فيديو ⏫ يا قدس الشاعر الفلسطيني الكبير الأستاذ محمود مفلح
“فلسطينُ وحُلمُ العودةِ” في شعرِ محمود مفلحبقلم الأديب والشاعر الفلسطيني الأستاذ مروان مُحمَّد الخطيب*
للشِّعرِ على مرِّ التَّاريخِ الإنسانيِّ ، حُضورٌ حَميمٌ ، آسرٌ ، وراسخٌ في النَّبضِ الآدمي. و مَنْ يتصفَّح أوراقَهُ ، صحائفَهُ ، ودواوينَهُ عندَ جميعِ أُممِ الأرض ، يدرك معنى وتجلِّياتِ أدائهِ المُندغمِ في فحوى الجِبِلَّةِ القائمةِ خلفَ الدَّوافعِ النَّاشدةِ الإشباعَ من خلالِ أعمالِ الإنسان السَّاعي بطاقتِهِ الحيويَّةِ ، غرائزِها وحاجاتِها العُضويَّةِ ، رغبةً في اكتفاءٍ يُريحُ النَّفسَ ونوازعَها ، و يُبلغها مدارجَ السَّلام ، ومراقي الطُّمأنينة.
و للأرضِ في تلكَ الخارطةِ موقعٌ لا يُجارى مبناهُ ، ولا تُهدُّ أركانُه ، و لا يُمكنُ استئصالُهُ ، إذ هي الحِضنُ ومجالُ التَّدافعِ ، وساحةُ الفعلِ ، ومدى التَّهجاعِ والأمان . وهي ذاتُها ، أُمٌّ أُخرى، ضرعُها التُّرابُ والطِّين ، ولبنُها الماءُ والهواء ، ونُسغُها الأخضرُ الصَّائرُ
![]() |
الشاعر الفلسطيني الكبير الأستاذ محمود مفلح |
و الأرضُ جَنَّةُ الدُّنيا ، في منكابِها يسعى المرءُ ، و بينَ جَنباتِها يُقيمُ ، و منها يأكلُ و يشربُ ، و فيها يسرحُ و يمرحُ و يحلم ، ثُمَّ يُدفن . لذا كانَ الارتباطُ بها صدىً ورجعاً للارتباطِ بغريزةِ البقاء ، و كانَ الكلامُ عليها حقلاً مُتَّصلاً بتشهِّياتِ النَّفسِ وأشواقِها وأتواقِها ، وبالتَّالي هوَ كلامٌ غارقٌ في دهشةِ الآمالِ والأحلامِ ، التي هي وجهُ الشِّعرِ الآخرُ من حيثُ هوَ لحظةُ النَّفسِ التّواقةِ إلى الاستحواذِ على مفاتيحِ الفرحِ المُقبلِ إلى فلسفةِ السَّعادةِ التي تصبو إليها نفسُ الإنسانِ في أقوالها وأفعالها وأشواقها وحنينها…!.
و الشِّعرُ رُوحُ الأدبِ ، “والأدبُ الحقُّ يشملُ الحياةَ كُلَّها ، في جميعِ نواحيها ، و تتعقَّدُ في أشكالِها تحتَ وطأةِ فروقٍ فرديَّةٍ في الشَّاعرِ أو ظروف مُعَيَّنة في البيئةِ الفكريَّةِ والمادّيةِ التي يحيا وسطها ” (1) . من هُنا ننظرُ إلى القصيدِ وصاحبِهِ ، نظرتَنا إلى بيئاتِهِ الطَّبيعيةِ ، الفكريَّةِ ، والثقافيَّةِ عموماً ، لنقفَ في نهايةِ المطافِ على واقعِ وحقيقةِ المقولةِ الصَّادحةِ : الإنسانُ ابنُ بيئتِه . و إذَّاكَ يتجلَّى لنا أمراً موافقاً للعقلِ والوجدانِ معاً ، ارتباطُ الشِّعرِ بالأرضِ ، وانطلاقُهُ زَخَّاتٍ من شوقٍ إليها ، أو حِمَمَاً مشتعلَةً دفاعاً عنها ، وتَمَسُّكاً بها ، وإصراراً على تحريرِها واسترجاعِها في حالِ خُضوعِها لقهر الاغتصابِ أو لعسفِ الاحتلال.
و إذا قُدِّرَ لنا الانتقالُ من هذا التَّقديم ، إلى خِضَمِّ التَّجربةِ الشعريَّةِ الفلسطينيَّة المُعاصرة ، ولا سيَّما تجربةِ الشَّاعرِ والأديبِ الفلسطيني محمود مفلح ، فإنَّنا نلمسُ و نرى ذاكَ التَّلاحمَ العضويَّ بينَ الإبداعِ الشِّعري ، وبينَ فلسطينَ الأرض ، والحُلم الطَّافحِ بالشَّوقِ والحنينِ للعودةِ المُترعة بالانتصارِ وهزيمة المُحتلِّ الغاصب.
فلسطينُ… اندماجُ المكانِ بالقداسة
يستوقفُ أيَّ قارىءٍ لشعرِ محمود مفلح ، ذاكَ الاندماجُ السَّكوبُ عاطفةً ، ونورانيَّةً مُشرئبَّةَ العُنقِ إلى مراقي القداسةِ ، حيثُ يغدو المكانُ مظنَّةَ الإشرافِ على مواقيت الدفءِ الممهورةِ بألقِ الجذبِ الماورائيِّ . و لعلَّ هُويَّةَ الشِّعرِ المرتوي بالثقافةِ الإسلاميَّةِ في أداءِ صاحبِنا الإبداعيِّ ، تقفُ وراءَ هذا الألقِ المنفتحِ على رحابةِ الفكرةِ ولذةِ الكَلِمِ المموسقِ والمُوقَّعِ بتراجيعِ النَّفسِ التَّائقةِ إلى أنسنةِ التُّرابِ ، بما يجعلُ منهُ ، و من السَّاكنينَ فوقَهُ من أهليهِ ، والمُبعدينَ عنهُ من مواطنيه ، مُقيمينَ في مدىً حُلميٍّ واحدٍ ، يتنفَّسُ من رئةٍ واحدةٍ ، مسكونَةٍ بهواءِ الأرضِ المُقدَّسةِ ، بأنسامِها ، بشذا أورادِها ، و برُحاقِها المُفضي إلى ذاكرةٍ ، لا يُمكنُ أن تنسى ما كانَ لأصحابِها من حقٍّ في المكانِ والزَّمان والآمال.
يقولُ صاحبُنا في قصيدتِهِ ” أننسى ؟ ” :
” أننسى فى دروب القدس ليلى
وليلى تستغيثُ وتستجيرُ ؟
أننسى أعين الليمون ترنو
وأعشاشاً تحنُّ لها الطيورُ
أننسى مسجداً ونداءَ فجرٍ
ومحراباً وهل تُنسى الجذورُ ؟ ” (2)
إنَّها ثُلاثيَّةُ الأرضِ والمرأةِ والقداسة ، يقدِّمُها إلينا الشَّاعرُ بألقٍ قشيبٍ وآسر ، فليلى في موروثِنا الشِّعري ، رمزُ المرأةِ الجميلةِ ، العالية ، والكاملة في تكوينها الخَلقيِّ والخُلُقيّ ، وهي ذاتُها إسمٌ من أسماءِ الكعبةِ المشرَّفةِ في بيتِ اللهِ الحرام ، ورمزٌ من رموزِ النَّشوةِ ، التي أرادَ لها الشَّاعرُ مدىً آخرَ غيرَ أمداءِ الخمرِ المؤدِّيةِ إلى التيهِ والضَّياع ، بل نراهُ يجدلُها مع خُصلاتِ الرِّفعةِ والتَّسامي ، كي تُكثِّفَ المعنى في الصُّعودِ الانتشائيِّ إلى مداراتِ الحُلم العُلوي . واللَّيمونُ والأعشاشُ والطُّيورُ ، أعيانٌ من الأرضِ ، وصورتُها الرَّافلةُ بأثوابِ العطاءِ والجذبِ ، و” القدسُ ، المسجدُ ، نداءُ الفجرِ ، والمحراب ” ، أربعةُ رموزٍ مُخضلَّة بندى القداسةِ ، وعابقة بأريجِ الطَّهارة . و كأنّي بصاحبِنا ، يتقصَّدُ هذا التَّحشيدَ الدّلالي ، ليبلغَ قمَّةَ الهدفِ في تثويرِ عقلِ ووجدانِ المُتلقّي ، فيندفع للذودِ عن أرضهِ المغتصَبةِ ، لأنَّهُ بذلكَ يكونُ مُلْتَحِماً في وجودِهِ الحيويِّ والعقديِّ ، آنَ ينبري مقاتلاً ومنافحاً من أجلِ مقدساتِهِ وأرضهِ وعِرضه . و في هذا بُعدٌ عميقٌ لتمازجِ الفكرِ بالشّعرِ ، وصولاً إلى غائيَّةٍ عاليةِ الهِمَّةِ في ثقافتِها ونشدانِها الرَّفيعِ الرَّاغبِ في الفجرِ والجمالِ والانتصار. و لعلَّ في هذا الاستفهامِ الإنكاريِّ الذي ألحَّ عليهِ الشَّاعر، ما يُشيرُ إلى حقيقةٍ مُتجذرةٍ في الوعي العامِ لدى الأهلين ، تلكَ التي تدورُ حولَ التَّمسكِ بالحقِّ السَّليبِ ، و عدمِ التَّنازلِ عنه ، و قد صرَّح صاحبُنا بهذا في مطلعِ القصيدةِ حينَ قال :
إذا كانت جراحُ الناس تغفو ”
فإنَّ جراحَنا أبداً تفورُ
وإن كانت همومهمُ رَماداً
فإن همومَنا الصغرى سَعيرُ “.
و هنا يبرزُ الأداءُ مُتَجَلِّياً عندَ الشَّاعر ، إذ يشخِّصُ جِراحَ أهليهِ المكتوينَ بنارِ النَّكبةِ والاحتلال ، ما يجعلُها فوَّارةً ومُترعةً بقوَّةِ الاستذكارِ ، مُقدِّمةً للثَّباتِ في حُقولِ الكفاحِ والنِّضالِ والجهادِ ، وصولاً إلى إنجازِ الحُلمِ حقيقةً مُخضَّبةً بحنَّاءِ الانتصار.
و هذهِ المعاني يؤكِّدُ عليها مفلحُ ، في غيرِ قصيدةٍ من أشعارهِ المُشبَعةِ بأمواهِ الأملِ بتجلّي الفجر نصراً مُبيناً . يقولُ في قصيدةِ “البِشارة” من ديوان (إنَّها الصَّحوة) :
” ….يا أيُّها المُستضعفونْ
يا مَنْ يؤرِّقُهم زمانُ الجوعِ والأشباهِ
…يفترشونَ شوكَ الصَّبرِ
…يلتحفونَ أقبيةَ الدُّخانْ
يا أيُّها النَّغمُ الذي عزفتْهُ ريحُ الفجرِ
…واصطفقتْ بهِ الصَّحراءُ
…وانطلقتْ بهِ البيضُ الخِفافْ
ليلُ الطَّوائفِ لنْ يطولَ
…و لنْ يطولَ دُجى الخِرافْ
فتأهَّبوا للموسمِ الآتي
…فقدْ لاحَ القِطافْ “(3)
المُدقِّقُ ابتداءً في اسم الديوان ( إنَّها الصَّحوة ) ، و في اسم القصيدةِ (البِشارة) ، لا شكَّ في أنَّهُ سيُحْمَلُ إلى عوالمِ الأملِ بسطوعِ شمسِ فجرٍ آتٍ ، ومُحَرَّرٍ من التَّمزقِ والخذلانِ والضَّعف . و هو الأمرُ الذي ذهبتْ إليهِ القصيدةُ في أدائها ومعانيها . و رُغمَ بروزِ الأداءِ الإنشائي في أجواءِ النَّصِ ، إلَّا أنَّ روحَ القصيدِ بقيَ مشتعِلاً بالوقدِ التَّصويري عَبرَ استخدامِ المجازاتِ الأواسرِ ، والكناياتِ السَّواحر ، تلبيةً لمقامِ الشِّعرِ ، فجاءت الفحاوى ، مزيجاً من تَمَرُّدٍ جسورٍ ، على أزمنةِ الظُّلمِ والتَّشرذمِ والجَور ، وخُروجاً أبيَّاً من الضِّعةِ والهوانِ والقيودِ ، إلى أمداء يُنْحرُ فيها “دُجى الخِراف” ، و يسقطُ “ليلُ الطَّوائف” ، و يذهبُ “الأشباهُ” و “زمانُ الجوع” إلى غيرِ رجعةٍ ، ليبرزَ في الأفقِ عِوضاً عن كلِّ تلكَ السَّوداواتِ ، زمانٌ آخرُ ، مُسَيَّجٌ بِ “البيض الخفاف ” ، ومُشْرفٌ على مواسمِ الخيرِ والظَّفرِ والقطاف. من هنا نفهمُ جانباً من سُمُوِّ الموقف ، والالتزام الذي يحفلُ بهِ إبداعُ أولي البصائرِالمستنيرة والقلوب الواعية ، حيثُ إنَّ ” للكلمةِ الشِّعريةِ رسالةً ثوريَّةً ، إصلاحيَّةً شاملة ، ينبغي عليها أنْ تحملَها بصدقٍ وأمانة ، و توصلَها إلى حيثُ هدفُها وغرضُها”(4).
و في سياقِ الكلامِ على المكانِ وبروزِهِ في دائرةِ الخفقِ واعتمالاتِهِ المُّصاعدةِ إلى تحاليقِ الابتهاجِ الذّائبِ في معارجِ الأنوارِ المقتاتةِ من القِ المُقدَّسِ ، نقرأ لصاحبنا في قصيدتِه ” الحُلم ” :
” بزغَ الفجرُ فانطلقْ يا هَزارُ
واستَحِمِّي بالضَّوءِ يا أشجارُ
رحلَ الموجُ ، والسَّفينةُ باتتْ
في عُيوني وشَعَّتِ الأنوارُ
والقيودُ التي أعاقتْ خُطانا
سقطتْ والطُّغاةُ والأشرارُ
وتنامتْ على الدُّروبِ ورودٌ
وتهادتْ كواعِبٌ أبكارُ (5).
ثمَّةَ امتزاجٌ طافحٌ بينَ الغنائيَّة والرومنسيَّةِ والأجواء الثَّورية في هذا المقطعِ الشِّعري ، و هوَ معلَمٌ كثيرُ البروزِ والتَّجلي في شعرِ محمود مفلح . و هذا إنْ دلَّ على شيءٍ ، فإنَّما يدلُّ على عمقِ تجذُّرِ الآصرةِ الرّاَبطةِ بينَ الشَّاعرِ وأرضِهِ ، التي هي مسقطُ رأسهِ ومرقدُ أبائهِ وأجداده ، ومجالُ سعيهم وعراكهم مع الأيام .
واستعمالُ صاحِبنا بحرَ الخفيفِ هنا ، موئلَ إيقاعٍ ، ومصعَدَ نبضٍ شعرِّي ، زادَ في ارتفاعِ مستوى الغنائيَّة التي ” لا تعني الوقوعَ في شرنقةِ الذاتِ والاختناقَ في بواطنِ الفرديَّةِ . وآيةُ ذلكَ أنَّ الأديبَ الحقَّ يستلهمُ تجاربَهُ الخاصَّةَ لتمتدَّ فُروعَهُ كزهرةِ النيلوفر ، تُغطِّي مساحةَ الماءِ والحياة”(6). و لعلَّ تواترَ مفرداتِ ( بزغَ ، الفجر ، الضَّوء ، شعَّ ،والأنوار) ، ثُمَّ اختتام المشهد بالكواعبِ الأبكارِ ، ذاتِ الانتماءِ إلى الحقلِ المعجمي للقرآنِ الكريم ، يشيرُ إلى مدى استيقانِ صاحبِنا من كونِ حلمهِ باتَ أقربَ إلى ملامسةِ الواقع ، من قربِهِ إلى الخيالِ السَّابحِ في أعالي مروجِ الاشتهاء . وهذا يؤكِّدُ على السُّمو الفكري الذي يرافقُ القصيدَ المفلحيَّ ، رُغمَ الطَّابعِ الغنائي الذي يحدودبُ عليه من أكثر من جهة.
و من ناحيةٍ أخرى ، يحملُ أداءُ شاعرنا ، تلكَ الثنائيَّةَ التي تزاوجُ دوماً بينَ الطَّبيعةِ وأعيانِها ، و بينَ المُقدَّسِ ؛ دُخولاً آخرَ في فلسفةِ إبداعِهِ الشّعري ، الذي استحضر الأشجارَ والهزارَ والموجَ والسَّفين ؛ ثُمَّ أقبلَ على دكِّ حُصونِ الطُّغاةِ والأشرار والمجرمين ، ممَّن يمنعونَ العناقَ الشَّهي بينَ الشُّهادةِ وطُلَّابها من عاشقي ربِّهم وأرضهم. و كأنِّي بهِ يقولُ : إنَّ دماءَ الشَّهيدات من “آيات الأخرس ” إلى أخواتِها ، – و التي رمَّزَ إليها بالورود – ، ستسقطُ عروشَ الحكَّام المتخاذلين ، الذين نسوا فلسطين ، بل خانوها ، و باعوها ليهود السَّفاحين !. و لربَّما كانتْ هذه اللُّمعة وقدةً شعريَّةً محنَّاةً بخضابِ الاستشراف ، حيثُ دفعَ الطَّغاةُ و يدفعونَ أثمانَ خذلانهم فلسطينَ وأهليها ، فتساقطوا ، و يتساقطون…؛ أمَّا الحُلمُ بالانتصارِ ، فإنَّهُ يسمو يوماً بعدَ يوم ، والشُّهداء أحياءٌ عندَ ربِّهم يرزقون ، والشَّهيداتُ كواعبُ ، وأتراب ،و أبكار ، يتهيَّأنَ لعرسِ الجنَّةِ والملكوت !.
و في قصيدة ” إلى متى؟” يقول :
القدسُ ما زالتْ على حالِها”
“واللِّدُ”و”الرَّملةُ” و”الكرملُ”
يا أمَّتي يا كعبةً للهُدى
يا أيُّها السَّيفُ الذي يُصقلُ
ما زالَ نبضُ الحُبِّ في خافقي
متى يجيءُ القادمُ الأوَّلُ؟
أرنو إلى تلكَ الوجوهِ التي
فيها يُضيءُ اللَّيلُ بل يرحلُ
ما زالَ فينا عُصبةٌ حُرَّةٌ
في كُلِّ يومٍ حبلُها يُفتَلُ
تمضي ويمضي الفجرُ في إثرِها
والقولُ إنْ قالتْ هُوَ الفيصلُ “(7).
لمْ يخبُ ألقُ اليقينِ ونورُ الإيمانِ قطُّ في قلبِ وعقلِ الشَّاعر . بل الواضحُ ممَّا قرأنا ، سطوعُ وهجِ العقيدةِ الرَّاسخةِ إلى حُدودٍ ، أصبحتْ فيها الآمالُ مجالَ الآتي الحتميّ . لذا يستحثُّ ابنُ بلدةِ ” سمخ” القائمةِ على ضفافِ “طبريَّة” في فلسطين المُحتلَّةِ ، هِمَمَ أبناءِ الأمَّةِ الأصفياءِ والأنقياء ، كي يُعيدوا سيرَتَها الأولى معَ المجدِ والعزَّةِ والانتصار. و يستعملُ في ندائهِ كلماتٍ لها وقعُها القداسيُّ لتفعيلِ مشهديَّةِ الحراكِ نحوَ الفعلِ الجهاديِّ مثل : الكعبة ،القدس ، والهُدى ؛ و التي لها ما لها من فعلٍ تحريضيٍّ يتكاملُ بإشارةِ صاحبنا إلى الفتحِ الأوَّلِ للقدسِ في خلافة عمر بن الخطاب رضيَ اللهُ عنه ، ثُمَّ يسعى في تكاملِهِ مرَّةً أُخرى حينَ يذكرُ و يُذَكِّرُ بأنَّ الأمَّةَ لم تخلُ من الخيرِ وأهليه ، و ما زالَ فيها لنصرةِ الحقِّ رجالٌ بواسل ، وعصبةٌ قائمةٌ على أمرِ ربِّها ، و لا يضرُّها مَنْ يُعاديها حتَّى يأتيَ أمرُ الله.
و تردُّدُ شاعرنا في مقطوعتِهِ الشعريَّةِ هذه ، بين الأسلوبِ الإنشائي والإخباري ممهوراً بالصِّدقِ ، لا يُقلِّلُ من قيمتِهِ الفنِّيةِ ، “فقدْ سادَ في العصرِ الجاهليِّ الاهتمامُ بنقدِ المعاني من حيثُ صدقُها وكذبُها ، وعدَّها الجاهليُّونَ من الأسسِ الرَّئيسيةِ التي يحكمونَ على الشِّعرِ من خلالِها ، و اعتبروها أصلاً من أصولِ النَّقد ، و نظروا إلى المبالغةِ أنَّها تُفسِدُ المعنى ، و تُخرجُ عنِ الصَّواب، و تُبعِدُ عن الواقع ، و تُنافي الصِّدق” ( 8). من هُنا يتجلَّى لنا شعرُ محمود مفلح ، واحاتٍ من أملٍ يصبو بقلبِهِ وناظريهِ نحوَ الشّمسِ والفجر ، و يرى كثيراً من الخيرِ آتياً على أيدي أولئكَ الأشاوسِ، الذينَ لم تنل المِحنُ وهزائمُ الأنظمةِ من عزائمهم، بل بقوا شامخينَ كالأعلامِ، لم يخفتْ أوارُ شوقهم لنزالِ العدو الغاصبِ، وطردِهِ من أرضِ القداسة، أرضِ الآباءِ والأجداد.
يقولُ في قصيدتِه “عُشَّاقُ الفجر ” :
“أيُّها المُدلجونَ في الأسحارِ
أيُّها السَّائرونَ صوبَ النَّهارِ
أنتُمُ القوَّةُ التي تكنسُ اللَّيلَ
وأنتمْ ملامحُ الإعصارِ
والسُّيوفُ التي على الدَّهرِ ما
زالتْ تخطُّ الفخارَ تلوَ الفخارِ
مُشرعاتٍ لمَّا تَزَلْ و ستبقى
ومضاءُ السُّيوفِ في الإصرارِ “(9).
إنَّهُ النِّداءُ الحارُّ، يُجدِّدُ شاعرُنا رفعَهُ إلى أولي العزائمِ العوالي والنُّفوسِ الشَّامخاتِ، من القائمينَ حراسةً للأمل، والملتحمينَ بفكرةِ الكفاحِ والجهاد، أولئكَ الذين يُحيونَ لياليهم وأسحارهم عبادةً للهِ، وتقرُّباً منهُ، رغبةً في شكرهِ، ورغبةً أُخرى في نيلِ رضوانه . و كأنّي بنفسِ الشَّاعر تسعى لبيانِ أثرِ المُقدَّسِ في استنهاضِ الهمم، فجعلَ عنوانَ قصيدته “عُشَّاقُ الفجر” ذا بُعدينِ موحيين وطيِّبين، الأوَّل يشرفُ على معنىً تَعبديٍّ لازمٍ لِمَنْ أرادَ أنْ ينشدَ النَّصرَ من اللهِ تعالى القائلِ في محكم القرآن الكريم: ” يا أيُّها الذينَ آمنوا إنْ تنصروا اللهَ ينصُرْكم و يُثبِّتْ أقدامَكم ” (10)، و عمقُ الإشارةِ هنا يكمنُ في وجوبِ تحقُّقِ الأهليَّة المطلوبةِ فيمن يستحقون نصرَ الله سبحانه، في كونهم يتعبَّدونَهُ بأداءِ فروضِهِ وبالطَّاعات، و هذا بدورهِ، يضعهم في دائرةِ الرّضوان الذي يجعلهم ناصرينَ لخالقهم المُتقضِّلِ بِمِنَّةِ النَّصرِ على مَنْ قاموا في ميادين العبادةِ وإقامةِ أحكام الدِّين الحنيف في كُلِّ جوانبِ حياتهم. أمَّا البعد الثاني المُتَضمَّن في العنوان، فإنَّهُ متعلِّقٌ بدلالةٍ بلاغيَّةٍ مربوطةٍ بفحوى النَّصر، و بالتَّالي ينفتحُ المعنى هُنا على استعاراتٍ جميلةٍ فيها تألُّقٌ للمُرادِ حينَ يُكْنَسُ أثرُ الغاصبِ والمُحتلّ، و يستحيلُ الثَّائرونَ إلى أعاصير مُتتالياتٍ، و تقتلعُ حُضورَ العدوِّ من جُذورِه. ثُمَّ ينتهي بعد كُلِّ هذا التَّقديمِ والأداء المعلولي في مدارجِ السُّمو إلى حِكمَةٍ بالغةٍ بقولِه:” ومضاءُ السُّيوفِ في الإصرارِ ” !.
الحُلمُ بالعودةِ المُكَحَّلةِ بالانتصار
يكادُ الكلامُ على فلسطين المكانِ والقداسةِ، يتداخلُ في الكلامِ عليها حُلماً بالعودةِ وأملاً بالانتصارِ، في شعر محمود مفلح. وهذا ليسَ غريباً عندَ أديبٍ مصقولٍ ومُهذَّبٍ بالثقافةِ الإسلاميَّةِ، ومندغمٍ في هوى القرآنِ الكريم، و في تجلِّياتِ السِّيرةِ العطرةِ للرَّسولِ العدنانِ مُحمَّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم.
و الذي يتأمَّلُ أشعارَ صاحبِ أكثر من عشرة دواوين شعريَّة، ابتداءً من (مذاكرات شهيد فلسطيني- دمشق 1976 )، و ليسَ انتهاءً بِ ( لأنَّكَ مسلم- المنصورة في مصر)، يلمسُ من عناوينها ومضامينها، مدى عمقِ الرُّوح الانبلاجيِّ في باطنِ شاعرنا الذي أتحفنا بأشعارٍ نبَّاضةٍ بالشَّوقِ والحنين، ومغسولةٍ بسلسبيل ينسابُ ندىً خالصاً من القذى والوحول، ومشرفاً على شفافيةٍ معندلةٍ كالذي يبعثُهُ الهديلُ في أعماقِ النَّفسِ الآدميَّةِ الآمنة، الوادعة، والحالمة.
و إذا كانَ الإنسانُ وَفقَ تكوينِهِ الجِبِلِّي شديدَ التَّعلقِ بالأحلامِ، وصولاً للواقعِ المُشتهى، و”إذا كانَ قدْ كُتِبَ على المرءِ أن يفقدَ كُلَّ شيء، فإنَّ عليهِ أنْ يبحثَ عن شيءٍ لا يُمكنُ فقدُه” (11) كما قالَ يوماً أرنستْ همنغواي؛ لذا نرى صاحبَنا يعيشُ الحنينَ إلى فلسطين المغتصبة، أمداءَ بوحٍ وأمل، وصوراً ناطقةً ومُغرِّدةً فوقَ سحائبِ العودة، و التي ستمطرُ ذاتَ صباحٍ بَهِيٍّ ظفراً وألقاً، وحُبَّاً وانتصاراً.
يقولُ في قصيدة “أُغرِّدُ بالقصيدةِ كُلَّ يوم” :
أحنُّ إلى روابيكِ الفساحِ
وألثمُ منكِ شقشقةَ الصَّباحِ
ويهتزُّ الفؤادُ على قوافٍ
لها من فيكِ رائحةُ الأقاحي
ولمْ أحنثْ بعهدِكِ طولَ عمري
ولمْ أحرص على دميَ المُباحِ”(12).
يتجلَّى القصيدُ هُنا أضاميمَ مغسولةً بالشَّوقِ، ومُشبعَةً بماءِ الحنينِ الطَّافحِ حدَّ استرسالِ صاحبِهِ في دائرتي النُّكوصِ للمرحلتينِ الفميَّةِ والجنينيَّةِ، و ذلكَ رجعٌ غريزيٌّ وفطريٌّ يبرزُ في سياقِ الأداءِ التعبيريِّ بعفويَّةٍ صادقةٍ، بعيدةٍ عن التَّصنعِ والانتحال. فذكرُ الشَّاعرِ فعلَ “ألثمُ” والفمَ، شاهدُنا على النكوصِ الفموي، وذكرُهُ فعلَ “يهتزُّ” شاهدُنا الآخرُ على رغبةٍ جامحةٍ في الذوبان والعودةِ إلى النعيمِ الأوقيانوسيِّ في رحمِ الأرضِ التي أشرقَ عمرُهُ الأوَّلُ فوقَ تُرابِها، وهو وجهٌ ثانٍ للحنينِ الدَّافقِ بحُبِّ الرُّجوعِ إلى أحشاءِ الأمِّ وفردوسِها الرَّحمي، حيثُ ظلالُ السَّعادةِ وارفةٌ بلا انتهاء. وهذا حسبَ رأي مَنْ ينتسبونَ إلى مدرسةِ التَّحليل النَّفسي للأدب، يحملُ إشاراتٍ بليغةً تنوبُ عن تلكَ الرِّغابِ العميقةِ في بيانِ عمقِ الانتماء إلى الفسحةِ المُتكلَّمِ عليها. و فلسطينُ تستحقُّ من شاعرِها كلَّ هذا الحُبِّ والهُيامِ، فهي الحِضنُ الأوَّلُ، والصَّدرُ الأوَّلُ، وهيَ نفسُها مرقى الأحلامِ، التي يعشوشبُ الأملُ فوقَ روابيها، و تتعالى الأصباحُ في سماواتِها المُزدانةِ بهواءٍ مُنتعشِ الأنفاسِ برحيقِ الأقاحي وشذاها. و لأجلِ هذا، تستحقُّ هذه الأرضُ-الأمُّ من حبيبِها وابنها البارِّ أن يُضحِّيَ بدمِهِ من أجلِ المحافظةِ على عهدِ الرَّابطِ المقدَّسِ الذي يصلُهُ بها.
و في السيِّاقِ نفسِهِ نقرأ لهُ في قصيدةِ “طفلُ الحصار” :
“ويستيقظُ الطِّفلُ يوماً…
عُيونُهُ تجهشُ بالثأر…
بالانتصار
يجوبُ شوارعَنا المُقفره
تُحيّيهِ أشلاؤنا من بعيد
تُناديهِ كلُّ الجماجمِ في المَقبره
فيجهشُ بالرَّدِ…يُحجمُ، يهرب
لكن يعودُ ليملأَ من دمنا…مِحبره…”(13).
إنَّ الكلامَ على الطِّفلِ الفلسطينيِّ هُنا، يحملُ دلالاتٍ على جانبٍ كبيرٍ من الأهمّية. فالطِّفلُ صورةُ المستقبلِ من الزمنِ والأيامِ الآتيات، وهوَ عنوانٌ يشيرُ برمزيَّتِهِ إلى مضامين عالية الفكرةِ، و تتمحورُ حولَ ثباتِ الحقِّ لأصحابِهِ وأهليهِ في فلسطين السَّليبة، و بالتَّالي، نقفُ أمامَ مشهديَّةِ هذا الطِّفلِ مُكبرينَ هذا السُّمو عندَ شاعرِنا مفلح، إذ أعلى سُدَّةَ وأثرَ هذا الصِّراعِ مع العدوِّ الصّهيوني الغاصبِ، إلى مرتبةٍ تُجهزُ على حُلمِ وزعمِ غولدا مائير التي ظنَّتْ يوماً بأنَّ موتَ الجيل الأوَّل من النَّازحين عن وطنهم فلسطين، كفيلٌ بأنْ يُنسيَ مَنْ يُولدُ بعْدَهم من سلالاتِهم وذُرِّياتهم الأرضَ التي ينتسبونَ إليها. و كأنّي بشاعرِنا يردُّ فكراً في أثوابِ الشِّعر على مثلِ هذه الأماني الكواذب، و مُبيِّناً واقعَ أطفالِ فلسطين، وهم يحلمونَ بالثأرِ من الأعداء، و يتجهَّزونَ لأسبابِ الانتصار، و يكبرونَ على ثقافةِ المقاومةِ، لا ينسونَ شهداءَهم، والأرواحَ التي زُهقتْ على مذبحِ قضيَّتِهم، بل يبلغُ فيهم مستوى الوعي والحرص، إلى صيرورةٍ ثقافيَّةٍ تُزاوجُ بينَ الحِبرِ والدَّمِ، استعداداً لخوضِ غمارِ المواجهاتِ مع هذا العدو في كلِّ الميادين، وصولاً إلى تحقيقِ الحُلمِ الأكبرِ واقعاً ملموساً بسقوطِ الاحتلالِ وانهزامِهِ، وعودة فلسطين الرَّهينةِ إلى أُمَّتها وأهليها.
و يُتابعُ شاعرنا في القصيدةِ ذاتها:
“وتمضي سنون الحصار
ويبحثُ صاحبُنا عن سيوفِ الصَّحابه
للثأرِ، للانتصار
فيلفيها في مسجدِ الحيّ
تحرسُها صومعه
اتيناكَ يا سيفَ خالد
اتيناكَ يا ذا الفقار…”(14).
و هُنا يبلغُ مستوى الأداءِ لدى أطفالِ فلسطينَ مراتبَ الرُّجولةِ، إذ يمتلكونَ قافيةَ الكلامِ ولُبَّهُ في فحوى وحقيقةِ هذا الصِّراعِ الذي يستعدُّونَ لهُ، و ينبرونَ إليه. إنَّهم عائدونَ إلى ثقافةِ القرآنِ والمسجد، إلى ذاكرةِ خالد بن الوليد، وعليٍّ بن أبي طالب –رضيَ اللهُ عنهما- ، و بالتالي، هم عائدونَ إلى بوصلةٍ تُستأصلُ الخبثَ والخصاءَ المُعَشِّشيْنِ في أداءِ مَنْ سبقوا و قادوا المعركةَ مع الغاصبينَ على أُسسٍ واقعيَّةٍ وبراغماتيَّةٍ، تمنحُ المُحْتَلَّ ما ليسَ لهُ فيهِ أدنى حقّ…، وهنا تكمنُ معجزةُ وفحوى وثقافةُ أطفالِ الحجارةِ، أولئكَ الذينَ صنعوا الجيلَ –المُعجزةَ، فكانَ منهمُ الشُّهداءُ والقادةُ البواسلُ، وطلائعُ الفجرِ المُزَيَّنِ بالانتصارِ الآتي.
و في قصيدةِ “أُمنية”، يُحلِّقُ شاعرُنا في أمداءِ حُلمِ العودةِ، مستحضِراً أعيانَ الطَّبيعةِ كُلِّها أو جُلِّها لتعيشَ أجواءَ العُرسَ الكبيرَ، لا ينسى الماءَ، الغديرَ،الصباحَ، المساءَ، الضِّياءَ، الظِّباءَ، و لا حتّى الدجاجِ والأدياكَ، والخريفَ والشِّتاء، و فيها يقولُ بلغةٍ حُلميَّةٍ عاليةِ الخفقِ، ومنسرحةٍ في غنائيَّةِ بحرِ المُتقارب:
“إذا قدَّرَ اللهُ ليْ أنْ أعودَ
وأطويَ أوراقَ هذا السَّفرْ
وأرجع للبيتِ،بيتي القديم
وأهبط من ذلكَ “المُنحدرْ”
فإنّي سأحضنُ كُلَّ الوجوهِ
وألثمُ في البيتِ كُلَّ الصُّورْ
وأزرعُ ما عشتُ أغلى الزَّنابقِ
أروي بماءِ العُيونِ الزَّهرْ
وأُطلقُ قلبي الجديدَ الجديدَ
ليلعبَ في الرِّيحِ تحتَ المطرْ”(15).
المُدقِّقُ والمُتأمِّلُ في مفرداتِ وتراكيبِ هذه المقطوعة من القصيدة، لا شكَّ في أنَّهُ سيعيشُ فيوضَ الحميميَّةِ والأُنسِ مع الطَّبيعةِ، التي أحسنَ شاعرُنا في توظيفِ عددٍ من المفرداتِ ذواتِ البُعد الإخصابي (حضن،لثم،زرعَ،روي،مطر)، لتأكيدِ المعنى الذي رغبَ فيهِ، ومالتْ نفسُهُ إلى عوالمِ عطائهِ وسحره. فاللَّثمُ والاحتضانُ، والزراعة والارتواء…، لها كُلُّها خاصِّياتُها ودورُها البليغُ في العمليَّةِ الإخصابيَّةِ لدى الأرضِ والإنسان. لكأنّي بابنِ سمخ، يجدُّ في الافصاحِ عبرَ لغةِ التلميح : حينَ يتحقَّقُ حُلمنا في العودةِ إلى ديارِنا، سترونَ هناكَ حياةً أُخرى، مُترعةً بالولادةِ والعطاء، ومُزدانةً بالزَّنابقِ والزَّهر، و بأحلى الوجوهِ الفيَّاضةِ بأبهى التَّجلياتِ والصُّور.
و هذه الأجواء المسافرة كُوَمَ شوقٍ وتراتيلَ حنين لفلسطين، تنبىءُ عن مدى تغلغلِ هذا الدَّفقِ الشُّعوري في آصرتِهِ الفكريَّةِ التي تٌلِحُّ على مشهديَّةِ القلبِ والوجدان، أن تسبحَ دوماً في دوائرَ مرفودةٍ بأمواهِ العقيدةِ واليقين، الأمر الذي حملَ أشعارَ صاحبنا مفلح، كما من ذي قبل، و من بعدُ، أشعار محمد العدناني، عبد الرحيم محمود، هارون هاشم رشيد، حسن البحيري، محمد صيام، أحمد فرح عقيلان، مأمون جرَّار، سعيد تيّم، كمال الوحيدي،حسين خطيب، سميرعطيَّة، مروان الخطيب وسواهم، على الارتكازِ والنُّهوضِ بالمعاني الدِّينية، لأنَّ “الدِّين ليسَ عبادةً وحسب، ولكنَّهُ خُلُقٌ ونظامُ حياةٍ متكامل أيضاً، لهذا فإنَّ للاتجاه الوطني الدِّيني في الشِّعرِ دوراً مستمرَّاً في معالجةِ الشُّؤون الدِّينية والدنيويَّة المرتبطة بمنهجِ هذه الحياة…، ومنها الدِّفاع عن النَّفس والأرض والمُقدَّسات، ورفض الظُّلم والعدوان، والجهاد في سبيلِ اللهِ وتحرير الوطن”(16).
و ثمَّةَ ملامحُ للحُلمِ بالعودةِ المكحَّلةِ بالأنوارِ والانتصارِ، نعثرُ عليها في مُتونِ دواوينِ شاعرنا مفلح، و منها قولُه مُخاطِبَاً الوطن السَّليب والمُغتصب في قصيدةِ “يا دار يا دار” :
وأنتَ علَّمتنا الإبحارَ في زمنٍ”
لا يمتطي الموجَ فيهِ غيرُ بحَّارِ
وأنتَ أعطيتنا ورداً وأرغفةً
وأنتِ أعطيتنا جمراً لآذارِ
فكيفَ لم تورقِ الأشجارُ في دمنا
ولمْ تُغَرِّدْ طُيورٌ فوقَ أشجارِ”(17).
إنَّ الحاجةَ إلى الوطنِ-الأرض، تَرتقي إلى مستوى الحاجةِ إلى الحِضنِ-الأُمّ، كيفَ لا وهما يُشَكِّلان معنى الحياةِ والنَّماءِ، وسرَّ الاستمرارِ والبقاء، ومجالَ الحُلمِ والاشتهاء. من هُنا رأينا شاعرَنا يُضفي على وطنِهِ السَّليبِ رمزيَّاتِ الأورادِ والأرغفةِ، ثُمَّ يستحضرُ شهرَ آذار، وهو شهرُ ولادةِ الرَّبيعِ والأخضرِ، والشَّهرُ- الأسطورةُ المرتبطةُ عندَ كثيرٍ من أممِ الأرضِ بدلالاتِ الولادةِ والخصب؛ ما يؤكِّدُ على أهمِّيةِ الارتباطِ بالعراكِ والكفاحِ والجهادِ، من أجلِ الوصولِ إلى زمنٍ يصبحُ فيهِ الحُلمُ حقيقةً، وتعودُ فلسطينُ إلى راحاتِ وأنفاسِ أبنائها، و إذَّاكَ يكونُ النَّصرُ الكبيرُ والعودةُ الظَّافرة.
و يُتابعُ شاعرُنا مناجياً الوطنَ في القصيدةِ نفسِها :
“يا أيُّها الوطنُ المسفوحُ في دمِنا
لقد عشقناكِ في شمسٍ وأمطارِ
لقدْ عشقناكَ أمواجاً وأشرعةً
وأنجماً وتلاواتٍ بأسحارِ
لقدْ رسمناكَ في أحداقِنا قمراً
وفي المنافي ضممنا صدرَكَ العاري
نجوعُ نعرى وفوقَ الشَّوكِ خطوتنا
حتَّى يُطلَّ صباحُ الفُلِّ والغارِ”(18).
هو ذا الوطنُ في تعابيرِ واشتهاءِ صاحبِنا مُرتقٍ، إلى سُدَّةِ العلوِّ والتَّسامي والرفعة. إنَّهُ ذاكَ المعنى الأكبرُ للخيرِ في الأرض، وهو يُماثلُ الشَّمسَ في حاجةِ النَّاسِ إلى دفئها ونورِها كي تنمو الكائناتُ الحيَّةُ من إنسانٍ وحيوانٍ ونبات. وهو يُشاكلُ الأمطارَ التي لا يمكنُ للنَّوابضِ أن تحيا من دونِها، كما يُشبهُ حُضورُهُ فلسقةَ الإبحارِ وما تنطوي عليهِ من قيمٍ معنويَّةٍ وماديَّة. و فوقَ كلِّ هذا وذاك، يرتقي الوطنُ إلى مواقعِ النُّجومِ وما لها من أثرٍ أبيضَ وناصعٍ في هدايةِ النَّاسِ آن يحلُّونَ، ووقتَ يرتحلون، كي يبتعدوا عن الوقوعِ في أشراكِ الأتياهِ وضنكِ الضَّياع. وعدا ذلك، يبرزُ الوطنُ في لوحاتِ مفلح، مدىً من قداسةٍ(التلاوة، الأسحار)، فيها إشارةٌ بليغةٌ لموقعِ فلسطينَ في حارطةِ القرآن الكريم، حيثُ كُرِّمتْ بأن وردَ ذكرُ الأقصى المباركِ في سورةِ “الإسراء” من كتابِ اللهِ العظيم، و في غيرِ حديثٍ من أحاديثِ الرَّسولِ الكريم مُحمَّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم. وعندَ هذا الحدِّ يصرخُ شاعرُنا مُبرِزاً وطنَهُ قمراً منيراً، ما برحَ وجميع النَّازحينَ يرتقبونَ أنوارَهُ في لياليهِ المُنيراتِ كي يغتسلوا بضوئه، و يحلموا بعناقِهِ ذاتَ سَمَرٍ معندلٍ في الجليلِ والمثلثِ، و في النقب.
و يختمُ عشيقُ طبريَّة نزفَهُ في هذه القصيدةِ بما يُشبهُ الإعلانَ السياسيَّ : نتحمَّلُ الجوعَ والسَّغبَ والعطشَ، نتحمَّلُ أن نشقى ونعرى، أن يُنزفَ دمُنا، أن تهلكَ أرواحُنا، تلقاءَ الانتصارِ المُبين، وعودةِ فلسطين إلى زمانِ العزَّةِ والمجدِ، زمانِ الفُلِّ والقَرنفُلِ والغار.
و إذا كانَ لنا أنْ نختارَ بعضَ الأبياتِ الشِّعرية، لنختمَ بها بحثنا هذا، فإنَّ القلبَ يقعُ في حيرةِ الباحثِ الذي تتجاذبُهُ كثرةُ الشَّوامخِ في قصيدِ شاعرِنا محمود مفلح، ليقعَ الاختيارُ أخيراً على رائيَّتِهِ الرَّوعةِ الخالدةِ “نقوشٌ إسلاميَّة على الحجرِ الفلسطيني”، والتي تقومُ في ثلاثةٍ وثلاثينَ من الأبيات المُتَّخذةِ بحرَ البسيطِ مجرىً وإيقاعاً لها. يقولُ في منتهاها :
هاتي الزَّغاريدَ يا أُمَّاهُ غالية”
فإنَّ أطفالَنا في القدسِ قد كبروا
…، وإنَّ هذا زمانٌ لاحَ عارضُهُ
وللعقيدةِ فيهِ القوسُ والوَترُ
من المساجدِ قدْ صاغوا ملاحمَهم
ومن مآذنِها الشَّماءِ قدْ نفروا
فكيفَ ينهزمُ الإعصارُ في بلدي
ولحنُهُ السرمديُّ الآيُ والسُّورُ؟!”(19).
هوَ زمنٌ مُشرفٌ على الفجر، مُتَعلِّقٌ بتلابيبِ الرِّغاب، وبتحاليقِ الأنوار، و بروعةٍ مغسولةٍ بالزَّغاريدِ والبُشرى، تلكَ التي آنسَها الشَّاعرُ حُبَّاً، ألقاً، صُبحاً،ونصراً آتياً كاليقينِ الذي يعشِّشُ في قلبِهِ ورؤاه.
هوَ زمنٌ كالحبقِ، وشقائقِ النُّعمانِ المصلّيةِ في كنفِ الأخضرِ والرَّبيع، يستحقُّ أن يُغنَّى لهُ من شَغافِ القلبِ وسُويدائه، لأنَّهُ منتصبٌ بقاماتِ الأطفالِ الآتينَ من مدارجِ الأحلامِ إلى ساحاتِ الآمال، معهمُ مجدُ العقيدةِ وعمقُها الفضيُّ، وسبائكُ من أضواء مختَزَنَةٍ في تراجيعِ القداسةِ، التي منحتِ المجاهدينَ، صغاراً وكِباراً، أوجَ المَنَعَةِ، وأعلى مراتبِ القوَّةِ ورباطةِ الجأشِ والشَّكيمةِ، كي ينبروا صاعدينَ إلى أعراسِ الشَّهادةِ واليقين، مرَّاتٍ تلوَ مرَّات، وصولاً إلى زمنِ الاندغامِ في الحُلمِ حقيقةً لا تعرفُ التَّأويلَ الهزيلَ والسَّقيم، وإنَّما مداها الصُّبحُ المفتوحُ على انبلاجِ ساعة الانتصار.
هو ذا لحنُ شاعرِنا محمود مفلح، يُبَشِّرُ بظفرٍ آتٍ لا محالة، وبعزٍّ مُشرقٍ رُغمَ عتماتِ الأعراب، وكيدِ العدوِّ الصّهيوني الغاشم. ذلكَ أنَّ الذينَ انطلقوا من المساجدِ إلى ساحاتِ الفداءِ والمجدِ والشَّهادةِ، ليسَ أمامَهم، إلَّا معنىً واحدٌ، خالدٌ وأبيٌّ، ومعقودٌ فيهِ لواءُ البِشارةِ، بصُعودِ زمان القدسِ إلى كتابِ السُّؤددِ والانتصار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- د. سعدي ضنَّاوي:”أثرُ الصَّحراء في الشِّعر الجاهلي ” دار الفكر اللُّبناني ،بيروت،ط أولى،1993،ص 13.
2- www.ibtesama.com/vb/showthread-t_87005.html
3- أنظرْ قصيدة “البشارة” من ديوان (إنَّها الصَّحوة).
4- مُحمَّد حبلص : “قصائدُ مُتَمَرِّدة” دار الحداثة، بيروت، ط أولى2005 ،ص7 .
5- أنظرْ قصيدة “الحُلم” من ديوان (حكاية الشَّال الفلسطيني).
6- د.خريستو نجم: “في النَّقد الأدبي والتَّحليل النَّفسي” دار الجيل، بيروت، ومكتبة السَّائح، طرابلس،ط أولى 1991 ، ص246 .
7- أنظرْ قصيدة “إلى متى؟” من ديوان (لأنَّكَ مسلم ).
8- د. هاشم صالح منَّاع : “بدايات في النَّقد الأدبي” دار الفكر العربي، بيروت،ط أولى، 1994 ،ص24 .
9- أنظرْ قصيدة “عُشَّاقُ الفجر” من ديوان (المرايا).
10- القرآن الكريم ، سورة مُحمَّد، الآية السَّابعة.
11- مروان مُحمَّد الخطيب: “رحيقُ المِداد – دراسات في الأدب – دارالإنشاء للصَّحافة والطِّباعة والنَّشر،طرابلس،ط أولى،2010 ،ص164 .
12– أنظرْ قصيدة “أُغرِّدُ بالقصيدةِ كُلَّ يومٍ” من ديوان(إنَّها الصَّحوة).
13– سمير محمود عطيَّة: “ديوانُ العودة”تجمُّعُ العودة الفلسطيني(واجب)،دمشق،ط أولى،2008،ص344.
14– مرجع سابق.
15– أنظرْ قصيدة “أمنية” من ديوان(نقوش إسلاميَّة على الحجرِ الفلسطيني).
16– د.مُحمَّد عطوات:”الاتجاهاتُ الوطنيَّةُ في الشِّعر الفلسطيني المُعاصر” دار الآفاق الجديدة،بيروت،ط أولى، 1998،ص 409.
17– أنظرْ قصيدة “يا دار يا دار” من ديوان(إنَّها الصَّحوة).
18– المصدر نفسُه.
19– أنظرْ القصيدةَ في ديوان(نقوشٌ إسلاميَّةٌ على الحجرِ الفلسطيني).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق