⏬
الشارع ما زال يتثاءب نافضًا النعاس، الحركة تدب فيه بطيئة، ضاعفت سرعتي كابتًا الحزن في صدري... جوفي يغلي بغضب غريب وألم شديد، خضت أوحال المقبرة، الريح تصفر من حولي في فحيح كريه كأنّها همس الجن أو أحاديث الشياطين.. بكاء، نواح وأنين. صمت مطبق ثقيل سوى من ...
-الله يرحمه.
-لا حول ولا قوة إلّا بالله.
ماذا تستطيع أن تفعل كلمات العزاء بقلوب مجروحة، وأنى لقطرات الدمع أن تطفئ نارًا تستعر في الجوانح وتتأجج بين الضلوع؟ البارحة أدخلوه في حفرة صغيرة ثم أهالوا عليه التراب، تلفت حولي في ذعر كأنّ الدنيا قد خوت وأقفرت، أو كأنّ ريحًا عاتية اقتلعتني فأصبحت في مهب الريح أنتظر دوري، رأيت الرجال ينفضون التراب عن أيديهم وملابسهم في آليّة غريبة وكأنّهم فرغوا من عمل اعتياديّ أو وجبة غداء ولم يواروا إنسانًا الثرى، إنسانًا غاليًا عليّ، وبقيت وحدي مذهولًا أحملق في الحفرة الصغيرة التي ابتلعت أخي، أهكذا ينتهي الإنسان؟! وجدت صعوبة في منع نفسي من البكاء، لا أصدق حتى الآن أنّه مات، وقع أقدامه وصوت ضحكاته ما زالت تملأ الدار الخرساء، ما الذي حدث؟ لماذا هو بالذات؟ ما الذنب الذي اقترفه؟
أمي تسير بخطوات مهزوزة كأنّ قدميها مقيدتان بالأغلال، عيناها زادتا اتساعًا وعمقًا كأنّ أشباحًا تدور فيهما كدوامتين مرعبتين في عيني عرافة. في مثل هذا اليوم منذ عشر سنوات توفي والدي، طلقة رصاص جعلته جسدًا بلا حراك...
الشارع بدأت تدبّ الحياة فيه، أشرقت الشمس وكأنّ شيئًا لم يكن، أمّا أنا فانهار في داخلي عالم بأكمله، الطريق يركض ويطوي الأشجار وراءنا ويقصر ويقصر، وبدأت السيارات تزداد، أصوات عالية مختلطة، ضوضاء لا تفسر شيئًا منها تصمّ الآذان، ضجيج لا تفقه كنهه يملأ المكان، حافلات وسيارات تحاول أن تشقّ طريقها وسط الزحام، ورغم كلّ تلك الأصوات شعرت أنّ كلّ شيء من حولي متخاذل، الخواطر سريعة الدوران تنتهي من حيث تبدأ، دوامة تدور لتتركني بلا وعي ولا إدراك ولا قدرة على التصرف.
يرتفع صوت المقرئ يتلو آيات من الذكر الحكيم كأنّما هو آت من السماء، الصمت سيد المكان، شيء واحد يجمعهم لا أعرف ربما هو الايمان أو الترقب... عينا عمي تطالبان بانتقام، يطالبني أنا الشاعر محترف الكتابة والتعبير بحمل بندقية وإطلاق الرصاص! أنا الذي يتحدث عن الحوار أريق الدماء؟
الشارع خال من المارة، وحدي في السيارة، أفكر وأنتظر.. وسكون الليل يخيم على البلدة، فراغ يحيط بي، فراغ في قلبي، وفي الجو فراغ، شيء ما يشدّني إلى هاوية فلا أستطيع النطق، فقدت القدرة على الحس والإدراك، وتلاحقت أنفاسي لاهثة كأنّها سقطت بعد طول عدو، أحسست كأنّ أعصابي المشدودة قد فكّت وصوتها الحبيس قد انطلق ودموعي المتحجرة قد انصهرت فاندفعت في نوبة حادة من البكاء، حاولت السيطرة على الدموع لكنّني كنت كذرة تموج مرتجفة حائرة في دائرة الحياة بغير انتظام، عليّ أن أتخذ قرارًا قبل شروق الشمس...
غريق أنا تتقاذفه أمواج الضياع...رأسي كثقالة من حديد تتضخم، كيف يمكن أن أرضخ لطلب عمي؟ وأمي ما الذي سيحلّ بها؟ ابن توفي وآخر في السجن، أحداث كثيرة تمرّ أمام عينيّ كشريط سينمائيّ تصور حياتي والطريق المظلم الذي ينتظرني، ولفّني الذهول للحظات...
وانساب صوته فجأة مريحًا عذبًا شجيًّا:
-الله وأكبر الله وأكبر.
صوته الهادئ استقر في قلبي المضطرب، هدّأ نفسي الثائرة، وتسربت السكينة إلى أعماقي، استجمعت قواي مستنشقًا نفسًا عميقًا لأقاوم الضعف الذي انتابني، دعوة من السماء إلى الأرض أن تشرئب إلى الله، وضياء يبدد الظلمات، وصفاء يدحر العتمة الكثيفة، وخرجت من مخبئي متجهًا نحو الشارع...
*د. نجوى غنيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق