الملخص:
إنّ لتحوّلات حركة ما بعد الحداثة كانت له آثار ايجابيّة على انفتاح النّص الرّوائي، فبفضله تجاوزت الرّواية المعاصرة حدودها وكسّرت ذلك الجمود الذي سارت على نمطه في بدايتها، فصارت تعيش نوعا من الانفتاح على الأجناس و الفنون الأخرى، فأضحى خطاب الرّواية نصّ جامع لجملة من الفنون الأخرى تتفاعل فيما بينها لتجسدّ لنا في الأخير رواية تجريبيّة، اغتصبت الشكل القديم وتفجرّت على شكل جديد، و من أمثلة ذلك رواية " مملكة الفراشة" ل " واسيني الأعرج" و التي تماهت فيها جملة من الفنون يحاول من خلالها " الأعرج " بناء نص روائي جديد يمزج فيه بين فنون شتّى السّرد و الشّعر و الرّسم و المسرح و الموسيقى و الخبر، ليتّم الإخراج النّهائي في قالت تجريبي يسعى لمحاورة الذّات الإنسانيّة الشّغوفة التي تطمح للجديد دون ملل.
و على ضوء ما تقدّم تهدف مداخلتنا إلى إبراز ذلك التفاعل بين الرّواية و الفنون الأخرى في رواية " مملكة الفراشة" ل " واسيني الأعرج" معتمدين على خطّة بحث كالآتي:
- تمهيد.
- حركة مابعد الحداثة و تأثيرها في الأدب الجزائريّ.
- تفاعل الرّواية و الفنون في "مملكة الفراشة".
- خاتمة.
فما مفهوم حركة ما بعد الحداثة؟ و كيف أثّرت هذه الحركة على فنّ الأدب و خاصّة الرّواية؟ و كيف تفاعلت رواية مملكة الفراشة مع الفنون الأخرى؟
1- مفهوم ما بعد الحداثة:
مصطلح ما بعد الحداثة " ترجمة لمصطلح ( Post- modernism) أو (Postmodernism)
و قد تستخدم كلمة ( Postmodernity) للدّلالة على الشيء نفسه، و أحيانا يطلق على مصطلح ما بعد الحداثة تعبير ( ما بعد البنويّة)، و يجب ملاحظة أنّ اصطلح ( ما بعد الحداثة ) يكتسب أبعادا مختلفة بانتقاله من مجال إلى مجال آخر، فمعنى ( ما بعد الحداثة) في عالم الهندسة المعماريّة يختلف من بعض الوجوه عن معناه في مجال النّقد الأدبّي أو العلوم الاجتماعية."1
و المقصود بما بعد الحداثة في واقع الأمر النّهاية " نهاية التّاريخ و نهاية الإنسانيّة و نهاية المثاليّة و نهاية الميثافيزيقيا و نهاية التّفسير، و ما بعد الحداثة بهذا المعنى تعني العداء للحداثة و إخفاق الحداثة، و نهاية الحداثة و إفلاس الحداثة."2
2- حركة ما بعد الحداثة و أثرها في الأدب الجزائري:
إنّ الظّروف التي التّاريخيّة التي رافقت ظهور حركة ما بعد الحداثة جاءت نتاج التّحوّلات التي شهدها المجتمع الغربي الذّي انفتح على عوالم جديدة التّبدّد و التّغيّر، حيث ساهمت تلك الحركة في خلق " مجتمع ما بعد صناعي قوامه النزعة الاستهلاكية و صناعة الثّقافة و تسليعها، و صناعة الخدمات و المعلومات التي حلّت محلّ المصنع التقليدي، إنّه مجتمع تواق إلى عالم جديد، عالم سريع التبدّد و الزّوال، بعيد عن التمركز، مجتمع فقد الثّقة في الحداثة، و أيقن بإفلاس الإيديولوجيّات الكلاسيكيّة مجتمع رفض إقامة فروق وظيفيّة بين مجالات الحياة الاجتماعيّة بمختلف مظاهرها، فلا سبيل للفصل بين الفن و السيّاسة و الاقتصاد، أي لا حدود فاصلة بين الثقافة العليا و ثقافة الجماهير، أو بالأحرى بين الثقافة الرّفيعة و الثقافة الشّعبيّة."3
و الثّابث أنّ مصطلح ما بعد الحداثة ظهر أوّل مرّة في الولايات المتحدّة الأمريكيّة " للدّلالة على التّحوّل الذّي آلت إليه الثقافات الغربية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لينتقل المصطلح بعد ذلك إلى ميدان الأدب سعيا إلى وصف – أو تسمية – الأدب الأمريكي الذّي أفرزته فترة ما بعد الحرب. و لم يفرض نفسه في النقد الأدبي إلا في الستينيات من القرن الماضي، حيث ابتعد عن الرّواية السّوسيولوجيّة من جهة، و عن آليات المنهج الشّكلي من جهة أخرى." 4
يسعى الرّوائي الما بعد حداثي إلى " خلق تباين بين مختلف العناصر المكوّنة لعمله الرّوائي باحثا عن الأثر التباعدي المنجر عن ذلك، و هو في ذلك يخالف ما يسعى إليه الرّوائي الحداثي الذّي يطمح إلى التأليف بين تلك العناصر بهدف ضبط عالمه المعقّد."5
إنّ المتأمّل للأدب الجزائري الحديث و المعاصر يلحظ تأثرّه بحركة ما بعد الحداثة خاصّة فنّ الرّواية باستفادته من تقنيات المدارس الغربيّة، خاصّة تقنيات الرّواية الجديدة، حيث نزعت الرّواية الما بعد الحداثيّة الجزائريّة إلى تهشيم البنية السّرديّة القديمة لتبني شكلا تجريبيّا جديدا يتجاوز و يحطّم البنى السّردية السّابقة نجم عنه جنسا روائيا جديدا يحاور الذّات الإنسانيّة بلا ملل، فالرّواية ما بعد الحداثيّة فسيفساء جامعة لأجناس أدبيّة عديدة على غرار فنّ القصّة و الحكاية و السّيرة و الشّعر، كما أنّه تتفاعل مع فنون عديدة كالرّسم و الموسيقى، و السّينما و الأسطورة، لتشكّل في الأخير قالبا روائيّا جميلا تذوب فيه كلّ هذه العناصر. فيمكن إدراج هذه النّصوص الجديدة " ضمن بلاغة جديدة تقوم على الابتداع والانعتاق من آلية الالتزام بأية محددات، فاسحا المجال أمام عمليات التداخل الخطابي والاجناسي من خلال عمليات التهجين والصهر ودمج العناصر المختلفة والمتعارضة، كأنه يمارس نوعا من التحدي لنظرية الأدب ولسلطة الجنس والمهيمن المتفرد."6
و ما يلاحظ على كتّاب الرّواية الما بعد الحداثيّة نزوعهم صوب إنجاز " كتابة روائيّة غير مألوفة متساوية و متزامنة مع نزعة الكتابة الرّوائيّة المعاصرة لتجاوز النّص النموذج و قيّم نصيّة تمت بصلة إلى جماليّات التّمثيل و التّشخيص، فلم يعد كتّاب الرّواية المعاصرة مولعين ببناء عوالم ممكنة بل بإنجاز نصوص روائيّة مفوّضة."7
يبدو السّرد في الرّواية ما بعد الحداثيّة متشظيّا، فوضويّا، مكسّرا الخطيّة التّقلييديّة السّابقة، حيث تتميّز النّصوص بتشظيها و تفكّكها و عدم اعتمادها على حبكة في بنائها، فالرّواية ما بعد الحداثيّة تمارس تقطيعا و تفكيكا على النّص الرّوائي، فهي بذلك تكرّس " التّعدّد و التّقطيع و التّفتح، فهي تسعى إلى " تأسيس ذائقة أو وعي جمالي، فعندما تتشظّى الأبنيّة المجتمعيّة و يفقد الإنسان وحدته مع ذاته لا بدّ من الاستناد إلى جماليّات التّفكك بدلا من جماليّات الوحدة و التناغم."8
أمّا على صعيد اللّغة " تلعب التقاطعات اللّسانيّة التي يحدثها المبدع دورا فعّالّا في جعل نصّه مفتقرا إلى تجانس شكلي و معنوي على حدّ سواء. و المقصود بالتقاطعات اللّسانيّة ها هنا تلك الممارسات المثمنة لمبدأ ازدواجيّة اللّغة أو تعدّدها، و هو المبدأ المعبّر عن انفتاح الذّات على غيريتها ( (Altérite الخاصّة لا انفصامها، و في ذلك نفي و رفض لأسلوب الصّراع المنتهج في إثبات الهوّية الذّي ميّز الكتابة ما بعد الاستعماريّة." 9
3- تفاعل الرّواية و الفنون في " مملكة الفراشة"
تزخر رواية " مملكة الفراشة" بجملة من الملامح الما بعد الحداثيّة، التي تتدّفق على مساحات المتن السّردي، إلّا أنّنا سنحاول التّطرق إلى ملمح بارز في الرّواية و هو تفاعل الرّواية مع الفنون الأخرى من موسيقى، رسم، شعر، مسرح، سينما، رقص، غناء.
تقتحم رواية " مملكة الفراشة" قلوب قرائها و هي تفيض بمشاعر إنسانيّة، حاول فيها الرّوائي " واسيني الأعرج أن يقاوم ثقافة العنف باستحضاره جملة من الفنون التي بثّت في النّص الرّوائي أطياف من المحبّة الغامرة و المعرفة الرّاقيّة، جعلت تلك الفراشة تبسط أجنحتها و تغمر بنورانيتها مساحات الرّواية. حيث دمج " الأعرج" عناصر فنيّة كثيرة من هذه الفنون من أجل إعادة خلق الواقع وتركيبه بشكل تجريبي جديد لا يعترف بالقيود و الضوابط. ويخضع هذا الإدماج لتصوّر فنّي واضح يسعى إلى تحقيق التفاعل بين الرّواية و مختلف الفنون المختلفة. فهي تجربة تنطلق عادة من رفض القيود والحواجز بين الفنون.
أ– فنّ الموسيقى:
يحضر فنّ الموسيقى في أجمل حلّة، حيث يتخذّ منه الرّوائي كموتيف سردي يتحدّى به الحرب الصّامتة التي لم تولّد غير العنف و الموت، ف " ياما" أرادت الفتاة الحالمة الشّفافة أرادت أن تبحر بموسيقاها في أرجاء مملكتها لعلّها تنسى وجع تلك الحرب التي أخذت منها كلّ الأحبّة، و يظهر ذلك من خلال انضمامها إلى فرقة " ديبو- جاز" ( Dépôt- gazz) فهاهي تذكر سبب عودتها إلى تلك الفرقة الموسيقيّة، تقول " عودتي إلى فرقة ديبو- جاز ( Dépôt- gazz) أراحتني كثيرا هي بيتي و ذاكرتي حتى و لو غاب اليوم عن الفرقة الكثير ممن كنت أحبّهم، كانت لحظات جميلة من مخزن الجاز، أنستني همّ الرّكض بين مختلف الإدارات لتوقيف قرار الصّيدليّة التي أحرقتها حربهم الصّامتة..."10
ف " ياما" لم تجد طريقة أفضل و أرقى من مقاومة الموت غير ثقافة الموسيقى، و ما تولدّه هذه الأخيرة من سحر و أمل و تحدّي، فهي تتحدّ بآلات الهارمونيكا تلك الآلة البسيطة التي بواسطتها أن تصنع ياما مملكتها الخاصّة، و تبسط جناحيها في فضائها الشّفاف، تقول " ياما" " فقد علقت الهارمونيكا مثلا على الحائط كاللّوحة الفنيّة، فهي ميراثي الوحيد، كان يدهشني بعزفه و هبلي الموسيقي، كيف تستطيع آلة صغيرة تسكن بين كفيّه أن تغيّر كلّ مزاج الحضور، و تضع عالما موازيا غريبا."11
يستحضر" الأعرج" جملة من الآلات الموسيقيّة: آلات الكلارينات، السّاكسو، القيتارة، الكلانيه الباس، الباتري، و الطّبل الإفريقي، الهارمونيكا و القيتارة الكهربائيّة و البيانو، و تتفاعل هذه الآلات الموسيقيّة في مساحات الرّواية لتعزف في تلك المملكة نوتات الفرح، فالرّوائي استحضرها كسلطة ثقافيّة تتحدّى مخلفات الألم الذّي خلفته الحرب الصّامتة.
ف "ياما "اتخذّت من الموسيقى كوسيلة انتقامية من ثقافة الموت و ثقافة السّلطة المعارضة المتمثّلة التي مثلها شخص الأستاذ مستحضرة مقولة الموسيقي الفرنسي البلجيكي " أندريه غريتي" " الكلارينات هي التّعبير الأرقّ عن الألم عندما تنبعث من أنغام الفرح."12
فالموسيقى تساهم في استثارة أعماق الذّات الإنسانيّة فهي " فنّ المشاعر و تقلّبات الرّوح."13
و تذكر "ياما" علاقتها الروحانيّة مع فن الموسيقي، فعادت إلى الفرقة رغم سنوات من الانفصال و الابتعاد لعلّها تستطيع معالجة الانكسار الذّي عمّ حياتها، من خلال حضورها احتفاليّة الجاز الوطنيّة، كما يقيم الروائي متناصات سردية باستحضار أسماء لمهرجانات موسيقيّة ك " مهرجانات سان فرانسيسكو، مهرجان مونتريال، فستيفال فيينا للجاز."(14) إضافة إلى أسماء بعض الموسيقيين " موريس رافيل"، و" داريوس ميلهود"، " فرانسيس بولانك"، و " إيغور سترافانسكي" " كارل جنكينز"
ب- فنّ الرّسم:
و يحضر فنّ الرّسم في حلّة جميلة من خلال الدلالات المتفجرّة التي بثتها لوحات " رينيه" و لوحة فياس بوريس للرّسامة الرّوسيّة "لودميلا "، إضافة إلى لوحات "إيسياخم"، و لوحات إفريقيّة و يابانيّة و هنديّة، و تلك اللّوحات التي بثّت مسحة من الأمل و الفرح و الدفء في مناخات العنف و الموت، ما تدفع الإنسان نحو التّسامي و الجمال و الشّفافيّة.
يمثّل الرّسم في الرّواية معطى جمالي و موتيف سردي، فالرّسم بألوانه الشّفافة الزّاهيّة استطاع أن يمسح الهزائم التي خلفتها الحرب، تقول " ياما" " لأوّل مرّة اكتشف موهبة جديدة هي موهبة الرّسم و اللّعب بالألوان المعشّشة بارتباكي و خوفي و حنيني، فقد نامت الألوان الهاربة التي ترسخت في قلبي و دماغي طويلا قبل أن تستيقظ دفعة واحدة مثل شلّالات النّور المعمي للأبصار بقوّته و حدّته و فجائعيّته."15
لقد ولدّت تلك الحرب الصّامتة هاجسا من الخوف و الهلع في نفوس الجزائيين، فأرادت " ياما" أن تملأ بياض الحياة العابسة برسم الفراشات السّاحرة و التّحليق على أجنحتها الدافئة، كانت تلك الفراشات تختزل أحاسيسها، أحزانها و غموضها، تقول " ياما" " أرسم الفراشات التي كانت تهرب منّي و عندما أصرّ عليها تموت بين يديّ، ألوانها كانت تسحرني، كانت في البداية تبدو متشابهة جدّا، لنّي مع مضي الوقت اكتشفت بسرعة اختلافاتها." 16
ج-فنّ المسرح:
يحضر فن المسرح في الرّواية من خلال استحضار الرّوائي مسرحيىّة " لعنة غرناطة" حيث ربطت " ياما" بين الحربين الأهليتين الجزائريّة و الاسبانيّة عبر صديقها في الفايسبوك " ديف"، فهاتين الحربين اشتركتا في ثقافة الموت و الإرهاب و القتل، فحاولت من خلال عرض تلك المسرحيّة أن تزرع فسحة من الفرح و السّعادة و الانطلاق في الحياة.
كما يستحضر الرّوائي مسرحيات ل "غوته" و ل" فاوست"، كما ينفتح على الخلفيات التي شكلّت ارتكزت عليها تلك المسرحيات، كما يستحضر بعض الأحداث المسرحيّة " مسرحية مهمّة. مسكين فاوست، كان يريد بحكم مهنته أن يحصل على كلّ المعارف الإنسانيّة و اختراق أسرار هذا العالم الوجوديّة، لكنّه لم يستطع كان على مشارف الانتحار، عندما جاءه الشّيطان ميفيسستوفيليس و اقترح عليه ميثاقا و هو أن يحقّق له كلّ ما يريده، و لكن في المقابل يشتري منه روحه بعد تأملّ عميق قبل الدّكتور فاوست شروط الشّيطان و هو من لاقاه بمارغريت أو غريتشن"17
و يعرض الروائي مسرحية " لعنة غرناطة" و التي قام بعرضها الفنان المسرحي الكبير " فادي" كمحاولة لنشر السّلام في البلاد الجزائريّة، و نسيان سنوات الدّم و الرّماد.
تتساءل " ياما" عن السّحر الذّي ألقته مسرحيّة " لعنة غرناطة" حيث جاب النّاس أرجاء المسرح بأعداد غفيرة حتى يمتّعوا عيونهم عن حرب أهليّة إسبانيّة لا تهمّهم في شيء." ما السّر أو حتى ما المدهش في مسرحيّة تتحدّث عن حرب أهليّة مدمرّة في مدينة غير مدينتنا أو حضور شخص أيّا كانت قيمته اختار المنفى الطّوعي طوال أيام النّار و الخوف و جاء مرافقا لمسرحيته."18
و يستحضر الرّوائي أيضا بعض أساليب العرض المسرحي و هي:
- الجمهور: يعدّ الجمهور عنصرا بارزا في العرض المسرحي و بدونه لا يكتمل العرض، كما يبرز أيضا أنّ المسرح أدّى دورا بارزا في ترسيخ بعض الأفكار الايجابيّة في المجتمع الجزائري رغم مرارة و قسوة العنف، إلّا أنّ الجمهور كان متعطّشا للّسلام و للحياة و للأمل " في لحظة من اللّحظات و أنا داخل الموجة البشريّة تساءلت في داخلي: ما القوة الداخلية الدافعة لكل هؤلاء الناس لتحمل المطر و الخوف و المجيء إلى هنا على الرّغم من أنّ الحر الصّامتة لا تزال حيّة في حواس النّاس شمالا و جنوبا إذ يمكننا أن نفترض مثلا بسهولة شخصا يتماهى داخل هذا المدّ البشري."19
- مشاهد المسرحيّة:
تقدّم الرّواية أحداثا من مسرحية " غوته" ل " فاوست"، و ما يشوبها من أحداث تراجيديّة مأساويّة عنيفة من قتل و صور الدّم و العنف " رأيت السّكينة الحادّة و هي تنغرس في جسد فاوست على مرتين الأولى للقلب مباشرة. تقطع الأغشيّة كلّها حتى الصّلب منها، و لن تترك له فرصة للعيش، لأنّ السّكينة الحادّة تخرج من الجهة الخلفية للظهر. رأيته ينحني من شدّة الألم، لحظتها بالضّبط جاءت ضربة السّاموراي الثانيّة، هذه المرّة في البطن. لم تكن عموديّة و لكنّها انحرافيّة قليلا لتخترق المعدّة، و تمزّق عرضيّا كلّ ما يحيط بها."20
كما تنفتح على أساليب العرض الأولى " انطفأ ضوء صالة العرض، و لم تبق إلّا إضاءة الرّكح و الزّوايا."21
د- فنّ الغناء:
تتفاعل الرّواية مع فنّ الغناء حيث استحضر الرّوائي جملة من الأغاني التي كانت تقوم بها فرقة ديبو- جاز الغنائيّة، و التي فشلت مساعيها في إيجاد وطنا بديلا يحتضن ذلك الجيل الضائع الذّي عصفت به الحرب الصّامتة التي قذفت به إلى أقاصي الحزن، و لم تبث في حياته سوى الهزائم و الفناء، فتلك الأغاني الحزينة كانت تجسيدا لرغبة ذلك الجيل في مناشدة الحياة و معانقة مرافئ الأحلام. و نستحضر في هذا السيّاق هذه الأغنيّة الحزينة التي تعبّر عن إنكساريّة الذّات و مقتل الأحلام في وطن الموت و العبثيّة و الخراب " تسرق منّا الأحلام
عبثا نبحث عن سفن تقتلنا
عن رياح تعصف بحواسنا و شمسنا
في بلادنا نحبّ الرّقص أيضا
نحبّ التانغو كثيرا
لكن لا أحد يدعونا للرّقص أيضا
نحبّ التانغو كثيرا
لكن لا أحد يدعونا للرّقص على جسر العشّاق
التانغو ليس للأغنياء فقط
نشرب بيرة تانغو و ننتشي
و نرقص مع الأشباح على جسر الموتى."22
ه- فنّ الشّعر:
يلحظ على رواية " مملكة الفراشة" تفاعلها الحميمي مع فنّ الشّعر، فنلحظ حضوره في محطّات عديدة من المتن الرّوائي، و هذا من أجل إضفاء لمسة جماليّة من جهة، و من جهة أخرى لتحدّي الموت و العزلة و الانفتاح على عوالم الفرح و النشوة و الجمال.
يستلهم الرّوائي من الشّعر وحي التّعبير عن تلك الفراشات المرفرفة في مساحات المملكة الزّرقاء و كلّها فرحة و نعومة و شفافيّة، لتنثر في سماء "ياما" أطياف الألق و الأحلام" و متى كان البشر حبيبي يعيشون بلا أحلام؟ تنتابني دفعة واحدة آلاف الفراشات. أشعر بنعومتها و هي تصفّق بأجنحتها الهشّة عند عيني لكي تمتص نومي و تدغدغ كلّ حوّاسي المشبوهة، أرى ألوانها الزّاهيّة و هي تطرز داخلي و تغطّي جسدي كلّه، أتلمسّها بنعومة. تحتلني كليّا. يااااااه كم تشبهني هذه الفراشات المنزلقة من بين أصابعي و قلبي و ذاكرتي، لو تدري كم أنّ حضورك يملأني و كم أنّ غيابك. حتّى عندما يأـتي سهوا يسرق منّي بعض حياتي."23
و الظّاهر أنّ فنّ الشّعر في الرّواية أدّى دورا بارزا في رسم أجواء السّعادة و الفرح و الأحلام الجميلة " أحاول أن أنسى كلّ شيء و أعبر مثل الفراشة فوق ألسنة النّار، أن أنام وسط ألوان يخلقها قلبي و يؤثّثها جنوني الخفّي، أراني أحيانا طفلة صغيرة تركض وسط قوس قزح، تسير في التيه الجميل، في خطّ مستقيم قبل أن تعبث بالألوان بمتعة غريبة، و بعبثيّة مطلقة. في أحيان أخرى أراني في فراش من أشّعة الشّمس الدّافئة التي تحيط بي في شكل ستائر نورانيّة، قبل أن أتسّلى بها مثل لونجا السّجينة، و أظفّر بها أجمل الجدائل الرّائعة و أهديها لمن أحبّ كما كنّا نهدي، عندما كنّا صغارا، باقات نوّار النّرجس للطّفل الذّي استقرّت عليه أعيننا من بين كلّ الأطفال. "24
و- فنّ الرّقص:
يمثّل الرّقص ملمحا وسم أعمال " واسيني الأعرج" الرّوائيّة، فالرّقص يعدّ قبل كونه فنّا جسديا يعبّر به الإنسان عن حاجاته و أهوائه النّفسيّة مذهبا فكريّا و حضاريا يؤسّس للرؤية الإنسانيّة للعالم اتخذّه الأعرج لمقاومة الموت و الفناء، و تشريع لمواطن السّعادة و الاسترخاء و الانتشاء، فالرّقص ليس " تعبيرا جسديّا غير عفوي بقدر ما هو انفعالي معبّر عن طبيعة جسديّة، هذه الطّبيعة الجسديّة يمكن اعتبارها مؤطّرة لرد فعل بشري ضدّ فعل بشري سبقه أو وازاه، لا كما هي العادة في التّعبيرات الجسديّة التي غالبا ما تكون رد فعل ضدّ الظواهر و الأحداث."25
لقد استحضر " الأعرج" فنّ الرّقص ليبيّن بأنّ ثقافة الفرح هي التي ستنتصر، و أنّ مخطّطات الحرب الصّامتة فاشلة، من خلال بث رقصات الباليه " نلتقي اليوم مع راقصة الباليه العالميّة المعروفة التي أدّت أدوارا كبيرة و مميّزة، و انتزعت إعجاب العالم برقصها الباليه الجديد. و هي اليوم هنا لتشاركنا حفلا عظيما قليلا ما رأيناه، و الذّي يبيّن أنّ البلاد لا تزال بكلّ الخير، و أنّ أعداء الأمّة الذّين يروّجون لفكرة الحرب الصّامتة و الخطيرة باءت مخطّطاتهم بالفشل الذّريع."26
فالرّقص يعدّ منذ القدم " ظاهرة مقدّسة و سحريّة، فإنّه أخذ أبعادا خاصّة حسب كلّ حضارة ينتمي إليها. إلّا أنّ غايته الأساسيّة هي البحث عن المقدّس و السّير نحو الأفق الذّي تلتقي فيه السّماء بالأرض، و وسيلة للاتحاد مع الرّاقصين و مع الوحدة الميثا فيزيقيّة العليا."27
تعتقد " ياما" أنّ الرّقص هو انتصار على معركة الموت و الحرب الصّامتة، و يشجّعها على ذلك والدتها و الأب " زوربا"، من خلال حضورها " باليه الفراشة" و التي تنتصر في نهايته الفراشة من مكائد العجوز الشّمطاء و تتزوّج حبيبها، و توحي بذلك لانتصار ثقافة الرّقص على ثقافة الفناء و العنف تقول: " لكنّ العجوز الشّمطاء الجنيّة العمياء بغيرتها من حبّهما تحاول أن تدمّرهما لأنّها لم تحصل من الأمير على القبلة التي تعيد لها شبابها. فحوّلت فارفيلا إلى فراشة في نهاية الباليه
يحترق جناحا الفراشة فتتحوّل إلى راقصة باليه لتتزّوج من حبيبها."28
ز- فنّ السّينما:
الملاحظ لرواية " مملكة الفراشة" يلحظ توظيف تقنيات السينما كفن السيناريو حيث تبدو لنا الأحداث الرّوائية كأنّها موّجهة إلى عمل سينمائي، خاصّة طريقة كتابة الرّواية التي تشبه طريقة فن السّيناريو باعتباره " فنّ يستوعب موضوعات و أفكارا لا حصر لها."29
تقدّم الرّواية جملة من المشاهد السينمائيّة، فالمشهد السينمائي هو "مقطع من فيلم يعبّر عن الشّخصيّة التي تقوم بحدث ما في زمان ما و في مكان ما."30
مثلا هذا المشهد الذّي يضع الشّخصيّة الرّوائيّة أمام عدسة الكاميرا لينقل لنا حالاتها النفسيّة التي تظهر لنا على ملامح الوجه، من خلال الانتقال من لقطة إلى أخرى، و ذلك لأجل إكساب الصّورة السّينمائية حضورا متفردا في الرّواية " وضعت الإنذار على المكتب ثمّ أغمضت عيني قليلا لكي أتنفس خارج هذا الخوف المؤذي. كلّ شيء صامت في البيت. الأواني. آلاتي الموسيقية. الصّور و اللوحات. إلّا أنّ أنفاس أمّي المتقطّعة التي كانت تأتي من غرفة أختي ماريا أو كوزيت كما أسميتها."31
فالكاتب هنا ينقل لنا خيال الصّورة المتحركة ليقدّم لنا مشاعر الخوف التي تعتري " ياما" و مظاهر العنف التي جسدتها. حيث نقل لنا مشهدا من فيلم حيث غرفة تتشكّل من الأواني، آلات موسيقيّة الصّور و اللّوحات.
نلحظ توظيف اللقطة القريبة في قولها " ثمّ أغمضت عيني قليلا لكي أتنفس خارج هذا الخوف المؤذي. ساهمت اللقطة القريبة في إجلاء الجانب السيكولوجي للشّخصيّة و تصوير انفعالاتها.
- تقنيّة الصّوت:
أدّى الصّوت دورا بارزا في تفعيل الحدث و تنميته بعد حالة الصّمت التي ميّزت المكان، فجاء صوت الأم لينسج حدثا جديدا.
كما نلحظ عديد المشاهد السينمائيّة الموظفة في الرّواية " فجأة حدثت حركة غريبة و ضجيج في الخارج، كان المشهد واضحا من وراء زجاج بار الأوبرا، كان الأطفال يتقاتلون و يترافسون بالقرب من الأوبرا. بمجرّد أن وصلت السّيارة السّوداء، حتى أحاطوا بها من كلّ الجهات، كلّ واحد يريد أن يكون هو الأقرب."32
نلحظ في هذا المقطع الروائي و كأنّنا أمام عدسة الكاميرا التي جسّمت لنا هذه الصّور و حركة المشهد، حيث ينسلخ الرّوائي من لغة الرواية ليلجأ إلى لغة السينما.
نلحظ توظيف تقنيّة الصّوت: في قوله " فجأة حدثت حركة غريبة و ضجيج في الخارج."
- تقنية الإضاءة:" كان المشهد واضحا من وراء زجاج بار الأوبرا، كان الأطفال يتقاتلون و يترافسون بالقرب من الأوبرا."
- توظيف اللقطة المتوسطة: " كان الأطفال يتقاتلون و يترافسون بالقرب من الأوبرا. "
- توظيف اللقطة القريبة: كلّ واحد يريد أن يكون هو الأقرب."
خاتمة:
و صفوة القول إنّ رواية "مملكة الفراشّة" تزخر بجملة من الملامح الما بعد الحداثيّة و من أبرز تلك الملامح تفاعل الرّوايّة و تماهيها مع باقي الأخرى من شعر، غناء، رقص، مسرح سينما، موسيقى، حيث أدّى هذا التعايش بين الفنون إلى تغذيّة المتن السّردي بمرجعيّات فنّية عديدة و أساليب و تقنيّات جديدة ساهمت من جهة في إخراج قالب روائي تجريبي جديد يؤسّس لرواية طموحة تغترف من روح الفنون لتلامس أعماق الذّات الإنسانيّة الطّموحة المتطّلعة دائما نحو الجديد المتفرّد، و من جهة أخرى ساهمت في مقاومة ثقافة الموت و عنف الحرب الصّامتة بثقافة الفنون التي تبثّ في الإنسان روح الحياة و الحيويّة و الأمل.
الهوامش:
1- عبد الوهاب المسري- فتحي التريكي: الحداثة و ما بعد الحداثة، دار الفكر، دمشق، ط1 2008، ص7.
2- المرجع نفسه، ص8.
3- عزيز نعمان: الحداثية و ما بعد الحداثية في السرد الروائي، الثقافة مجلة فصلية ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة، عدد 21 أكتوبر 2009، ص8.
" 4- المرجع نفسه، ص10.
5- المرجع نفسه، ص10.
6- نبيل حداد- محمود دراسة، تداخل الأنواع الأدبية، عام الكتب الحديث، الأردن، ط 1، 2008 مج 1، ص 672.
7- الطّاهر رواينيّة: قيّم التجاوز و شعريّة الانتهاك في الكتابة الرّوائيّة عند فرج الحوّار، سيميائيّات: مجلّة دورية محكمة تصدر عن مختبر السيميائيّات و تحليل الخطاب جامعة وهران- الجزائر- العدد 1، ص25.
8- شكري عزيز الماضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الأدب، عالم المعرفة، الكويت، 2008 ص7.
9- عزيز نعمان: الحداثية و ما بعد الحداثية في السرد الروائي، الثقافة، ص12.
10- واسيني الأعرج: مملكة الفراشة، صادرة عن مجلّة دبي الثقافيّة، الإمارات، ط1، 2013، ص12.
11- المصدر نفسه، ص13.
12- المصدر نفسه، ص18.
13- فايزة يخلف: مبادئ في سيميولوجيا الإشهار، طاكسيج كوم للدراسات و النشر و التوزيع، الجزائر، دط 2010، ص 154.
14- واسيني الأعرج: مملكة الفراشة، ص437.
15- المصدر نفسه، ص355.
16- المصدر نفسه، ص266.
17- المصدر نفسه، ص388.
18- المصدر نفسه، ص449.
19- المصدر نفسه، ص449.
20- المصدر نفسه، ص467.
21- المصدر نفسه، ص455.
22- المصدر نفسه، ص502.
23- المصدر نفسه، ص95.
24- المصدر نفسه، ص 64.
25- جمال بوطيّب: الاستعارة الجسدية في أعمال واسيني الأعرج متن، الهوية و التخييل في الروية الجزائرية، قراءات مغربية، رابطة أهل القلم، الجزائر، ط1، 2008، ص145.
26- واسيني الأعرج: مملكة الفراشة، ص464.
27- جمال بوطيّب: الاستعارة الجسدية في أعمال واسيني الأعرج متن، الهوية و التخييل في الروية الجزائرية، ص145.
28- واسيني الأعرج: مملكة الفراشة، ص493.
29- سد فيلد: السيناريو، ترجمة سامي محمد، دار المأمون للترجمة و النشر، دار الحرية للطّباعة، القاهرة، دط، 1989، ص59.
30- المرجع نفسه، ص90.
31- واسيني الأعرج: مملكة الفراشة، ص11.
32- المصدر نفسه، ص439.
تفاعل الرّواية والفنون في" مملكة الفراشة" ل" واسيني الأعرج"
أ/ سامية غشير باحثة في الأدب الجزائري
قسم اللّغة العربية و آدابها/ جامعة باجي مختار – عنّابة-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق