... كارثة صارت وصمة عار يشهدها نهر دجلة
... الشاعر عصمت شاهين دوسكي جرد وحلل عبارة الموت
*بقلم .. الصديق الأيسري - المغرب
تعرف مدينة الموصل بعدة أسماء منها الحدباء لإحتداب تقوس نهر دجلة عند المرور بالمدينة أو ربما لميلان منارة جامع النوري الذي نالته أيدي الإرهاب وكما تشتهر أيضا باسم أم الربيعين لاعتدال الطقس في فصلي الخريف والربيع والموصل لأنها مركز تواصل لتجارة العراق مع المدن العربية والعالمية ومنها تركيا وسوريا وإيران ، وهي محافظة نينوى ، المدينة التي اشتهرت بالعلم والفكر والاقتصاد يلجأ إليها كل إنسان بسيط فهي تعتبر سلة العراق الاقتصادية ، الشاعر عصمت شاهين دوسكي بعد حادثة العبارة التي جعلت المدينة تتأثر بالكارثة التي أدت بحياة الناس بعد انقلابها في نهر دجلة من جراء الفساد المادي والطمع والجشع وسوء الإدارة واللا مبالاة لحياة الناس التي أصبحت رخيصة أمام الأنانية والطمع وأحس أهل المدينة بشعور مؤلم وهي تشهد غرق وانقلاب العبارة رأسا عن عقب وعلى ظهرها الأطفال والصبايا والنساء والرجال في مياه دجلة وأودت بأرواح الراكبين و تألمت مدينة الموصل وأحست بالنكد والبكاء وهي تودع الأبرياء في مياه دجلة ودخلت في حداد محزن ، يشير الشاعر عصمت دوسكي أن ربيع مدينة الموصل يصرخ ويبكي ويطلق أصوات النحيب وهو يشهد و يلمح أمواج دجلة تتخبط بضربات ورفس أرجل الشهداء و هم يهبطون إلى قاع النهر وهم يكافحون للنجاة من براثن الموت و صار ربيع الأفراح مغايرا و منافيا للصواب والواقع حيث نسمع صراخ الناس وهم يصارعون الهلاك وهم في عمر الزهور ربيعهم وشبابهم يتلاشى و يذبل بين أمواج دجلة صراخا ونحيبا ،وأصمت و أخرس وشل الأنفاس غصبا و إجبارا،
( هذه الحدباء أم الربيعين تحس
عبارة على نهر دجلة تنتكس
هذا ربيعك يا موصل يصرخ
بين أمواج على أمواج ترفس
كأن ملامح الحياة كارثة
تمر على من يهواك وينعكس
كل من عشقك يمر على ضفافك
فما بال العشق فيك مقتبس ؟
كأن الردى طوفان ينقلب
على أجساد للربيع تلبس ) .
وفي لمحة البصر صار من يعشق ويهوى جمال دجلة وبهاء ربيع الموصل تنعكس صورة فرحه إلى قرح و ابتسامته إلى بكاء و صراخ وعويل ونحيب وتغيرت فجأة الحياة إلى موت قاتل، كل من عشق الموصل يمشي ويسير على ضفاف نهر دجلة وهنا يتساءل الشاعر عن مآل العشق وشأنه وحاله قد احترق بلوعة الحب بعد أصيب بالهلاك و الردى وسط مياه دجلة وانقلب الربيع خريفا و احترق بلهيب طوفان الموت وذبلت الأزهار على صفيحة الموت و الردى. وهنا يحمل الشاعر المسؤولية عن موت الناس وغرق العبارة إلى المسؤولين الذين شبههم برؤوس الأفاعي تتمايل وتفرز سمومها القاتلة جشعا وطمعا في الأبرياء قيدت وكبلت الجمال و الحسن بافتراسه وابتلاعه بدون رحمة ولا شفقة بعيدين عن أسس ومعايير العدالة الإنسانية والقوانين الكونية التي تحافظ عن أرواح الناس من التهلكة والفناء ، وما زاد الطين بلة أن هذه الكارثة صارت وصمة عار وعمل معيب وسلوك مشين لدى المصالح العليا عند ترك الأبرياء ينغمسون في الدجى وظلمات دجلة بدون إنقاذ ولا غوث الأبرياء حتى امتزجت دماؤهم بمياه النهر الغاضب وهو يعانق أرواح الشهداء مرغما بدون تنفس .
( الطمع كرؤوس الأفاعي تلوي
تقيد البراءة والجمال تفترس
بلا قوانين ولا رحمة غرقوا
تركوا هناك في دجى منغمس
عار ثم عار على المصالح
ودم في نهر غاضب لا يتنفس ) .
هنا ينادي الشاعر بأعلى صوته بإنهاء الظلم والجهل الذي يدير المدينة بلا علم ولا دراية ولا تخصص فالقلوب والحياةِ صورة مضطربة وغير مستقرة تعرف التذبذب والانزياح نحو الهاوية و اليأس بفعل الخداع والنفاق والفساد والطمع فأرواح الناس ليسوا لعبة تتحكم فيه حماقة الطامعين سعيا وراء حقيبة مالية وحفنة من العملة ومنصب وجاه فاني على حساب أرواح الناس ضدا ومعاكسة لكل الحقوق والواجبات وبسبب هذه الفئة من المنافقين يحملون بين أيديهم سلاح الموت بدون رحمة ولا شفقة بفعلهم الشيطاني قتلوا ودفنوا ودمروا أرواح الأبرياء و حبسوا نبض الشهداء و شلوا أنفاس الناس طمعا و جشعا في أرباح وفوائد بأقل تكلفة وندرة الاهتمام وعدم الشعور بالمسؤولية .
( كفى ظلما فالقلوب صاخبة
كفى خداعا فالناس سئموا من اليأس
أرواح الناس ليست حماقة
ولا حقيبة دولار كنتم عليها حرس
لولاكم لما مات الجمال والربيع
لما انقطع النبض والنفس
ما الفرق بينكم والموت في يدكم
والطمع حياتكم والحق بلا أسس ) .
انعرج الشاعر نحو التاريخ ليذكرنا بحضارة نينوى والدمار الذي عانته و قاسته مما حصل في عهدها من حروب ومعارك وقتل ودمار وخراب في ظل لعبة الإرهاب التي راح ضحيتها خيرة الرجال والفكر والعلم والاقتصاد في هذه المدينة المنكوبة وقد تذكرت هذا القول لأحد المفكرين حينما قال " إذا أردت تحرير وطن ، ضع في مسدسك عشر رصاصات تسعة للخونة وواحدة للعدو فلولا خونة الداخل ما تجرأ عليك عدو الخارج " جسده الشاعر عصمت دوسكي بخيانة البلد والأهل وبإعادة المشهد الكارثي على نهر دجلة بسبب الجهل والاضطرابات النفسية الخانقة لكل جمال وحسن والعيش وراء الأوهام بحيث أن التاريخ لم يعلمهم و ينقل لهم مستجدات الأوضاع القديمة لتكون رشدا ودرسا و موعظة للنفوس الدنيئة و العقول الواهمة ، يطالب الشاعر نينوى أن تلبس و تكتسي بثوب الحداد و رداء الأحزان مذكرا إياها أن لباسها لا يغسل و لا يطهر و لا ينقي النفس من الدنس و النجاسة و الخبث، لظى عبرات ودموع نينوى اشتد لهيبها و اشتعلت نيرانها فاحترق الفكر والنبوغ والحدس و المودة و المحبة بين الناس،
(آه نينوى ، وآه نينوى
عاد إليك الحزن ولم ينتهي حزن أمس
طبعة ثانية من الجهل والضباب
تاركة آثار لم تتعظ ولم تدرس
إن شئت البسي ثوب الحداد
وهل الحداد يمسح موج الدنس ؟
لظى عبراتك اجتمعت مرة أخرى
واحترق الفكر والحب والحدس
لا تعاتبي أحدا فمن ناموا بالطغيان
لا يهمهم من مات غرقا أو عطس ).
ينادي الشاعر نينوى بعدم لوم أي أحد فكل الطغاة والجبابرة ينامون ويغطون في سبات عميق متناسين مصالح الوطن والأهل و لا يهتمون بمن مات غرقا أو غطسا ولقي الهلاك في مياه دجلة. من سوء حظ نينوى أن آثار المأساة و الخراب والدمار مستمرة ونور الشمس و ضياء الخلاص أصابته فاجعة الغشاوة والظلام وانطمس سراجه ، فالمصائب الشديدة والنوائب كثيرة والحوادث الكارثية تبيح الراحة وتحاربها كأنشودة التراتيل وأحلامها تستأنس وكل كتب التاريخ و الآثار تذكر بمن كان منافقا طماعا مختلسا محتكرا بائعا للأمانة بأبخس الأثمان من كان يتمتع بساديته على أجساد الأبرياء والأحرار يقاسون ويعانون ويلات وأشكال العذاب على أيدي هؤلاء الجبابرة و الطغاة.
( من حظك إن خراب الأمس باق
ونور الشمس عنك منطمس
وصوت النائبات أصبح ترتيله
تبيح الراحة وفي رؤاها تأتنس
صحف العذابات تذكرنا
من باع واحتكر واختلس ) .
غرق عبارة جزيرة أم الربيعين في مياه دجلة صارت مذلة و مهزلة في عيون العالم حكاية مأساوية لا تغطيها أثواب بيضاء ولا لباس العرس فالموت والردى باد وظاهر للعيان مهما كانت المساحيق والرتوش والألوان ، نينوى بلاد الأحرار المقيدون و المكبلون بسلاسل الطغاة وأغلال المنافقين ، يأبى التاريخ و يمتنع عن أفعال الجبابرة وغير راض بها، و في النهاية و الختام يدعو ويرجو الشاعر عصمت شاهين دوسكي أن تكون النهى والعقول و البصائر استوعبت الدرس وأخذت الحكمة والموعظة والرشد بعدم تكرار المأساة والدمار والخراب والهلاك والموت والردى لكي لا يكرر تاريخ الماضي الكئيب و المعانات و الشقاء والظلم والطغيان، وأن تكون القلوب فهمت الدرس وأدركت الوعي و فطنت للموعظة وحققت للنفس الإنسانية الهناء والطمأنينة والهدوء.
(عبارة جزيرة أم الربيعين
مهزلة لا توهمونا إنه عرس
والموت موت كيفما ألبستموه
حتى لو لبس أبيضا أو ما لبس
آه نينوى من أحرار بلا أحرار
تاريخك يأبى طاغوت شرس
ليت النهى فهمت تجاربك
ليت القلوب فهمت جوهر الدرس ) .
الشاعر عصمت شاهين دوسكي جرد وحلل حادثة عبارة الموت بخبرته الطويلة في النقد والتحليل بصور شعرية مميزة وخاصة لو علمنا إنه عاصر أحداث الموصل منذ السبعينات وأنهى دراسته فيها وانكوى بنيران الإرهاب بعد قصف بيته وسيارته ومكتبته النادرة التي كانت تحتوي على أرشيف أدبي قيم بصاروخين في أحداث الموصل وقدموا له الاعتذار لسبب خاطئ ، ورغم لجوئه لدهوك التي هي مهد ولادته ما زال مراقبا دقيقا لأحداث الموصل وأهلها وما يصيب الموصل ودهوك وغيرها من المدن العراقية فهي لا تنأى عن جوهر الإنسانية ، فالإنسان قبل أن يكون عربيا ، كرديا ، مسيحيا ، يزيديا ، وأي قومية دينية طائفية كانت عليه أن يكون إنسانيا .
***********************************
* عبارة جزيرة أم الربيعين حملت على ظهرها أكثر من 250 شخص رغم ارتفاع منسوب مياه دجلة في شهر آذار ، والعبارة تتحمل 50 أو 60 شخص لتعبر إلى الجهة الأخرى وفي هذا اليوم 21 / 3 / 2019 انقلبت العبارة على من حملوا على ظهرها وغرق اغلبهم وتغدو كارثة إنسانية بعد الكوارث والأزمات التي مرت على المدينة وأهلها ... لأسباب تجلت في القصيدة ...
* الحدباء وأم الربيعين والموصل ونينوى : هي أسماء لمدينة نينوى التي تعرضت لأكبر مؤامرة دولية لتدميرها علميا واقتصاديا وفكريا وتاريخيا .
* قصيدة العبارة للشاعر عصمت شاهين دوسكي نشرت في بعض الصحف المحلية والعربية والعالمية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق