يشكل هذا الكتاب "هواجس الرواية الأردنية الجديدة" للناقد د. سليمان الأزرعي، بانوراما نقدية للمشهد الروائي الأردني خلال ما يزيد على نصف قرن، حيث تناول 65 عملا روائيا لما يزيد عن 50 روائيا، وذلك من خلال عشرة محاور؛ عشرة هواجس، ووفقا للمؤلف لم يقفل الباب في وجه القليل من الإبداعات الروائية العربية، وبخاصة، تلك التي كتبها أدباء عراقيون وعرب عاشوا وعايشوا التجربة الأردنية، والمكابـدة الواعيـة الأردنيـة، و- بالطبع - العربية.. فالهمُّ الأردني لا ينفصل عن الهمّ العربي في كافة تجلياته. وتظلّ كل هذه المحاور والهواجس صالحةً ليكون أيّ منها أطروحة مستقلة تشكل مادة هذه الهواجس؛ ميدانها ومحورها الأساسي.
المحاور العشرة، أو الهواجس العشرة التي أدرجت تحتها الأعمال الروائية الـ 65 كانت كالتالي: جذور التيار الوجودي في الرواية ـ صرخات الدفاع عن الأنثى ـ هاجس القمع السياسي والدفاع عن الحرية ـ وجوهٌ أخرى للقمع (جَلْد الذات) ـ الحضور الضاغط للماضي في مواجهة الراهن ـ الاغتراب في الرواية الأردنية (أعمال غالب هلسا نموذجاً..) ـ إشكالية التجنيس الأدبي ـ أحلام وطنية وتطلعات بشرية ـ هاجس توثيق الموروث الشعبي ـ كوابيس عالم المال والأعمال ـ أعمال جمال ناجي نموذجاً، وأعمال أخرى.
في الهاجس الأول رأى د. الأزرعي إنه باستثناء بعض أعمال فايز محمود وأحمد الزعبي الروائية، فإنه بالمقدور التشكك في انتماء أيّ من الأعمال الروائية الأردنية الوجودية التي ظهرت بعد الهزيمة (1967) - باعتبارها محطة تحوُّل - وحتى تلك التي ظهرت قبلها من الأعمال.
وقال: "إنّ معطيات التربية الاجتماعية التي تقرِّر الحرام والحلال، والحق والباطل، لا تقف كقوة إرهابية قمعية وراء سلوك الأبطال والشخوص في الرواية الأردنية وحسب، ولكنها تقف وراء سلوك الروائيين أيضاً.. تقف كقوة رادعة تحول دون تعبيرهم الحرّ عن توقهم البشـري وحقهم الإبداعي في التعبير عن أفكارهم تجاه وجودهم القومي والاجتماعي المأزوم. ولهذا لا تأخذ الشخصية الوجودية - في الرواية الأردنية - دور البطل الأول. وغالباً ما يأخذ النموذج الوجودي الدّور الثاني في الرواية الأردنية - وتلك ملاحظة ملفتة تعبِّر عن وقوع الروائي أيضاً في نطاق دائرة الإرهاب الاجتماعي المفروض المقبول - ذلك أنّ النموذج الوجودي، غالباً ما يشكِّل طموح البطل القومي اليساري غير القادر على الإعلان عن تنازله عن قضاياه القومية والوطنية والاجتماعية لصالح ملاقاة وجوده الناقص، في مجتمع يعتبر مثل ذلك الموقف عاراً على السياسي والمفكر والمواطن والمبدع، بسبب حالة الاستنفار القومية المعلنة في مناخات الصـراع العربي الإسرائيلي، والعربي الغربي، وتزايد سطوة النقد الواقعي الاشتراكي الكلاسيكي، الذي وجد في المناخات المذكورة مَعِيناً له في الهيمنة على المبدع، ومحاصرته وجرّه عنوة باتجاه مسؤولياته القومية والاجتماعية.
وأضاف "لهذا، لم تأخذ الوجودية في الرواية الأردنية مداها الممكن، وجاءت في غالبيتها على شكل اتجاهات غائمة! وقد عبَّرت تلك الحالة عن نفسها من خلال تراجع البطل الوجودي عموماً إلى الصف الثاني وحتى الصفوف الخلفية أيضاً، وملازمته للبطل القومي أو الاجتماعي المأزوم بالضـرورة، ليشكِّل – باستمرار - الطموح المخبوء للبطل الرئيس في الرواية.
ويمكننا التأكيد بأنه فيما عدا أعمال فايز محمود وأحمد الزعبي، فإنّ النموذج الوجودي لم يأخذ دور البطولة في أيّ من الأعمال الروائية الأردنية. بل كان يتراجع إلى الصف الثاني- غالباً - ليكون ظلّ البطل القومي أو الوطني أو اليساري، ومحطة راحته، والنموذج الذي ينزع البطل ليكونه، هرباً من مواجهة المهمات المرهقة. غير أنّ المعطيات الاجتماعية تصدّه وتعيده إلى مواطن الاشتعال، ليحترق بهمومه الجمعية ومسؤولياته".
وفي محور هاجس الاغتراب في أعمال غالب هلسا قال د. الأزرعي "أنّ الروائي يواصل في أعماله لعن المدن دونما توقُّف، لأنّ أياً من تلك المدن لم تكن يوماً من الأيام وطناً له. مرة أخرى نقصد بالوطن بيت باشلار الذي ترجمه هلسا في "جماليات المكان". وموقف هلسا العدائي/ الودّي من عمّان المدينة في روايته "سلطانة" مؤشر على ذلك. حتى أنّ بطله في "الضحك" يستعين على الشعور بالاغتراب - في مدينة القاهرة - بمادة الوطن. فيستذكر غناء فتيات القرى الأردنية في الأعراس.. حيث ترقص مريم وتغني لها نساء القرية: "قومي ارقصي يا مريم في إبريق الزيت. ربي يخلّي لك خيّك قنديل البيت". وكذلك يستذكر أغاني الحصادين بنصوصها المحفوظة، وجلسات القهوة المُرّة ودخان الغليون. حتى إنّ بطله الذي يعيش خارج الأردن يحلم "بالأردني"! فأحلامه أردنية تماماً! تحدث في القرى الأردنية وشخوص أحلامه نماذج اجتماعية من نماذج القرية الأردنية، رغم أنّ بطله منقطع منذ عقود عن وطنه. وليس له أيّ اتصال مع قريته.
وأشار إلى إنّ الأردن "الوطن"، يشكِّل البديل الموضوعي لشعور المبدع هلسا بالاغتراب. وهو أحد أشكال دفاعاته - غير المُعلنة - في مواجهة حالة الشعور الدائم بالاغتراب! وفي "الخماسين" يتذكر هلسا عمّان أيضاً. وترتبط الذكرى بساحة سجن عمان المركزي! إذ لكل صورة خارج الوطن في أعمال هلسا مطابقتها في الوطن! وفي "ثلاثة وجوه لبغداد" يحاول "زيد القرالة" أن يُثبت حضور الوطن الأردني في أعمال هلسا حيثما تنقّل في حلِّه وترحاله: "كانت صورة القاهرة التي يحتفظ بها في ذهنه تلك اللحظة، هي منظرها ساعة العصـر. كما بدت من الطائرة، صفراء، مصفرة. مدينة من حجر. وبالنسبة له كانت قرية أردنية تُستعاد في الذاكرة.. كانت لحظة شوق استقرّ في قلبه كالخنجر".
وفي الرواية المذكورة، يندفع الأردن كوطن روائي بمفرداته التي تصطف مفردة تلو الأخرى، في عملية دفاع لا شعورية يستنهض البطل فيها كل أدواتها لإسناده وتدعيم حالته في مواجهة مشاعر الاغتراب التي يحسّ بها".
وأكد الأزرعي أنّ بطل غالب هلسا أردني - اجتماعياً ولا نقصد المدلول القُطري السطحي - دون أن يصرِّح هو بذلك في غالب الأحيان. لكن القارئ يشمُّ رائحة (أردنية) البطل سواء كان في بغداد أو بيروت أو دمشق أو القاهرة! من خلال أحلامه وكوابيسه وطموحاته وآماله. ومن خلال تفاعلاته مع المحيط.
إنّ الوطن الروائي، وطن "باشلار" الذي ترجمه هلسا، هو الذي يقوده لتوكيد الأردنية الاجتماعية لبطله كنموذج درامي مخلص للوطن الدرامي أكثر من إخلاصه للوطن التعبوي. ونُصِرّ هنا على ما قصدناه "بأردنية هلسا" إنما نعني به البُعد الاجتماعي للتكوين الأردني، وليس البُعد القُطْري. لأنّ عباءة غالب هلسا تتسع لاحتضان العالم بالاستناد إلى أمميته، لا تتسع له الأقطار والأوطان السياسية المقزّمة. تلك التفاعلات المعقدة، هي التي تترجم صورة اغتراب هلسا وأبطاله وفشلهم في تحقيق التواصل السويّ الصحي المتوازن مع المحيط في العواصم العربية.
ويبدو "خالد" بطل هلسا في "البكاء على الأطلال"، نموذجاً تقريبياً لأبطاله. فهو طالب أردني دخل مصر في الخمسينيات ولم يبارحها. لقد كانت مصر القيادة التحررية العربية آنذاك. كانت مصر التنوير والتثوير! ولهذا حاول خالد أن يندمج ويتأقلم مع البيئة الجديدة، متسلحاً بوعيه العام وثقافته وحسّه بالمسؤولية الوطنية والقومية تجاه وطنه وأمته والبيئة التي يعيش فيها! غير أنّ الهموم الذاتية الخاصة، للبطل الروائي الأردني والمغترب الحسّاس، تتداخل بهموم الأمة. كما يتداخل الحاضر بالماضي، وتختلط الأشياء مع اشتداد أزمة البطل وتكرار إحباطاته على المستويين الفردي والقومي.
وفي تناوله لهاجس توثيق الموروث الشعبي وصورة القرية الأردنية رأى الأزرعي أن الرواية الأردنيّة حفلت قبل حزيران الهزيمة 1967 بالعديد من مواد الموروث الشعبي، والمزيد من الحكايا والخرافات على سبيل تسجيل طبيعة الحياة، والفكر والثقافة السائدين. ولأنّ الرّواية الأردنية قبل يونيو/حزيران 1967 غلب عليها الطابع التسجيلي، فإن تلك المادة، لم تكن لتُوظّفَ إلا لغرض التَّسجيل -حصراً - في غالبية الأحيان.
وقال "استمرّ التعامل مع الموروث الشعبي على هذه الشاكلة لدى بعض الكتّاب بعد يونيو/حزيران أيضاً. فكانت أعمالُهم (مستودعاً) يسجِّل فكر المجتمع الأردني وثقافته وقناعاته في أطوار تكوينه المبكرة، كما هي الحال في أعمال جوليا صوالحة "سلوى" و"النشمي" و"الحق الضّائع" و"نار ورماد" و"هل ترجعين".
ولكنّ الأمر مع رواية ما بعد يونيو/حزيران، التي شهدت تحوُّلات نوعيّة على صعيديّ البناء والمضمون أخذ طابعاً مختلفاً، فلم تعد عناية الروائي الأردني بالموروث الشعبيّ مقصودة لغرض التسجيل وحسب، بل أصبحت جزءاً من النسيج الروائي العام، وظَّفها الروائي في الغالب لتحقيق لغة روائية أشد تأثيراً وأبلغ تعبيراً. وكثيراً ما أشاد الرّوائي الأردنيّ بناءه الفني على أساس التوازي بين وقائع أسطورة أو حكاية شعبيّة موروثة، وبين وقائع روايةٍ أبطالُها يعيشون الواقع الأردني، ويعانون من سطوة القيم السائدة، في محاولة منه لتحقيق الخطاب الأبلغ، بغرض هجاء التخلف الاجتماعي، من خلال الثنائيات المتطابقة أو الضديّة في كل من الأسطورة والواقع. كما هي الحال في "بيت الأسرار" عند هاشم غرايبة و"حنتش بنتش" عند محمود عيسى موسى، و"ماري روز تعبر مدينة الشمس" عند قاسم توفيق، و"الحمراوي" عند رمضان الرواشدة، وغيرهم.
وفي تحليله لرواية "بيت الأسرار" لـ "هاشم غرايبة" رأى د. الأزرعي أن غرايبة يبدو في مطوّلة "فتنة"، كما لو كان يستعدّ لدخول المغامرة مجدَّداً بصدد الخوض في مجال استثمار مادة الموروث الشّعبي للمرّة الثانية في روايته "بيت الأسرار". إذ يواصل هجائيته الاجتماعيّة/ الطبقيّة ضد التّخلُّف ورموزه الاجتماعية الممثَّلة بالتاجر عيسى "البيك"، الذي حبس نساء بيته في قلعة بعيدة عن القرية، وراح يمارس عليهنَّ العزلة بسبب أنانيته واستحواذه القاتل، إلى أن أصبح بيته لغزاً، ونُسـي الاسم الحقيقي لابنته، وأصبح الاسم المعروف لها في أوساط القرية "ست الحسن"! وهو اسم خرافي لفتاة خرافية، غالباً ما تَرد على أنّها ابنة الغول الجميلة المحكوم عليها بالحبس المؤبَّد من قبل أبيها لأنها قاومت تعليماته وخرجت إلى النور. ولقد رأينا رموز الشرائح الاجتماعية تتحرك معبِّرة عن شرائحها وموقفها وأخلاقها ومسلكيات فئاتها المنتمية إليها أصدق تعبير.
وليس ثمة في الرّواية ما هو أبلغ من شخصيّة (عيسى) في التّعبير عن طبقة التجار الرجعيين، بقناعتهم وأفكارهم وإرهابهم وامتلاكهم القهري لأقرب الناس إليهم. إنّ عيسى البيك هو الطرف الثاني في ثنائية الغول الإنساني والغول الأسطوري؟! وأيضا رأينا (البيك) يتحوّل إلى (غول) يريد أن يلتهم كل شيء وأن يُخضِع لحكمه كلَّ شيء. كما رأينا (ست الحسن) ضحيّة ضعيفة، وضريبة مؤسّية لتخلف البيئة الاجتماعية، التي انصبّ عليها أذى المؤسسة الاجتماعية المباشر، الموجّه إليها من قِبَل الأب، رأس السلطة في أصغر الدوائر الاجتماعية، (الأسرة). كما رأينا جميع العلاقات التي تربط ما بين الأفراد والجماعات، تأخذ طابعاً طبقياً ومصلحياً يكشف القاص عنه في مستويين: الأول مستوى تعليميّ قادم من جهة الموقف الفكري للكاتب، والثاني إبداعي يأتي من جهة التّوظيف الفنّي للموروث الشّعبي في العمل الأدبي.
محمد الحمامصي
المحاور العشرة، أو الهواجس العشرة التي أدرجت تحتها الأعمال الروائية الـ 65 كانت كالتالي: جذور التيار الوجودي في الرواية ـ صرخات الدفاع عن الأنثى ـ هاجس القمع السياسي والدفاع عن الحرية ـ وجوهٌ أخرى للقمع (جَلْد الذات) ـ الحضور الضاغط للماضي في مواجهة الراهن ـ الاغتراب في الرواية الأردنية (أعمال غالب هلسا نموذجاً..) ـ إشكالية التجنيس الأدبي ـ أحلام وطنية وتطلعات بشرية ـ هاجس توثيق الموروث الشعبي ـ كوابيس عالم المال والأعمال ـ أعمال جمال ناجي نموذجاً، وأعمال أخرى.
في الهاجس الأول رأى د. الأزرعي إنه باستثناء بعض أعمال فايز محمود وأحمد الزعبي الروائية، فإنه بالمقدور التشكك في انتماء أيّ من الأعمال الروائية الأردنية الوجودية التي ظهرت بعد الهزيمة (1967) - باعتبارها محطة تحوُّل - وحتى تلك التي ظهرت قبلها من الأعمال.
وقال: "إنّ معطيات التربية الاجتماعية التي تقرِّر الحرام والحلال، والحق والباطل، لا تقف كقوة إرهابية قمعية وراء سلوك الأبطال والشخوص في الرواية الأردنية وحسب، ولكنها تقف وراء سلوك الروائيين أيضاً.. تقف كقوة رادعة تحول دون تعبيرهم الحرّ عن توقهم البشـري وحقهم الإبداعي في التعبير عن أفكارهم تجاه وجودهم القومي والاجتماعي المأزوم. ولهذا لا تأخذ الشخصية الوجودية - في الرواية الأردنية - دور البطل الأول. وغالباً ما يأخذ النموذج الوجودي الدّور الثاني في الرواية الأردنية - وتلك ملاحظة ملفتة تعبِّر عن وقوع الروائي أيضاً في نطاق دائرة الإرهاب الاجتماعي المفروض المقبول - ذلك أنّ النموذج الوجودي، غالباً ما يشكِّل طموح البطل القومي اليساري غير القادر على الإعلان عن تنازله عن قضاياه القومية والوطنية والاجتماعية لصالح ملاقاة وجوده الناقص، في مجتمع يعتبر مثل ذلك الموقف عاراً على السياسي والمفكر والمواطن والمبدع، بسبب حالة الاستنفار القومية المعلنة في مناخات الصـراع العربي الإسرائيلي، والعربي الغربي، وتزايد سطوة النقد الواقعي الاشتراكي الكلاسيكي، الذي وجد في المناخات المذكورة مَعِيناً له في الهيمنة على المبدع، ومحاصرته وجرّه عنوة باتجاه مسؤولياته القومية والاجتماعية.
وأضاف "لهذا، لم تأخذ الوجودية في الرواية الأردنية مداها الممكن، وجاءت في غالبيتها على شكل اتجاهات غائمة! وقد عبَّرت تلك الحالة عن نفسها من خلال تراجع البطل الوجودي عموماً إلى الصف الثاني وحتى الصفوف الخلفية أيضاً، وملازمته للبطل القومي أو الاجتماعي المأزوم بالضـرورة، ليشكِّل – باستمرار - الطموح المخبوء للبطل الرئيس في الرواية.
ويمكننا التأكيد بأنه فيما عدا أعمال فايز محمود وأحمد الزعبي، فإنّ النموذج الوجودي لم يأخذ دور البطولة في أيّ من الأعمال الروائية الأردنية. بل كان يتراجع إلى الصف الثاني- غالباً - ليكون ظلّ البطل القومي أو الوطني أو اليساري، ومحطة راحته، والنموذج الذي ينزع البطل ليكونه، هرباً من مواجهة المهمات المرهقة. غير أنّ المعطيات الاجتماعية تصدّه وتعيده إلى مواطن الاشتعال، ليحترق بهمومه الجمعية ومسؤولياته".
وفي محور هاجس الاغتراب في أعمال غالب هلسا قال د. الأزرعي "أنّ الروائي يواصل في أعماله لعن المدن دونما توقُّف، لأنّ أياً من تلك المدن لم تكن يوماً من الأيام وطناً له. مرة أخرى نقصد بالوطن بيت باشلار الذي ترجمه هلسا في "جماليات المكان". وموقف هلسا العدائي/ الودّي من عمّان المدينة في روايته "سلطانة" مؤشر على ذلك. حتى أنّ بطله في "الضحك" يستعين على الشعور بالاغتراب - في مدينة القاهرة - بمادة الوطن. فيستذكر غناء فتيات القرى الأردنية في الأعراس.. حيث ترقص مريم وتغني لها نساء القرية: "قومي ارقصي يا مريم في إبريق الزيت. ربي يخلّي لك خيّك قنديل البيت". وكذلك يستذكر أغاني الحصادين بنصوصها المحفوظة، وجلسات القهوة المُرّة ودخان الغليون. حتى إنّ بطله الذي يعيش خارج الأردن يحلم "بالأردني"! فأحلامه أردنية تماماً! تحدث في القرى الأردنية وشخوص أحلامه نماذج اجتماعية من نماذج القرية الأردنية، رغم أنّ بطله منقطع منذ عقود عن وطنه. وليس له أيّ اتصال مع قريته.
وأشار إلى إنّ الأردن "الوطن"، يشكِّل البديل الموضوعي لشعور المبدع هلسا بالاغتراب. وهو أحد أشكال دفاعاته - غير المُعلنة - في مواجهة حالة الشعور الدائم بالاغتراب! وفي "الخماسين" يتذكر هلسا عمّان أيضاً. وترتبط الذكرى بساحة سجن عمان المركزي! إذ لكل صورة خارج الوطن في أعمال هلسا مطابقتها في الوطن! وفي "ثلاثة وجوه لبغداد" يحاول "زيد القرالة" أن يُثبت حضور الوطن الأردني في أعمال هلسا حيثما تنقّل في حلِّه وترحاله: "كانت صورة القاهرة التي يحتفظ بها في ذهنه تلك اللحظة، هي منظرها ساعة العصـر. كما بدت من الطائرة، صفراء، مصفرة. مدينة من حجر. وبالنسبة له كانت قرية أردنية تُستعاد في الذاكرة.. كانت لحظة شوق استقرّ في قلبه كالخنجر".
وفي الرواية المذكورة، يندفع الأردن كوطن روائي بمفرداته التي تصطف مفردة تلو الأخرى، في عملية دفاع لا شعورية يستنهض البطل فيها كل أدواتها لإسناده وتدعيم حالته في مواجهة مشاعر الاغتراب التي يحسّ بها".
وأكد الأزرعي أنّ بطل غالب هلسا أردني - اجتماعياً ولا نقصد المدلول القُطري السطحي - دون أن يصرِّح هو بذلك في غالب الأحيان. لكن القارئ يشمُّ رائحة (أردنية) البطل سواء كان في بغداد أو بيروت أو دمشق أو القاهرة! من خلال أحلامه وكوابيسه وطموحاته وآماله. ومن خلال تفاعلاته مع المحيط.
إنّ الوطن الروائي، وطن "باشلار" الذي ترجمه هلسا، هو الذي يقوده لتوكيد الأردنية الاجتماعية لبطله كنموذج درامي مخلص للوطن الدرامي أكثر من إخلاصه للوطن التعبوي. ونُصِرّ هنا على ما قصدناه "بأردنية هلسا" إنما نعني به البُعد الاجتماعي للتكوين الأردني، وليس البُعد القُطْري. لأنّ عباءة غالب هلسا تتسع لاحتضان العالم بالاستناد إلى أمميته، لا تتسع له الأقطار والأوطان السياسية المقزّمة. تلك التفاعلات المعقدة، هي التي تترجم صورة اغتراب هلسا وأبطاله وفشلهم في تحقيق التواصل السويّ الصحي المتوازن مع المحيط في العواصم العربية.
ويبدو "خالد" بطل هلسا في "البكاء على الأطلال"، نموذجاً تقريبياً لأبطاله. فهو طالب أردني دخل مصر في الخمسينيات ولم يبارحها. لقد كانت مصر القيادة التحررية العربية آنذاك. كانت مصر التنوير والتثوير! ولهذا حاول خالد أن يندمج ويتأقلم مع البيئة الجديدة، متسلحاً بوعيه العام وثقافته وحسّه بالمسؤولية الوطنية والقومية تجاه وطنه وأمته والبيئة التي يعيش فيها! غير أنّ الهموم الذاتية الخاصة، للبطل الروائي الأردني والمغترب الحسّاس، تتداخل بهموم الأمة. كما يتداخل الحاضر بالماضي، وتختلط الأشياء مع اشتداد أزمة البطل وتكرار إحباطاته على المستويين الفردي والقومي.
وفي تناوله لهاجس توثيق الموروث الشعبي وصورة القرية الأردنية رأى الأزرعي أن الرواية الأردنيّة حفلت قبل حزيران الهزيمة 1967 بالعديد من مواد الموروث الشعبي، والمزيد من الحكايا والخرافات على سبيل تسجيل طبيعة الحياة، والفكر والثقافة السائدين. ولأنّ الرّواية الأردنية قبل يونيو/حزيران 1967 غلب عليها الطابع التسجيلي، فإن تلك المادة، لم تكن لتُوظّفَ إلا لغرض التَّسجيل -حصراً - في غالبية الأحيان.
وقال "استمرّ التعامل مع الموروث الشعبي على هذه الشاكلة لدى بعض الكتّاب بعد يونيو/حزيران أيضاً. فكانت أعمالُهم (مستودعاً) يسجِّل فكر المجتمع الأردني وثقافته وقناعاته في أطوار تكوينه المبكرة، كما هي الحال في أعمال جوليا صوالحة "سلوى" و"النشمي" و"الحق الضّائع" و"نار ورماد" و"هل ترجعين".
ولكنّ الأمر مع رواية ما بعد يونيو/حزيران، التي شهدت تحوُّلات نوعيّة على صعيديّ البناء والمضمون أخذ طابعاً مختلفاً، فلم تعد عناية الروائي الأردني بالموروث الشعبيّ مقصودة لغرض التسجيل وحسب، بل أصبحت جزءاً من النسيج الروائي العام، وظَّفها الروائي في الغالب لتحقيق لغة روائية أشد تأثيراً وأبلغ تعبيراً. وكثيراً ما أشاد الرّوائي الأردنيّ بناءه الفني على أساس التوازي بين وقائع أسطورة أو حكاية شعبيّة موروثة، وبين وقائع روايةٍ أبطالُها يعيشون الواقع الأردني، ويعانون من سطوة القيم السائدة، في محاولة منه لتحقيق الخطاب الأبلغ، بغرض هجاء التخلف الاجتماعي، من خلال الثنائيات المتطابقة أو الضديّة في كل من الأسطورة والواقع. كما هي الحال في "بيت الأسرار" عند هاشم غرايبة و"حنتش بنتش" عند محمود عيسى موسى، و"ماري روز تعبر مدينة الشمس" عند قاسم توفيق، و"الحمراوي" عند رمضان الرواشدة، وغيرهم.
وفي تحليله لرواية "بيت الأسرار" لـ "هاشم غرايبة" رأى د. الأزرعي أن غرايبة يبدو في مطوّلة "فتنة"، كما لو كان يستعدّ لدخول المغامرة مجدَّداً بصدد الخوض في مجال استثمار مادة الموروث الشّعبي للمرّة الثانية في روايته "بيت الأسرار". إذ يواصل هجائيته الاجتماعيّة/ الطبقيّة ضد التّخلُّف ورموزه الاجتماعية الممثَّلة بالتاجر عيسى "البيك"، الذي حبس نساء بيته في قلعة بعيدة عن القرية، وراح يمارس عليهنَّ العزلة بسبب أنانيته واستحواذه القاتل، إلى أن أصبح بيته لغزاً، ونُسـي الاسم الحقيقي لابنته، وأصبح الاسم المعروف لها في أوساط القرية "ست الحسن"! وهو اسم خرافي لفتاة خرافية، غالباً ما تَرد على أنّها ابنة الغول الجميلة المحكوم عليها بالحبس المؤبَّد من قبل أبيها لأنها قاومت تعليماته وخرجت إلى النور. ولقد رأينا رموز الشرائح الاجتماعية تتحرك معبِّرة عن شرائحها وموقفها وأخلاقها ومسلكيات فئاتها المنتمية إليها أصدق تعبير.
وليس ثمة في الرّواية ما هو أبلغ من شخصيّة (عيسى) في التّعبير عن طبقة التجار الرجعيين، بقناعتهم وأفكارهم وإرهابهم وامتلاكهم القهري لأقرب الناس إليهم. إنّ عيسى البيك هو الطرف الثاني في ثنائية الغول الإنساني والغول الأسطوري؟! وأيضا رأينا (البيك) يتحوّل إلى (غول) يريد أن يلتهم كل شيء وأن يُخضِع لحكمه كلَّ شيء. كما رأينا (ست الحسن) ضحيّة ضعيفة، وضريبة مؤسّية لتخلف البيئة الاجتماعية، التي انصبّ عليها أذى المؤسسة الاجتماعية المباشر، الموجّه إليها من قِبَل الأب، رأس السلطة في أصغر الدوائر الاجتماعية، (الأسرة). كما رأينا جميع العلاقات التي تربط ما بين الأفراد والجماعات، تأخذ طابعاً طبقياً ومصلحياً يكشف القاص عنه في مستويين: الأول مستوى تعليميّ قادم من جهة الموقف الفكري للكاتب، والثاني إبداعي يأتي من جهة التّوظيف الفنّي للموروث الشّعبي في العمل الأدبي.
محمد الحمامصي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق