⏬ فاطمة عبد الله
حين تريد أن تقرأ للشاعر شوقي بزيع، جد لنفسك جوا خاصا تقرأ فيه، لا بد أن تبتكر طقسا لقراءة تلك القصائد يشبه طقس
جلسات التأمل ،يجب أن تسدل ستائر الوعي وتتجول خلف اللاوعي بعيدا عن كل المحسوسات وإلا ستجد نفسك تقرأ كلمات عصية على الفهم عصية على المتعة.
لكل قصيدة حكاية وإن تشابهت الحكايا تجد لكل قصيدة روح شعرية خاصة بها ،فالمرأة في كل قصيدة حكاية مختلفة وصورة شعرية متجددة فهي من حلم تارة ومن خيال تارة أخرى هي شفافة وخاصة ،تمتلئ بالنضارة والحياة كما في قصيدته (تشكيل )،وقصيدة (ولادة).
حكايا الشهداء ومرثياتهم عميقة المعاني غائرة بالألم فنجد ذاته المواسية المتألمة المحبة ،لأهله ورفاقه وقريته يعيش حزنهم وفقدهم ،تتشرب أشعاره من ينابعهم وتتغذى من سنابل قمحهم.(في الشمس كالأنبياء)،وقصيدة( العائد) وهي مرثية لصديقه وابن عمه الشهيد. وقصيدة (زعموا أن صباحا كان) قصيدة لأيمن الطفل إبن الرابعة الذي استشهد جراء قصف الطائرات الإسرائيلية لقريته (العزية) الجنوبية.
سأحدثكم عن أيمن
عن فرح الغابات الفاتن
في عينيه
وعن سحر يديه،
إذا فرت أنهار الأرض
وخبّأها بين أصابعه
سأحدثكم عن أيمن
عن قمر تشتبك الأشجار على دمه المنسيّ
فيسقط في النسيان
عن طفل يركض خلف فراشته
وعن الخنجر
في أقصى
الوديان
الماء والهواء أكثر عناصر الحركة في قصائد بزيع فلا تكاد قصيدة تخلو من الينابيع والوديان والأنهار والأمطار فهو عنصر الحياة في قصائده ذاكرته وبيئته ووعيه الطفولي .
يحاكي الشاعر الرمز دينيا وتاريخيا في قصائده ففي قصيدته (قمصان يوسف) قسم الشاعر القصيدة إلى ثلاث قمصان ،قميص التجربة وهو القميص الذي جاء به إخوة يوسف إلى أبيهم بعدما زعموا أن الذئب أكل يوسف .
دع قميصك للذئب
كي تنتهي عاريا مثلما كنت
واهبط إلى آخر البئر
كي تستحق جمالك
والقميص الثاني قميص التجربة، وهو القميص الذي قدته زليخة وقرأ فيه الشاعر يوسف من الداخل فعرض مكابدات يوسف ومقاومته لنفسه ولاغراء زليخة وافتتانها به.
وإذا راودتني زليخة
عن جنّتيْ شفتيها
انشطرت
وراح الملكان يقتتلان
فيما براكين حمراء كانت
تمزق أقفالها
وتهرول تحت ثيابي
وما بين كفيّ جمرٌ يطوفُ
كأن دمي ملعبٌ للوساوس
بعضي يحارب بعضي
وتُشهرني
ضد نفسي السيوف
ليس بيني وبين زليخة
إلا قمصان من عفّةٍ وتشهّ.
والقميص الثالث قميص الرؤية وهو القميص الذي حمل ريح يوسف لأبيه كي يبصر
ولكن باقة عطر
تهب على بيت يعقوب
حاملة مع قميص ابنه
نجمتين اثنتين،
تصبان في بئر عينيه
ضوءهما المشتهى
وتعيدانه من عماه
ومن الرموز التاريخية قصيدة (حوار مع ديك الجن)
حيث قتل ديك الجن زوجته وحبيبته ورد من فرط حبه وغيرته عليها ثم أحرقها ووضع رمادها في كأس وشربه حتى الثمالة ، وما لبث أن غلبه الندم فظل يبكي حتى الموت، القصيدة حوار يديره ديك الجن مع نفسه .
قَتَلْتُها
ورد التي أحببت حتى الموت أن أضمّها إلي ّ
أن أهيم في سواد شعرها الطويل
ورد الأرقُ من حمامة
على النخيل
والأشفُّ من بحيرة تشق ليل حمص
ديك الجن، ديك الجن
ما الذي فعلتهُ ؟
قصيدته (كأني ما زلت أعدو هناك....الحى أمي)
سرد شعري لطفولة من المهد إلى أن حملته الحياة ما لايطيق من أوزارها....سحر بهي على أكف الأمهات وطفولة يلفها الدعاء وهي ماضية إلى اللاكتراث
كأن من ثلاثين عاما
أقايض روحي بقضمة شعر
مبلّلة بلعاب الخطايا
وممهورة بصراخ الشيطان
منذ ثلاثين عاما أطارد أودية
لا تعود
وأحمل من ثقل
هذي الحياة الدنيئة
والا أطيق احتماله
فهل لي بتنهيدة منك
هل لي بجرعة ماء
بترنيمة من نعاس الطفولة
كيما أشد
على عطشي المستبدّ
وأشرب حتى الثمالة
في أغلب قصائد بزيع المكان هو منبع ومشرب صوره الشعرية فكما الماء عنصر الحركة في قصائده فالشجر عنصر الثبات .فللأشجار اعتبارات تاريخية تشكل خارطة نمو وتطور الفكر والحس الشعري والوجداني، فكم من مغترب يعود لأرضه وبيته بعد طول سفر يتفقد شجرة كانت هنا او هناك ،فإما أن تكون هذه الشجرة ذات ثمر لا يزال مذاقه عالقا في الذاكرة ،أو شجرة لا زال صوت لهوه طفلا تحتها يملأ الوادي صدى
قصيدة (صراخ الأشجار )..إبداع الذاكرة التي لا تفوت عطرا ولا مشهدا ولا لحنا.
وفي أحضان دالية
تعرش فوق سطح البيت
أحصيت النجوم
وأدركتني شهوة للحب
حامضة المذاق ،
وتحت أنظار السماء
قطفت من ثغر الفتاة
وقد تمادت في التمنّع
شهد أول قبلة
وقصيدته (لم يلدني شجر قط) انكسار الإنسان في الإنسان ،انطفاء الحلم في عتمة العجز ، والمضي من الألم إلى الوهم.
مطفأٌ صدري
وأدنى رسلي اليأس
وأعلى خضرة منّي ذبولي
لم يلدني شجر كي أرتُق الأرض بأضلعي
وأدعو الماء ضيفي
أو نزيلي
والذي يُثقلني ليس حديدا
كي تؤاخي وحشتي القاع
ولا جمهرة من رغبات لم أنلها
كي أمنّى بصلاح هادئ الموج
مناديل رحيلي .
*فاطمة عبد الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق