⏪1
كان يستند بظهره على جذع شجرة عتيقة , يراقب طفلته بحنان دافق وهي تلهو مع أقرانها , يتعجب كم أصبحت قطعة مصغرة من أمها التي رحلت بجسدها فقط وتركت روحها تعانقه في كل مكان .
ترمقه زوجته الجديدة متألمة , تعلم أنه لا يزال عالقا بأحبال الذكرى , تدرك أن الزوجة الراحلة تقف حائلا أمام سعادتها , فتتنهد متأسية .
تشير للأرض المتشققة أمامها , تقول له في عتابٍ موارب:
ــ الأرض ظمأى .. و قليل الماء لا يرويها .
يفهم ما ترمي إليه , فيطرق صامتا ..
تتأمل حبات الفاكهة الراقدة في حِجرها , تبتسم متذكرة ما قالته صديقاتها عنها , فقد أخبرنها أن جسدها يشبه حبة الكمثراة الناضجة , فضحكت حينها و قالت مازحة:
ـــ يا رب أتزوج فكهاني .
تلتقط واحدة من الكمثرى , تمسحها بطرف ثوبها فينحسر عن ساقين لامعتين بحركة إغراء مقصودة , تقرب الكمثراة من فم زوجها .. فيعرض عنها قائلا:
ــ لست جائعا …
تستدعيه بنظراتها، فيغوص في عينيها المكحلتين ..
يمنحها ابتسامة الرحمة التي تنشدها , و قبل أن يهم بقضم الثمرة تخطفها الابنة بسرعة و تركض نحو أقرانها.
⏬
⏪2
"البقاء لله.. شِد حيلك"
قالها الطبيب بلهجة آلية و انصرف! تركني مأخوذا من هولِ الصدمة ، أطوي جراحي بين ضلوعي، تستأذنني دمعاتي في الهطول، و أنا أكبح زمامَها بكل ما أوتيت من قوة.
لم تكن أشد أزماتِ جدتي الصحية، فاعتقدت أنها ستمر بسلام كسابقاتها، وحدها كانت تعلم أنها الأخيرة لذا قبضت على يدي بقوة و قالت كأنها تودعني:
_ابقى اترحم عليا يا ولد..
طبطبتُ على كفِها المرتجف ، قلتُ لها مطمئنا:
_هتعدي زي اللي قبلها ...
تمتمت حينها في قلق :
_بس أنا عيني الشمال بترف ..
لم أجادلها تلك المرة ، أشفقتُ عليها من محاضرةٍ طويلة تسمعُها دائما مني كلما اصطدمتُ بأفكارها القديمة، واكتفيتُ بقبلة سريعة على جبينها ، ثم الدعاء لها بطول العمر .
"عاوزين توقيعك عشان تستلم الجثة "
الجثة! أوجعتني الكلمة، تجرعت مرارتي بحلقي، وبذلتُ جهودا جبارة كي أتمالك نفسي، وبدأتُ أوقع باسمي هنا وهناك في أوراقٍ لا أعرف ماذا بها! فلم يكن الذهنُ صافيا كي أتمعن وأدقق، ولو كانت أوراقٌ لبيع ممتلكاتي الزهيدة لوضعت توقيعي عليها دون أن أدري.
توقف القلمُ بين اصابعي حين تنبهت لتاريخ اليوم، اكتشفت أننا في اليوم الثالث عشر من الشهر، ابتسامة بائسة علت شفتاي، ما كانت جدتي لتسمح أبدا أن يُكتب ذلك الرقم في أوراقٍ تخصها! سامحيني جدتي.
الجنازة تسير وأنا في مقدمتِها أسير كتمثالٍ متحرك وكأن الزمن قد توقف بي! لم أكن مستوعبا أنني سأتركُها في حفرةٍ مظلمة بجوار أمي التي سبقتها إلى هناك قبل ثلاثين عاما، شعرتُ بمدى وحدتي ويُتمي رغم أن أبي كان بجواري، يربتُ على ظهري من حينٍ لآخر بيده الباردة التي تركتني لدى جدتي وأنا لا زلتُ "حتة لحمة حمرة " تساءلتُ في نفسي هل ندمت جدتي حين تشبثت برعايتي ورفضت باستماتة أن تربيني زوجةُ أبي؟ فأنا اعترف أنني لم أكن طفلا مريحا البتة! فقد كانت لعبتي المفضلة هي كيف استفز جدتي و أُخرِجها عن شعورها، وكان أكثر ما يثير حِنقُها أنني لا أؤمن أبدا بمعتقداتها الأثيرة فقد اعتبرتُها خرافاتٍ ضاحكة ، لذلك كانت صيحاتُها تتعالى حين تراني أبدأ بالكنس ليلا متظاهرا أني أساعدها ، فتعنفني قائلة :
_بلاش تكنس بالليل.. ستطرد الملايكة يا ولد...
يجن جنونها حين تجدني أفتح المقص وأغلقه بحركاتٍ متتالية، فتتعصب:
_ يا ولد هتجيب لنا النحس في البيت...
ضبطتني ذات يوم متلبسا بارتداء الحذاء بالمعكوس، فضربت صدرها و صاحت:
_هو احنا ناقصين فقر يا ولد..
وكانت الطامة الكبرى حين وجدتني أقلب شبشبي متعمدا، يومها شدت أذني و نهرتني:
_الشبشب المقلوب بيجيب الهم ...
⏬
⏪3
كمثراة.. قصة قصيرة
كان يستند بظهره على جذع شجرة عتيقة , يراقب طفلته بحنان دافق وهي تلهو مع أقرانها , يتعجب كم أصبحت قطعة مصغرة من أمها التي رحلت بجسدها فقط وتركت روحها تعانقه في كل مكان .
ترمقه زوجته الجديدة متألمة , تعلم أنه لا يزال عالقا بأحبال الذكرى , تدرك أن الزوجة الراحلة تقف حائلا أمام سعادتها , فتتنهد متأسية .
تشير للأرض المتشققة أمامها , تقول له في عتابٍ موارب:
ــ الأرض ظمأى .. و قليل الماء لا يرويها .
يفهم ما ترمي إليه , فيطرق صامتا ..
تتأمل حبات الفاكهة الراقدة في حِجرها , تبتسم متذكرة ما قالته صديقاتها عنها , فقد أخبرنها أن جسدها يشبه حبة الكمثراة الناضجة , فضحكت حينها و قالت مازحة:
ـــ يا رب أتزوج فكهاني .
تلتقط واحدة من الكمثرى , تمسحها بطرف ثوبها فينحسر عن ساقين لامعتين بحركة إغراء مقصودة , تقرب الكمثراة من فم زوجها .. فيعرض عنها قائلا:
ــ لست جائعا …
تستدعيه بنظراتها، فيغوص في عينيها المكحلتين ..
يمنحها ابتسامة الرحمة التي تنشدها , و قبل أن يهم بقضم الثمرة تخطفها الابنة بسرعة و تركض نحو أقرانها.
⏬
⏪2
شبشب مقلوب .. قصة قصيرة
"البقاء لله.. شِد حيلك"
قالها الطبيب بلهجة آلية و انصرف! تركني مأخوذا من هولِ الصدمة ، أطوي جراحي بين ضلوعي، تستأذنني دمعاتي في الهطول، و أنا أكبح زمامَها بكل ما أوتيت من قوة.
لم تكن أشد أزماتِ جدتي الصحية، فاعتقدت أنها ستمر بسلام كسابقاتها، وحدها كانت تعلم أنها الأخيرة لذا قبضت على يدي بقوة و قالت كأنها تودعني:
_ابقى اترحم عليا يا ولد..
طبطبتُ على كفِها المرتجف ، قلتُ لها مطمئنا:
_هتعدي زي اللي قبلها ...
تمتمت حينها في قلق :
_بس أنا عيني الشمال بترف ..
لم أجادلها تلك المرة ، أشفقتُ عليها من محاضرةٍ طويلة تسمعُها دائما مني كلما اصطدمتُ بأفكارها القديمة، واكتفيتُ بقبلة سريعة على جبينها ، ثم الدعاء لها بطول العمر .
"عاوزين توقيعك عشان تستلم الجثة "
الجثة! أوجعتني الكلمة، تجرعت مرارتي بحلقي، وبذلتُ جهودا جبارة كي أتمالك نفسي، وبدأتُ أوقع باسمي هنا وهناك في أوراقٍ لا أعرف ماذا بها! فلم يكن الذهنُ صافيا كي أتمعن وأدقق، ولو كانت أوراقٌ لبيع ممتلكاتي الزهيدة لوضعت توقيعي عليها دون أن أدري.
توقف القلمُ بين اصابعي حين تنبهت لتاريخ اليوم، اكتشفت أننا في اليوم الثالث عشر من الشهر، ابتسامة بائسة علت شفتاي، ما كانت جدتي لتسمح أبدا أن يُكتب ذلك الرقم في أوراقٍ تخصها! سامحيني جدتي.
الجنازة تسير وأنا في مقدمتِها أسير كتمثالٍ متحرك وكأن الزمن قد توقف بي! لم أكن مستوعبا أنني سأتركُها في حفرةٍ مظلمة بجوار أمي التي سبقتها إلى هناك قبل ثلاثين عاما، شعرتُ بمدى وحدتي ويُتمي رغم أن أبي كان بجواري، يربتُ على ظهري من حينٍ لآخر بيده الباردة التي تركتني لدى جدتي وأنا لا زلتُ "حتة لحمة حمرة " تساءلتُ في نفسي هل ندمت جدتي حين تشبثت برعايتي ورفضت باستماتة أن تربيني زوجةُ أبي؟ فأنا اعترف أنني لم أكن طفلا مريحا البتة! فقد كانت لعبتي المفضلة هي كيف استفز جدتي و أُخرِجها عن شعورها، وكان أكثر ما يثير حِنقُها أنني لا أؤمن أبدا بمعتقداتها الأثيرة فقد اعتبرتُها خرافاتٍ ضاحكة ، لذلك كانت صيحاتُها تتعالى حين تراني أبدأ بالكنس ليلا متظاهرا أني أساعدها ، فتعنفني قائلة :
_بلاش تكنس بالليل.. ستطرد الملايكة يا ولد...
يجن جنونها حين تجدني أفتح المقص وأغلقه بحركاتٍ متتالية، فتتعصب:
_ يا ولد هتجيب لنا النحس في البيت...
ضبطتني ذات يوم متلبسا بارتداء الحذاء بالمعكوس، فضربت صدرها و صاحت:
_هو احنا ناقصين فقر يا ولد..
وكانت الطامة الكبرى حين وجدتني أقلب شبشبي متعمدا، يومها شدت أذني و نهرتني:
_الشبشب المقلوب بيجيب الهم ...
⏬
⏪3
حذاءٌ نظيف.. قصة قصيرة
الكل يعلم أنها تفتقر إلى الموهبة التي تؤهلها كي تمسك صفحة كاملة بمجلة مرموقة , رئيس التحرير لديه وجهة نظر أخرى !! سرعان ما يعرفونها حين يستدعيها بمكتبه ، فيبدأ الهمز و اللمز بين الزملاء !
هي .. تترفع عما يقال عنها من حكاياتٍ مشينة , يكفيها أنهم يخرسون فورا بمجرد أن تهل عليهم , يخشون من وشايتها فتطيح بهم جميعا .. فيبدأون وصلات النفاق و التطبيل .
عم أمين الساعي لم يكن مثلهم !
هو الوحيد الذي لم يأبه لها قيد أنملة ، لا يتردد في الاستغفار أو لوي شفتيه مشمئزا كلما لمح طيفها .
في الليل .. تتجرد من كل شئ ..
باروكتها الصفراء ..
مكياچـها الصارخ ..
وملابسها المثيرة ,
تقف عارية أمام مرآتها المشطورة نصفين , تصب لعناتها على رئيس التحرير و الزملاء وأحذيتها التي لا تكف عن الاتساخ مهما توخت حذرها !!
أخبروها أنهم لا يرون ذلك الوحل الذي يؤرقها فأدركت أنهم كاذبون , خاصة حين حدجها عم آمين الساعي بنظرة تهكمية ناظرا نحو حذائها !
كادت لحظتئذ أن تسأله عن سر حذائه النظيف الذي لا يعلق بالوحل أبدا ! و لكنها ما أن نظرت بعينيه الساخرتين حتى أمسكت عن الكلام …
و لم تتجاسر على السؤال مطلقا !
-
*دعاء البطراوي
مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق