رواية .. "ملح السّراب"
الفصل الأول
الحرمان
تسلّق جدار المدرسة ، قفز إلى باحتها ،
ودخل صفّ ( سامح ) ، من النّافذةِ المكسورة ، وفي
الصّفّ كان بمفرده ، شعر بالفرحة تجتاحه ، جلس
على المقعد ، واضعاً يديه أمامه ، مستنداً على
المسند ، دار على المقاعد ، وجلس الجّلسة ذاتها ،
وجد قطعة ( طباشير ) ، فأسرع نحو السّبورة ، وبدأ
يرسم خطوطاً كثيرةً ، خطوطاً لا معنى لها ، فكثيراً
ما كان يسأل والديه ، عن سبب حرمانه وشقيقته
( مريم ) من المدرسة ، فتأتيه الأجوبة غير مقنعة .
والده يقول :
ـ نحن أسرة فقيرة ، والمدرسة مكلفة ،
وأنا كما تراني .. عاجز عن إشباع بطونكم .
ـ وكيف أدخل عمّي ( قدور ) أولاده
إلى المدرسة ، وهو فقير مثلك ؟!.
ـ عمّك لا يعرف عواقب الأمور ، غداً
ترى ، سوف يضطرّ إلى سحبهم ، حين يعجز
عن دفع النفقات .
ويتابع الأب كلامه ، كأنه يزفّ إليه
بشرى :
ـ غداً سأبعث بكَ إلى الشّيخ ( حمزة ) ،
ليحفّظكَ القرآن الكريم .. وهذا خير بألف
مرّة من المدرسة .
وتحاول أمّه جاهدة ، أن تقنعه لتخفّف عنه
حزنه :
ـ حفظ القرآن عند الشّيخ ( حمزة ) ،
سينفعك في الدّنيا والآخرة ، أمّا المدرسة
فلا تعلّمكَ إلّا كلمتي بابا وماما .
ومن شدّة تلهفه وإلحاحه ، فقد تقرّر
أخيراً ، ذهابه لعند الشّيخ ، ولقد اجبر أمّه ،
على خياطة صدّارة ، تشبه صدّارة
( سامح ) ، وعطفاً على بكائه المرّ ، اشترى
له أبوه محفظة جلدية ، ودفتراً صغيراً مثل
( سامح ) .
بات ليلته وهو في غاية السّعادة ، لم
يغمض له جفن ، كان يتحسّس صدّارته
التي ارتداها ، ومحفظته بمحتوياتها التي
تشاركه الاستلقاء في فراشه القطني . أمّا
أحلام اليقظة ، فقد بلغت أوجها في
مخيّلته ، الواسعة الخصوبة :
ـ سأتعلم .. مثل ( سامح ) ،
سأتحدّاه .. وأكتب على الجّدران اسمي ،
واسم ( مريم وسميرة ) وسأكتب بابا وماما
ودادا ، وسأحفظ الأرقام .. وأنا في الأصل
أعرف كتابة الرقم واحد ، تعلمته من
( سامح ) ، كلّ ما عليّ أن أمسك بالقلم ،
وأضغط بالقوة ، راسماً خطاً من الأعلى إلى
الأسفل ، وسأرسم قطتي أيضاً ، ودجاجات
جارتنا ، وحمار خالي ، وسيّارة رئيس
المخفر ، التي يخافها الجّميع .. والطّائرة
التي تطير كلّ يوم من فوق دارنا .. سأرسم
كلّ شيء يخطر لي ، القمر ، الشّمس ،
النّجوم ، والعصافير ، والكلاب ، الأشجار
العالية ..نعم سأفعل كلّ هذا ، لأنّ ( سامح )
ليس أفضل منّي .. فأنا أطول قامة ، وأقوى
منه ، عندما نتعارك .
وشعّت ابتسامته في الظّلام ، تقلّب
في فراشه .. متى سيأتي الصّباح ؟.. هكذا
كان يتساءل .. ثمّ أرسل نظرة إلى
( مريم ) النائمة ، وتحسّر من أجلها ، لقد
بكت طويلاً ، لأنّ والدها لم يشترِ لها
صدّارة ومحفظة ، وحسدَ نفسهُ لأنَّه ذكر ،
فقد قال لها أبوها ، بعد أن ضربها :
ـ يامقصوفة الرقبة أنتِ بنت .. ما
شأنكِ بالمدرسة ؟!.
سأطلب من شيخي أن يعطيني كتباً
كثيرة ، أكثر من كتب ( سامح وسميرة ) ،
سأقوم بتجليدها ، ولن أسمح لأحد أن
يلمسها ، سوى أختي ( مريم ) ، ف ( سامح
وسميرة ) لا يسمحان لنا بلمس كتبهما ..
في كلّ يومٍ سأنال من شيخي علامة
الجيد ، ولن أكون كسولاً مثل ( سميرة ) ،
وفي آخر السّنة سأنجح بتفوقٍ ، وسأوزّع
السّكاكر على كلّ اهل الحارة ، ولن أطعم
وَلَدَي عمّي ، إلّا سكّرة واحدة لكلٍّ منهما ،
مثلما فَعَلَا معي ، يوم نجح إلى الصّف
الثاني ، لا فرق بيني وبين ( سامح )
سوى أنّه ينادي معلمه ( أستاذ ) وأنا أناديه ،
كما أوصاني أبي ، سيدي الشيخ .
في الصّباح الباكر ، وعلى صياح
الدِّيَكَة ، قفز ليوقظ أمّه ، وبسرعة غسّل
وجهه ويديه ، سرّح شعره الخرنوبي ، حمل
حقيبته الزّرقاء ، وانطلق رافضاً تناول
الزعتر والشّاي .
دفع للشيخ ذي اللحية الغزيرة ،
الضاربة للبياض ، ربع ليرة أجرة الأسبوع
سلفاً ، وجلسَ على الحصيرةِ المهترئة ، بين
كومة الأولاد ، المتجمّدينَ أمام أنظار الشّيخ
المسنّ ، وماكاد يستقرّ في مكانهِ ، حتّى
أمره الشّيخ بالوقوف ، تأمّله بعينيه
الحمراوين ، فارتعش الفتى ، لكنّ الشّيخ لم
يشفق عليه ، بل صرخ :
ـ ما هذا الذي تلبسه ؟.. صدّارة !!.. ما
شاء الله ، هل قالوا لكَ إنّ عندي مدرسة ؟!.
انهارت أحلامه ، لم يكن يتوقّع مثل
هذه المعاملة ، من الشّيخ ، أراد أن يسأله
عن رفضه الصدّارة والحقيبة ، غير أنّ
الخوف عقل لسانه ، فجلس دامع العينين .
ما أسرع ما ينهال الشّيخ ، على
الأطفال بعصاه الغليظة ، وما أكثر ما يغضب
ويثور ويحملق بعينيه المرعبتين ، وخلال
أيّام قليلة تعرّض ( رضوان) إلى عدّة
( فلقات ) منه .
وذات يوم .. ضبطه الشّيخ وهو يقتل
ذبابة بيده ، فانهال عليه ضرباً ، غير عابئ
بصرخاته ودموعه ، وأخيراً أصدر أمره الحازم :
ـ التقط الذّبابة .. وضعها في فمكَ ..
وابتلعها .
لم يخطر في باله مثل هذا الأمر ،
بكى .. توسّلَ .. ترجّى .. تضرّع .. سَجَدَ
على قدمَي الشّيخ يقبلهما ، استحلفه بالله
وبالرسول ، فلم يقبل .. تناول الذبابة ..
ووضعها في فمه ، فوجد نفسه يتقيّأ فوق
الحصيرة ، وضجّ الأولاد بالضحك ، بينما
جنّ جنون الشّيخ ، فأخذ يضربه ، ويركله ،
كيفما اتفق ، وبعد أن هدأت ثورته ،
واستطاع أن يلتقط انفاسه بانتظام ، أمره
أن يغسل الحصيرة والأرض . ولمّا كان
صنبور الماء قريباً من الباب ، أسرع وفتحه
وأطلق العنان لقدميه المتورمتين .. فأرسل
الشّيخ على الفور ، من يطارده من الأولاد ..
ولكن هيهات أن يلحق به أحد .
في المساء .. عاد والده من عمله ،
تعشّى مع أسرته ، ثمّ أخبرته زوجته ، بأمر
هرب ( رضوان ) من عند الشّيخ ، فعضب
الأب وصفع ابنه ، وأمره أن يذهب معه ، في
الصّباح لعند الشّيخ ، ليعتذر منه ، ويقبّل
يده الطّاهرة .
ـ الولد ابنك .. لكَ لحمهِ ولنا عظمه .
قال الأب للشيخ .
ـ لا عليكَ يا أبا ( رضوان ) . الولد امانة
في رقبتي . قال الشّيخ مكشراً عن اسنانه
المنخورة .
في ذلك اليوم ، لم يضربه الشّيخ ،
واكتفى بتحذيره ، أنذره من الشّيطان الذي
بداخله .
وبعد أيام وقع (رضوان) في ورطة جديدة ،
وكان الوقت ظهراً ، وكان الأولاد محشورينَ
مثل السُّجناء ، في غرفة صغيرة ، لا نافذة
لها ، كانوا يتصبّبونَ عرقاً ، شعر الطّفل
برغبةٍ لا تقاوم في النّوم ، رغبة اشدّ من
قسوةِ الشّيخ ، ولا يدري كيفَ سها ، وعلى
حين غرّة جاءته ضربة قوية على باطنِ
قدمهِ ، فانتبه مذعوراً ، وقبل أن يسبقه
بكاؤه ، تبوّل في مكانه .. بلّل ثيابه
والحصيرة ، وتعالت الضّحكات من رفاقه ،
وفقد الشّيخ رشده ، فلم يجد ( رضوان )
وسيلة للتخلص سوى بالبكاء ، بكى كثيراً ،
حتى رأف الشّيخ بحاله ، وسمح له
بالإنصراف .
منذ ذلك اليوم ، أطلق عليه الأولاد ،
لقب ( الشخاخ ) .
من أجل هذا ، أخذ يجامل الأولاد ،
ويكسب ودهم ، ولكنهم كانوا أوغاداً ،
ازدادوا استهتاراً به ، وبمحاولاته لكسب
صداقتهم ، وكان الجميع يتشجّعون
وينادونه ( الشخاخ ) ، إلى أن جاء يوم من
أيام الشتاء ، عجز فيه والده ، عن دفع ربع
الليرة ، فطرده الشّيخ ، وكان سعيداً ، لأنه
أصبح حرّاً .. بعيداً عن الشيخ والأولاد .
وجلس ( رضوان ) يترقّب موعد طرد
( سامح وسميرة ) من المدرسة ، لكنّ عمه
لم يعجز حتّى الآن ، عن دفع النفقات ، كما
كان يتوقّع والده ، وذلك أمر كان يحزّ في
قلبه .
صار يتسلق جدران المدرسة ، ليراقب
( سامحاً ) الذي يلعب في الباحة ، مع رفاقه
أثناء الفرصة ، صار همّه الوحيد المراقبة
والانتظار ، لحين انصراف ( سامح ) . وكم
كان يلذّ له أن يأخذ الحقيبة من ( سامح ) ،
ليحملها عنه ، متخيّلاً نفسه تلميذاً ، وفي
تلك الأيام ، كان كثيراً ما يمرّ بالقرب من
أحد المعلّمينَ ، ليرمي عليه السلام ، وكم
كان يشعر بالغبطة ، حين يردّ عليه ، ظانّاً أنّه
أحد تلامذته .
وما كان يضايقه .. سوى الآذن ( أبي
لطّوف ) ، الذي يهرع ليلاحقه بدرّاجته ،
كلّما رآه متسلّقاً على الجدار ، وكم كان
يتهدّده بأنّه سيعيده إلى بطن أمّه إن
أمسكه .. وفي إحدى المرّات ، استطاع
الإمساك به ، كان قد تسلّق الجدار ، وجلس
يطوّح بقدميه ، ينظر إلى التلاميذ ، وبينهم
( سامح ) ، وهم ينفّذون درس الرياضة ..
كان يراقبهم بشغف ، وهم يركضون خلف
الكرة ، وكانت الغيرة تأكل قلبه الصغير ..
وفجأة أمسك ( أبو لطّوف ) بقدمه .. وأخذ
يشدّها بقوة ، و ( رضوان ) الذي صعقته
المفاجأة ، يصرخ .. وهو يحاول التملّص ،
غير أنّ ( أبا لطّوف ) تغلّب على الصغير ،
فارتمى بين ساعديه ، حيث قاده إلى غرفة
المدير ، غير منتبه إلى تبوّل الطفل في
ثيابه .
كان المدير بديناً وأعورَ ، صارماً أشدَّ قسوةً
من الشّيخ ( حمزة ) ، أمره بالجلوس على
الكرسي ، وأمسك الآذن به ، ورفع له
قدميه ، وانهال المدير عليه ضرباً بلا رحمة ،
ولم يتركه إلّا بعد أن أقسم الطفل ، آلاف
المرّات ، بأنّه لن يعود إلى تسلّق الجدار ،
حمل حذاءه وخرج على رؤوس أصابعه ،
ينتحب بغزارة وحرقة ، في حين كانت
( كلابيّته ) تقطر بولاً .
منذ ذلك اليوم ، أقلع ( رضوان )عن
تسلّق الجّدار ، صار يكتفي بالدَّوَران حول
سور المدرسة ، ينتظر ( سامحاً ) ، وكان
يصيخ السّمع ، إلى صوت المعلم ، المتسرّب
من النّافذة ، وهو يهتف :
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .
فيردّد التلاميذ خلفه :
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .
وكان يتناهى إلى سمعه ، صوت
( سامح ) من بين الأصوات ، أو هكذا كان
يتخيّل ، فيشعر بالحسد .. ويتمنّى ذلك
اليوم ، الذي سيعجز عمّه ( قدّور ) عن دفع
النّفقات . في تلك اللحظة فقط ،
سوف يسخر من ( سامح ) ، لأنّ هذا لن
يكون متميّزاً عنه بشيء ، بل على العكس :
ـ ( فأنا أطول منه قامةً .. وأشدّ قوةً ..
واسرع ركضاً .. وكذلك أنا أمهر منه في
قذف الحجارة ، ولا أخاف الاقتراب ، من
الحمير والكلاب .) .
في أحد الأيام ، سقط العمُّ ( قدّور )
عن ( السّقالة ) ، في أثناء عمله في البناء ،
وانكسرت رجله ، فاستبشر خيراً ، ولكن
زوجة عمّه ، سرعان ما خيّبت رجاء
( رضوان ) إذ باعت قرطها وخاتمها
الذهبيّين ، حتى تتمكَّن الأسرة من متابعة
العيش ، وكم كره زوجة عمّه هذه .. بل إنّه
يكرهها من قبل ، لقد رضع كرهها من أمّه ،
التي تطلق عليها .. لقب ( أمُّ عُصٍّ ) ، لأنّها
نحيلةً جدّاً ، في حين كانت أمّه ضخمة
جداً .. وهكذا توالت الأيّام ، وهو يمضي
نهاره ، حول سور المدرسة ، في انتظار
( سامح ) إلى أن جاءت العطلة الصّيفية ...
فينتهزَ الفرصة ، ويقتحم صفّ
( سامح ) ، ويرسم على السّبّورة خطوطاً
كثيرة ، حتّى انتابته حالة انفعالية ،
غريبة .. فأخذ يكسّر المقاعد والنوافذ ..
ولم يخرج من الصّف ، إلّا بعد أن رفعَ
( كلّابيَّتهُ ) ، وتبوّل فوقَ طاولة المعلّم ..
وأمامَ السّبّورَة .
الفصل الثاني
استيقظتُ على ركلةٍ قويَّةٍ ، وقبل أن
أفتح عينيّ النّاعستين ، انهمرت دموع الوجع منهما
، أحسست أنّ خاصرتي قد انشقّت ، وقد هالني أن
أبصر أبي ، فوق رأسي وعيناه تقدحان شرراً ،
نهضت مسرعاً ، يسبقني صراخي وعويلي ، فأنا لم
أدّر بعد ، لماذا يوقظني بهذه الطّريقة ؟!.
ـ ساعة .. وأنا أناديكَ .. فلا تردّ ياابن
الكلب !.
أنا أعرف أبي ، إنّه قاسٍ ، بل هو أشدّ قسوة
وفظاعة من الشّيخ ( حمزة ) نفسه ، ومن مدير
المدرسة ( الأعور ) ، فكثيراً ما كان يضربني
وشقيقتي ( مريم ) ، لأتفه الأسباب ، حتّى أمّي ، لم
تكن تسلم من ضربه وشتائمه .
ـ إلى متى ستبقى ( فلتاناً ) مثل الحمار ، لا
عمل .. ولا صنعة ؟!.
شهقتُ بعمقٍ ، تنشَّقتُ مخاطي ، بينما راحت
عينايّ تستوضحان وجهَ أمّي ، المنهمكة باحضار
الفطور ، عن معنى مايقوله أبي ، قرأت أمي
تساؤلاتي .. فاقتربت منّي :
ـ ستذهب لتشتغلَ مع أبيكَ .. صار عمركَ عشر
سنوات .
وكدّت أصرخ :
ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة ، ولا أحبّ
صنعة العمارة .
غير أنّ نظرات أبي الحادّة ، أرغمتني على الصّمت ،
فبقيت مطرق الرّأس ، أشهق بين اللحظة والأخرى .
قال أبي بقسوة :
ـ تحرّك .. اغسل يديك ووجهك .. وتعالَ تناول
لقمة قبل أن نذهب .
خرجتُ من الغرفة ساخطاً ، شعرتُ بكره نحو
أبي ، وصنعة البناء ، فهي متعبة ، تعرّفتُ عليها ،
عندما كنتُ أذهبُ إليه أحياناً ، فأرى ما يعانيه ،
الذين يشتغلون بهذه المهنة .. من تعبٍ .
تبعتني أمّي إلى المطبخ ، وما كدّتُ أسمع وقع
خطاها ، حتى التفتُّ نحوها صارخاً :
ـ أنا لا أريد الشّغل .. في العمارة .
فردّت بصوت يكاد يكون همساً ، بينما كانت تضع
إصبعها على فمها :
ـ لو لايّ .. لأخذكَ من سنتين معه إلى الشّغل ..
الآن لم يعد يسمع كلامي .
ـ لكنّني لا أقدر على حمل الأحجار ، وأسطلة
الطّين .
قلتُ بحنق شديد . قالت أمّي :
ـ وماذا أفعل ؟.. أنت تعرف أباكَ .. لا يتناقش .
وقبل أن أردّ على أمّي .. انبعث صوت أبي صارخاً ،
من الغرفة :
ـ ألم تنتهِ من التّغسيل يا أفندي ؟!.. تأخّرنا ..
صار الظّهر .
أسرعتُ إليه .. متظاهراً بتجفيف وجهي .. وخلال
دقائق ، ازدردتُ عدٌة لقيمات .
ونهضتُ خلفه ، حزيناً .. يائساً .. بي رغبة
للبكاء ، سرت خلفه ، أراقب حركات ( شرواله)
المهترئ ، وسترته ( الكاكيّة ) الممزٌقة ، تأمّلتُ
( جمدانته ) السّوداء العتيقة .. تمنّيتُ في تلك
اللحظة ، ألَّا يكونَ هذا الرّجل أبي ، كلّ شيءٍ فيهِ
كريهٍ ، حتّى شكله ، عمّي ( قدّور ) أجمل من
والدي ، والأهمّ من هذا كلّه ، أنّه لا يرتد ( شروالاً ) ،
ولا يرغم ابنه ( سامح ) ، الذي يكبرني بسن
ونصف ، على عمل لا يحبّه ، لقد أدخله و ( سميرة )
المدرسة ، وهو يشتري لهما الألعاب ، ويعاملهما
بمحبّةٍ ودلالٍ .
كنتُ أحدّثُ نفسي طوال النهار ، وأتمنّى
التّملّص من أبي ، وكلّما ازداد تعبي ، أزددتُ حنقاً
عليه ، الشّمس حارقة ، والأحجار ثقيلة ، وسطول
الإسمنت قطّعت أصابعي ،الغبار يخنقني ، والعرق
الدّبق يغسّلني ، وأبي لا يتوقّف عن العمل ، ولا
يسمح لعمّاله بقسطٍ من الرّاحة ، في الظّل .
أفكّر في ( سامح ) ، وكيف سيضحك عليّ ،
إذا علم بقصّة عملي ، إنّه الآن في المدرسة ، بعد
قليلٍ ينصرف ، ينطلق باحثاً عنّي ، لكنّه لن يجدني ،
سيجوب الأزقّة .. يسألُ أمّي وإخوتي .. وسيفرحه
الخبر ، فأنا الآن عامل بِناء ، في ثيابٍ وسخة ،
بالتّأكيد سيفتّش عن أصدقاءٍ غيري ، يشاركونه
اللعب .
لن ننصرف قبل أن تغيب الشّمس ، ما أطول
النّهار ، وما أبعد المغيب !.. لن يتسنّى لي أن أرتاح ،
وألعب قليلاً مع ( سامح ) .
اللعنة على الإسمنت والحجارة ، اللعنة على
الغبار الذي أمقته ، أكاد أختنق ، رأسي انصهر من
شدّة الحرّ ، والعرق يتصبّب منّي بغزارة ، عليّ أن
أستحمّ فور عودتي .
هذا اليوم أقسى أيّام حياتي ، لم يكد أن يأذّن
العصر ، حتّى شعرتُ أنّ قوايَ خارت تماماً ، وجهي
تحوّل إلى كرةٍ ملتهبة ، محمرّة ، رأسي أشتدّ به
صُداع حادّ ، يدايَ ، قدمايَ ، ظهري ، رقبتي ،
أكتافي ، عينايَ ، كلّ خليّة في جسدي الهزيل ،
تؤلمني ، وتوجعني ، وتصرخ ، وتبكي ، وتمنّيتُ أن
أموتَ في تلك اللحظة ، أو أتحوّل إلى كلبٍ ، أو
قطّةٍ ، تذهب حيث تشاء ، تستلقي في الظلّ ..
وتغفو . وتساءلت :
ـ يا إلهي .. ألا يتعب أبي ؟!.. هل هو من
حجر ، أم من حديد ؟!.. إذاً لماذا لا يستريح ؟!..
ولو خمس دقائق فقط ، خمس دقائق يا أبي لن
تخرب الدّنيا .. شعرتُ نحوه ببعض الإشفاق ،
وبشيءٍ كبيرٍ من الغضبِ والحقد .
ـ إن كنتَ لا تهتمَّ بنفسك ، أو بعمّالك ، فأنا
تعبت ، ولم أعد قادراً على تسلّق السّلّم ، ولن أقوى
على حمل سطل الإسمنت ، أنا منهار أيّها الأب
القاسي ، هل تسمعني ؟!.. ألا تفهم !.. اعلم إذاً
بأنّني سوف أهرب .. وأترككَ مع عمّالكَ الأغبياء ،
هل باعوكَ أنفسهم ، من أجلِ بضعِ ليراتٍ ؟!.
ونمت فكرة الهرب في رأسي ، صارت تتغلغل
إلى خلايا جسدي المنهكة فتنعشها ، لكنّني سرعان
ما جفلتُ .. من فكرتي هذه ، وصرتُ أرتجف . غير
أنّ الفكرة الرائعة ، كانت قد سيطرت عليّ تماماً ،
سأهرب .. وهناك في البيت ، سوف تتشفّع لي
أمّي .. سأهرب .. وسأرجو والدي أن يعتقني من
هذه الصنعة ، وكبرت الفكرة في ذهني ، سألجأ إلى
عمّي ( قدّور ) ، أتوسّل إليه أن يساعدني ، في إقناع
أبي ، بالعدول عن قراره ، بالعمل معه ، سأعمل في
أيّ مهنة يشاء ، فقط لو يتركني أنجو من هذه
الصّنعة ، وعزمتُ أن أنفّذ الفكرة .. وتمكّنت من
الفرار ، دون أن يلحظني أحد ، فقد تظاهرتُ بأنّني
أريد التّبوّل ، ولمّا أدركتُ ، أنّني ابتعدت عن أنظار
والدي وعماله ، أطلقتُ العنانَ لقدميَّ المتعبتين .
لم أكن أدري ، أنّ أبي سيترك عمله ، ويتبعني
إلى البيت ، فور اكتشافه أمر هروبي ، فما كدّتُ
أطلب من أمّي ، أن تعدَّ لي لقمة ، ريثما أغتسل
وأغيّر ثيابي ، حتّى اقتحم أبي الدار ، والغضب
يتطاير من وجهه المغبرّ ، هجم عليَّ ، وفي يده
خرطوم ، صارخاً في هياج :
ـ هربت يا ابن الكلبة !.
يبست الكلمة في فمي ، تراجعت ، انبعث
صوتي ضعيفاً باكياً :
ـ تعبت يا أبي .. لم تعد لي قدرة على
الشّغل .
انهمرت على جسدي العاري سياط الخرطوم ،
عنيفة ، قويّة ، ملتهبة ، ودونَ أدنى شفقة ، أو
رحمة ، وانتشرت صرخاتي في كلّ الاتّجاهات ،
حادّة عالية :
ـ دخيلك يا ( يوب ) ، أبوس رجلك ..
أبوس ( صرمايتك ) .
وأسرعت أمّي نحوي ، ارتمت على أبي بضخامتها ،
وقفت حائلاً بيننا ، فما كان منه ، إلّا أن صفعها بكلّ
قوّة :
ـ ابتعدي .. من أمامي يا بقرة .
تلقّت لسعات الخرطوم ، صارخة :
ـ خير !!!.. يا ( أبو رضوان ) .. ماذا فعل
الولد ؟؟؟.
ـ ابن الكلب ...هرب من الشّغل .
تابع ضربي ، ولم تنجُ أمّي من ضرباته أيضاً ، فكانت
سياطه تقع على جسدها الضّخم ، المترهّل ، بينما
وقفت أختي ( مريم ) في أقصى الزّاوية ، جزعة ،
مرعوبة ، تبكي بصمتٍ ، وترتجف ، تدفّق الدّم من
فمي بغزارة ، فارتمت أمي على قدميه ، ترجوه ،
تتضرّع له ، تتوسّل ، تتذلّل ، تبكي بجنونٍ ، وبحرقةٍ
وألمٍ :
ـ أبوس ( قندرتك ) توقّف ، عن ضربه ، الولد
انتهى .
هجم عليّ من جديد ، رفعَ يدهُ عالياً ، وهوى
بها على رأسي ، فطار الشّرر من عينيَّ ، وصرختُ
صرخةً ارتجّت لقوّتها أرجاء الغرفة ، صاحت
( مريم ) بذعرٍ شديدٍ ، وبينما كنتُ أتدحرج ، ممرّغاً
بدمائي ، شقّت أمّي ثوبها ، اندلق على الفور
نهداها الهائلان ، تناهى إلى أسماعنا ، صوت خبطات
قويّة على الباب .. رمى أبي الخرطوم ، وخرج
ليفتح .
انحنت أمّي تغسلني بدموعها ، ضمّتني إلى
صدرها العاري ، وبكت بحرقة ، وهي تدمدم :
ـ أسفي عليك يا ( رضوان ) ... أسفي عليك يا
ولدي .
دخل عمي ( قدّور ) ، فأسرعت أمّي إليه باكية :
ـ دخيلك .. الولد راح من يدي .
زعقَ أبي .. متهدّج الصّوت .. وكان النّدم قد تسلّل
إلى صوته :
ـ ادخلي .. غرفتك يا مقروفة الرّقبة .. واستري
صدرك .
لكنّها لم تأبه بكلامه :
ـ الولد بحاجة إلى دكتور يا ( قدّور ) *
( الفصل الثالث )
كان " سامح " يتقدّمنا بعدّة أمتار ، حين بدأنا
ندخل متسلّلين إلى" مقطع الزَّاغ " ، ومنذ أن خطونا
إليه ، تسرّبت إلى أجسادنا برودة عفنة ، فشعرنا
بالرّاحة والنّشوة ، لأنّ حرارة الجّو في الخارج كانت
خانقة .
اجتزنا الطّريق الضّيقة المتعرّجة مبتهجينَ ،
ولكنّ إحساساً داخلياً بالإنقباضِ والوحشةِ أخذ
يراودنا .
قبعت الظّلمة في المكان ، غير أنّ الجّدران
الحوّاريّة البيضاء خفّفت منها فبدا المكان أشبه
بكهفٍ مسحور .
صاح 'عثمان " :
- انتبهوا من الجّنّ والعفاريت .
وتردّد صوته مختلطاً بقهقهات"سعيد الجّدع" ، الذي
ظهر من خلال ضحكته شيء غير طبيعي ، يشير
إلى خوفه وفزعه .
وعندما سَكَتَت الجّدران عن ترديد صدى الضّخكة ..
قال :
- أنا لا أخاف منها .. ففي رقبتي سلسال مكتوب
عليه (( الله - محمد )) وهو يحميني من
الشّياطين .
قلتُ معلقاً على كلامه ، وقد أخذ الممرّ الضّيق
بالاتّساع والعتمة تتضاعف ، بينما الانحدار نحو
الدّاخل يزداد حدّة :
- لكنّ سلسالكَ هذا لا يحميكَ من أرواح الأموات
المنتشرة قبورهم على سفح الجّبل.
صرخ "عمر" وكان يمشي خلفنا :
- ياأولاد الحرام ، اتركونا من سيرة الأموات والجّن
وإلّا سأرجع إلى الحارة .
البرودة تزداد قوّة وحلكة كلّما توغّلنا ، لدرجة
أنّنا شعرنا بقشعريرة البرد تسري في عروقنا ، بينما
كان الماء ينزُّ من السّقوف والجّدران مخرجاً خريراً
منبعثاً من الأعماق يتناهى إلى أسماعنا .
صاح "سامح" أبن عمّي فجأة ، بصوتٍ مليءٍ
بالدّهشةِ والفرح :
- يا جماعة .. أشمُّ رائحة نار .
فأسرعنا نهبط فرحين ، وحقيبة" سامح " المدرسيّة
كانت تتأرجح خلف ظهري ، فقد كنتُ أحبّ دائماً
حملها معي ، ليظنّ من يراني بأنّي طالب مدرسة .
زعقَ "عثمان" :
- رائع عندي سيكارتان " ناعورة " ولا أملك شعلة .
وصلنا إلى ساحة مترامية الأطراف ، يبدو أنّها
في القاع تماماً . فسرقت عيوننا نار متأجّجة يتحلّق
حولها ثلاثة شبّان . إلى جوارهم تناثرت زجاجات
العرق .
انكمشنا في أماكننا جامدين ، بينما تتفرّسنا
أنظار الشّباب بدهشةٍ وبهجةٍ واضحتين .
قال أحدهم ، وكان يدعى" جمعة زقّان " ، بصوت
خرجت بحة المشروب معه :
- تفضلوا ياحلوين .. تعالوا .. لا تخافوا ، لا يوجد
بيننا غريب .. كّلنا أولاد حارة .
بقينا على وقفتنا خائفين ، ودقات قلوبنا تطرق
صاخبة عنيفة .. إنّ " جمعة زقّان " هذا نعرفه
تماماً ، ونعرف شلّته أيضاً ، فكلهم مجرمون ،
يغتصبون الأولاد . وكثيراً ما حذَّرني والدي منهم .
صاح الثاني ، واسمه " حمّود النّازل " ، وهو ذو يد
مقطوعة :
- تعالوا .. دخّنوا واشربوا العرق .
وكرع جرعة من زجاجته ، ثمّ أردف قائلاً :
- "تقبروني ما أحلاكم " .
صرخ الثّالث ، وكان يدعى " لطّوف النّابح " ، وكان له
صوت يشبه نباح كلب ، يخرج من تحت شفته
المشرومة :
- هربتم من المدرسة يا عكاريت ، جئتم وألله بعثكم
لنا ، الحرارة متوتّرة معنا .
قال ذلك ونهض نحونا .
صرخ أحدنا بفزعٍ :
- اهربوا .. اهربوا قبل أن يمسكوا بنا .
انطلقنا راكضين صوب الخلف ، كان الانحدار
صعباً هذه المرّة ، وليس من صالحنا ، وبدأت
أقدامهم بدبيبها المرعب تضطرب خلفنا ، ونحن
نلهث مذعورين، قلوبنا ترتجف بشدّة لم نعهدها ،
وأنفاسنا تضيق حتّى كأنّها سوف تتفجّر ، والحقائب
خلف ظهورنا تزيد من توتّرنا وخوفنا بتأرجحها ،
ممّا جعلني أندم على حملها في هذه المرّة ، وخطر
لي أن أرميها لابن عمّي " سامح " ، لكن لا مجال
الآن ، ونحن نهرب مذعورين .
انبعثت صرخة ذعر حارقة من خلفي . لقد
سقط " سامح ' ابن عمي في أيديهم ، تفاقم الفزع
فينا ، أسرعنا بكلّ ما نستطيع ، صاعدينَ متوقّعينَ
أن تمتدّ يد غليظة الأصابع فتمسك بنا من ياقاتنا ،
كنت الأخير خلف رفاقي ، وكان صراخ " سامح "
وعويله المجنونان يدفعانني لبذل طاقتي النّهائية
في الصّعود .
أخيراً وصلنا إلى فوّهة " المقطع " ، استدرنا
للخلف ، كانت أصوات الأقدام قد انقطعت ولم نَرَ
أحداً . لقد عادوا ليفترسوا " سامحاً " الذي لم نعد
نسمع له أيّ صوت .
توقفنا على مسافة غير بعيدة ، وصدورنا تعلو
وتهبط مسرعة كخوفنا ، وأجسادنا مغسولة بعرقنا
الحارق ، كصوت " سامح " حين أمسكوا به .
قال " عمر " يخاطبني بصوت متهدّج :
- " رضوان " .. عليكَ أن تخبرَ بيت عمّك حتى ينقذوا
ابنهم .
قاطعه " عثمان " :
- ماذا ؟ .. إذا قمنا بتبليغهم يافهيم فسوف يعلم
أهلنا بهربنا من المدرسة .
قلت وقد بدأ التّعب يزايلني :
- ليس أمامنا وسيلة لانقاذ " سامح " غير تبليغ
عمّي ، وبسرعة قبل أن يقوموا باغتصابه .
ضحك " سعيد الجّدع " ( صياد الجرابيع )
وعلّق على كلامي :
- منذ اليوم صار لقب " سامح " ( مفعولاً به)
قهقه " عثمان " حتّى آلمته خاصرته ، وقال:
- لأوّل مرّة يهرب من المدرسة فيتعرّض للإغتصاب .
وتابع قهقهته .
صرخ " عمر " بانزعاج :
- أنتم حقراء .. أولاد كلب ، تضحكون بينما لا نعرف
ماذا جرى " لسامح " .
تخيّلت " جمعة زقّان " صاحب الرأس الكبيرة ،
والأنف الممطوط ، وهو يشمّر " كلابيته " وينزّل "
شرواله " واضعاً سكّينه فوق عنق " سامح " ، بينما
يحاول أفراد العصابة جاهدين تثبيت " سامح " .
- أنا ذاهب لإبلاغ " عمّي قدّور " .
قال " عمر " وهو يتبوّل من الرّعبة :
- اذهب بعجلة .. أمّا نحن فسنبقى هنا
لنراقب الوضع ، فربما يأخذون " سامحاً " إلى مكان
آخر .
رميت حقيبة " سامح " من خلف ظهري وانطلقت
كالصاروخ ، منحدراً من قمّة الجبل نحو البلدة .
في غمرة هذه الأحداث ، وهذا الانفعال، كانت
تداهمني موجات من الفرح ، فأنا لا أحبّ " سامحاً "
منذ وعيت الدّنيا بسبب امتيازه عنّي بدخوله
المدرسة .
غير أنّني سرعان ما كظمت فرحي هذا ، وعاودتني
حالة الخوف والقلق ، " فسامح " ابن عمّي قبل أيّ
شيء آخر ، وقد هرب من المدرسة لأوّل مرّة
لارضائي بعد أن هدّدته بالزّعل فوافق . ثمّ ماذا
سيكون موقفي من أبي وعمّي " قدّور " إن أعترف "
سامح " بأنّي سبب هروبه من المدرسة ؟ .
في الطّريق ، بينما كنت أركض بين الأزقّة ،
وعند المنعطف تماماً ، برز والدي " بشرواله "
وسترته ذات اللون " الكاكي " المعهودة ، توقّفت
في مكاني ، تجمّدت أمام نظرته الصّارمة .
- هارب من الشّغل " يابندوق " ؟!.
حافظت على صمتي المبدّد بلهاثي ، ماذا
أقول ؟..هل أخبره بما يحدث " لسامح" ، لم أكن
أتوقّع رؤيته ، فلم أرتّب كذبة في ذهني تنطلي
عليه .. وتأكّدت أنّه ترك عمله ليبحث عنّي .
- عاقل باابن " القحبة " ، تتظاهر بالمسكنة ، والله
لأريك نجوم الظّهر .
وهوت كفّه، ثقيلة خشنة ، صفعتني بقوّة، تطاير
الشّرر من عينيّ ، ترنّحت ، سقطت ، ركلني ، جاءت
ركلته على خاصرتي ، طارت فردة " الصّرماية "
الحمراء من قدمه ، نهضتُ ، فقذفني بها على
رأسي .
- آخ يا " يوب " التّوبة . وحقّ المصحف ماعدت
أهرب .
- امشِ إلى الدّار ياابن " الجحشة " بدّي ألعن أبوك
على أبو أمك .
سبقته بعدّة خطوات ، خائفاً من ضربة مفاجئة ،
ولهذا كنت ألتفت خلفي لأتأكّد من بعد المسافة
عنه ، بينما أتنشّق مخاطي المختلط بالدّم المتدفق
من أنفي .
سبقني صراخي إلى الدّار ، ففتحت أختي"
مريم " الباب ، واستقبلتني أمّي بوجهها الشّاحب ،
وعينيها الفزعتين ، فتعالى بكائي ، وتضاعف
تأوّهي :
- ياأمّي ... خاصرتي .
وقفت أمّي حائلاً بيني وبين أبي ، وقالت تسأله :
- خير إن شاء الله .. ماذا فعل " رضوان " حتّى
تعاقبه ؟.
وأتاها صوته ليرعب " مريم " وتنكمش على نفسها :
- ابن " الصّرماية " هرب من الشّغل .
قال ذلك وهو بالكاد يلتقط أنفاسه.
- يلعن " أبو الشغل " ستقتل الصبي ، الولد لا يحبّ
صنعة العمارة .
صرخ أبي وقد زاده غضباً كلام أمي :
- كلامك هذا يشجّعه على الهرب ، عليَّ الحرام
والطّلاق بالثلاثة سأشتري له قيداً وجنزيراً .
توقفتُ عن البكاء برهة ، مددتُ رأسي من وراء أمّي ،
وقلت :
- أنا لا أريد أن أشتغل في العمارة . أرسلوني لعند
الخيّاط فلا أهرب .
هجم نحوي ، صوّب ركلة إلى مؤخرتي :
- عليّ الكفر لن أتركك تشتغل إلّا في العمارة ياكلب ،
هذه صنعتي وصنعة أبي وأجدادي ، وستعمل بها .
ثمّ تابع قوله الصّارخ :
- تحرّك أمامي إلى الورشة .
صاحت أمّي :
- ألا ترى دمه .. أتركه ليوم غد .
عدّل أبي " جمدانته " فوق رأسه وقال :
- أنا ذاهب للشغل ، وعندما أرجع سيكون لي معك
الحساب .
سحبتني أمّي من يدي ، أدخلتني الغرفة
الشّمالية ، أخذت تمسح دموعي ومخاطي الدّامي ..
وهي تقول:
- ألم أنصحكَ بعدم الهرب ؟.
صحتُ بصوتٍ مخنوقٍ :
- أنا لا أطيق العمل في العمارة .. لماذا لم تدخلوني
المدرسة مثل " سامح " ؟ .
لم أكد أذكر اسم " سامح " حتّى قفزتُ من
مكاني ، غير عابئ باندهاش أمّي ونداءاتها هي
وأختي " مريم " ، صرختُ وأنا أجتاز عتبة الدّار :
- يجب أن أبلّغ عمّي " قدّور " لينقذ ابنه "
سامح " .. لقد تأخّرتُ .. لقد تأخّرتُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل ( الرابع )
الفصل ( الخامس )
كان يوماً فظيعاً ، كادت أمي أن تقتل أبي . لأوّل مرّة
في حياتي أراها تثور عليه .
أعرفها دائماً تتحمّل قسوته وضربه وثوراته،
لكنها فيما يبدو لم تعد تأبه به ، لقد فقدت صوابها ،
هجمت عليه عندما دخل علينا ، وضربته على رأسه
بعصا غليظة ، وهي تصرخ بجنون :
- تزوّجتها ياساقط !!! .. تزوّجت أم " عصّ" ؟!؟! ..
ترنّح أبي ، كاد يسقط ، تلمّس رأسه الملفّع "
بالجمدانة " ، سال الدّم فوق جبينه ، فنزع "
الجمدانة " ، صارخاً بغضب :
- أتضربينني يابنت الكلب !!! .. قسماً بالله لأخنقنكِ .
انطلق صوت أمّي على غير عادته ، قوياً كأنّه
نسي خنوعه ، وهي ما تزال ممسكة العصا بيدها ،
تقف متحّدّية متأهبة للعراك :
- أنا التي سأقتلك ، وأقتل أمّ " عصّ " الفاجرة ، ماإن
قتل زوجها حتّى خطفتك منّي !! .
صاح أبي وفي صوته شيء من الليونة :
- ماتزوّجتها إلاّ من أجل أولادها .. أولاد أخي ،
صاروا أمانة في رقبتي .
لكنّ أمي لم ينطل عليها هذا القول ، إنّها تكره "
نجوى " زوجة عمّي المرحوم ، فكيف تتقبّل فكرة
أن تصبح ضرتها ؟! .
زعقت بوجهه المدمّى :
- أمن أجل أولادها تزوّجتها ياحبّة عيني ، أم من
أجل " عصّها " ؟!! .. ألا تخجل من شيبك !!! .. أما
كفاك أن تبيع دم أخيك ، أتأكل زوجته وداره ؟!.
كان التّفاهم مع أمّي ، في تلك اللحظة مستحيلاً ،
لذا فقد خطا والدي نحو الباب ، ويده تمسح دمه
السّائل " بجمدانته " ، في حين كان يزعق ، وهو
يغادر الدار :
- نعم تزوّجتها ، وهي أفضل منكِ يابقرة ، فافعلي
ماتشائين .
وخرج أبي كالمهزوم ، غير عابئ بصياح أمّي
خلفه :
- رايح لعندها ياقليل الناموس !!؟ .. صار عندك
داران !.
ثم التفتت نحوي ، كنتُ واقفاً مع أختي
( مريم ) وأخوتي الصّغار ، نرقب ما يجري بخوفٍ
ودهشةٍ وحزن .
وبنظرة ملتاعةٍ منكسرة ، أمرتنا أمّي بالدّخول
إلى الغرفة الشّمالية .
مصطفى الحاج حسين .
يتبعها الفصل ( السادس )
مصطفى الحاج حسين
الفصل الأول
الحرمان
تسلّق جدار المدرسة ، قفز إلى باحتها ،
ودخل صفّ ( سامح ) ، من النّافذةِ المكسورة ، وفي
الصّفّ كان بمفرده ، شعر بالفرحة تجتاحه ، جلس
على المقعد ، واضعاً يديه أمامه ، مستنداً على
المسند ، دار على المقاعد ، وجلس الجّلسة ذاتها ،
وجد قطعة ( طباشير ) ، فأسرع نحو السّبورة ، وبدأ
يرسم خطوطاً كثيرةً ، خطوطاً لا معنى لها ، فكثيراً
ما كان يسأل والديه ، عن سبب حرمانه وشقيقته
( مريم ) من المدرسة ، فتأتيه الأجوبة غير مقنعة .
والده يقول :
ـ نحن أسرة فقيرة ، والمدرسة مكلفة ،
وأنا كما تراني .. عاجز عن إشباع بطونكم .
ـ وكيف أدخل عمّي ( قدور ) أولاده
إلى المدرسة ، وهو فقير مثلك ؟!.
ـ عمّك لا يعرف عواقب الأمور ، غداً
ترى ، سوف يضطرّ إلى سحبهم ، حين يعجز
عن دفع النفقات .
ويتابع الأب كلامه ، كأنه يزفّ إليه
بشرى :
ـ غداً سأبعث بكَ إلى الشّيخ ( حمزة ) ،
ليحفّظكَ القرآن الكريم .. وهذا خير بألف
مرّة من المدرسة .
وتحاول أمّه جاهدة ، أن تقنعه لتخفّف عنه
حزنه :
ـ حفظ القرآن عند الشّيخ ( حمزة ) ،
سينفعك في الدّنيا والآخرة ، أمّا المدرسة
فلا تعلّمكَ إلّا كلمتي بابا وماما .
ومن شدّة تلهفه وإلحاحه ، فقد تقرّر
أخيراً ، ذهابه لعند الشّيخ ، ولقد اجبر أمّه ،
على خياطة صدّارة ، تشبه صدّارة
( سامح ) ، وعطفاً على بكائه المرّ ، اشترى
له أبوه محفظة جلدية ، ودفتراً صغيراً مثل
( سامح ) .
بات ليلته وهو في غاية السّعادة ، لم
يغمض له جفن ، كان يتحسّس صدّارته
التي ارتداها ، ومحفظته بمحتوياتها التي
تشاركه الاستلقاء في فراشه القطني . أمّا
أحلام اليقظة ، فقد بلغت أوجها في
مخيّلته ، الواسعة الخصوبة :
ـ سأتعلم .. مثل ( سامح ) ،
سأتحدّاه .. وأكتب على الجّدران اسمي ،
واسم ( مريم وسميرة ) وسأكتب بابا وماما
ودادا ، وسأحفظ الأرقام .. وأنا في الأصل
أعرف كتابة الرقم واحد ، تعلمته من
( سامح ) ، كلّ ما عليّ أن أمسك بالقلم ،
وأضغط بالقوة ، راسماً خطاً من الأعلى إلى
الأسفل ، وسأرسم قطتي أيضاً ، ودجاجات
جارتنا ، وحمار خالي ، وسيّارة رئيس
المخفر ، التي يخافها الجّميع .. والطّائرة
التي تطير كلّ يوم من فوق دارنا .. سأرسم
كلّ شيء يخطر لي ، القمر ، الشّمس ،
النّجوم ، والعصافير ، والكلاب ، الأشجار
العالية ..نعم سأفعل كلّ هذا ، لأنّ ( سامح )
ليس أفضل منّي .. فأنا أطول قامة ، وأقوى
منه ، عندما نتعارك .
وشعّت ابتسامته في الظّلام ، تقلّب
في فراشه .. متى سيأتي الصّباح ؟.. هكذا
كان يتساءل .. ثمّ أرسل نظرة إلى
( مريم ) النائمة ، وتحسّر من أجلها ، لقد
بكت طويلاً ، لأنّ والدها لم يشترِ لها
صدّارة ومحفظة ، وحسدَ نفسهُ لأنَّه ذكر ،
فقد قال لها أبوها ، بعد أن ضربها :
ـ يامقصوفة الرقبة أنتِ بنت .. ما
شأنكِ بالمدرسة ؟!.
سأطلب من شيخي أن يعطيني كتباً
كثيرة ، أكثر من كتب ( سامح وسميرة ) ،
سأقوم بتجليدها ، ولن أسمح لأحد أن
يلمسها ، سوى أختي ( مريم ) ، ف ( سامح
وسميرة ) لا يسمحان لنا بلمس كتبهما ..
في كلّ يومٍ سأنال من شيخي علامة
الجيد ، ولن أكون كسولاً مثل ( سميرة ) ،
وفي آخر السّنة سأنجح بتفوقٍ ، وسأوزّع
السّكاكر على كلّ اهل الحارة ، ولن أطعم
وَلَدَي عمّي ، إلّا سكّرة واحدة لكلٍّ منهما ،
مثلما فَعَلَا معي ، يوم نجح إلى الصّف
الثاني ، لا فرق بيني وبين ( سامح )
سوى أنّه ينادي معلمه ( أستاذ ) وأنا أناديه ،
كما أوصاني أبي ، سيدي الشيخ .
في الصّباح الباكر ، وعلى صياح
الدِّيَكَة ، قفز ليوقظ أمّه ، وبسرعة غسّل
وجهه ويديه ، سرّح شعره الخرنوبي ، حمل
حقيبته الزّرقاء ، وانطلق رافضاً تناول
الزعتر والشّاي .
دفع للشيخ ذي اللحية الغزيرة ،
الضاربة للبياض ، ربع ليرة أجرة الأسبوع
سلفاً ، وجلسَ على الحصيرةِ المهترئة ، بين
كومة الأولاد ، المتجمّدينَ أمام أنظار الشّيخ
المسنّ ، وماكاد يستقرّ في مكانهِ ، حتّى
أمره الشّيخ بالوقوف ، تأمّله بعينيه
الحمراوين ، فارتعش الفتى ، لكنّ الشّيخ لم
يشفق عليه ، بل صرخ :
ـ ما هذا الذي تلبسه ؟.. صدّارة !!.. ما
شاء الله ، هل قالوا لكَ إنّ عندي مدرسة ؟!.
انهارت أحلامه ، لم يكن يتوقّع مثل
هذه المعاملة ، من الشّيخ ، أراد أن يسأله
عن رفضه الصدّارة والحقيبة ، غير أنّ
الخوف عقل لسانه ، فجلس دامع العينين .
ما أسرع ما ينهال الشّيخ ، على
الأطفال بعصاه الغليظة ، وما أكثر ما يغضب
ويثور ويحملق بعينيه المرعبتين ، وخلال
أيّام قليلة تعرّض ( رضوان) إلى عدّة
( فلقات ) منه .
وذات يوم .. ضبطه الشّيخ وهو يقتل
ذبابة بيده ، فانهال عليه ضرباً ، غير عابئ
بصرخاته ودموعه ، وأخيراً أصدر أمره الحازم :
ـ التقط الذّبابة .. وضعها في فمكَ ..
وابتلعها .
لم يخطر في باله مثل هذا الأمر ،
بكى .. توسّلَ .. ترجّى .. تضرّع .. سَجَدَ
على قدمَي الشّيخ يقبلهما ، استحلفه بالله
وبالرسول ، فلم يقبل .. تناول الذبابة ..
ووضعها في فمه ، فوجد نفسه يتقيّأ فوق
الحصيرة ، وضجّ الأولاد بالضحك ، بينما
جنّ جنون الشّيخ ، فأخذ يضربه ، ويركله ،
كيفما اتفق ، وبعد أن هدأت ثورته ،
واستطاع أن يلتقط انفاسه بانتظام ، أمره
أن يغسل الحصيرة والأرض . ولمّا كان
صنبور الماء قريباً من الباب ، أسرع وفتحه
وأطلق العنان لقدميه المتورمتين .. فأرسل
الشّيخ على الفور ، من يطارده من الأولاد ..
ولكن هيهات أن يلحق به أحد .
في المساء .. عاد والده من عمله ،
تعشّى مع أسرته ، ثمّ أخبرته زوجته ، بأمر
هرب ( رضوان ) من عند الشّيخ ، فعضب
الأب وصفع ابنه ، وأمره أن يذهب معه ، في
الصّباح لعند الشّيخ ، ليعتذر منه ، ويقبّل
يده الطّاهرة .
ـ الولد ابنك .. لكَ لحمهِ ولنا عظمه .
قال الأب للشيخ .
ـ لا عليكَ يا أبا ( رضوان ) . الولد امانة
في رقبتي . قال الشّيخ مكشراً عن اسنانه
المنخورة .
في ذلك اليوم ، لم يضربه الشّيخ ،
واكتفى بتحذيره ، أنذره من الشّيطان الذي
بداخله .
وبعد أيام وقع (رضوان) في ورطة جديدة ،
وكان الوقت ظهراً ، وكان الأولاد محشورينَ
مثل السُّجناء ، في غرفة صغيرة ، لا نافذة
لها ، كانوا يتصبّبونَ عرقاً ، شعر الطّفل
برغبةٍ لا تقاوم في النّوم ، رغبة اشدّ من
قسوةِ الشّيخ ، ولا يدري كيفَ سها ، وعلى
حين غرّة جاءته ضربة قوية على باطنِ
قدمهِ ، فانتبه مذعوراً ، وقبل أن يسبقه
بكاؤه ، تبوّل في مكانه .. بلّل ثيابه
والحصيرة ، وتعالت الضّحكات من رفاقه ،
وفقد الشّيخ رشده ، فلم يجد ( رضوان )
وسيلة للتخلص سوى بالبكاء ، بكى كثيراً ،
حتى رأف الشّيخ بحاله ، وسمح له
بالإنصراف .
منذ ذلك اليوم ، أطلق عليه الأولاد ،
لقب ( الشخاخ ) .
من أجل هذا ، أخذ يجامل الأولاد ،
ويكسب ودهم ، ولكنهم كانوا أوغاداً ،
ازدادوا استهتاراً به ، وبمحاولاته لكسب
صداقتهم ، وكان الجميع يتشجّعون
وينادونه ( الشخاخ ) ، إلى أن جاء يوم من
أيام الشتاء ، عجز فيه والده ، عن دفع ربع
الليرة ، فطرده الشّيخ ، وكان سعيداً ، لأنه
أصبح حرّاً .. بعيداً عن الشيخ والأولاد .
وجلس ( رضوان ) يترقّب موعد طرد
( سامح وسميرة ) من المدرسة ، لكنّ عمه
لم يعجز حتّى الآن ، عن دفع النفقات ، كما
كان يتوقّع والده ، وذلك أمر كان يحزّ في
قلبه .
صار يتسلق جدران المدرسة ، ليراقب
( سامحاً ) الذي يلعب في الباحة ، مع رفاقه
أثناء الفرصة ، صار همّه الوحيد المراقبة
والانتظار ، لحين انصراف ( سامح ) . وكم
كان يلذّ له أن يأخذ الحقيبة من ( سامح ) ،
ليحملها عنه ، متخيّلاً نفسه تلميذاً ، وفي
تلك الأيام ، كان كثيراً ما يمرّ بالقرب من
أحد المعلّمينَ ، ليرمي عليه السلام ، وكم
كان يشعر بالغبطة ، حين يردّ عليه ، ظانّاً أنّه
أحد تلامذته .
وما كان يضايقه .. سوى الآذن ( أبي
لطّوف ) ، الذي يهرع ليلاحقه بدرّاجته ،
كلّما رآه متسلّقاً على الجدار ، وكم كان
يتهدّده بأنّه سيعيده إلى بطن أمّه إن
أمسكه .. وفي إحدى المرّات ، استطاع
الإمساك به ، كان قد تسلّق الجدار ، وجلس
يطوّح بقدميه ، ينظر إلى التلاميذ ، وبينهم
( سامح ) ، وهم ينفّذون درس الرياضة ..
كان يراقبهم بشغف ، وهم يركضون خلف
الكرة ، وكانت الغيرة تأكل قلبه الصغير ..
وفجأة أمسك ( أبو لطّوف ) بقدمه .. وأخذ
يشدّها بقوة ، و ( رضوان ) الذي صعقته
المفاجأة ، يصرخ .. وهو يحاول التملّص ،
غير أنّ ( أبا لطّوف ) تغلّب على الصغير ،
فارتمى بين ساعديه ، حيث قاده إلى غرفة
المدير ، غير منتبه إلى تبوّل الطفل في
ثيابه .
كان المدير بديناً وأعورَ ، صارماً أشدَّ قسوةً
من الشّيخ ( حمزة ) ، أمره بالجلوس على
الكرسي ، وأمسك الآذن به ، ورفع له
قدميه ، وانهال المدير عليه ضرباً بلا رحمة ،
ولم يتركه إلّا بعد أن أقسم الطفل ، آلاف
المرّات ، بأنّه لن يعود إلى تسلّق الجدار ،
حمل حذاءه وخرج على رؤوس أصابعه ،
ينتحب بغزارة وحرقة ، في حين كانت
( كلابيّته ) تقطر بولاً .
منذ ذلك اليوم ، أقلع ( رضوان )عن
تسلّق الجّدار ، صار يكتفي بالدَّوَران حول
سور المدرسة ، ينتظر ( سامحاً ) ، وكان
يصيخ السّمع ، إلى صوت المعلم ، المتسرّب
من النّافذة ، وهو يهتف :
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .
فيردّد التلاميذ خلفه :
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .
وكان يتناهى إلى سمعه ، صوت
( سامح ) من بين الأصوات ، أو هكذا كان
يتخيّل ، فيشعر بالحسد .. ويتمنّى ذلك
اليوم ، الذي سيعجز عمّه ( قدّور ) عن دفع
النّفقات . في تلك اللحظة فقط ،
سوف يسخر من ( سامح ) ، لأنّ هذا لن
يكون متميّزاً عنه بشيء ، بل على العكس :
ـ ( فأنا أطول منه قامةً .. وأشدّ قوةً ..
واسرع ركضاً .. وكذلك أنا أمهر منه في
قذف الحجارة ، ولا أخاف الاقتراب ، من
الحمير والكلاب .) .
في أحد الأيام ، سقط العمُّ ( قدّور )
عن ( السّقالة ) ، في أثناء عمله في البناء ،
وانكسرت رجله ، فاستبشر خيراً ، ولكن
زوجة عمّه ، سرعان ما خيّبت رجاء
( رضوان ) إذ باعت قرطها وخاتمها
الذهبيّين ، حتى تتمكَّن الأسرة من متابعة
العيش ، وكم كره زوجة عمّه هذه .. بل إنّه
يكرهها من قبل ، لقد رضع كرهها من أمّه ،
التي تطلق عليها .. لقب ( أمُّ عُصٍّ ) ، لأنّها
نحيلةً جدّاً ، في حين كانت أمّه ضخمة
جداً .. وهكذا توالت الأيّام ، وهو يمضي
نهاره ، حول سور المدرسة ، في انتظار
( سامح ) إلى أن جاءت العطلة الصّيفية ...
فينتهزَ الفرصة ، ويقتحم صفّ
( سامح ) ، ويرسم على السّبّورة خطوطاً
كثيرة ، حتّى انتابته حالة انفعالية ،
غريبة .. فأخذ يكسّر المقاعد والنوافذ ..
ولم يخرج من الصّف ، إلّا بعد أن رفعَ
( كلّابيَّتهُ ) ، وتبوّل فوقَ طاولة المعلّم ..
وأمامَ السّبّورَة .
الفصل الثاني
استيقظتُ على ركلةٍ قويَّةٍ ، وقبل أن
أفتح عينيّ النّاعستين ، انهمرت دموع الوجع منهما
، أحسست أنّ خاصرتي قد انشقّت ، وقد هالني أن
أبصر أبي ، فوق رأسي وعيناه تقدحان شرراً ،
نهضت مسرعاً ، يسبقني صراخي وعويلي ، فأنا لم
أدّر بعد ، لماذا يوقظني بهذه الطّريقة ؟!.
ـ ساعة .. وأنا أناديكَ .. فلا تردّ ياابن
الكلب !.
أنا أعرف أبي ، إنّه قاسٍ ، بل هو أشدّ قسوة
وفظاعة من الشّيخ ( حمزة ) نفسه ، ومن مدير
المدرسة ( الأعور ) ، فكثيراً ما كان يضربني
وشقيقتي ( مريم ) ، لأتفه الأسباب ، حتّى أمّي ، لم
تكن تسلم من ضربه وشتائمه .
ـ إلى متى ستبقى ( فلتاناً ) مثل الحمار ، لا
عمل .. ولا صنعة ؟!.
شهقتُ بعمقٍ ، تنشَّقتُ مخاطي ، بينما راحت
عينايّ تستوضحان وجهَ أمّي ، المنهمكة باحضار
الفطور ، عن معنى مايقوله أبي ، قرأت أمي
تساؤلاتي .. فاقتربت منّي :
ـ ستذهب لتشتغلَ مع أبيكَ .. صار عمركَ عشر
سنوات .
وكدّت أصرخ :
ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة ، ولا أحبّ
صنعة العمارة .
غير أنّ نظرات أبي الحادّة ، أرغمتني على الصّمت ،
فبقيت مطرق الرّأس ، أشهق بين اللحظة والأخرى .
قال أبي بقسوة :
ـ تحرّك .. اغسل يديك ووجهك .. وتعالَ تناول
لقمة قبل أن نذهب .
خرجتُ من الغرفة ساخطاً ، شعرتُ بكره نحو
أبي ، وصنعة البناء ، فهي متعبة ، تعرّفتُ عليها ،
عندما كنتُ أذهبُ إليه أحياناً ، فأرى ما يعانيه ،
الذين يشتغلون بهذه المهنة .. من تعبٍ .
تبعتني أمّي إلى المطبخ ، وما كدّتُ أسمع وقع
خطاها ، حتى التفتُّ نحوها صارخاً :
ـ أنا لا أريد الشّغل .. في العمارة .
فردّت بصوت يكاد يكون همساً ، بينما كانت تضع
إصبعها على فمها :
ـ لو لايّ .. لأخذكَ من سنتين معه إلى الشّغل ..
الآن لم يعد يسمع كلامي .
ـ لكنّني لا أقدر على حمل الأحجار ، وأسطلة
الطّين .
قلتُ بحنق شديد . قالت أمّي :
ـ وماذا أفعل ؟.. أنت تعرف أباكَ .. لا يتناقش .
وقبل أن أردّ على أمّي .. انبعث صوت أبي صارخاً ،
من الغرفة :
ـ ألم تنتهِ من التّغسيل يا أفندي ؟!.. تأخّرنا ..
صار الظّهر .
أسرعتُ إليه .. متظاهراً بتجفيف وجهي .. وخلال
دقائق ، ازدردتُ عدٌة لقيمات .
ونهضتُ خلفه ، حزيناً .. يائساً .. بي رغبة
للبكاء ، سرت خلفه ، أراقب حركات ( شرواله)
المهترئ ، وسترته ( الكاكيّة ) الممزٌقة ، تأمّلتُ
( جمدانته ) السّوداء العتيقة .. تمنّيتُ في تلك
اللحظة ، ألَّا يكونَ هذا الرّجل أبي ، كلّ شيءٍ فيهِ
كريهٍ ، حتّى شكله ، عمّي ( قدّور ) أجمل من
والدي ، والأهمّ من هذا كلّه ، أنّه لا يرتد ( شروالاً ) ،
ولا يرغم ابنه ( سامح ) ، الذي يكبرني بسن
ونصف ، على عمل لا يحبّه ، لقد أدخله و ( سميرة )
المدرسة ، وهو يشتري لهما الألعاب ، ويعاملهما
بمحبّةٍ ودلالٍ .
كنتُ أحدّثُ نفسي طوال النهار ، وأتمنّى
التّملّص من أبي ، وكلّما ازداد تعبي ، أزددتُ حنقاً
عليه ، الشّمس حارقة ، والأحجار ثقيلة ، وسطول
الإسمنت قطّعت أصابعي ،الغبار يخنقني ، والعرق
الدّبق يغسّلني ، وأبي لا يتوقّف عن العمل ، ولا
يسمح لعمّاله بقسطٍ من الرّاحة ، في الظّل .
أفكّر في ( سامح ) ، وكيف سيضحك عليّ ،
إذا علم بقصّة عملي ، إنّه الآن في المدرسة ، بعد
قليلٍ ينصرف ، ينطلق باحثاً عنّي ، لكنّه لن يجدني ،
سيجوب الأزقّة .. يسألُ أمّي وإخوتي .. وسيفرحه
الخبر ، فأنا الآن عامل بِناء ، في ثيابٍ وسخة ،
بالتّأكيد سيفتّش عن أصدقاءٍ غيري ، يشاركونه
اللعب .
لن ننصرف قبل أن تغيب الشّمس ، ما أطول
النّهار ، وما أبعد المغيب !.. لن يتسنّى لي أن أرتاح ،
وألعب قليلاً مع ( سامح ) .
اللعنة على الإسمنت والحجارة ، اللعنة على
الغبار الذي أمقته ، أكاد أختنق ، رأسي انصهر من
شدّة الحرّ ، والعرق يتصبّب منّي بغزارة ، عليّ أن
أستحمّ فور عودتي .
هذا اليوم أقسى أيّام حياتي ، لم يكد أن يأذّن
العصر ، حتّى شعرتُ أنّ قوايَ خارت تماماً ، وجهي
تحوّل إلى كرةٍ ملتهبة ، محمرّة ، رأسي أشتدّ به
صُداع حادّ ، يدايَ ، قدمايَ ، ظهري ، رقبتي ،
أكتافي ، عينايَ ، كلّ خليّة في جسدي الهزيل ،
تؤلمني ، وتوجعني ، وتصرخ ، وتبكي ، وتمنّيتُ أن
أموتَ في تلك اللحظة ، أو أتحوّل إلى كلبٍ ، أو
قطّةٍ ، تذهب حيث تشاء ، تستلقي في الظلّ ..
وتغفو . وتساءلت :
ـ يا إلهي .. ألا يتعب أبي ؟!.. هل هو من
حجر ، أم من حديد ؟!.. إذاً لماذا لا يستريح ؟!..
ولو خمس دقائق فقط ، خمس دقائق يا أبي لن
تخرب الدّنيا .. شعرتُ نحوه ببعض الإشفاق ،
وبشيءٍ كبيرٍ من الغضبِ والحقد .
ـ إن كنتَ لا تهتمَّ بنفسك ، أو بعمّالك ، فأنا
تعبت ، ولم أعد قادراً على تسلّق السّلّم ، ولن أقوى
على حمل سطل الإسمنت ، أنا منهار أيّها الأب
القاسي ، هل تسمعني ؟!.. ألا تفهم !.. اعلم إذاً
بأنّني سوف أهرب .. وأترككَ مع عمّالكَ الأغبياء ،
هل باعوكَ أنفسهم ، من أجلِ بضعِ ليراتٍ ؟!.
ونمت فكرة الهرب في رأسي ، صارت تتغلغل
إلى خلايا جسدي المنهكة فتنعشها ، لكنّني سرعان
ما جفلتُ .. من فكرتي هذه ، وصرتُ أرتجف . غير
أنّ الفكرة الرائعة ، كانت قد سيطرت عليّ تماماً ،
سأهرب .. وهناك في البيت ، سوف تتشفّع لي
أمّي .. سأهرب .. وسأرجو والدي أن يعتقني من
هذه الصنعة ، وكبرت الفكرة في ذهني ، سألجأ إلى
عمّي ( قدّور ) ، أتوسّل إليه أن يساعدني ، في إقناع
أبي ، بالعدول عن قراره ، بالعمل معه ، سأعمل في
أيّ مهنة يشاء ، فقط لو يتركني أنجو من هذه
الصّنعة ، وعزمتُ أن أنفّذ الفكرة .. وتمكّنت من
الفرار ، دون أن يلحظني أحد ، فقد تظاهرتُ بأنّني
أريد التّبوّل ، ولمّا أدركتُ ، أنّني ابتعدت عن أنظار
والدي وعماله ، أطلقتُ العنانَ لقدميَّ المتعبتين .
لم أكن أدري ، أنّ أبي سيترك عمله ، ويتبعني
إلى البيت ، فور اكتشافه أمر هروبي ، فما كدّتُ
أطلب من أمّي ، أن تعدَّ لي لقمة ، ريثما أغتسل
وأغيّر ثيابي ، حتّى اقتحم أبي الدار ، والغضب
يتطاير من وجهه المغبرّ ، هجم عليَّ ، وفي يده
خرطوم ، صارخاً في هياج :
ـ هربت يا ابن الكلبة !.
يبست الكلمة في فمي ، تراجعت ، انبعث
صوتي ضعيفاً باكياً :
ـ تعبت يا أبي .. لم تعد لي قدرة على
الشّغل .
انهمرت على جسدي العاري سياط الخرطوم ،
عنيفة ، قويّة ، ملتهبة ، ودونَ أدنى شفقة ، أو
رحمة ، وانتشرت صرخاتي في كلّ الاتّجاهات ،
حادّة عالية :
ـ دخيلك يا ( يوب ) ، أبوس رجلك ..
أبوس ( صرمايتك ) .
وأسرعت أمّي نحوي ، ارتمت على أبي بضخامتها ،
وقفت حائلاً بيننا ، فما كان منه ، إلّا أن صفعها بكلّ
قوّة :
ـ ابتعدي .. من أمامي يا بقرة .
تلقّت لسعات الخرطوم ، صارخة :
ـ خير !!!.. يا ( أبو رضوان ) .. ماذا فعل
الولد ؟؟؟.
ـ ابن الكلب ...هرب من الشّغل .
تابع ضربي ، ولم تنجُ أمّي من ضرباته أيضاً ، فكانت
سياطه تقع على جسدها الضّخم ، المترهّل ، بينما
وقفت أختي ( مريم ) في أقصى الزّاوية ، جزعة ،
مرعوبة ، تبكي بصمتٍ ، وترتجف ، تدفّق الدّم من
فمي بغزارة ، فارتمت أمي على قدميه ، ترجوه ،
تتضرّع له ، تتوسّل ، تتذلّل ، تبكي بجنونٍ ، وبحرقةٍ
وألمٍ :
ـ أبوس ( قندرتك ) توقّف ، عن ضربه ، الولد
انتهى .
هجم عليّ من جديد ، رفعَ يدهُ عالياً ، وهوى
بها على رأسي ، فطار الشّرر من عينيَّ ، وصرختُ
صرخةً ارتجّت لقوّتها أرجاء الغرفة ، صاحت
( مريم ) بذعرٍ شديدٍ ، وبينما كنتُ أتدحرج ، ممرّغاً
بدمائي ، شقّت أمّي ثوبها ، اندلق على الفور
نهداها الهائلان ، تناهى إلى أسماعنا ، صوت خبطات
قويّة على الباب .. رمى أبي الخرطوم ، وخرج
ليفتح .
انحنت أمّي تغسلني بدموعها ، ضمّتني إلى
صدرها العاري ، وبكت بحرقة ، وهي تدمدم :
ـ أسفي عليك يا ( رضوان ) ... أسفي عليك يا
ولدي .
دخل عمي ( قدّور ) ، فأسرعت أمّي إليه باكية :
ـ دخيلك .. الولد راح من يدي .
زعقَ أبي .. متهدّج الصّوت .. وكان النّدم قد تسلّل
إلى صوته :
ـ ادخلي .. غرفتك يا مقروفة الرّقبة .. واستري
صدرك .
لكنّها لم تأبه بكلامه :
ـ الولد بحاجة إلى دكتور يا ( قدّور ) *
( الفصل الثالث )
كان " سامح " يتقدّمنا بعدّة أمتار ، حين بدأنا
ندخل متسلّلين إلى" مقطع الزَّاغ " ، ومنذ أن خطونا
إليه ، تسرّبت إلى أجسادنا برودة عفنة ، فشعرنا
بالرّاحة والنّشوة ، لأنّ حرارة الجّو في الخارج كانت
خانقة .
اجتزنا الطّريق الضّيقة المتعرّجة مبتهجينَ ،
ولكنّ إحساساً داخلياً بالإنقباضِ والوحشةِ أخذ
يراودنا .
قبعت الظّلمة في المكان ، غير أنّ الجّدران
الحوّاريّة البيضاء خفّفت منها فبدا المكان أشبه
بكهفٍ مسحور .
صاح 'عثمان " :
- انتبهوا من الجّنّ والعفاريت .
وتردّد صوته مختلطاً بقهقهات"سعيد الجّدع" ، الذي
ظهر من خلال ضحكته شيء غير طبيعي ، يشير
إلى خوفه وفزعه .
وعندما سَكَتَت الجّدران عن ترديد صدى الضّخكة ..
قال :
- أنا لا أخاف منها .. ففي رقبتي سلسال مكتوب
عليه (( الله - محمد )) وهو يحميني من
الشّياطين .
قلتُ معلقاً على كلامه ، وقد أخذ الممرّ الضّيق
بالاتّساع والعتمة تتضاعف ، بينما الانحدار نحو
الدّاخل يزداد حدّة :
- لكنّ سلسالكَ هذا لا يحميكَ من أرواح الأموات
المنتشرة قبورهم على سفح الجّبل.
صرخ "عمر" وكان يمشي خلفنا :
- ياأولاد الحرام ، اتركونا من سيرة الأموات والجّن
وإلّا سأرجع إلى الحارة .
البرودة تزداد قوّة وحلكة كلّما توغّلنا ، لدرجة
أنّنا شعرنا بقشعريرة البرد تسري في عروقنا ، بينما
كان الماء ينزُّ من السّقوف والجّدران مخرجاً خريراً
منبعثاً من الأعماق يتناهى إلى أسماعنا .
صاح "سامح" أبن عمّي فجأة ، بصوتٍ مليءٍ
بالدّهشةِ والفرح :
- يا جماعة .. أشمُّ رائحة نار .
فأسرعنا نهبط فرحين ، وحقيبة" سامح " المدرسيّة
كانت تتأرجح خلف ظهري ، فقد كنتُ أحبّ دائماً
حملها معي ، ليظنّ من يراني بأنّي طالب مدرسة .
زعقَ "عثمان" :
- رائع عندي سيكارتان " ناعورة " ولا أملك شعلة .
وصلنا إلى ساحة مترامية الأطراف ، يبدو أنّها
في القاع تماماً . فسرقت عيوننا نار متأجّجة يتحلّق
حولها ثلاثة شبّان . إلى جوارهم تناثرت زجاجات
العرق .
انكمشنا في أماكننا جامدين ، بينما تتفرّسنا
أنظار الشّباب بدهشةٍ وبهجةٍ واضحتين .
قال أحدهم ، وكان يدعى" جمعة زقّان " ، بصوت
خرجت بحة المشروب معه :
- تفضلوا ياحلوين .. تعالوا .. لا تخافوا ، لا يوجد
بيننا غريب .. كّلنا أولاد حارة .
بقينا على وقفتنا خائفين ، ودقات قلوبنا تطرق
صاخبة عنيفة .. إنّ " جمعة زقّان " هذا نعرفه
تماماً ، ونعرف شلّته أيضاً ، فكلهم مجرمون ،
يغتصبون الأولاد . وكثيراً ما حذَّرني والدي منهم .
صاح الثاني ، واسمه " حمّود النّازل " ، وهو ذو يد
مقطوعة :
- تعالوا .. دخّنوا واشربوا العرق .
وكرع جرعة من زجاجته ، ثمّ أردف قائلاً :
- "تقبروني ما أحلاكم " .
صرخ الثّالث ، وكان يدعى " لطّوف النّابح " ، وكان له
صوت يشبه نباح كلب ، يخرج من تحت شفته
المشرومة :
- هربتم من المدرسة يا عكاريت ، جئتم وألله بعثكم
لنا ، الحرارة متوتّرة معنا .
قال ذلك ونهض نحونا .
صرخ أحدنا بفزعٍ :
- اهربوا .. اهربوا قبل أن يمسكوا بنا .
انطلقنا راكضين صوب الخلف ، كان الانحدار
صعباً هذه المرّة ، وليس من صالحنا ، وبدأت
أقدامهم بدبيبها المرعب تضطرب خلفنا ، ونحن
نلهث مذعورين، قلوبنا ترتجف بشدّة لم نعهدها ،
وأنفاسنا تضيق حتّى كأنّها سوف تتفجّر ، والحقائب
خلف ظهورنا تزيد من توتّرنا وخوفنا بتأرجحها ،
ممّا جعلني أندم على حملها في هذه المرّة ، وخطر
لي أن أرميها لابن عمّي " سامح " ، لكن لا مجال
الآن ، ونحن نهرب مذعورين .
انبعثت صرخة ذعر حارقة من خلفي . لقد
سقط " سامح ' ابن عمي في أيديهم ، تفاقم الفزع
فينا ، أسرعنا بكلّ ما نستطيع ، صاعدينَ متوقّعينَ
أن تمتدّ يد غليظة الأصابع فتمسك بنا من ياقاتنا ،
كنت الأخير خلف رفاقي ، وكان صراخ " سامح "
وعويله المجنونان يدفعانني لبذل طاقتي النّهائية
في الصّعود .
أخيراً وصلنا إلى فوّهة " المقطع " ، استدرنا
للخلف ، كانت أصوات الأقدام قد انقطعت ولم نَرَ
أحداً . لقد عادوا ليفترسوا " سامحاً " الذي لم نعد
نسمع له أيّ صوت .
توقفنا على مسافة غير بعيدة ، وصدورنا تعلو
وتهبط مسرعة كخوفنا ، وأجسادنا مغسولة بعرقنا
الحارق ، كصوت " سامح " حين أمسكوا به .
قال " عمر " يخاطبني بصوت متهدّج :
- " رضوان " .. عليكَ أن تخبرَ بيت عمّك حتى ينقذوا
ابنهم .
قاطعه " عثمان " :
- ماذا ؟ .. إذا قمنا بتبليغهم يافهيم فسوف يعلم
أهلنا بهربنا من المدرسة .
قلت وقد بدأ التّعب يزايلني :
- ليس أمامنا وسيلة لانقاذ " سامح " غير تبليغ
عمّي ، وبسرعة قبل أن يقوموا باغتصابه .
ضحك " سعيد الجّدع " ( صياد الجرابيع )
وعلّق على كلامي :
- منذ اليوم صار لقب " سامح " ( مفعولاً به)
قهقه " عثمان " حتّى آلمته خاصرته ، وقال:
- لأوّل مرّة يهرب من المدرسة فيتعرّض للإغتصاب .
وتابع قهقهته .
صرخ " عمر " بانزعاج :
- أنتم حقراء .. أولاد كلب ، تضحكون بينما لا نعرف
ماذا جرى " لسامح " .
تخيّلت " جمعة زقّان " صاحب الرأس الكبيرة ،
والأنف الممطوط ، وهو يشمّر " كلابيته " وينزّل "
شرواله " واضعاً سكّينه فوق عنق " سامح " ، بينما
يحاول أفراد العصابة جاهدين تثبيت " سامح " .
- أنا ذاهب لإبلاغ " عمّي قدّور " .
قال " عمر " وهو يتبوّل من الرّعبة :
- اذهب بعجلة .. أمّا نحن فسنبقى هنا
لنراقب الوضع ، فربما يأخذون " سامحاً " إلى مكان
آخر .
رميت حقيبة " سامح " من خلف ظهري وانطلقت
كالصاروخ ، منحدراً من قمّة الجبل نحو البلدة .
في غمرة هذه الأحداث ، وهذا الانفعال، كانت
تداهمني موجات من الفرح ، فأنا لا أحبّ " سامحاً "
منذ وعيت الدّنيا بسبب امتيازه عنّي بدخوله
المدرسة .
غير أنّني سرعان ما كظمت فرحي هذا ، وعاودتني
حالة الخوف والقلق ، " فسامح " ابن عمّي قبل أيّ
شيء آخر ، وقد هرب من المدرسة لأوّل مرّة
لارضائي بعد أن هدّدته بالزّعل فوافق . ثمّ ماذا
سيكون موقفي من أبي وعمّي " قدّور " إن أعترف "
سامح " بأنّي سبب هروبه من المدرسة ؟ .
في الطّريق ، بينما كنت أركض بين الأزقّة ،
وعند المنعطف تماماً ، برز والدي " بشرواله "
وسترته ذات اللون " الكاكي " المعهودة ، توقّفت
في مكاني ، تجمّدت أمام نظرته الصّارمة .
- هارب من الشّغل " يابندوق " ؟!.
حافظت على صمتي المبدّد بلهاثي ، ماذا
أقول ؟..هل أخبره بما يحدث " لسامح" ، لم أكن
أتوقّع رؤيته ، فلم أرتّب كذبة في ذهني تنطلي
عليه .. وتأكّدت أنّه ترك عمله ليبحث عنّي .
- عاقل باابن " القحبة " ، تتظاهر بالمسكنة ، والله
لأريك نجوم الظّهر .
وهوت كفّه، ثقيلة خشنة ، صفعتني بقوّة، تطاير
الشّرر من عينيّ ، ترنّحت ، سقطت ، ركلني ، جاءت
ركلته على خاصرتي ، طارت فردة " الصّرماية "
الحمراء من قدمه ، نهضتُ ، فقذفني بها على
رأسي .
- آخ يا " يوب " التّوبة . وحقّ المصحف ماعدت
أهرب .
- امشِ إلى الدّار ياابن " الجحشة " بدّي ألعن أبوك
على أبو أمك .
سبقته بعدّة خطوات ، خائفاً من ضربة مفاجئة ،
ولهذا كنت ألتفت خلفي لأتأكّد من بعد المسافة
عنه ، بينما أتنشّق مخاطي المختلط بالدّم المتدفق
من أنفي .
سبقني صراخي إلى الدّار ، ففتحت أختي"
مريم " الباب ، واستقبلتني أمّي بوجهها الشّاحب ،
وعينيها الفزعتين ، فتعالى بكائي ، وتضاعف
تأوّهي :
- ياأمّي ... خاصرتي .
وقفت أمّي حائلاً بيني وبين أبي ، وقالت تسأله :
- خير إن شاء الله .. ماذا فعل " رضوان " حتّى
تعاقبه ؟.
وأتاها صوته ليرعب " مريم " وتنكمش على نفسها :
- ابن " الصّرماية " هرب من الشّغل .
قال ذلك وهو بالكاد يلتقط أنفاسه.
- يلعن " أبو الشغل " ستقتل الصبي ، الولد لا يحبّ
صنعة العمارة .
صرخ أبي وقد زاده غضباً كلام أمي :
- كلامك هذا يشجّعه على الهرب ، عليَّ الحرام
والطّلاق بالثلاثة سأشتري له قيداً وجنزيراً .
توقفتُ عن البكاء برهة ، مددتُ رأسي من وراء أمّي ،
وقلت :
- أنا لا أريد أن أشتغل في العمارة . أرسلوني لعند
الخيّاط فلا أهرب .
هجم نحوي ، صوّب ركلة إلى مؤخرتي :
- عليّ الكفر لن أتركك تشتغل إلّا في العمارة ياكلب ،
هذه صنعتي وصنعة أبي وأجدادي ، وستعمل بها .
ثمّ تابع قوله الصّارخ :
- تحرّك أمامي إلى الورشة .
صاحت أمّي :
- ألا ترى دمه .. أتركه ليوم غد .
عدّل أبي " جمدانته " فوق رأسه وقال :
- أنا ذاهب للشغل ، وعندما أرجع سيكون لي معك
الحساب .
سحبتني أمّي من يدي ، أدخلتني الغرفة
الشّمالية ، أخذت تمسح دموعي ومخاطي الدّامي ..
وهي تقول:
- ألم أنصحكَ بعدم الهرب ؟.
صحتُ بصوتٍ مخنوقٍ :
- أنا لا أطيق العمل في العمارة .. لماذا لم تدخلوني
المدرسة مثل " سامح " ؟ .
لم أكد أذكر اسم " سامح " حتّى قفزتُ من
مكاني ، غير عابئ باندهاش أمّي ونداءاتها هي
وأختي " مريم " ، صرختُ وأنا أجتاز عتبة الدّار :
- يجب أن أبلّغ عمّي " قدّور " لينقذ ابنه "
سامح " .. لقد تأخّرتُ .. لقد تأخّرتُ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل ( الرابع )
الفصل ( الخامس )
كان يوماً فظيعاً ، كادت أمي أن تقتل أبي . لأوّل مرّة
في حياتي أراها تثور عليه .
أعرفها دائماً تتحمّل قسوته وضربه وثوراته،
لكنها فيما يبدو لم تعد تأبه به ، لقد فقدت صوابها ،
هجمت عليه عندما دخل علينا ، وضربته على رأسه
بعصا غليظة ، وهي تصرخ بجنون :
- تزوّجتها ياساقط !!! .. تزوّجت أم " عصّ" ؟!؟! ..
ترنّح أبي ، كاد يسقط ، تلمّس رأسه الملفّع "
بالجمدانة " ، سال الدّم فوق جبينه ، فنزع "
الجمدانة " ، صارخاً بغضب :
- أتضربينني يابنت الكلب !!! .. قسماً بالله لأخنقنكِ .
انطلق صوت أمّي على غير عادته ، قوياً كأنّه
نسي خنوعه ، وهي ما تزال ممسكة العصا بيدها ،
تقف متحّدّية متأهبة للعراك :
- أنا التي سأقتلك ، وأقتل أمّ " عصّ " الفاجرة ، ماإن
قتل زوجها حتّى خطفتك منّي !! .
صاح أبي وفي صوته شيء من الليونة :
- ماتزوّجتها إلاّ من أجل أولادها .. أولاد أخي ،
صاروا أمانة في رقبتي .
لكنّ أمي لم ينطل عليها هذا القول ، إنّها تكره "
نجوى " زوجة عمّي المرحوم ، فكيف تتقبّل فكرة
أن تصبح ضرتها ؟! .
زعقت بوجهه المدمّى :
- أمن أجل أولادها تزوّجتها ياحبّة عيني ، أم من
أجل " عصّها " ؟!! .. ألا تخجل من شيبك !!! .. أما
كفاك أن تبيع دم أخيك ، أتأكل زوجته وداره ؟!.
كان التّفاهم مع أمّي ، في تلك اللحظة مستحيلاً ،
لذا فقد خطا والدي نحو الباب ، ويده تمسح دمه
السّائل " بجمدانته " ، في حين كان يزعق ، وهو
يغادر الدار :
- نعم تزوّجتها ، وهي أفضل منكِ يابقرة ، فافعلي
ماتشائين .
وخرج أبي كالمهزوم ، غير عابئ بصياح أمّي
خلفه :
- رايح لعندها ياقليل الناموس !!؟ .. صار عندك
داران !.
ثم التفتت نحوي ، كنتُ واقفاً مع أختي
( مريم ) وأخوتي الصّغار ، نرقب ما يجري بخوفٍ
ودهشةٍ وحزن .
وبنظرة ملتاعةٍ منكسرة ، أمرتنا أمّي بالدّخول
إلى الغرفة الشّمالية .
مصطفى الحاج حسين .
يتبعها الفصل ( السادس )
مصطفى الحاج حسين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق