دخل رجلان أجنبيان إلى المقهى، وفي اللّحظة التي قال فيها أحدهما: بوينس ديّاس أدرك هو أنهما سائحان إسبانيان، لم يكن عارفا بالّلّغات و لكن هناك كلمات، وهي في الأغلب التحايا ،ظلّت بفعل تعاودها معلّقة أمام عينيه في تلك الدائرة الوهميّة التي لا يراها غيره.
اقتربا منه،قال الأوّل: كابوتشينو...
بينما قال الثاني: شاي أخضر.
ابتسم لأنّ عدم معرفته باللّغة لم يمنعه من التمييز بين رجلين على أساس الذوق، ثمّ قال في تعقيب مفاجئ: comme vous desirez …
فلمعت عينا السائحين إذّاك تحت وقع لغة السيّد فولتير في البلدة الموريسكيّة الغافية في يوم مشمس خطّته الظلال بالطول والعرض.
قال الأوّل لصاحبه: أريد أن أسأله عن نقطة عالية يمكنني أن أرى منها أحياء البلدة القديمة.
قال له صاحبه:نحن نحتاج إمّا إلى مترجم أو إلى متعلّم لنعبّر عن هذا...
أحضر لهما القهوة والشاي، ودلّهما على مكان جيّد للاسترخاء تحت شجرة نارنج، وصادف أن وجدا نفسيهما مغمورين بالظلّ ومتّجهّين رأسا إلى بناية قديمة.
قال الأوّل: يبدو أنّ هذه بناية فرنسيّة قديمة.
قال الثاني: نعم، انظر إلى سطحها القرميدي المميّز.
كان هناك فرق كبير بين ذلك وبين قرميد الموديخار المجوّف ذي اللّون الخافت و الثلمات اللاّنهائيّة.
حوّلا نظرهما وكأنّهما أرادا مقارنة ذلك بالسطح القرميدي لجامع الثغري، ولكنّهما لم يقدرا من مكانهما هناك فانتقلا إلى أقصى البطحاء، هرول إليهما قائلا: Qu’ est ce qui vous désirez ?
قالا معا: Voir la grande mosquée de haut
ابتسم، كانت العبارة مفهومة وأكثر من ذلك من النوع المألوف على القطع الرخاميّة المشيرة إلى المعالم الأثريّة.
إذّاك جذب أحدهما الأكثر طولا والأكثر صفرة فمدّ يده دلالة على الاستجابة، وكان ذلك كافيا لكي يتبع الآخر، فبدا الأمر وكأنّه متعلّق ببكرة خيط ينجذب بواسطتها ثلاثة أفراد باتّجاه واحد أكثر علوّا من البطحاء الواطئة، وبمجرّد صعودهم إلى حارة اليهود القديمة بان القرميد المفرّغ في انحنائه تماما كجلد سمكة محزّز.
قال هو: انظر إلى نجمة داوود أيضا هناك، وأشار باصبعه إلى حيث كانت تلمع.
ربّت الأبيض على يده ممّا جعله ينشرح كما ظهر للعيان، ولكنّ صاحب المقهى نادى بأعلى صوته، فبدا صوته الخارج من الدّاخل مفخّما وحاملا في طيّاته علامات الغضب: هو انت دليل سياحي و إلاّ قهواجي ؟؟
صمت وعاد متعثّرا
ارتجّت الصورة بعدها، فعاد السائحان إلى الطاولة في مرمى نظره، كان قادرا من مكانه على سماع رطانتهما، تكرّرت عنده كلمة داوود مرّات عديدة بلغة مختلفة كثيرا، فجأة غمر البطحاء سائحون نزلوا من حافلاتهم بآلات تصويرهم، ووقفوا أمامه، كان بينهم دليلهم بلسانه الرنّان، وهكذا وجد نفسه يعدّ فناجين وفناجين للقهوة السوداء إلى جانب صاحبه هناك أمام الماكينة الايطاليّة ذات الأذرع الطّالعة النازلة، ثمّ يسرع بين الدّاخل والخارج.
لم يعرف كيف حجبت عنه كوكبة المصوّرين النشيطين السائحين الهادئين،ثمّ أين ذهبا،هناك امرأة مسنّة أمسكت أمامه بالضبط بقياد بغل حمّلت جردينته بغلّة البساتين المجاورة، في حين استعدّت مع مرافقتها في المقابل لقنص اللّحظة بآلة التصوير.
انتقل بفناجين القهوة المزيّنة، بينما بدت وراءه صومعة جامع الثغري الحاجبة لساحة الكوريدا وغيرها من حيّ الرحيبة، فجأة ارتجت الصورة أمامه وإذا بالرجلان في مرمى نظره،ثمّ دخلا بوجهيهما المعروفين له،وحينما غاص في ملامح أحدهما تبيّن له أنّ ذلك القصيرهو نفسه ميكال بشامته المغروزة في باطن عنقه.
تكلّم الطويل مع صاحب المقهى، ثمّ قفز إلى سيّارة في الخارج وبدأ بإنزال معدّات تصوير قام بتركيزها وسط البطحاء،وترجّل ميكال أمام الناس وهو يفرك يديه كالمراسلين على شاشات التلفيزيون وهو يتحدّث في مجال الكاميرا البعيدة أمام خلفيّة المقهى البيضاء المطعّمة بزرقة الأبواب.
قال صاحب المقهى: هاهم يصوّرون البلدة،قل لهم أن يلتقطوا لك صورة على الأقلّ!!
واصل عمله وكأنّه واقف في منطقة محايدة، غير أنّ ميكال سرعان ما عاود الاقتراب ووشوش في أذن صاحب المقهى وهو ينظر إليه.
ترنّم وهو في مكانه بكلمات مقفّاة، لابدّ أنّها كانت دورا من موشّح أندلسي،وارتفع صوته بعفويّة ممّا جعل المتحدّثين يلويان عنقيهما باتّجاهه.
قال ميكال بفرنسيّة هادئة ورخوة: لدينا مشكل في تصوير مشهد بانورامي للبلدة الموريسكيّة!!
في الخارج تجمّع بعضهم بالقرب من آلة التصوير ذات الرافعة الثلاثيّة، قال صاحب المقهى مستعينا بإشارات غير متناهيّة: يمكنك القول إنّ البلدة آخذة في التلاشي كلّما تقدّم الزمن.
تثبّت في وجه ميكال المائل باتّجاه الخارج ليقول فجأة: اعذرني ميكال.. لم أعرفك من البداية .
والتفت مواصلا: إنّه وجهه مع زيادة في علامات الكبر وسمنة على طول الجسم.
ارتجّت الصورة مرّة أخرى ..أدار الطويل الكاميرا في الاتّجاهات الأربعة..كان هناك على وجهه شعور بالخيبة، وظلّ يتابع انهمار المشاهد في شبكة عينيه كما يتابع قنّاص أهدافا كبيرة وصغيرة، مطلوبة ومستهجنة وقبيحة لمبان اسمنتيّة ضائعة وبهلاوانيّة في الفضاء القديم والمخرّم.
قال صاحب المقهى: لقد طال التغيير كلّ شيء حتّى ميكال، انظر إنّهما لا يعثران على البلدة التي في خيالهما
راقب الخارج قليلا،ثمّ التفت إليه وقال: قد لا تشعر أنت بضخامة هذا،ولكن صديقك القديم ينظر حوله بحيرة ولا يستطيع أن يوحّد المشاهد المعبّرة والموحية.
كان ذلك الانطباع قد بدأ بالفعل يسود،فالبلدة الموريسكيّة آخذة بالذوبان السريع وكأنّ الزمن احترف بعد بحركات سحريّة إخفاءها بالتدرّج وراء حجب،وهو ما جعل الاستعانة بدليل يوضّح نقاط الاهتمام الجديرة بالزيارة أمرا حتميّا،فعندما حطّت الكاميرا على أحد المحلاّت سأل ميكال : ما اسم هذا المحلّ؟ والتفت ليعرف شيئا من عبارات الوجوه، فقال هو على الفور بازار قديم ليهودي كان يبيع أشياء متنوّعة كالحرير والشاشيّة والحايك ،وانطلق السائحان بعد ذلك إلى وسط البلدة وذهب هو معهم بينما كان صاحب المقهى يضحك تحت ستارة زرقاء كبيرة وممتدّة مثل سحابة صغيرة، ثمّ نادى بأعلى صوته على فتى من الفتيان في الجوار وهو يقول: تعالى ساعدني حتّى يرجع.
ربّما لم يكن يعرف أنّ صاحبيه كانا بصدد البحث عن تلك المجموعة الفريدة التي يمكنها أن تؤلّف روح البلدة الموريسكيّة والتي يمكن لأحدهم أن يروّضها ويعرضها أمام الآخرين، لذلك تنقّلا على طول خطّ السوق بحوانيته الباهتة وهما يستقبلان الأشياء بعيون راصدة ومائلة ذلك الميلان المعبّر عن الحنين والشوق أو ذلك الميلان المعبّر عن الخوف من كرة ضخمة تتقدّم باستمرار لتمحو رائحة البلدة بأحيائها الملتوية والقديمة تحت ذريعة التقدّم.