لم لا يأتي الآن، فيضع حدّا لانتظاره؟ القرنفلة في الأجمة تنتظره بألوانها الثلاثة، جلس على كرسيّ تحت شجرة النارنج ،مجموعة من السائحين تعبر بطحاء المقهى، امرأة يافعة وقفت بالقرب من شجرته والتقطت صورة للجامع الكبير الذي بناه الثغري، كانت قريبة من الهدف فلم تكن الصورة لتشمل أكثر من الواجهة، باب كبير ذو مصراعين عليهما خضرة مطعّمة عند الزوايا بصلبان سوداء مهذّبة، عادة يطوف السائح بعد ذلك بمحاذاة الحيّ القديم، تماما كما يفعل ألبرتو حينما يجلس أمام الأزرق الذي على الأبواب، ثمّ يبحث بعد ذلك بعينيه الصغيرتين عن الهدف الذي يحلّق أمامه في اليوم المشمس الذي يختاره، ثمّ يرفع في اللحظة الأثيرة العدسة، ويصوّب نظره جيّدا، ثم يضغط بإصبعه كما يضغط أحدهم على زناد بندقية ليقبض في شبكة عينه على ذلك الفتى خلف ديوانه البني الصغير يغرز الياسمين زهرة زهرة في أعراف رفيعة خضراء.
تأخر ألبرتو، كان ينتظره بين لحظة وأخرى، على أيّة حال سيأتي حتما لشرب القهوة والمضيّ في حال سبيله كما كان يفعل دائما، لم يكن في الحقيقة يعرف لم يأتي ويذهب لحاله آخذا أغراضه التي قد تكون من بينها ورقة من غصن شجرته، الورقة العريضة ذات التقاسيم المتوازية والمائلة والمذببّة في نهاية طرفها.
كان ألبرتو صديقا من البداية، فقد أقبل عليه في ذلك المكان يسأله، وكان يلتقط لنفسه صورا مع الكثيرين، دخل الحوانيت ،نظر إلى الخارج من الداخل، سكن المدينة وقف بالقرب منه سائح شاب، التقط صورا في مختلف الاتجاهات مشكّلا دائرة تامة ،نظر في ساعته، كان على وشك المغادرة مرّة حينما أقبل الصديق يمشي بهدوء، جلس تحت الشجرة ضاحكا، اليوم هو اليوم المشمس الذي اختاره ألبرتو كما اختار أيّامه السابقة، فليأتي وليترشّف قهوته مسترخيا ،ثم لينزلق في غمرة أحلامه.
عبر الناس من حوله بلا أهمية تذكر، غرق في صمته ،بزغت من بعيد الموجة وتقدمت إلى الدرجة التي رأت فيها بوضوح ذلك السابح في خياله، ثم كادت تغمره فتدحرج في حضنها الأخضر متمايلا على جنبيه وعيناه الصغيرتان نائمتان على صفحة الملامح الرخوة، علت الموجة ألبرتو وصاحبه والشجرة بأوراقها العريضة المذببة، ولكنه في لحظة معيّنة سحب خياله وراءه وأشعل سيجارته كبرهان على وعيه، وقرر التجول قبل المغادرة، هكذا كان يتصرّف.
ثم قضّى ليلته تلك في بيت من بيوت المدينة، فقد اعتقد أنّ المرور بها أمر سطحي، كما اعتبر الاسترخاء على أرضها عملا بسيطا لا يسمح بالتعمّق، أراد أنّ يقضي ليلة على سرير في غرفة تحت سطح قرميدي في مدينة أندلسية تتحرّك في ذهنه وتورق كلما غاب عنها، أراد أن تلفّه الظلمة التي تلفّ تلك المدينة ،ولتلمع حينئذ النجوم في شعبها المشعة، وليتنقّل ذلك الهلال المذبّب الطرفين كما رآه، في تلك الليلة الهادئة استطاع أن يشاهد من موقعه العالي، موقع الحارس لما حوله الجسم الطويل الملتوي، وأينع خياله بالضبط مع ظهور أشجار الرمّان بألوانها الأرجوانية وأغصانها المتشابكة كأصابع اليد•
الآن يستطيع ـ إضافة إلى ما سبق ـ أن يتخيّل شبحه يقف ناظرا إلى قهوته وهي تتقاطر في فنجانه المزيّن، ثمّ وهو يترجّل بحذائه العالي الذي يقلّل من قصره، ثمّ يجلس حينما يصل إلى كرسيّه بارتياح كبير، ويضع ساقا على ساق فتتدلّى قدمه اليسرى، هكذا استطاع بأقلّ الحركات أن يعقد الصداقات، وأن ينتقل منها ليخرق الأذهان، يتذكّر ذلك ببساطة بينما ينغلق باب الحافلة على السائحين، يترشّف قهوته في المكان الذي حادثه فيه، امرأة يافعة وقفت بالقرب منه وصوّبت آلة التصوير إلى أهداف بعيدة، كان يفترض في الصورة أن تحوي مشهدا بانورامياّ، حوانيت جزارة ولبن وتبغ وديوان فتى يغرز الياسمين زهرة زهرة في أعواد رقيقة خضراء ومارّة وسيقان متدلّية في الهواء هنا وهناك وآواني فخّاريّة•
يبارح في ذلك اليوم مكانه ويعبر فضاء الجالسين كما عبره هو، قال إنّه يريد جلب قرنفلة على طريقته لوضعها في ماء الكأس أمامه، ولكنّه يجلس سعيدا إلى بائع الشتلات وعيناه على الأجمة الصغيرة، ثمّ وقبل عودته التقطت المرأة اليافعة صورة له، لم تكن الصورة متوقّعة بالمرّة، يمكن للصورة البانوراميّة أن تضمّه كما يمكنه أن يعثر فيها على ساقه المتدلّية ووجهه الذي انعكست عليه أشعّة الشمس، كانت عيناه دائرتين مغمضتين، وكان جسده غارقا في تأملاته كأنّه في حوض سباحة، أمن الممكن أن يمثّله وهو غائب إلى هذه الدرجة ؟
لم يكن يتوقّع أنّ ألبرتو ينتقل بأسرع ممّا يتصوّر إلى أذهان الناس ومنهم ذهنه هو، وها هو يتذكّر على الدوام شبحه وقد غابت عن ناظره الحافلة السياحيّة، ثمّ أخذ جسده على طريقته يغوص تحت تأثير الحزن على رجل تأخّر لـأول مرّة عن المجيء.
بعد جلستين أصبح يشبهه، اثنان يرخيان جسديهما على كرسيين تحت الشجرة، يرخيان جسديهما أمام الأعين الخاملة وعلى مرأى من أجمة القرنفل بألوانه الثلاثة الأحمر والأبيض والبنفسجي، تبعد الأصوات شيئا فشيئا، تدور بذهنه قولة الألماني عن العربي المولع بالأخضر لأنّه ابن الصحراء، تدور بذهن ألبرتو خواطر تأخذ انتباهه بعيدا، لا أحد يكلّم أحدا، الأعين في محاجرها تنتظر إشارات موحية حينما تقبل من بعيد الموجة بكلّ قوتها مثل غمامة هائلة تطفو في لحظتها المحققّة على المكان، فتظهر المدينة ظهورا كاملا بأحيائها القديمة الثلاثة وساحة الكوريدا وأنهجها المائلة ونوافذ بيوتها المشبّكة ومآذنها وقبابها وأوليائها الصالحين وعرباتها المحمّلة وراء البغال الشاردة وأطياف النساء العابرات بخفّة في مرمى القنّاص بآلته، ثمّ فجأة تنحسر الموجة وتختفي وراء بريق خاص في الأعين الساكنة في محاجرها.
جلس على كرسيّ تحت شجرة النارنج، بطحاء المقهى شبه خاليّة، لا أثر لكرة الضباب في عينيه، لا يمكن لألبرتو أن يأتي بعد الآن، فلربّما لم يكن ذلك اليوم المشمس هو اليوم المشمس الذي اختاره ليعود إلى بانوراما المدينة الأندلسيّة، ولكن فليعلم أنّه إذا كان قد تأخّر عن المجيء فقد وضع عوضا عنه في نفس المكان ونفس اللحظة وعند الجزر الشبيه بجزره قرنفلة في الكأس الذي شرب منه مرّتين.
أصيل الشّــــــــــــابي ( قاص تونسي )