمزاً معطاء يعطي مجموعة لا تتناهى من التفسيرات، إنه يريد بالرمز أن يعبر عن فكرة معقدة، وأن يشركنا معه في التعبير عن هذه الفكرة.

يرتكز الرمز على دعامتين أساسيتين: الأولى: إن ما يراه الروائي ليس هو الواقع أو الحقيقة، هذه الرؤية بما فيها من خيال ضرورية للإيماء لهذه الحقيقة التي لا توجد كاملة، أو واضحة أبداً. والثانية: هذا العالم ما هو إلاّ صورة مشوهة لعالم لا يتحقق، إلاّ في مخيلة الأدباء عامة، وهم الذين يبشروننا بالأمل والتفاؤل في الحصول عليه، وأحياناً في الوصول إليه.

الرمزية وحدها لا يمكن أن تكون تفسيراً لعالم إميل حبيبي، وإنما هي رؤية ضمن مجموعة من الرؤى التي ينبغي أن تتكامل لدراسة أعماله، وأظن أن البدهية الأساسية في مجال الرمز، أن يكون هناك اتصال بين المبدع والمتلقي، وأن تكون وسائل الرمز واضحة لدى الطرفين، بل تكون المرموزات معروفة بينهما على الأقل وإن اتخذ الرمز أكثر من دلالة، فذلك يزيد زخم الرواية، ودلالتها، ويعطيها اتساعاً ورحابة.

انتهج إميل حبيبي بعضاً من وسائل التعبير الرمزي كاستخدام اللاشعور بتجلياته المختلفة وربط الواقع النفسي للشخصيات مع الواقع الخارجي، ولذا يمكن أن تكون الرواية بهذا التكوين تعبيراً عن فكرة أو قضية، وقد اكتسبت الرواية صفة الإيحاء، وهي إحدى خصائص الرمز. ورغم أن النص واقعي، لكن استعمال الرمز يظهر فيه جلياً، سواء في الأسماء أو في الكلمات، أو في الحوارات الجزئية، وحتى لا تكون الرواية ذات تأثير مباشر على القارئ، كان الرمز فيها سهلاً. لا يحتاج إلى مجهود كبير لتبين الأصل الواقعي الذي يعنيه، والحقيقة أن الواقع في هذا العمل قد وصل بحدته وغرابته في كثير من الأحيان إلى شكل الرمز، وكان الرمز فيه تعبيراً عن هذا الواقع الحاد، كأنما هما شيء واحد. وقد نجح إميل بقدرته على اختيار الحدث والشخصية والرمز، ووضعها جميعاً في إطار واحد دون أن يلجأ إلى المباشرة، أو الخطابة، أو التجريد([109]).

أسباب الرمز:

لجأ إميل حبيبي في المتشائل إلى الرمز لأسباب أبرزها:

1- ‘ن الرمز وظيفة فنية بحتة، تعطي العمل الأدبي نكهة مميزة فيها شاعرية واختزال، يبعد بالعمل الأدبي عن التقريرية والمباشرة.

2- دعت الظروف التي يعيشها الكاتب داخل الأرض المحتلة، اللجوء إلى الرمز الهادف، تحقيقاً للتقية اللازمة في مثل هذه الظروف، ولم يكن ذلك هرباً أو تمييعاً للمواقف، ولكن لم يكن المطلوب من أي كاتب في مثل هذه الظروف أن يلقي بنفسه إلى التهلكة.

ولما سبق فقد لجأ القاص إلى استخدام الرمز، بحيث لا يكون الرمز مطابقاً هندسياً للواقع، بل يهدف في النهاية إلى التعبير عن جوهره، وتقديم إيحاءات رمزية تساهم في الكشف عن هذا الجوهر.

ويتضح لنا من ذلك أن الرمز في المتشائل مرتبط بالوسط المعاش، سواء أكان وسطاً اجتماعياً أم ثقافياً أم سياسياً، وخاصة إذا كان المؤلف من الذين يسعون إلى اتخاذ موقف معين من السلطة الحاكمة محاولاً التنويه إلى ما يحدث من تصادم بين السلطة الحاكمة وبين الشعب الفلسطيني، فهو -أي الروائي- يعبر عن موقف الشعب تجاه الدولة الجديدة، ومن هنا يحاول كاتبنا بث روح التمرد والثورة في أبناء شعبه، والرمز بطبيعته يزدهر في ظل القمع والحكم الظالم.

وربما كان هذا الظلم، وما نتج عنه من ظروف قائمة، هو الذي أوحى للكاتب بأن يصدر روايته المتشائل، بقصيدة لسميح القاسم "الموت والياسمين" ويضعها تحت عنوان "مسك الختام".

أنتم أيها الرجال.

لا تنتظروا ، بعد، لا تنتظروا!

اخلعوا ثياب نومكم

واكتبوا إلى أنفسكم

رسائلكم التي تشتهون..([110])

يعلق هاشم ياغي على هذا التصدير للرواية "وهذا كلام مبصر دقيق المرامي، فهو يحس بحلكة الظروف ونفاذ الصبر بطول الانتظار، انتظار من يجيئون إلى الشعب الفلسطيني في داخل الأرض المحتلة برسائل التغيير عبر الأسيجة اليابسة، حراسات العدو المتشددة، وغطرسته، لهذا يدعو الشعب في الداخل إلى أن يخلعوا ثياب نومهم إلى أن يعوا ما هو مطلوب منهم فيكتبوا إلى أنفسهم بأنفسهم رسائلهم التي يشتهون. رسائل التغيير، لأن الظروف التي تمر بهم تحرك الحجر كما يقول إميل حبيبي"([111]) بل ويفجر الصخر ينبوعاً.

ينطلق الكاتب من مسك الختام نحو وقائع عينية ليقوم بإعطائها بعداً يمتد على مساحة الرواية، هذه الوقائع يحركها أشخاص، كل شخص له اسم يشي برموزه وإيحاءاته الخاصة.

رموز أسماء شخصيات الرواية:

من سعيد المتشائل؟ والى من يرمز؟ يقول علي الخطيب رئيس تحرير الفجر المقدسية موضحاً رمز سعيد المتشائل "إنه الإنسان الفلسطيني العربي، من نزح منه عام 1948 ومن بقي، هو صورة الاحتلال الأول للناصرة، وكل الجليل ويافا وكل المثلث، وهو أيضاً صورة الاحتلال الآخر عام 1967"([112]) ولإميل توما رأي مغاير حين يرى أن سعيداً المتشائل يرمز إلى نموذج عرفته جماهيرنا العربية بشكل بارز بعد قيام الدولة، يمثل الاستسلام والهزيمة، وفي أحسن الحالات الاتكالية والتمسك بالأحلام الغيبية.. إنه النموذج الذي ينبذه الشعب ويتركه لمصيره أو لشتاته([113]).

وقبل أن نوضح ما يرمز إليه سعيد المتشائل في رأينا نستمع لما يقوله سعيد عن نفسه: "أنا الندل يا محترم. فكيف لم ينتبهوا على اختفائي..([114]) الصحف لا تسهو عني.. إن معشري يملأون البيدر، أنا فذ"([115])، ويقترب سعيد من نفسه أكثر حينما يقول "عشت في الدار الخارجة، خارج الدياميس، عشرين عاماً وأنا أريد أن أتنفس فأعجز([116]).. كحال الفتى العربي في شعب بوان غريب الوجه واليد واللسان"([117]).

يرمز سعيد إلى الشعب العربي الفلسطيني الباقي على أرضه بعد عام 1948، ويرمز لمعاناة هذا الشعب قبل النكبة وبعدها، وللتأثير النفسي المحيط بهم. فهو البطل النقيض الذي يرفض الاستسلام، يدعو من أجل التغيير، فهو يمثل هذا الشعب في كل حالاته.. في الضعف والقوة.. في الاستسلام والتمرد.. في البلادة والذكاء.. هذا هو سعيد المتشائل، وقد حاول الكاتب أن يرتفع بشخصية سعيد إلى مستوى الرمز العام لشخصية الإنسان العربي في الوطن العربي، وخوضه الصراع والمكابدة كقدر ومصير، إنه مثال لواقع عربي، ونحن نجد في صفاته وصفات عائلته التي مقتلها الذهب، وواقعها الخوف، وملؤها الحلم، نجد رموزاً للمكونات السلبية للنفسية العربية، ولطريقة معالجتها للحياة، كما أنها تتميز بعدم الرؤية المستقبلية، فهم دائمو البحث تحت أقدامهم([118]).

يعاد: ترمز إلى طموح الشعب الفلسطيني المشرد في عودته إلى وطنه وارتباطه الأصيل بالجزء الذي بقي في وطنه.

باقية: وهي الحب الثاني لسعيد المتشائل، وهي رمز للفلسطينيين الذين ظلوا في وطنهم بعد النكبة، يحملون إصرارهم على الصمود على تربة الآباء والأجداد، فتزوجها سعيد، وهذا رمز للتلاحم الوطني في الداخل، وأنجب منها "فتحي" رمزاً لحركة "فتح" ثم أسمياه "ولاء" رمزاً للإمعان في الولاء للدولة الجديدة، كما طلب الرجل الكبير، وبعد تطور الأحداث في الرواية يتضح الرمز الذي أراده الكاتب له، وهو الجيل الجديد الذي نما وتربى تحت سلطة الدولة الجديدة، فنشأ على الخوف والرعب والاحتراس الدائم، فأصبحت شخصيته تمثل هذا الجيل.

أما يعاد الثانية ابنة حبه الأول يعاد، وهي رمز للطرف الآخر من الشعب النازح الذي يحلم بالعودة فتدخل يعاد الثانية، البلاد بإذن من السلطات الإسرائيلية، بعد هزيمة حزيران 1967 عبر الجسور المفتوحة، وهذا يرمز إلى أن دخولها كان غير طبيعي في ظل الهزيمة -كما حدث في أم الروبابكيا- وليس دخولاً كما ينبغي، ثم أخرجتها السلطات بعد أن ألغت تصريحها، وذلك لأنها التقت بسعيد أبي النحس المتشائل، وهذا يرمز أيضاً إلى أن الذي يتحكم في لقاء طرفي الشعب بعد هزيمة يونيو 1967 هو العدو الصهيوني، وبالتالي فإن حضورها ليس نموذجاً يحتذى.

أما سعيد الثاني ابن يعاد فهو الرمز النقيض لشخصية يعاد الثانية، فهو قد دخل البلاد عبر الحدود فدائياً مسلحاً، وليس بتصريح خاص، فهو دلالة وافرة على الأمل في جيل جديد ناضج يستطيع اختراق الحدود، وكذلك يرمز سعيد الثاني لنقيض الجانب السلبي في شخصية سعيد المتشائل.

ولم ينس كاتبنا أن يترك بذرة الروحانية الدافعة للشخصية الفلسطينية، فأم أسعد، تلك المرأة المسيحية التي ظلت في كنيستها تحافظ عليها وتنظفها، وهي سعيدة بعملها وببقائها على أرضها وفي كنيستها، فهي رمز لبذرة الخير والروحانية التي تحافظ على البقية الباقية من الشعب الفلسطيني.

ويرمز الرجل الكبير ذو القامة القصيرة إلى (الشين بيت) جهاز المخابرات الإسرائيلي العام، فهو جهاز كبير لكنه قصير الباع.

نلاحظ من خلال محاولة توضيح ترميز الأسماء، أن هناك ارتباطاً بين اسم الشخص، ودلالته الرمزية، فالمعنى اللغوي للشخصية، يرمز إلى مقوماتها وأفعالها داخل الرواية، فتكون متناسبة ومنسجمة بحيث تحقق للنص وللشخصية احتمالية وجودها، لأن للاسم الشخصي "علامة لغوية ممتازة روائياً"([119]).

رمز الأحداث:

وصل سعيد أبو النحس المتشائل راكباً حماره إلى مقر الحاكم العسكري وأرشدوني إلى مقر الحاكم العسكري، فدخلته راكباً على جحش بن أتان([120]) -رمز لاسم شخصية يهودية "روفائيل بن آتان" رئيس الأركان الإسرائيلي أثناء هزيمة يونيو-.. لما نزلت عن الحمار رأيتني أطول قامة من الحاكم العسكري، فاطمأنت نفسي حين وجدتني أطول قامة منه بدون قوائم الحمار.. فشعرت بالاطمئنان وحمدته على أنني أطول قامة من الحاكم العسكري بدون قوائم الحمار([121]).

سعيد الذي يرمز للشعب الفلسطيني، يشعر بنفسه حتى بعد النكبة يملؤه الأمل بأن قامته طويلة مهما أصاب شعبه من تشرد فهو رمز للعزة والكبرياء العربي، والذي نلمسه في الأدب العربي عبر التاريخ الطويل، وقد كرر الكاتب العبارة الرامز نفسها ثلاث مرات، وهذا رمز لإصراره وتوكيده على ما يقول.

وأخذ الحاكم العسكري سعيد إلى حيث يريد، وفي الطريق شاهد الحاكم طفلاً مع أمه، فنزل الحاكم من الجيب كالسهم نحو أعواد السمسم، فصوب مسدسه نحو صدغ الولد، وصاح مخاطباً الأم: من أية قرية أنتِ؟ فأجابت المرأة: من البروة، فصرخ ألم أنذركم أن من يعود إليها يقتل؟ ألا تفهمون النظام؟ أتحسبونها فوضى، قومي اجري أمامي عائدة إلى مكانٍ شرقاً "أي خارج الحدود" إذا رأيتك مرة ثانية على هذا الدرب، لن أوفرك، فقامت المرأة وقبضت على يدّ ولدها واتجهت شرقاً دون أن تلتفت، وسار ولدها معها دون أن يلتفت وراءه "وهنا لاحظت -يريد سعيداً- أولى الظواهر الخارقة، فكلما ابتعدت المرأة وولدها عن مكاننا، الحاكم على الأرض وأنا في الجيب، ازدادا طولاً حتى اختلطا بظليهما في الشمس الغاربة، فصارا أطول من سهل عكا، فظل الحاكم واقفاً ينتظر اختفاءهما، وظللت أنا قاعداً أنكمش، حتى تساءل مذهولاً متى يغيبان؟"([122]).

والرمز واضح، محاولة إسرائيل تفتيت الشعب الفلسطيني في أرجاء المعمورة، فهذه الظاهرة الغريبة ترمز إلى أن شعبنا أطول من أن يذوب أو يتفتت، فلن تتحقق أماني الحاكم العسكري الصهيوني ما دام ظل شعبنا يرتبط بالشمس، والسلبية تنكمش وتتلاشى.

لقد أحاط الكاتب بناء الرواية بالقلق والتوتر، وكأنه يعكس الواقع النفسي للشخصية، فهناك إيقاع الأحداث الذي تميز بالسرعة والتلاحق، وذلك يعادل هواجس الشخصية واضطرابها، وقد عاشت في عالم الخوف وانتظار المجهول، ويتابع الكاتب إشاراته الرامزة، بحيث يبدو فعل الشخصية انعكاساً لأزمتها.

يذكر سعيد المتشائل أن والده حين استشهد كان يستشف الأرض تحته، فلم يكشف الكمين الذي أودى بحياته، ووالده -اي جد سعيد- من قبله قد شج رأسه بحجر الطاحون لأنه كان ينظر في الأرض بين قدميه، فلم يقم بعدها "أما أنا فقررت ألا أموت مقوس الظهر كأسلافي.. بل رحت أبحث عنه فيما فوق"([123]) وهذا رمز للإنسان العربي في العصر الحديث، المتمرد على الظلم والجهل.

والانحناء الدائم رمز للخواء العربي في فترة الحكم التركي الذي رسخ في الشخصية العربية الجهل والفقر والمرض، فكانوا يحلمون بالغنى والمال، ويعقب الكاتب بعد هذه الحكاية عن العرب في تلك الفترة "ولم يكونوا قد بلغوا في ذلك الوقت ما بلغناه من علم"([124])، وبالتالي يرفض سعيد المتشائل إلاّ أن يعيش مرفوع الرأس، لا ينظر إلاّ إلى فوق، إلى الأمام -كما رأينا ذلك في قصة النورية- فما حدث في فلسطين هو نتيجة لتراكم الجهل والفقر عبر قرون مضت، مما أوجد الخوف والقلق، فهو يرفض أن يبقى في العتمة منحني الظهر، فالعتمة والسقف الضاغط، والرغبة في الهرب، كلها مشاعر الشخص الغارق في الأوهام والخوف، ولا يخفى أن هذه الحكاية تعادل التوتر والقلق اللذين تعيش الشخصية المحبوسة في إسارهما.

يقول سعيد المتشائل معبراً عن هذا القلق والتوتر أصدق تعبير "إنما علينا أن نسيء الظن بكل الناس حتى ولو كانوا إخوتك من بطن أمك، ومن ظهر أبيك، فإذا لم يأكلوك، فقد كانوا يستطيعون أن يأكلوك"([125]).

يحاول سعيد أبو النحس أن يذكر لنا ماضيه الجيد ليخفي عورته في محاولة التقرب من السلطات أملاً في عودة يعاد. فيذكر لنا أنه ذهب مع زملائه إلى بيروت لشراء سلاح لرجال المقاومة في فلسطين قبل عام 1948. وفي الطريق يلتقي سعيد بفتاة اسمها "غزالة" أحبته وأحبها، أحبته لأنه مجاهد من فلسطين، ولأنه "شاب حلو"([126]).

أما هو فقد أحبها لأنها عطفت عليه، وأسقته وأطعمته، وترمز غزالة هنا للشخصية النقيض للجندي اللبناني الذي ساهم في تشريد الشعب وهو بدوره يرمز إلى جيش الإنقاذ، فهي رمز لروح الأمة العربية وشبابها المتحمس من أجل فلسطين.

ويعمل سعيد المتشائل زعيماً في اتحاد عمال فلسطين بناء على طلب الرجل الكبير ذي القامة القصيرة، وهذا الاتحاد كما يقول إميل توما "هو أحد الأجهزة التي استخدمتها المحافل الحاكمة لترويض العمال العرب، وإجهاض نضالهم، ومقاومة أفكارهم"([127])، مما جعل البعض يتهم سعيد المتشائل بأنه هو رأس الخيش، فجاءته يعاد طالبة العون من سعيد لإطلاق سراح والدها، الذي أسرته قوات الاحتلال، وأقامت عنده ليلة في منزله القديم في حيفا، ولم يقترب منها، فجاء العسكر للبحث عن العرب المتسللين، ويعاد منهم. قالت:... أغلق الباب علي، ولا تخبرهم بوجودي هنا، بعرضك!

واشتد طرق الطارق وسمعنا. لغطاً.

فهمست: يا حياتي.

فهمست: ليس الآن، ليس الآن.

- أنت لي.

- فيما بعد.

- بل الآن، الآن.

- تفتيش..([128]).

إن تصوير الكاتب لحظة من لحظات محاولة سعيد الاقتراب من يعاد وفشله في ذلك، يحمل بعداً رمزياً واضح المعالم، يبحث سعيد من خلاله عن وجود شعبه المفقود، ومحاولة التواصل في ظل مجتمع غرق في التشتت والضياع بعد النكبة، فعجز سعيد عن خلق ميلاد جديد ينبثق من رحم محبوبته الأولى، فقد منعه العسكر من ذلك، فليس هناك تواصل بين طرفي الشعب، ولم يكن أمام سعيد غير الزواج والتواصل مع العرب الباقين، فتزوج باقية. أما الصندوق الحديدي فيرمز إلى الوطن. وتطلب باقية من سعيد أن يعود إلى الطنطورة "خلسة أو أن تعود وحدك فتنتشل الصندوق من مخبئه، فيغنينا ما فيه عما أنت فيه، وأنا لا أريد لأولادي أو يولدوا محدودبين، لقد تعودت ألا أتنفس إلاّ بحرية"([129]). وفي ذلك رمز واضح لحرية الوطن الغارق في التيه والضياع، الوطن الذي يجمع الأجيال ليمنحهم الحرية والأمان. وكان ولاء دائم السؤال عن سر هذا الصندوق، فلم يجد من والده سعيد غير قصص ألف ليلة وليلة، وشبَّ ولاء، واستطاع مع أمه الفرار ولم يعثر لهما على أثر"([130]). في هذا المشهد من الرواية أكثر من دلالة رمزية أرادها الكاتب، يقول إميل عن ذلك "إن الأم رغم معارضتها وعدم موافقتها لابنها في كثير من الأمور والمواقف.. لا تستطيع أن تقف ضده، ولا تستطيع إلاّ أن تحميه"([131])، وفي جوابه هذا لا يغطي إميل حبيبي كل جوانب التساؤل، فيظل المتلقي في تلهف إلى المزيد، يستطيع القارئ الذكي أن يجده في روعة هذا المشهد، واندفاع الكلام فيه، اندفاعاً موسيقياً يجعلك تنسى نفسك، ونحن نعرف أن أجمل ما يتركه لنا الكاتب هو هذه الكلمات التي يخرجها في ساعات يتعطل فيها العقل عن التأثير، فتكون كلماته خارجة من القلب إلى القلب. ويمثل هذا النص الحواري تناول مشكلة عدم الثقة بالآخرين نتيجة للقلق والخوف، والبحر هنا رمز للأمان والحياة، أو الاستمرار فيها، وإن كان في أحداث أخرى يحمل دلالة مناقضة، إذ كان رمزاً للضياع كما في دياميس عكا([132]) إن ولاء لم يمت بل ظل حلماً في عقول الناس ونغماً يتهافت على أذهانهم، إنه رمز الجيل الجديد الذي يحاول التمرد بروح فردية عفوية دونما تخطيط، وهذا رمز على عدم وجود قيادة وطنية لعرب فلسطين في الداخل -في تلك المرحلة-، يتضح هذا الرمز من خلال قول ولاء لأمه (نحن نسعى في سبيل هذه الحرية،.. مثلما تسعى الطبيعة في سبيل حريتها، فالفجر لا يطلع من ليلة إلاّ بعد أن يكتمل ليله. والزنبقة لا تبرعم إلاّ بعد أن تنضج بصلتها، والطبيعة تكره الإجهاض يا ولدي.

- هل تريد لجيل واحد أن يحسم في الأمر؟

- جيلي

- لماذا؟

- لأنه جيلي

- بأي سلاح يحارب جيلك

- فأطبق صمت([133]).

هذا العنف الثوري إذن لا يجيء عفواً، إنه بحاجة إلى إعداد حتى ينضج فيؤتي ثماره الحقيقية عندما تبدأ الثورة، هذا النوع من العنف المؤدي إلى الموت تدينه الرواية، التي حددت للصدام شروطاً تلحقه بالعنف الثوري الشرعي، وحين يجيء العنف على شكل تمرد فردي غير منظم، فإن الرواية تناقشه، وندرك أن باقية تحمل وجهة نظر الكاتب في ذلك، فتنضم إليه أمه حتى تحميه بحبها من ناحية، وبالوعي الذي كانت تحاول أن تنقله إليه من ناحية أخرى، حتى يتحول من التمرد العفوي إلى المقاومة الحقيقية، كان موقف باقية من تمرد ابنها ولاء واضحاً، ومن قلة السلاح الذي يملكه، والذي لا يزيد على رشاش قديم، وقد أشارت إلى أنه تعجل الأمر، فهل تصورت باقية أن الرشاش والحب القديم الآخر، قادران على حمايته، أم أنها اختارت طريقه الذي لا تقره؟

إن الإجابة على السؤالين ستكون بالنفي عندما نعرف أنهما استطاعا الفرار، وظل سر اختفائهما من أسرار الدولة، هذا السر لا يحتاج إلى كثير من التأمل حتى يفهم بعد أن يعلم سعيد المتشائل "أن هناك بين كتاب الفدائيين كتيبة باسم الطنطورة"([134]). التي تنتسب إليها زوجته، لقد ذهبت باقية وولدها ولاء إلى صفوف المقاومة الفلسطينية المنظمة، وفي ذلك رمز لوحدة النضال المنظم الواعي.

وبعد هذا الحادث، ظل سعيد يذهب إلى الشاطئ يقعد قعدة ولاء على صخرته في لسان البحر، ويرسل خيطه ليصطاد سمكاً ويناديه بقلبه أن يرد عليه، "فإذا بطفل يهودي، وقد قعد إلى جانبي دون أن ألحظه يفاجئني بالسؤال: بأية لغة تتكلم يا عماه؟

- بالعربية

- مع من؟

- مع السمك

- والسمك يفهم اللغة العربية فقط؟

- السمك الكبير العجوز، الذي كان هنا حين كان هنا العرب)([135]).

وهذا رمز إلى أن البحر بسمكه ملك للفلسطينيين، فحتى السمك يتكلم العربية، ويشهد على عروبتها، وأن إسرائيل جديدة عهد على هذا البحر.

يرى سعيد نفسه في الكتاب الثالث جالساً فوق خازوق حين استيقظ في ليلة بلا نهاية، فلم يجد نفسه في فراشه، فأيقنت أنه جالس على راس خازوق بلا رأس([136]).

ويتخذ الكاتب من الشخصية فوق الخازوق، رمزاً إلى وضع سعيد في الحياة، فهو يجلس على خازوق ينحني به إلى الأمام والى الخلف، ولا يخفي أن هذا الوصف يعادل التوتر والقلق، وقد جسد الكاتب هزيمة يونيو على شكل خازوق بلا رأس، يثير في نفس الراوي النفور والقلق، موحياً بالوحشة وكآبة الظلمة، ومثلما أحاطت الهزيمة واقعنا بالكآبة والنظرة القاتمة، كذلك كان الرمز مجسداً لما في النفس من شعور بالإحباط واليأس بعد هزيمة يونيو، حيث يجلس سعيد على هذا الخازوق، وقد تدلى برجليه كما تدلى الليف في الخريف، وهذا رمز الرعب الرهيب الذي يعيشه الكاتب، بحيث لا يعرف ما النهاية؟ كما كان يتساءل في قصته "مرثية السلطعون". ويتميز هذا المشهد بالإبهام والغموض، وهو نتيجة أعراض القلق النفسي، كما أن غرابة الرمز في المشهد حالة مركبة من الغربة والاغتراب، غربة الإنسان نفسه، واغتراب عن الواقع، وهي بذلك غرائبية معقدة تكشف في جوهرها عن وقوع الحواس المتيقظة تحت، تأثير المشاعر الضاغطة، بحيث يتجه القاص إلى التعبير عما يعتمل في مكنونه النفسي من خلال استخدام اللاوعي في القصة، بسبب قسوة المؤثرات الواقعية وآلامها.

والخازوق له دلالته التي تتصل برؤية الكاتب، فهي تمثل تداخل الشعور واللاشعور، والانتهاء بالشخصية المحورية إلى عالم الخيال والابتعاد به عن عالم الواقع، بل يرمز أيضاً إلى نزعة التمرد إزاء الهزائم التي تكال إلى الأمة العربية، وما ينتج عنها من ضياع وفقدان للأمل. بل وفقدان للذات.

لقد أوصل الكاتب سعيداً المتشائل مع نهاية الكتاب الثاني، الذي تنتهي أحداثه مع بداية مرحلة ما بعد الخامس من حزيران 1967م، إلى وضع يجعل المتشائل أمام خيارين لا ثالث لهما، مشاركة الجماهير في نضالها اليومي من أجل التحرر، أو التقاعس والخنوع والحياة الذليلة، لكن عجز سعيد عن الفعل الإيجابي، رغم وعيه النظري بتناقضه مع العدو، وصدق مشاعره نحو الوطن، مما أدى به إلى أن يجد نفسه منذ بداية الكتاب الثالث جالساً على خازوق الهزيمة، بعد أن ظهرت شخصيات فاعلة، ومحركة للأحداث كالطنطورية وابنها ولاء، ويعاد الثانية، وأخيها سعيد الفدائي الجريح، والشاب الذي يتأبط الجريدة، لذا ظل سعيد النحس يعاني الأحداث ويراقبها فحسب، دونما قدرة على تغييرها، فظل متشبثاً بخازوقه.

ثم يتطرق الراوي إلى حدث مهم أدخله السجن أثناء حرب 1967 وذلك حين كنت أستمع، في ليلة من الليالي الست العفريتية، إلى الإذاعة العربية من محطة إسرائيل محترساً، فأتاني صوت المذيع وهو يدعو العرب المهزومين إلى رفع أعلام بيضاء فوق أسطحة منازلهم فيوفرها العسكر المارقون مروق السهام. فينامون في بيوتهم آمنين. فاختلط عليّ أمر هذا الأمر: أيهم يأمره المذيع -مهزوم هذه الحرب أم مهزوم رودس؟ قلت: أنهزم أسلم عاقبة،‍ وأقنعت نفسي بأنه إذا ظهر خطأى حملوه على حسن نيتي وبياض طويتي. فصنعت من بياض فراشي علماً أبيض علقته على عصا المكنسة، ونصبتها على سطح بيتي، في شارع الجبل في حيفا. ولاء الإفراط في الولاء للدولة.

ويا دلالة على من تدلين فما إن أشرف على الناس هذا الشرشف حتى شرفني معلمي يعقوب بزيارة عاطل، أي خلو من السلام عليكم. فلم أرد التحية وكان يصرخ! أنزله يا بغل!

فأنزلت رأس حتى لامست قدميه وأنا أقول: هل عيونك ملكاً على الضفة الغربية يا صاحب الجلالة؟

قال: نداء المذيع. موجه نحو عرب الضفة، أن يرفعوا الأعلام البيضاء استسلاماً أمام الاحتلال الإسرائيلي؛ فما شأنك أنت في ذلك في حيفا، التي هي في قلب الدولة ولا أحد يعتبرها مدينة محتلة؟

قلت: زيادة الخير خير!

قال: بل إشارة إلى أنك تعتبرها مدينة محتلة، فتدعوا إلى فصلها عن الدولة([137]).

الرمز هنا واضح أشار إليه الكاتب في الكلمات الأخيرة، يريد الكاتب أن يوحد التراب الفلسطيني، ليس فقط ما احتلته إسرائيل في حرب 67، أي الأراضي المحتلة فحسب، بل فلسطين كلها أراضٍ محتلة، فاتخذ حيفا رمزاً لأرض فلسطين التي احتلها اليهود في حرب النكبة، والمشهد بدوره يطور دلالة الرمز إلى عدم اعتراف الكاتب بالكيان الصهيوني الجديد.

ثم يخرج سعيد المتشائل من السجن، وقد بدأت عليه علامات التحول الإيجابي، ولكن هذا التحول لم يترجم على صعيد التنفيذ الفعلي، فقد جاء العسكر، ليبلغوا يعاد الثانية بضرورة خروجها من البلاد، وأن تصريحها الخاص قد ألغي. فقد تخلى عن يعاد الثانية. وتعود من حيث أتت خلف الحدود، هذا الانفصال بين سعيد المتشائل ويعاد الثانية -رغم انتظاره هذا اللقاء عشرين عاماً- يرمز إلى انفصال عرب فلسطين في الداخل عن بقية الشعب الفلسطيني في المنفى مرة أخرى. مما جعله يزداد تشبثاً بخازوقه.

لم يكن أمام المتشائل من خيار، إما أن ينزل عن خازوقه ويواجه الواقع، أو يظل جالساً عليه، نجده في النهاية وقد رفض الخيار الأول فيلجأ إلى الفضائيين "صحت: سيدي شيخ الفضائيين ليس لي غيرك! قال: أعرف ذلك.

قلت: جئت في وقتك.

قال: لا أجيئكم إلاّ في وقتي.

قلت: أنقذني ياذا المهابة.

قال: أردت أن أقول: هذا شأنكم. حين لا تطيقون احتمال واقعكم التعس، ولا تطيقون دفع الثمن اللازم لتغييره تلتجئون إليّ. إلاّ أنني أرى أن هذا الأمر أصبح شأنك وحدك قل: إن شاء الله، واركب على ظهري ولنمض"([138]).

إن لجوء سعيد إلى رجل الفضاء أثار أكثر من دلالة، أو أكثر من تفسير لهذا الرمز. ولذا يقول إميل توما "وفي هذا الإطار يمثل اللجوء إلى الفضائيين الاستسلام والهزيمة، وفي أحسن الحالات الاتكالية، والتمسك بالأحلام الغيبية"([139]). ويرى هاشم ياغي: أن الكاتب يفعل ذلك "ليكرر الصورة التي يراها لإنقاذ الشعب الفلسطيني الأسير ماثله في الفضائيين أو الفدائيين"([140]) فالفضائيون هم الفدائيون عند الحبيبي كما يرى هاشم ياغي. ويرى شكري عزيز ماضي "أن اختفاءه رمز لاختفاء الحالة التي يمثلها من سلبية وعدمية وتشاؤم"([141]). ويقول فاروق وادي "إن خذلان سعيد بالمخلص الذي تمثله على الأرض، يدفع به إلى البحث عن مخلص آخر، فتذهب عيونه إلى الأفق باحثة في السماء عن كنز الخلاص، وهو في بحثه هذا يخرج عن تقاليد عائلته التي بحثت عن كنز خلاصها بين أقدامها.. ينتظر سعيد من القوى الإعجازية أن تبدل حياته، لأن في طبيعة تكوينه عاجز عن إيجاد الحل الموضوعي لذلك، ومع الإحساس بكثافة وطأة بؤس الواقع عليه يرى -وهماً- بالكائن الغيبي، حيث يعبر له عن رغبته في الخلاص.. قال: فماذا تريد مني يا سعيد؟ فهتفت: أن تخلصني"([142]).

ونرى أن رجل الفضاء يمثل التراث الروحاني للشعب العربي، السلاح وحده لا يكفي للمقاومة، ما لم يكن لدينا من القوة الروحانية الدافعة لهذا العمل، فسعيد المتشائل، لم تكن لديه قوة روحانية دافعة، رغم إدراكه الجيد لواقعه التعس وكذلك لم يكن ولاء يملك شيئاً من هذا الدافع، فأراد الكاتب أن يوازن بين الدافع المادي، والدافع المعنوي الروحاني الذي يتميز به الشرق عادة، يصف الراوي وجه رجل الفضاء قائلاً: "فلم أر في وجهه سوى تجاعيد أشبه بصفحة البحر حين تلفحه نسمة شرقية.. فخفق له قلبي شوقاً"([143]). وتراثنا الديني يمتلئ بمثل هذه المعتقدات "سمني المهدي، الذي استراح أجدادك عليه، أو الإمام، أو المنقذ"([144]).

إن فكرة المنقذ والمخلص ظلت حية عبر التاريخ تعيش في ضمير الجماعات إلى يومنا هذا، وما فكرة المسيح المنتظر أو المهدي المنتظر إلاّ دليل حي على أن هذا المنقذ هو الذي سيقوم بتصحيح الخطأ، ونصرة المظلومين، وهو دافع روحاني مكمل للخلاص بالفعل.

فالتجاء سعيد للفضاء الخارجي، رمزاً للعجز المادي الأرضي عن التواصل النضالي، فالقضية شائكة ومعقدة بعد هزيمة يونيو، الآمال انهارت، والأحلام بالعودة والتحرير تسربت، فلم يكن أمام كاتبنا إلاّ اللجوء إلى الروحانية كعنصر مكمل للمادية في طريق النضال.

ويؤكد رأينا هذا قول يعاد في نهاية الرواية (حين تمضي هذه الغيمة تشرق الشمس)([145]). وهذه الغيمة المادية البحتة تمنع بزوغ شمس الشرق الروحانية وربما هذا الانطلاق إلى العالم الخارجي، يتيح للراوي الخروج على المألوف عادة، ويحرره من قيوده ومحدوديته الإنسانية، فيرى من الظواهر الغريبة، ما لا يراه غيره، وليبرهن أن عصر العجائب لم يول بعد، وأن ما يحدث لشعبه، هو عجيبة من هذه العجائب.

إن رواية المتشائل درس في النضال، صاغه الكاتب في شكل جديد فرضته رؤيته الخاصة، فهو يحاول تأريخ وجدان شعبه عبر مراحل القضية وتشابكاتها، ويضع يده على مادة وافرة من الرموز التي تمثل حياة الجماهير العربية في فلسطين المثقلة بالجراح والتقلبات المستمرة التي تمتد عبر أكثر من نصف قرن([146]).

وربما يكون من الإجحاف سلخ هذه الجزئيات عن موقعها في الرواية وتقديمها كأمثلة رامزة، إذ أن مثل هذا الاجتزاء يفقد الرواية الكثير من الثراء والإيحاء الدلالي مما تكتسبه من خلال موقعها في السياق الروائي، ومن خلال ترابطها والتحاقها لتقديم الصورة الكلية للواقع الذي يبسطه الفنان، حيث يبقى لهذا الكل من السمات الرامزة ما هو أقوى وأكثر تعبيراً وإيحاءً، وقد ترمز رواية المتشائل في النهاية إلى تحويل فلسطين إلى ما يشبه السجن الكبير، فكانت معاناة الفرد طاحنة في ظل ظروف تنال من قوته النفسية، فمن خلال استخدام الرمز البعيد عن التعقيد والغموض، نفهم أن محاولة الإنسان ممارسة الحرية في ظل ظروف قمعية تعد ظاهرة غير طبيعية، بل قد تكون علامة الجنون.

المراجع
----------------------------------------------------
[1] - اعتمدنا في هذه الدراسة على منشورات، م.ت.ف، دائرة الإعلام والثقافة بيروت، سنة 1980.
[2] - أحمد أبو مطر، الرواية في الأدب الفلسطيني، ص270.
[3] - فاطمة الزهراء، العناصر الرمزية في القصة القصيرة ص130.
[4] - محسن جاسم الموسوي، الرواية العربية النشأة والتحول، الهيئة العامة للكتاب بمصر 1988، ص213.
[5] - إطار جمعها أُطر.
[6] - سميح القاسم، مجلة الجديدة، مع المتشائل، ع4+ع5، س21، 1974، ص18.
[7] - المرجع السابق، ص81.
[8] - شكري عزيز ماضي، مرجع سابق، ص188.
[9] - إبراهيم خليل، مرجع سابق، ص83.
[10] - جريرة الاتحاد، حيفا، ع35، س31، 1974، ص4.
[11] - مجلة الجديد، حيفا، ع9+10، س2، 1974، ص17.
[12] - مجلة فلسطين الثورة، 29 كانون أول، 1974، نقلاً عن نبيه القاسم، دراسات في القصة المحلية، ص40.
[13] - نقلاً عن نبيه القاسم، المرجع السابق، ص52.
[14] - نبيه القاسم، نفسه، ص113.
[15] - نقلاً عن المرجع السابق، ص14.
[16] - الرواية ص118.
[17] - الرواية ص63.
[18] - الرواية ص62.
[19] - الرواية ص65.
[20] - الرواية ص65.
[21] - إبراهيم خليل، مرجع سابق، ص84.
[22] - الرواية ص144.
[23] - الرواية ص60.
[24] - الرواية ص60.
[25] - الرواية ص67.
[26] - الرواية ص66.
[27] - الرواية ص67.
[28] - الرواية ص64.
[29] - الرواية ص67.
[30] - الرواية ص130.
[31] - الرواية ص131.
[32] - الرواية ص130.
[33] - الرواية ص86.
[34] - الرواية ص64.
[35] - الرواية ص83-84، وكذلك، نبيه القاسم، دراسات في القصة المحلية
[36] - عن حديثه مع رضوى عاشور، مجلة فلسطين الثورة ع104، 2/10/1978.
[37] - المقابلة التي أجراها "روبيك روزنتال" مع إميل حبيبي مصدر سابق.
[38] - الرواية ص62.
[39] - الرواية ص59.
[40] - من هؤلاء نبيه القاسم، دراسات في القصة المحلية، ص15 -بسام خليل فرنجية، المعرفة السورية، الالتصاق بالأرض والدعوة إليها، ع306، س26، كانون ثاني، 1988، ص25.
- سيد حامد النساج بانوراما الرواية العربية ص236.
- شكري عزيز ماضي، مرجع سابق، ص188.
[41] - الرواية ص59.
[42] - الرواية ص83.
[43] - الرواية ص101.
[44] - "روبيك روزنتال" مصدر سابق.
[45] - "روبيك روزنتال" مصدر سابق.
[46] - الرواية، ص172.
[47] - فاروق وادي، مرجع سابق، ص119.
[48] - الرواية ص192.
[49] - الرواية ص174.
[50] - "فرانس برس"، جريدة الدستور الأردنية مصدر سابق.
[51] - نادر قاسم، مرجع سابق، ص230.
[52] - أرنولد، نظرية الرواية، ص173، نقلاً عن عبد الفتاح عثمان، بناء الرواية، مكتبة الشباب، القاهرة، 1982، ص107.
[53] - الرواية ص107.
[54] - الرواية ص106.
[55] - الرواية ص71.
[56] - الرواية ص70.
[57] - فاروق وادي، مرجع سابق، ص116.
[58] - الرواية، ص176.
[59] - الرواية، ص177.
[60] - الرواية، ص192- 193.
[61] - الرواية، ص128- 129.
[62] - الرواية، ص181.
[63] - عيسى كاظم مراد، أسماء الناس ومعانيها وأسباب التسمية، دار الحرية، للطباعة والنشر، بغداد،1984، ص433 نقلاً عن نادر قاسم، مرجع سابق، ص121.
[64] - عز الدين إسماعيل ، الأدب وفنونه دار الفكر العربي، ط6، 1976، ص174.
[65] - "برافسنخج تشاورا" حاضر الرواية، ضمن كتاب، نظرات في مستقبل الرواية، ت حسين جمعة، منشورات رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، ط1، 1981، ص95.
[66] - روبرت همفري، تيار الوعي في الرواية الحديثة، ت محمود الربيعي، دار المعرف، القاهرة، ط2، 1974، ص71.

[67] - روبرت همفري، المرجع السابق، ص52.

[68] - كانت فكرة الزمن قبل نشوء مدرسة تيار الوعي، تحتم على البطل استعادة الماضي بهدوء وانتظام وتسلسل، وهو الأمر الذي ما عاد يحدث في الرواية الحديثة.

[69] - أوستن وارين، ورينيه ويليك، نظرية الأدب، ت محي الدين صبحي، المجلس الأعلى للأدب، دمشق، د ت، ص276.

[70] - إبراهيم خليل، مرجع سابق، ص83.

[71] - مراد مبروك، الظواهر الفنية في القصة المصرية، ص116.

[72] - الرواية، ص73.

[73] - "روبيك روزنيال"، مصدر سابق.

[74] - الرواية، ص115.

[75] - سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، بيروت 1989، ص153.
[76] - الرواية، ص115.
[77] - الرواية، ص117.
[78] - الرواية، ص85.
[79] - الرواية، ص124.
[80] - شكري عزيز ماضي، مرجع سابق، ص189.
[81] - أحمد الهواري، نقد الرواية في الأدب العربي الحديث في مصر، دار المعارف ط2، 1983، ص292.
[82] - الرواية، ص148.
[83] - الرواية، ص165- 166.
[84] - سهير القلماوي، مختصر محاضرات حول نظرية الرواية، طباعة ستانسل، أصدرته المؤلفة لطلابها في معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، 1973، ص25.
[85] - الرواية ص196.
[86] - سعيد يقطين، مرجع سابق، ص154.
[87] الرواية ص186.
[88] - الرواية ص62.
[89] - الرواية ص164.
[90] - سعيد يقطين، مرجع سابق، ص155.
[91] - إشارة إلى اجتماع وزير المعارف الإسرائيلي "يجال آلون" بأرامل قتلى عملية ميونخ سنة 1972، والتي نفذها الفدائيون الفلسطينيون.
[92] - الرواية ص119.
[93] - سهير القلماوي، مختصر نظرية الرواية ص2.
[94] - الرواية ص76.
[95] - الرواية ص96.
[96] - في مقابلة مع نادر قاسم، مرجع سابق، ص221.
[97] - الرواية ص117.
[98] - المهرجان الوطني الأول الأدب الفلسطيني 1981، منشورات الملتقى الفكري العربي بالقدس ص55.
[99] - المرجع السابق، ص57.
[100] - هاشم ياغي، الرواية وإميل حبيبي ص65.
[101] - كتبت كنديد بعد كارثة الزلزال المروع الذي وقع في أجزاء من أسبانيا والبرتغال عام 1755م، وراح ضحيته أكثر من 30 ألف شخص، ونتج عنه تدمير مدينة لشبونة، وتشريد الآلاف من السكان، وكانت كارثة الزلزال إضافة أخرى على مجموع كوارث الحروب التي كانت تشتعل من وقت لآخر بين دول أوروبا الاستعمارية في ذلك الوقت، وقد سبب حدوث الزلزال جدلاً كبيراً بين رجال الدين المسيحي، لمعرفة اسبابه اللاهوتية. أحمد حرب، الرواية الفلسطينية في ظل الحرب، الملتقى الفكري الفلسطيني الأول، ص53.
[102] - يعرف إميل حبيبي (الدورادو) في هامش الرواية بقوله: "هي البلد الخيالي الوحيد الذي ساده العدل، حيث كان البلد مزروعاً عن بهجة، كما كان مزروعاً عن حاجة، وكان النافع في كل مكان مقترناً بالممتع" ص118.
[103] - هاشم ياغي، الرواية وإميل حبيبي، ص65.
[104] - الرواية ص120.
[105] - محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، دار العودة، بيروت، ط5، ص149 وما بعدها.
[106] - محسن جاسم الموسوي، الوقوع في دائرة السحر، ألف ليلة وليلة، في النقد الانجليزي، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1982، ص121.
[107] - المرجع السابق ص121.
[108] - سالم الحمداني، مذاهب الأدب الغربي، ومظاهرها في الأدب العربي الحديث، وزارة التعليم العالي، جامعة الموصل، العراق، 1989م، ص203.
[109] - نبيه القاسم، دراسات في القصة المحلية، ص38.
[110] - الرواية، ص155.
[111] - هاشم ياغي، الرواية إميل حبيبي، ص65.
[112] - نقلاً عن نبيه القاسم، دراسات في القصة المحلية، ص16.
[113] - نقلاً عن نبيه القاسم، المرجع السابق، ص18.
[114] - الرواية ص59.
[115] - الرواية ص62.
[116] - الرواية ص122.
[117] - الرواية ص122.
[118] - الرواية ص79.
[119] - حسن البحراوي، بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1990، ص247.
[120] - الأتان: أنثى الحمار.
[121] - الرواية، ص65.
[122] - الرواية، ص68.
[123] - الرواية، ص81.
[124] - الرواية، ص81.
[125] - الرواية، ص88.
[126] - الرواية، ص83.
[127] - إميل توما، مرجع سابق، ص55.
[128] - الرواية، ص108.
[129] - الرواية، ص113.
[130] - الرواية، ص154.
[131] - الرواية، ص115.
[132] - نبيه قاسم، دراسات في القصة المحلية، ص28.
[133] - الرواية، ص153.
[134] - الرواية، ص155.
[135] - الرواية، ص155.
[136] - الرواية، ص159.
[137] - الرواية، ص161.
[138] - الرواية، ص196.
[139] - نقلاً عن نبيه القاسم دراسات في القصة المحلية، ص28.
[140] - شكري عزيز ماضي، مرجع سابق، ص194.
[141] - شكري عزيز ماضي، مرجع سابق، ص194.
[142] - فاروق وادي، مرجع سابق، ص110.
[143] - الرواية، ص195.
[144] - الرواية، ص89.
[145] - الرواية، ص196.
[146] - شكري عزيز ماضي، مرجع سابق، ص194.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...