إشكالية "الأنا" تجعل من فعل الكتابة محاولة نفسية للكشف عن أقنعة "الذات" المتقاطعة مع إشكالية الآخر "الغير". وعلى سبيل المثال؛ فعتيق رحيمي يجعل من الكتابة سردا للواقع الدموي وتأملا فلسفيا في أعماق الذات الممزقة إلى أشلاء بين الحاضر والماضي. لذا فكتاباته – رحيمي- تتسم بالطابع التصوفي من خلال استحضار رموز المتصوفة الفارسية، وكذلك من خلال ربط فعل الكتابة بفعل الخلق بصفة عامة، وجعل الأنا محور كل التساؤلات الفلسفية والفنية بصفة خاصة. وتقنيات هذا النوع تظهر بكل وضوح في كتابة "نزهة القلم" حيث يحاول الكاتب ربط كل عناصر الوجود بفعل الكتابة، بل إنه يجعل من الكتابة أصل وماهية الوجود.
ومن الجدير بالملاحظة، تأسيسا على ما سلف من القول، فإن الأدب الأفغاني المعاصر هو انعكاس حتمي للأزمات النفسية والاجتماعية التي عرفها بلد المنشأ أفغانستان. فشخصيات عتيق رحيمي –على سبيل التوضيح لا الحصر- ليست سوى مرآة صامتة، تعكس تمزق هوية "الذات" نتيجة لمخلفات الذاكرة والحرب. ومن هنا يتجه الكاتب إلى البحث عن إجابات واضحة لكل الأزمات التي عاشها والتي ما يزال يعيشها، نظرا لاستمرار العنف ونزيف الدم في بلد لم يعرف أبدا طعم السلم والسلام. وبذلك تتحول الكتابة إلى تأمل فلسفي وروحي يجمع بين كل المكونات من مثل الجمال والألم، وبين الحب والشوق والحلم والموت، لترسم للقارئ لوحة فنية نفسية يسودها الطابع التراجيدي. ففي كتاب "نزهة القلم" يحاول رحيمي جاهدا تعريف المنفى والكتابة والحب والجسد عن طريق ربطها ببعضها البعض، وذلك بإسقاط القناع وإزالته عن حالته النفسية الناتجة طبعا عن الفراغ الذي يعانيه بسبب سنوات المنفى والفراق وغياب الوطن والأم والأخ. هذا الغياب يتطرق له الكاتب في كتابه "العودة الخيالية" إذ يجعل من الصورة منافسا قويا للكتابة حين يتعلق الأمر بالكشف عن عمق الأزمة النفسية، ومدى قابلية الصورة والكتابة لعكسها. وهكذا يستخلص الكاتب أن الصورة أقوى من الكتابة فيما يخص تثبيت الذاكرة في زمن معين، وأنها قادرة –الصورة- على نقل نفس الإحساس الذي عاشه الكاتب في الماضي. كما أن الكتاب هو عودة خيالية إلى الماضي وإلى أرض ترتدي السوادا في حاضرها وماضيها. إنه كتاب بطابع الحلم والموت، يجعل من إشكالية الهوية "الأنا" سببا جوهريا لفعل الكتابة.
ولعل من أبرز خصائص الأدب الأفغاني؛ هو ذلك المزج بين الواقع والخيال. فالواقعية تستنبط قوتها من صلابة اللغة المستعملة في الشعر، خاصة عند مجروح، وفي الكتابة الروائية حين يتعلق الأمر بكتاب كزرياب وحسيني ورحيمي. ومثل هذه اللغة الرمزية، تجعل من سرد الأحداث متاهة يصعب على القارئ التمركز في النص، وبالتالي التأويل وفق النظريات السائدة، حيث يجعل رحيمي –مثلا- من جميع الفنون أداة للتنقيب في أعماق الذات والسؤال عن الوجود بلغة الغياب والحنين. وهذا ما يجعل من هذا الأدب ذا طابع نفسي وسيكولوجي، لاسيما وأنه يتميز بوجود علاقات تشابه والتطابق بين الشخصيات وشخصية المؤلف. وإذا تفحصنا جيدا كتاب "ألف منزل للحلم والرعب" لرحيمي، سنجد تطابقا كبيرا بين المؤلف وشخصية الرواية، بل إن هذا التطابق يتضح بكل جلاء في كتابه "العودة الخيالية" إذ نجد نفس الاسم ونفس المصير الذي عاشه الكاتب. إذن، فالكتابة الروائية عند رحيمي هي اعتراف واقعي بما يقع في بلاد الشعر والورد والبلبل. وإن هذا يتماشى مع حقيقة أن الكاتب الأفغاني يستمد الكثير من تجربته الشخصية، كما يجعل من ذاته محور الكتابة، ومنطلق الفن والفكر ومشكلات الإنسان في بناء هوية جديدة بعيدا عن أرض الطفولة.
وهكذا يبدو أن الأدب الأفغاني، ينبني على أسس نفسية واجتماعية، وغالبا ما يكون الطابع النفسي هو المسيطر خلال فعل الكتابة. وفهم هذه الحقيقة النفسية والسيكولوجية لـ "أنا" الكاتب، سوف تساعد بدون شك القارئ على فهم عمله الأدبي والفني وتفسيره. وتكفي الإشارة إلى أنه قد تتناقض العلاقة بين شخصية المؤلف وشخصيات عمله الروائي، لكن يبقى لوجودها دلالات وأبعاد رمزية وجوهرية في فهم "الذات" وعلاقتها بالمجتمع "الفضاء الأدبي". فلا يمكن تجريد المؤلف من الفضاء الأدبي الذي ينتمي إليه أو جعل النص خارج السياق الاجتماعي والتاريخي والإيديولوجي الذي ينتمي إليه مؤلفه. وحسب عز الدين إسماعيل المختص في التفسير النفسي للأدب، فإن ظهور شخصيات مناقضة لسلوك الكاتب الظاهر تدل في الحقيقة على تناقض تكوينه النفسي. إنها تمثل الصورة أو الصور التي كان من الممكن أن يأخذها سلوكه، وهي أيضا تعبير عن رغباته الدقيقة التي لم يستطع تحقيقها، ودليل على أنه مصدر شقائه هو نفسه -"مصدر شقاء شخصياته".
وعليه، يتبين أن عتيق رحيمي قد جعل من الكتابة الفضاء الأمثل لكشف كل حقائقه النفسية، وخاصة حقيقة "الأنا" الممزقة وغير المستقرة؛ مما يدفع الكاتب إلى الاستمرار في البحث عن جذوره البعيدة من خلال الكتابة والعمل السينمائي. فذاته الملطخة بالدم والرماد ليست سوى صورة جدارية تخفي وراءها ماض كارثي ودموي، يحاول المؤلف الهرب منه من خلال الكتابة والسفر. ويمكن الحديث هنا عن تقنية الكشف، وتعني هذه اللفظة بالفرنسية "Dévoilement" ومقابلها بالعربية -كما قلنا- الكشف أو إزاحة النقاب أو الستار. فإذا قلنا أن وظيفة الكتابة عند رحيمي هي كشف أو إزاحة النقاب، كان معنى ذلك أن الكاتب يكشف للقارئ حقيقة حالته النفسية المحجوبة بستار ويزيح عنها هذا النقاب ليرسم له صورة واقعية عن "ذاته" الموشومة بماض أليم. كما أن كشف الستار عن "الأنا" هو كذلك كشف للستار عن الواقع المعاش في أفغانستان. وعلى كل حال، فإن الكتابة الأدبية الأفغانية المعاصرة ليست سوى صرخة جحيمية لكتاب تذوقوا طعم المعاناة والمنفى.
وبإحكام القول، إن العمل الأدبي الأفغاني؛ هو تعبير عن رؤية صادقة للواقع وبحث في أغوار النفس والذات عن إجابات وجودية ووجدانية لحالة الفرد في مجتمع يسيطر عليه العنف والقمع، ويجعل من المرأة والحرية جريمة لا تغتفر. والكاتب الأفغاني ليس سوى انعكاس لهذه المعاناة التي تجتاح جميع الأعمال الأدبية والفنية. ولعل عتيق رحيمي من أبرز الكتاب الأفغان المعاصرين الذين عكسوا بطريقة فنية عبر تطويع جمالية اللغة، عمق المعاناة والألم الذي يتخبط فيه المجتمع الأفغاني منذ عقود. ثم إن كشف "الأنا" ما هو إلا تعرية لماضيها، وبالتالي فهاته مجرد تقنية أدبية يحاول من خلالها أو عبرها الكاتب العودة إلى جذوره ومحاولة التحرر منها من جديد. غير أن أزمة الهوية تحول دون تحقيق رغبة الكاتب في معانقة السلام. إنها، إجمالا، أزمة تاريخية وثقافية يصعب تجاوزها وبناء هوية أخرى في مجتمع يختلف عن المجتمع الأفغاني. وهذا يعني استمرار المعاناة، وبالتالي استمرار الإبداع الأدبي في أعمق تجلياته.
عثمان بوطسان.
كاتب و باحث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق